تقديم
مقدمة
الجزء الأول: مسارات نحو العظمة
1 - البداية
2 - عالم الكم
3 - طريقة تفكير جديدة
4 - أليس في بلاد الكم
5 - نهايات وبدايات
6 - فقد البراءة
7 - مسارات نحو العظمة
8 - من هنا إلى ما لا نهاية
9 - شطر ذرة
10 - نظرة عابسة من وراء زجاج
الجزء الثاني: بقية الكون
11 - مادة القلب وقلب المادة
12 - إعادة ترتيب الكون
13 - الاختباء داخل المرآة
14 - صنوف من الإلهاءات ومباهج الحياة
15 - استفزاز الكون
16 - من القمة إلى القاع
17 - الحق والجمال والحرية
خاتمة
شكر وتقدير ومراجع
تقديم
مقدمة
الجزء الأول: مسارات نحو العظمة
1 - البداية
2 - عالم الكم
3 - طريقة تفكير جديدة
4 - أليس في بلاد الكم
5 - نهايات وبدايات
6 - فقد البراءة
7 - مسارات نحو العظمة
8 - من هنا إلى ما لا نهاية
9 - شطر ذرة
10 - نظرة عابسة من وراء زجاج
الجزء الثاني: بقية الكون
11 - مادة القلب وقلب المادة
12 - إعادة ترتيب الكون
13 - الاختباء داخل المرآة
14 - صنوف من الإلهاءات ومباهج الحياة
15 - استفزاز الكون
16 - من القمة إلى القاع
17 - الحق والجمال والحرية
خاتمة
شكر وتقدير ومراجع
ريتشارد فاينمان
ريتشارد فاينمان
حياته في العلم
تأليف
لورنس إم كراوس
ترجمة
محمد إبراهيم الجندي
لا بد أن تتصدر الحقيقة المشهد قبل العلاقات العامة؛ لأنه لا يمكن خداع الطبيعة.
ريتشارد بي فاينمان، 1918-1988
تقديم
مع حلول القرن العشرين ظهرت نظريتان علميتان مهمتان هما نظرية النسبية ونظرية الكم، شكلتا حدا فاصلا بين قسمين كبيرين من علم الفيزياء؛ أحدهما يسمى «الفيزياء الكلاسيكية»، والآخر يعرف باسم «الفيزياء الحديثة». كانت قوانين الفيزياء الكلاسيكية قد نجحت في تفسير الظواهر الخاصة بعالم الأجسام الكبيرة (الماكروكوزم)، حيث الجسيمات والموجات كيانات مختلفة تماما لا صلة بينها، ويمكن للكميات الفيزيائية التي تصف هذه الكيانات (مثل الطاقة وكمية التحرك) أن تأخذ أي قيمة، كما يمكن للتجارب العملية التي تحقق القوانين الكلاسيكية أن تؤدي إلى نفس النتائج إذا ما أجريت تحت نفس الظروف.
أما الفيزياء الحديثة والمعاصرة التي تدرس الجسيمات - أو الدقائق - المتناهية في الصغر على مستوى الجزيئات والذرات (الميكروكوزم)، فإنها تعتبر الجسيم الدقيق المتحرك كأنه مصاحب لموجة تحت شروط معينة، والعكس صحيح، وهو ما يطلق عليه اسم «الطبيعة المزدوجة»، أو ثنائية الجسيم-الموجة . كما تأخذ الكميات الفيزيائية الديناميكية في حالة الجسيمات ذات الحجوم الذرية ودون الذرية قيما محددة مسموحا بها، فالطاقة التي تبعثها (أو تشعها) الأجسام لا تكون قيمها متصلة، وإنما تكون على شكل وحدات أو كميات منفصلة ومتتابعة، كل منها تسمى «كمة» أو «كم» أو «كوانتم»، وتجمع على «كمات» أو «كوانتات». ويتوقف مقدار كل «كم» من الطاقة على طول الموجة التي يشعها الجسم، وله مقدار ثابت يرمز له بالرمز
h ، ويسمى «ثابت بلانك»، وهو من السمات الأساسية للفيزياء الحديثة ومؤسسها الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (1858-1947) الحائز على جائزة نوبل عام 1918.
