Richard Feynman : sa vie dans les sciences
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
أو دعونا نفكر في الأمر بصورة أخرى، بالأسلوب الذي وصفه فاينمان ذات مرة. لو أننا كنا على اتصال بسكان كوكب آخر، فكيف يمكننا أن نخبرهم بالفارق بين اليمين واليسار؟ حسنا، إذا كان لكوكبهم مجال مغناطيسي مثل مجال كوكب الأرض وكان يدور حول نجمه في نفس الاتجاه الذي يدور به كوكب الأرض لأمكننا أن نجعلهم يأخذون قضيبا مغناطيسيا ويضبطون قطبه الشمالي ليشير نحو الشمال، وحينئذ يمكننا تعريف اليسار بأنه الاتجاه الذي تغرب فيه الشمس. لكنهم حينها سيقولون: «نعم لدينا قضيب مغناطيسي، ولكن أي طرفيه هو الشمالي؟»
يمكننا الاستمرار على هذا المنوال إلى ما لا نهاية وأن نقنع أنفسنا بأن مصطلحات مثل «اليسار» و«الشمال» هي اصطلاحات اعتباطية ابتكرناها واتفقنا عليها، لكن ليس لها معنى مطلق في الطبيعة، أم أنها لها؟ تخبرنا نظرية نويثر أنه إذا لم تتغير الطبيعة إذا عكسنا اليمين مكان اليسار واليسار مكان اليمين، فلا بد أن تكون هناك كمية محفوظة - نسميها «كمية التماثل» - لا تغيير أيا كانت العمليات الفيزيائية التي تحدث.
لكن هذا لا يعني أن جميع الأشياء متناظرة من حيث اليسار واليمين. انظر إلى نفسك في المرآة. إن شعرك ربما كان مفروقا في أحد الاتجاهين، أو كانت ساقك اليسرى أطول قليلا من اليمنى. إلا أن صورتك في المرآة جعلت فرق شعرك في الاتجاه الآخر، وجعلت ساقك اليمنى هي الأطول. أما الأشياء التي تظل كما هي دون تغيير، كالكرة على سبيل المثال، عندما نقلبها جهة اليمين وجهة اليسار فيقال إن لها تماثلا «زوجيا»، وتلك الأشياء التي تتغير يقال إن لها تماثلا «فرديا». وما تقوله لنا نظرية نويثر هو أن كلا من الأجسام ذات التماثل الزوجي والفردي ستطيع مع ذلك قوانين الفيزياء في عالم المرآة. وقانون حفظ الكمية المرتبط بها يقول إن الأجسام ذات التماثل الزوجي لا تتحول تلقائيا إلى أجسام ذات تماثل فردي. وإذا فعلت ذلك ، فإننا نستطيع استخدام هذا التحول التلقائي في تحديد اليسار المطلق أو اليمين المطلق.
يمكن تصنيف الجسيمات الأولية حسب خصائصها التناظرية، التي ترتبط عادة بالأسلوب الذي تتفاعل به مع غيرها من الجسيمات الأخرى. فلدى بعضها تفاعلات ذات تماثل زوجي ولدى البعض الآخر تفاعلات ذات تماثل مفرد. وتخبرنا نظرية نويثر بأن الجسيم المنفرد ذا التماثل الزوجي لا يمكنه الانحلال إلى جسيم ذي تماثل فردي وآخر ذي تماثل زوجي. إلا أنه يمكنه الانحلال إلى جسيمين لهما تماثل فردي لأنه إذا توجه أحد الجسيمين إلى اليسار وتوجه الآخر إلى اليمين، في حال تبادل الجسيمان أيضا هويتهما في ظل هذا التحول التناظري في الوقت نفسه الذي يتبدل فيه اتجاها الجسيمين نتيجة للتبادل بين اليسار واليمين، فإن الوضع الناتج سوف يبدو متطابقا بعد ذلك؛ بمعنى أنه سيكون ذا تماثل زوجي، مثلما كان حال الجسيم الأصلي.
حتى الآن كل شيء على ما يرام. غير أن الفيزيائيين اكتشفوا أن انحلال ميزونات غريبة تسمى «ميزونات-كيه»، التي كان موراي قد فسر أعمارها الطويلة من خلال مفهوم «الشذوذ»، لا تذعن للقواعد. رصد انحلال «الكاونات»، وهو اسم آخر يطلق عليها، إلى جسيمات أخف وزنا تسمى «بايونات»، ولكنها في بعض الأحيان تنحل إلى بايونين اثنين وفي أحيان أخرى إلى ثلاثة بايونات. ولما كانت البايونات ذات تماثل فردي، فإن حالة البايونين تحمل خصائص انعكاس مختلفة عن حالة البايونات الثلاثة. ولكن حينئذ سيكون من المستحيل على جسيم أحادي النوع أن ينحل إلى وضعين مختلفين؛ لأن هذا سيكون معناه أن الجسيم الأصلي سيكون له تماثل زوجي في بعض الأحيان وتماثل فردي في أحيان أخرى!
