Richard Feynman : sa vie dans les sciences
ريتشارد فاينمان: حياته في العلم
Genres
وعند هذا الحد، بدا التأمل في المستقبل بلا معنى لأنه شعر بأنه لا يوجد مستقبل. وعلى غرار أينشتاين، الذي قال ذات مرة: «كل شيء تغير، إلا طريقة تفكيرنا.» رأى فاينمان أنه لم يحدث أي تغيير في العلاقات الدولية بعد الحرب، وكان على يقين من أن الأسلحة النووية سوف تستخدم مرة أخرى في القريب العاجل. وعلى حد قوله: «ما يمكن لأحد الحمقى أن يفعله، يستطيع أحمق آخر فعله أيضا.» وكان يعتقد أنه من السخف بناء الجسور التي سرعان ما ستتعرض للتدمير. لهذا أيضا، لا بد أنه قال لنفسه، ما الداعي لمحاولة التوصل إلى فهم جديد للطبيعة؟
بالإضافة لكل هذا كان لديه فتور طبيعي ورغبة في الاسترخاء بعد ذلك الإيقاع اللاهث والضغط الشديد الذي تعرض له أثناء المشاركة في مشروع ضخم هائل كمشروع مانهاتن: التحدي الذهني، والاستراحات القصيرة السريعة، والعمل الجماعي ... كل هذا تغير عندما انتقل إلى كورنيل. وبعد سنوات الحرب عالية الإنتاجية، التي كان لا بد خلالها من إيجاد حلول عاجلة لمشكلات حقيقية، وإخضاع النتائج لاختبارات عملية في وقت قصير، لا بد أن العودة إلى التأمل مليا في قضايا يحدث التقدم فيها بإيقاع أبطأ وأكثر تشتتا على نحو حتمي كانت أكثر صعوبة على فاينمان.
ربما كانت المشكلات التي ارتبطت بمشروع القنبلة الذرية مليئة بالتحديات الرياضية، غير أنها اشتملت بصورة أساسية على فيزياء أو هندسة مفهومة جيدا. ومن هذا المنطلق كانوا أشبه بمن يحل المسائل في قاعة الدرس - فكلاهما محدد جيدا وميسور - باستثناء أن المخاطر أكبر بكثير والضغوط أشد. أما المشكلات التي كان فاينمان بصدد العودة إليها فقد تضمنت أسئلة عميقة عن المبادئ، حيث لا أحد يعلم أين الاتجاه الصحيح. فمن الممكن أن يعمل لسنوات دون تحقيق تقدم واضح. وهذا النوع من الأبحاث يمكن أن يكون محبطا حتى في أفضل الظروف.
اجتمع مع هذا قلقه بشأن إضاعة ثلاث سنوات من عمره كان يمكن أن يعمل فيها على حل تلك المشكلات، وقلقه من أن العالم كان يتجاوزه. كان جوليان شفينجر، الذي التقاه لأول مرة في لوس ألاموس بعد اختبار ترينيتي بفترة قصيرة، والذي تقاسم معه لاحقا جائزة نوبل، في نفس عمر فاينمان، أي في السابعة والعشرين، غير أن شفينجر كان اسمه قد ارتبط بالفعل باكتشافات في مجال الفيزياء (وفي غضون عامين كان سيحصل على الأستاذية الكاملة في هارفارد)، في حين شعر فاينمان أنه ليس لديه ما يعرضه على الرغم من كل الجهود التي بذلها.
وأخيرا، كانت هناك صدمة البدء بغتة في مجال وظيفي جديد كأستاذ جامعي. فبعد تركيز الاهتمام على المشكلات البحثية، سواء أكانت عميقة أم غير ذلك، فإن وابل التفصيلات الدقيقة الذي يتعرض له المدرسون الجدد، والذي لا يكونون مستعدين له على الإطلاق تقريبا، يمكن أن يكون معوقا على أقل تقدير. وصل فاينمان إلى كورنيل مبكرا عن زملائه الآخرين، ولم يصل بيته إلا في شهر ديسمبر، وبهذا لم يكن موجودا ليؤدي دور الناصح لفاينمان خلال المرحلة الانتقالية لوظيفته الجديدة.