توالى بعد ذلك ظهور عدد من الاكتشافات العلمية الثورية التي أدت إلى تطور نظريتي النسبية والكم بسرعة هائلة خلال القرن العشرين على أيدي كوكبة من العلماء الأفذاذ، وكان الفيزيائي ريتشارد فاينمان (1918-1988م) واحدا من ألمع نجوم هذه الكوكبة. هذا العالم يعرفه جيدا دارسو الفيزياء على مستوى العالم من خلال مجموعته التعليمية الرائعة التي أنجزها بعنوان «محاضرات فاينمان في الفيزياء»، ونشرها في عدة مجلدات في الفترة بين عامي 1963 و1965، وترجمت إلى معظم لغات العالم، بما فيها اللغة العربية.
ومن أهم إنجازات فاينمان أنه وضع نظرية الديناميكا الكهربائية الكمية، وقد نال عليها ميدالية ألبرت أينشتاين للعلوم في عام 1945م. كما أنه ابتكر في عام 1958 مخططا بسيطا عرف باسمه وسمي «مخطط فاينمان»، فأسهم بذلك إسهاما فعالا في تبسيط حل مسائل التآثرات الحادثة بين الجسيمات الأولية. إن أية نظرية تفصيلية شاملة توضع لتفسير الظواهر الكونية المختلفة ينبغي ألا تقتصر على تعيين الجسيمات الأساسية والأولية لبنية الكون، بل تحدد أيضا القوى التي تحكم سلوك هذه الجسيمات وتآثراتها مع بعضها البعض، أو مع تآثرات أخرى معينة، لتنشأ منها تفاعلات أكثر تعقيدا.
ومن جميل الذكر في هذا السياق أن جهود فاينمان ومخططاته في حل مسائل التآثرات تعتبر أساسا لدراسة قضية التوحيد بين القوى الأساسية الأربع التي تعمل في الكون، وهي: قوة الجاذبية التي يعزى إليها سقوط الأجسام تلقائيا نحو الأرض، والقوة الكهرومغناطيسية التي تعمل على شكل تجاذب أو تنافر بين الجسيمات المشحونة كهربيا، وتعمل بشكل مماثل بين الشحنات المغناطيسية، والقوة النووية الشديدة التي يعزى إليها حفظ تماسك نواة الذرة، والقوة النووية الضعيفة التي يعزى إليها بشكل خاص أحد أشكال التحلل الإشعاعي للنواة بانبعاث أشعة بيتا. وقد اشترك فاينمان نفسه مع مواري جيلمان - الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969 - في وضع نظرية لتفسير الظواهر المصاحبة للتآثرات الضعيفة التي تحدث للجسيمات الأولية، وشارك في إعداد النظرية الحالية عن الكواركات، وقام بعمل نموذج أوضح فيه كيف يتحلل النيوترون إلى بروتون مع إصدار إلكترون ونيوترينو مضاد. وقد نجح العلماء الثلاثة: عبد السلام-واينبرج-جلاشو في توحيد القوتين، الكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة، في قوة واحدة تنبئوا بها في نظرية الكهرضعيفة، ثم أكدتها التجارب العلمية التي تمت عند طاقات عالية جدا في المعمل الأوروبي لفيزياء الجسيمات الأولية بجنيف، والمعروف باسم سيرن، واستحقوا عليها جائزة نوبل في الفيزياء عام 1979.
من ناحية أخرى، هناك من يؤرخ لمولد تقنية النانو بمحاضرة شهيرة ألقاها ريتشارد فاينمان في أواخر عام 1959م حول آفاق تصميم آلات ذات حجوم صغيرة، وجعل عنوانها: «هناك مساحة فسيحة في القاع»، وذلك خلال المؤتمر السنوي للجمعية الفيزيائية الأمريكية. طرح فاينمان في تلك المحاضرة سؤالا بسيطا في تحد وهو: إلى أي مدى يمكن أن نجعل الآلات أصغر حجما؟
وقد شرح توقعاته حول شكل أصغر الآلات التي يمكن تصميمها بحيث تتلاءم مع قوانين الفيزياء المعروفة، حيث أدرك أنه من الممكن أن تصل تقنية التصغير تدريجيا إلى أبعاد ذرية، ويمكن بعد ذلك استخدام الذرات والتحكم فيها لصنع آلات وأدوات أخرى، واستنتج أن مثل هذه الآلات والأدوات الذرية - شأنها شأن البكرات والعتلات والروافع والعجلات - تعمل كلها ضمن قوانين الفيزياء، على الرغم من الصعوبة الشديدة في تصنيعها.
كانت فكرة فاينمان عن التحكم في الأشياء عند مستوى متناهي الصغر هي التي قامت عليها فيما بعد تقنية النانو، عن طريق بناء المواد وتشكيلها باستخدام الذرات أو الجزيئات المفردة للحصول في كل مرة على مخرجات جديدة غير متوقعة، مشيرا بذلك إلى الإمكانات الهائلة في عالم الذرات والجزيئات، والفرصة الكبيرة التي يتيحها هذا العالم لإجراء أبحاث جديدة.