كان الحل البسيط لتلك المعضلة أنه ينبغي أن يكون هناك نوعان مختلفان من الكاونات، أحدهما ذو تماثل زوجي وينحل إلى بايونين، والآخر ذو تماثل فردي ينحل إلى ثلاثة بايونات. وكانت المشكلة أن هذين النوعين من الكاونات، اللذين أطلق عليهما الفيزيائيون اسمي «تاو» و«ثيتا»، بدوا متطابقين تمام التطابق في جميع النواحي الأخرى؛ فلديهما نفس الكتلة ونفس العمر. فلماذا تنتج الطبيعة جسيمين متطابقين لكنهما مختلفان كهذين؟ ربما أمكن ابتكار تناظرات جديدة عديدة غريبة من شأنها أن تمنحهما نفس الكتلة ، وكان جيلمان وآخرون يدرسون تلك الاحتمالات، ولكن إنتاج جسيمات لها أيضا نفس العمر بدا أمرا مستحيلا؛ لأن احتمالية الكم العامة أن ينحل جسيم إلى ثلاثة جسيمات أقل كثيرا من احتمالية انحلاله إلى جسيمين، عند ثبات جميع العوامل الأخرى.
كانت تلك هي الحال في ربيع عام 1956 عندما بدأ فاينمان وجيلمان العمل معا في كالتك، وحضرا معا المؤتمر الرئيسي حول فيزياء الجسيمات في ذلك الوقت، الذي كان يسمى «مؤتمر روتشيستر»، والذي كان لا يزال حينئذ يعقد في روتشيستر بنيويورك. وهناك سمعا عن بيانات جديدة مهمة جعلت التاو والثيتا من جديد يبدوان أشبه بتوءمين متماثلين.
صار من الصعوبة بمكان تفسير الوضع حتى إن بعض الفيزيائيين بدءوا يتساءلون في أنفسهم هل تاو وثيتا مختلفان بالفعل. خلال فترة انعقاد المؤتمر، كان فاينمان يشترك في السكن مع فيزيائي تجريبي شاب هو مارتن بلوك. وتشير المحاضر المسجلة للمؤتمر أنه خلال جلسة يوم السبت قرب نهاية الاجتماع، نهض فاينمان وطرح سؤالا على الخبراء نسبه إلى بلوك، ومفاده أنه ربما كان الجسيمان بالفعل متطابقين، وأن التفاعلات الضعيفة ربما كانت لا تبالي بمسألة التماثل؛ أي إن الطبيعة ربما كانت - عند مستوى معين - قادرة على التمييز بين اليمين واليسار!
قيل فيما بعد إن موراي جيلمان عاير فاينمان وسخر منه بقسوة لاحقا؛ لأنه لم تكن لديه شجاعة طرح السؤال باعتباره سؤاله هو، لذا اتصلت بصديقي القديم مارتي بلوك وسألته عما حدث بالفعل. وأكد لي أنه سأل فاينمان لماذا لا يمكن خرق التماثل بواسطة التفاعل الضعيف. شعر فاينمان في البداية برغبة في أن يدعوه أحمق إلى أن أدرك أنه لا يستطيع إجابة سؤاله، وناقش هو ومارتي المسألة كل ليلة طيلة فترة المؤتمر إلى أن اقترح فاينمان أن يطرح مارتي هذا الاحتمال خلال الاجتماع. ورد مارتي بأن أحدا لن ينصت إليه، وطلب من فاينمان أن يطرح المسألة نيابة عنه. وعرض فاينمان الفكرة على جيلمان ليرى إن كان يعلم أي أسباب واضحة تجعل هذا الاحتمال مستبعدا، فلم يجد لديه مثل هذه الأسباب. لذا فقد كان فاينمان، بأسلوبه المعهود، ينسب الفضل لمن يستحقه، ولم يكن يتجنب السخرية التي قد تنشأ عن طرح احتمال قد يكون مستبعدا ولعله خاطئ على نحو واضح لم ينتبه إليه.
لقي سؤال فاينمان ردا من عالم فيزياء نظرية شاب هو تشين نينج (فرانك) يانج، الذي أجاب، طبقا للتقرير الرسمي، بأنه وزميله تسونج-داو لي كانا يبحثان تلك المسألة لكنهما لم يصلا لأي نتائج. (وقد أخبرني بلوك أن التقرير الرسمي كان غير صحيح، وأنه يتذكر أن يانج أجاب بأنه لا يوجد دليل على وجود مثل هذا الخرق.)
Page inconnue