إن التدريس يستغرق وقتا أطول بكثير مما يتوقع المرء، وكون المرء مدرسا ناجحا - كما كان فاينمان فيما يبدو في علوم الفيزياء الرياضية والكهربية والمغناطيسية - يمكن أن يخلق شعورا سلبيا تجاه الحالة البحثية للمرء. قال أينشتاين ذات مرة إن التدريس أمر طيب لأنه يمنح الإنسان كل يوم وهما مفاده أنه أنجز شيئا ما. فمن الممكن أن تحقق المحاضرة الجيدة إشباعا فوريا، في حين أن البحث العلمي الواحد قد يستمر شهورا دون إحراز أي تقدم.
وفوق كل ذلك، فإن والد فاينمان - وهو الرجل الذي كان أول من شجعه على حل الألغاز وحثه على الاستمتاع بطرح الأسئلة عن كل ما يتصل بالطبيعة، والذي كان مشغولا للغاية بشأن مستقبل ولده، والذي كتب له خطابا أخيرا مليئا بالفخر والزهو بعد تعيينه في كورنيل - توفي فجأة جراء إصابته بسكتة دماغية بعد عام واحد من رحيل آرلين في توقيت كان فاينمان خلاله في ذروة الاكتئاب. كان فخر أبيه به مدعاة لتفاقم مخاوفه بشأن ما سيحققه من إنجازات. لقد انتبه إلى أن آخر بحث منشور له كان ذلك البحث الذي كتبه أثناء دراسته الجامعية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مما جعله يشعر بأنه قد استنزف، إذ شعر أن أفضل سنين عمره قد ولت وهو بعد في تلك السن المبكرة، في الثامنة والعشرين من عمره. هذا التفكير جعل العروض الوظيفية الجذابة التي يسيل لها لعاب أي شخص والتي انهالت عليه تبدو في نظره أسوأ، كما لو كان لا يستحق هذا التزلف، وأنه لم يعد بمقدوره إنجاز أي شيء مهم.
قد يكون من المثبط جدا للمعنويات أن يراك العالم بصورة مختلفة عن الصورة التي ترى نفسك بها. أذكر مرة أخرى من واقع تجربتي الشخصية كيف أنني - بعد أن نلت الزمالة التي طالما حلمت بها من جامعة هارفارد - لم أستطع التركيز في عملي لأكثر من ثلاثة شهور لأنه بعد خمس سنوات من الحياة في نفس المدينة كطالب دراسات عليا مغمور لا يعرفه أحد، كان الانتقال إلى مكانة جديدة كفيلا بأن يجعلني أشعر على أفضل تقدير بعدم الجدارة. وعندما تلقى فاينمان عرضين في آن واحد من برينستون ومن معهد الدراسة المتقدمة، كان رده: «لقد كانوا مجانين بحق.»
ينسب فاينمان إلى عدد من الأمور الفضل في إخراجه من أزمته، ومن بينها حوار مع روبرت ويلسون، الذي انتقل إلى كورنيل مديرا لمعملها الجديد للدراسات النووية. طلب منه ويلسون أن يكف عن القلق، وقال إنه لا ينبغي أن يشعر بأي ضغوط، فتعيين كورنيل له مسئوليتهم هم لا مسئوليته. وذكر فاينمان لاحقا قصة شهيرة ذكرته بالسبب وراء استمتاعه بدراسة الفيزياء: لقد شاهد طبقا يلقى في الكافيتريا يرتعش بطريقة غريبة مرة كل دورتين، فقرر معرفة سبب حركته على هذا النحو، بغرض اللهو.
ولعل أكثر ما أسهم في شفائه من تلك الحالة كان مرور الوقت ، والحاجة إلى التغلب على أحزانه لوفاة زوجته ووالده، والحاجة للتصالح مع أمه، التي كانت معارضتها لزواجه من آرلين سببا في ابتعادها إلى حد ما عن ولدها، ثم أخيرا الحاجة لاستعادة إيقاع الفيزياء كما عرفه قبل الحرب. لم يكن من الممكن طمس شخصيته، المشعة حماسا وثقة بالنفس، وعقليته - التي انصب اهتمامها على المغامرة الكبرى المتمثلة في حل ألغاز الطبيعة - إلى الأبد. (وقد علق بيته لاحقا، عندما علم باكتئاب فاينمان، الذي لم يكن ظاهرا للآخرين في كورنيل، بقوله: «إن فاينمان وهو مكتئب يكون أكثر بشاشة إلى حد ما من أي شخص آخر عندما يكون مبتهجا.») •••
Page inconnue