وتحققت توقعات فاينمان لأدوات تقنية النانو بعد حوالي عقدين باختراع مجهر المسح النفقي، استنادا إلى إحدى الظواهر الغريبة في فيزياء الكم والمعروفة باسم «تأثير النفق». وقد ساعد هذا المجهر على تصميم وصناعة كائنات نانوية، فتمكن اليابانيون من صناعة سيارة طولها 4,78 مليمتر، وعرضها وارتفاعها 1,7 مليمتر، كما تمت صناعة جيتار لم يزد عرض أوتاره على خمسين نانومترا. وتواصلت تلك الاهتمامات وتشعبت مجالاتها.
وفي عام 1986 تمكن علماء جامعة ستانفورد من صنع مجهر القوة الذرية الذي استمدت فكرته من مجهر المسح النفقي. وقد حقق العلماء بهذا المجهر نجاحا يتمثل في تصوير الجزيئات المفردة للأحماض الأمينية والبروتونات، وأمكن تطويره حاليا، ليس فقط للاستفادة منه في مراقبة ومتابعة المواد على المستوى الذري ورصد التفاعلات البيوكيميائية أثناء حدوثها، ولكن أيضا لتحريك الذرات والتحكم في تشكيلاتها.
وهكذا يتضح أن الكشوف والأفكار التي قدمها ريتشارد فاينمان، أحد عباقرة القرن العشرين، كانت بمقاييس فيلسوف العلم المعاصر توماس كون من أهم مقومات العلم غير العادي، أو العلم الثوري الذي أحدث طفرة هائلة نقلتنا إلى نموذج قياسي جديد بدأ ينمو ويترعرع مع بدايات القرن الواحد والعشرين. وأهم ما يميز هذا النموذج أنه يستخدم مفاهيم جديدة ومتطورة، وإن كان يصعب تصورها في بعض الأحيان لأنها لا تتفق مع ما اعتدنا عليه من تصورات تقليدية، إلى درجة أن قال فاينمان نفسه عبارته المشهورة: «نظرية الكم هي النظرية التي يستخدمها الجميع ولا يفهمها أحد على الإطلاق!» ... فنحن في حقيقة الأمر نعيش في «عالم كمي» غريب، يتحدى بطبيعته المخالفة للبداهة كل تفسير منطقي مريح عهدناه وألفنا مفاهيمه في العالم الكلاسيكي.
وقد حصل فاينمان على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965 بالاشتراك مع الفيزيائي الأمريكي جوليان شفينجر والفيزيائي الياباني توموناجا، وذلك تقديرا لبحوثهم الرائدة في تطوير نظرية المجال الكمية، وعلم الديناميكا الكهربائية الكمية الذي يدرس التفاعل بين الإلكترونات والإشعاع، اعتمادا على معادلات ماكسويل للمجال الكهرومغناطيسي للإشعاع ونظرية ديراك (1902-1984) الكمية النسبية للإلكترونات.
ونال فاينمان عضوية الجمعية الفيزيائية الأمريكية وغيرها ، كما أنه عمل ضمن الفريق الذي صنع القنبلة الذرية خلال مشروع مانهاتن. وبعد إلقاء القنبلة على هيروشيما حزن على ما حدث من تدمير بسبب القنبلة، وكان في الوقت نفسه سعيدا بسبب الإنجاز العلمي الذي حققه مع زملائه، لكنه بعد إلقاء القنبلة الثانية على ناجازاكي ازداد حزنه وأصبح متشائما جدا.
وأخيرا، لعل في هذه الإضاءة الموجزة عن حياة فاينمان وأهم إنجازاته العلمية ما يجعلنا ندرك قيمة الكتاب الذي بين أيدينا، من تأليف الكاتب العلمي المتميز لورنس كراوس. ولا شك أن ترجمته العربية سوف تثري معلومات القراء على اختلاف تخصصاتهم ومستوياتهم العلمية والثقافية.
هذا والله من وراء القصد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أ. د. أحمد فؤاد باشا
أستاذ الفيزياء والعميد الأسبق بكلية العلوم جامعة القاهرة
والنائب الأسبق لرئيس جامعة القاهرة
عضو المجمع العلمي ومجمع اللغة العربية بالقاهرة
www.afbasha.com
مقدمة
أعتقد أن الفيزياء مجال رائع. إننا نعرف الكثير جدا لكننا نصنف معارفنا في معادلات قليلة للغاية، على نحو يجعلنا نقول إننا لا نعرف إلا القليل.
ريتشارد فاينمان، 1947
غالبا ما يكون الفصل بين الحقيقة والخيال أمرا عسيرا عندما يتعلق الأمر بذكريات الطفولة، لكنني أملك ذكرى واضحة عن المرة الأولى التي فكرت فيها أنه قد يكون من المثير حقا أن أصبح عالم فيزياء. كنت مفتونا بالعلوم عندما كنت طفلا، ولكن العلوم التي درستها كانت دائما ما يفصلني عنها نصف قرن من الزمان على الأقل، ومن ثم كانت أقرب ما تكون إلى التاريخ. ولم يكن ترسخ في ذهني بعد أن ألغاز الطبيعة جميعها لم تكن قد حلت.
جاء «عيد الغطاس» وأنا أواظب على حضور برنامج صيفي في مادة العلوم بإحدى المدارس الثانوية. لست أدري هل كان يبدو علي الضجر أم ماذا عندما أعطاني معلمي - بعد أحد الدروس المحددة بانتظام - كتابا بعنوان «طبيعة قوانين الفيزياء» لريتشارد فاينمان، وطلب مني قراءة الفصل الذي يتناول التمييز بين الماضي والمستقبل. كان هذا أول لقاء لي بمفهوم الإنتروبيا والاضطراب، ومثل كثير ممن سبقوني - ومنهم الفيزيائيان العظيمان لودفيج بولتزمان وبول إرنفست، اللذان انتحرا بعد تكريس قدر كبير من حياتيهما المهنية لتطوير هذا الموضوع - خلف ذلك بداخلي حيرة وإحباطا. فالكيفية التي يتغير بها العالم ريثما ينتقل المرء من دراسة مشكلات بسيطة تخص جسمين - كالأرض والقمر - إلى دراسة نظام يضم جسيمات عديدة - كجزيئات الغاز بالغرفة التي أكتب فيها هذه الكلمات - غامضة وشاملة في الآن ذاته، بل إنها من الغموض والشمولية بمكان عجزت معه عن تقديرها حق قدرها في ذلك الوقت.
لكن بعد ذلك، في اليوم التالي، سألني معلمي: هل سمعت من قبل عن شيء يسمى المادة المضادة؟ وتابع حديثه ليخبرني بأن الرجل نفسه الذي ألف الكتاب الذي أعطاني إياه كان قد فاز حديثا بجائزة نوبل في الفيزياء؛ لأنه أوضح كيف أن الجسيم المضاد يمكن اعتباره جسيما يسير في عكس اتجاه الزمن. في ذلك الوقت أبهرتني الفكرة حقا، على الرغم من أنني لم أفهم أي شيء من تفاصيلها، (وأدرك الآن إذ أتأمل الماضي أن معلمي لم يفهم تلك التفاصيل أيضا). لكن فكرة حدوث هذه الأنواع من الاكتشافات خلال فترة حياتي دفعتني إلى الاعتقاد في وجود اكتشافات أخرى كثيرة تنتظر من يتوصل إليها. (والواقع أنه على الرغم من أن استنتاجي كان صحيحا، فإن المعلومات التي ساقتني إليه لم تكن كذلك. فقد نشر فاينمان بحثه الفائز بجائزة نوبل حول الديناميكا الكهربائية الكمية قبل نحو عقد من مولدي، ولم تكن الفكرة الثانوية - القائلة إن الجسيمات المضادة يمكن اعتبارها جسيمات تسير عكس اتجاه الزمن - فكرته من الأساس. فمع الأسف، حينما تصل الأفكار إلى المعلمين والكتب المدرسية بالمدارس الثانوية، عادة ما يكون عمر الأفكار الفيزيائية نحو خمسة وعشرين إلى ثلاثين عاما، وأحيانا لا تكون تامة الصحة.)
وبينما مضيت قدما في دراسة الفيزياء، صار فاينمان في نظري - كما كان في نظر جيل كامل - بطلا وأسطورة. ابتعت مجموعة كتب «محاضرات فاينمان في الفيزياء» عندما التحقت بالجامعة، كما فعل أغلب الفيزيائيين الشبان الطموحين الآخرين، وذلك على الرغم من أنني لم أدرس قط مقررا دراسيا واحدا درست فيه تلك الكتب. لكنني أيضا - كأغلب زملائي - واظبت على الاستعانة بتلك المجموعة حتى بعد مضي وقت طويل من انتهائي من دراسة ما يسمى بالمقرر التمهيدي في الفيزياء الذي تقوم عليه كتبه. وكان أثناء قراءتي لتلك الكتب أن اكتشفت كيف كانت تجربتي الصيفية مشابهة على نحو غريب لتجربة فريدة خاضها فاينمان عندما كان في المدرسة الثانوية، وسأذكر المزيد عن تلك المسألة لاحقا. وأكتفي الآن بالقول إنني أتمنى فقط لو أن نتائج تجربتي كانت على القدر نفسه من الأهمية.
الأرجح أنني لم أفهم تبعات ما كان أستاذ العلوم يحاول إخباري به فهما كاملا حتى التحقت بكلية الدراسات العليا، غير أن افتتاني بعالم الجسيمات الأولية، وبعالم ذلك الرجل المدهش فاينمان، الذي كتب عن تلك الجسيمات، بدأ صباح ذلك اليوم من أيام الصيف في المدرسة الثانوية، وإلى حد بعيد لم يتوقف قط. ولقد تذكرت للتو - أثناء كتابة هذه الكلمات - أنني اخترت كتابة أطروحتي الأكاديمية عن مكملات المسارات، وهو الفرع الدراسي الذي كان فاينمان من رواده.
أسعدني الحظ - عن طريق حدث غير مصيري - بأن قابلت ريتشارد فاينمان، وقضيت معه بعض الوقت وأنا لا أزال طالبا بالجامعة. في ذلك الوقت، كنت عضوا في منظمة تدعى «الاتحاد الكندي لطلاب الفيزياء الجامعيين»، وكانت الغاية الوحيدة لتلك المنظمة هي تنظيم مؤتمر وطني يحاضر فيه علماء الفيزياء البارزون، ويعرض فيه الطلاب نتائج مشاريعهم البحثية الصيفية. وفي عام 1974 - كما أظن - أمكن إقناع فاينمان (أو إغراؤه؛ لست أدري بالضبط، ولا يحق لي أن أفترض) بواسطة رئيسة المنظمة شديدة الجاذبية بأن يكون هو المتحدث الرئيسي في مؤتمر ذلك العام المنعقد في فانكوفر. وفي المؤتمر، كان لدي ما يكفي من الجرأة لأطرح عليه سؤالا بعد انتهاء محاضرته، والتقط مصور لإحدى المجلات القومية صورة لتلك اللحظة واستغلها، ولكن الأكثر أهمية أنني كنت قد أحضرت معي خليلتي، وتتابعت الأحداث، وقضى فاينمان وقتا طويلا من العطلة الأسبوعية يتسكع مع كلينا في بعض الحانات المحلية بالمدينة.
وفي وقت لاحق، أثناء وجودي بكلية الدراسات العليا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جاء فاينمان ليحاضر هناك مرات عديدة. وبعد سنوات أخرى ، وبعد أن نلت درجة الدكتوراه وانتقلت إلى هارفارد، كنت أعقد ندوة دراسية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك)، وكان فاينمان بين الجمهور، وكان هذا أمرا باعثا على القلق إلى حد ما. طرح علي سؤالا أو اثنين بكل تهذيب، ثم صعد إلى المنصة بعدها ليكمل المناقشة. أظن أنه لم يتذكر لقاءنا في فانكوفر، وسأظل نادما أبد الدهر على أنني ما عرفت قط هل يتذكرني أم لا؛ لأنه أثناء انتظاره في صبر ليتحدث معي، احتكر أستاذ مساعد شاب لحوح مثير للضيق إلى حد ما المناقشة معي إلى أن انصرف فاينمان في نهاية الأمر. لم أره بعد ذلك قط؛ إذ مات بعد بضع سنوات. •••
كان ريتشارد فاينمان أسطورة في نظر جيل كامل من الفيزيائيين قبل أن يعرفه أي فرد من العامة بوقت طويل. ربما وضعه الفوز بجائزة نوبل على الصفحات الأولى للصحف في جميع أنحاء العالم في يوم من الأيام، ولكن في اليوم التالي كانت عناوين جديدة تتصدر تلك الصفحات، وعادة لا تدوم أي معرفة لاسم مشهور فترة تزيد على فترة تداول الصحيفة نفسها. وهكذا فإن شهرة فاينمان بين عامة الناس لم تنبع من اكتشافاته العلمية، وإنما بدأت من خلال سلسلة من الكتب التي تحكي ذكرياته الشخصية. وقد كان فاينمان القاص مبدعا ومبهرا تماما بقدر ما كان فاينمان العالم الفيزيائي. فكان أي شخص تعامل معه شخصيا لا بد أن يتأثر على الفور بما يملكه من جاذبية طاغية؛ إذ اجتمعت له عينان ثاقبتان وابتسامة عابثة ولهجة أهل نيويورك المميزة لتنتج لنا صورة مناقضة تماما للصورة النمطية للعالم الباحث، كما أن افتتانه الشخصي بأشياء مثل طبول البونجو وحانات التعري لم يزد شخصيته إلا غموضا.
غير أن العامل الحقيقي الذي جعل من فاينمان شخصية شهيرة لدى العامة، كما يحدث في أغلب الأحيان، جاء بطريق الصدفة، وهي في هذه الحالة صدفة مأساوية: انفجار مكوك الفضاء «تشالنجر» بعد إقلاعه مباشرة، وعلى متنه أول «مدني»، وهو مدرس بإحدى المدارس الحكومية كان مقررا أن يلقي بعض الدروس من الفضاء. فخلال التحقيقات التي تلت الحادث، طلب من فاينمان الانضمام لهيئة التحقيق بوكالة الفضاء الأمريكية، ناسا، وعلى عكس المتوقع (إذ كان يبذل قصارى جهده لتجنب اللجان وكل ما شابهها من أشياء قد تعوقه عن عمله)، وافق فاينمان.
عمل فاينمان في تلك المهمة منفردا، وهو أسلوب غير تقليدي ليس من سماته أيضا. وبدلا من دراسة التقارير والتركيز على المقترحات البيروقراطية من أجل المستقبل، تحدث فاينمان مباشرة مع المهندسين والعلماء في ناسا، وفي لحظة شهيرة خلال جلسات الاستماع المذاعة على شاشات التليفزيون، أجرى فاينمان تجربة؛ إذ وضع حلقة دائرية مطاطية صغيرة داخل كوب به ماء مثلج، واستطاع بهذه التجربة أن يبرهن على أن الحلقات الدائرية المطاطية المستخدمة في إحكام إغلاق فتحات الصاروخ يمكن أن تتلف في درجات الحرارة شديدة الانخفاض كتلك التي كانت في يوم الإطلاق المشئوم للمكوك.
ومنذ ذلك اليوم، ظهرت الكتب التي تؤرخ لذكرياته، والكتب التي تجمع خطاباته، والأشرطة الصوتية التي تحمل «محاضراته المفقودة»، وما إلى ذلك، وبعد موته استمرت أسطورة فاينمان في الازدياد. كذلك نشرت ترجمات شهيرة لفاينمان، وكان أبرزها ترجمة جيم جليك البارعة التي حملت عنوان «العبقري».
سيظل فاينمان الإنسان مدهشا على الدوام، لكن عندما طلب إلي تأليف كتاب قصير وسهل يعكس صورة فاينمان الإنسان من خلال إسهاماته العلمية، لم أستطع المقاومة. حفزتني هذه المهمة لأنني سأتمكن من مراجعة جميع أبحاث فاينمان الأصلية (قد لا يدرك أغلب الناس أنه من النادر أن يرجع العلماء إلى الأدبيات الأصلية في مجال بحثهم، خاصة إذا كان عمر الكتب أكثر من جيل. إن الأفكار العلمية تتعرض لعملية تركيز وتنقيح مستمرة، وأغلب الأبحاث العلمية الحديثة في المجال الفيزيائي ذاته لا تشبه الصياغات الأولى إلا بقدر ضئيل للغاية). ولكن الأكثر أهمية أنني أدركت أن فيزياء فاينمان تقدم لنا رؤية - مصغرة - للتطورات الأساسية التي حدثت في علم الفيزياء على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، وأن العديد من الألغاز التي تركها بلا حلول لا تزال باقية بلا حلول حتى يومنا هذا.
حاولت - فيما يلي من فصول الكتاب - إنصاف كل من المعنى الحرفي والمضمون الحقيقي لأعمال فاينمان إنصافا لعله كان سيرضى عنه ويوافق عليه. وربما لهذا السبب يركز هذا الكتاب في المقام الأول على تأثير فاينمان في فهمنا الحالي للطبيعة، كما يعكسه سياق تلك الترجمة العلمية الشخصية لحياته. وسأخصص مساحة قليلة للشدائد وللملفات الغامضة والمتعددة التي تصرف انتباه حتى أكثر العلماء نجاحا - دون استثناء فاينمان من ذلك - وهم يشقون طريقهم إلى الفهم العلمي. فمن الصعب على غير الخبراء أن يدركوا فهما معقولا لما عرفه الفيزيائيون عن العالم الطبيعي، وذلك حتى دون الحاجة للخوض في تلك البدايات الخاطئة. ومهما بدت بعض تلك البدايات بارعة أو جذابة، فالمهم في نهاية الأمر هو تلك الأفكار التي صمدت على مر الزمن من خلال اجتياز اختبار التجربة.
لذا فإن هدفي المتواضع هو التركيز على التراث العلمي لفاينمان؛ لأنه أثر في الاكتشافات الثورية لفيزيائيي القرن العشرين، ولأنه قد يكون له تأثير في أي حل لألغاز القرن الحادي والعشرين. والفكرة التي أريد حقا كشفها لغير الفيزيائيين - إن استطعت هذا - هي توضيح الأسباب التي جعلت فاينمان يصل إلى مكانة البطل الأسطوري في نظر معظم علماء الفيزياء الذين يحيون الآن على سطح الأرض. فإذا استطعت فعل هذا، فسأكون بذلك قد ساعدت القراء على فهم أحد الأشياء الرئيسية بشأن الفيزياء الحديثة ودور فاينمان في تغيير تصورنا للعالم. وتلك - من وجهة نظري - هي أفضل شهادة يمكنني الإدلاء بها للتدليل على عبقرية ريتشارد فاينمان.
الجزء الأول
مسارات نحو العظمة
العلم هو طريقة لتعليم كيفية معرفة شيء ما، وما هو غير المعروف بعد، وإلى أي مدى نعرف الأشياء (إذ ما من شيء نعرفه معرفة مطلقة)، وكيفية التعامل مع الشك وعدم اليقين، وما القواعد الثابتة بالأدلة، وكيفية التفكير في الأشياء بحيث يمكننا الحكم عليها، وكيف يمكننا تمييز الحقيقة عن الزيف، وعن المظهر الخادع.
ريتشارد فاينمان
الفصل الأول
البداية
ربما كان الشيء بسيطا إذا استطعت أن تصفه وصفا كاملا بطرق عديدة مختلفة، دون أن تعرف في التو أنك تصف الشيء نفسه.
ريتشارد فاينمان
هل كان لأحد أن يخمن أن ريتشارد فاينمان الطفل سيصير على الأرجح أعظم علماء الفيزياء، وربما أقربهم للقلوب، طوال النصف الأخير من القرن العشرين؟ لم يكن هذا واضحا، على الرغم من وجود العديد من العلامات الأولية الدالة عليه؛ فقد كان ذكيا على نحو لا يقبل الجدل، وحظي بوالد يمنحه الرعاية والاهتمام ويسليه بالألغاز ويغرس فيه حب التعلم، مشجعا فضوله الفطري ومغذيا عقله متى أمكنه ذلك، وكانت لديه مجموعة أدوات الكيمياء، وأظهر افتتانا بأجهزة الراديو.
لكن هذه الأشياء كانت مألوفة إلى حد ما لدى الأطفال اللامعين في ذلك الوقت. ففي الجوانب الأساسية لحياته، بدا ريتشارد فاينمان طفلا يهوديا ذكيا عاديا من لونج أيلاند نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. وربما كانت تلك الحقيقة البسيطة هي التي حددت موضعه المستقبلي في التاريخ، بنفس قدر أهمية أي شيء آخر. نعم، كان عقله غير عادي، لكنه ظل متصلا بالواقع بقوة، حتى وهو مندفع لاستكشاف الجوانب الخفية الأكثر غموضا من وجودنا. نبع ازدراؤه للتباهي من حياته المبكرة التي لم يتعرض فيها لأي قدر منه، ونبع ازدراؤه للسلطة ليس فقط من والد غذى لديه حس الاستقلال، ولكن أيضا من حياة مبكرة نال فيها قدرا كبيرا من الحرية في أن يكون طفلا، وفي أن يسعى وراء أهوائه، وفي أن يرتكب الأخطاء.
ربما كانت أول إشارة على ما كان قادما في حياة فاينمان هي قدرته التي لا تكل - بكل معنى الكلمة - على التركيز على المشكلة التي تواجهه لساعات طوال في كل مرة، حتى إن والديه بدآ يقلقان عليه. وعندما كان مراهقا، حقق فاينمان استفادة عملية من افتتانه بأجهزة الراديو: إذ افتتح مشروعا صغيرا لإصلاحها. ولكن على عكس أعمال التصليح التقليدية، كان فاينمان يبتهج بحل مشكلات أجهزة الراديو ليس فقط من خلال الإصلاح، وإنما من خلال التفكير أيضا!
كان فاينمان يجمع بين تلك القدرة المميزة على تركيز كل طاقته على المشكلة التي يواجهها وبين موهبته الفطرية في الاستعراض. فعلى سبيل المثال، حدث أثناء أشهر عمليات إصلاح أجهزة الراديو التي قام بها أنه ظل يقطع المكان جيئة وذهابا وهو يفكر وجهاز الراديو المعطوب يطلق صوتا عاليا مزعجا أمام صاحبه كلما حاول تشغيله. وفي النهاية نزع فاينمان الشاب صمامين من الجهاز وبدل موضعيهما، وحل المشكلة. وأشك في أنه ترك الموقف كله يستمر فترة أطول من اللازم بهدف إحداث الأثر الذي أراده.
وفي وقت لاحق من حياته تكررت القصة نفسها تقريبا. لكن القصة الآتية حدثت عندما طلب من فاينمان المتشكك أن يفحص صورة محيرة مأخوذة من غرفة للفقاعات؛ وهي جهاز تترك فيه الجسيمات الأولية مسارات مرئية. فبعد أن فكر لبرهة من الوقت، وضع قلمه الرصاص على بقعة محددة من الصورة، وقال إنه لا بد من وجود رتاج في ذلك الموضع، وهو موضع تعرض فيه أحد الجسيمات لتصادم غير متوقع، محدثا نتائج أسيء تفسيرها. وغني عن القول أنه عندما عاد العلماء التجريبيون أصحاب الاكتشاف المزعوم إلى جهازهم وألقوا نظرة عليه، وجدوا الرتاج هناك!
ومع أن الأسلوب الاستعراضي يسهم في المعرفة بشخصية فاينمان، فإنه لم يكن مهما في عمله. كذلك لم يكن مهما افتتانه - الذي ظهر لاحقا - بالنساء. وكان المهم بحق هو قدرته على التركيز، الممزوجة بطاقة تكاد تكون غير بشرية يمكنه توظيفها في حل المشكلات. غير أن السمة الأساسية الأخيرة التي زينت كل هذا - عند اجتماعها مع السمتين السابقتين - هي التي ضمنت له العظمة في نهاية المطاف؛ تلك السمة هي ببساطة موهبة فذة تكاد لا تبارى في الرياضيات.
بدأت عبقرية فاينمان في الرياضيات تعلن عن نفسها بوضوح حين كان طالبا بالمدرسة الثانوية. فعندما كان في السنة الثانية علم نفسه حساب المثلثات، والجبر المتقدم، والمتسلسلات اللانهائية، والهندسة التحليلية، وحساب التفاضل والتكامل! وأثناء هذا التعلم الذاتي، بدأ في التجسد الجانب الآخر مما جعل فاينمان متفردا؛ فقد كان يعيد صياغة جميع المعارف بطريقته الخاصة، مبتكرا في كثير من الأحيان لغة جديدة أو صيغة جديدة تعكس فهمه الخاص. وفي بعض الأحيان، كانت الحاجة هي أم الاختراع. فأثناء كتابة كتيب عن الرياضيات المعقدة في عام 1933، وهو بعد في سن الخامسة عشرة، ابتكر «رموز الآلة الكاتبة» لتعكس العمليات الرياضية المناسبة، وذلك لأن آلته الكاتبة لم تحتو على مفاتيح تمثلها، ووضع مجموعة رموز جديدة لجدول من المتممات كان قد ابتكره من قبل.
التحق فاينمان بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بهدف دراسة الرياضيات، ولكن كانت تلك فكرة غير صائبة؛ فعلى الرغم من أنه أحب الرياضيات، فقد ظل دائما يرغب في معرفة ما يمكنه «فعله» بواسطتها. وقد سأل رئيس قسم الرياضيات هذا السؤال وتلقى إجابتين مختلفتين: «حساب مبالغ التأمينات.» و«إذا كنت تحتاج لطرح هذا السؤال، فإنك لا تنتمي إلى عالم الرياضيات.» ولم تلق أي من الإجابتين قبولا لدى فاينمان، الذي قرر أن الرياضيات لا تناسبه، فتحول إلى دراسة الهندسة الكهربائية. وعلى نحو مثير بدا هذا التحول متطرفا أكثر من اللازم. فإذا كانت الرياضيات بلا هدف عملي، فالهندسة عملية أكثر مما ينبغي. ولكن مثل الحساء المناسب في حكاية «جولديلوكس»، كانت الفيزياء «مناسبة تماما»، وبحلول نهاية سنته الأولى بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تخصص فاينمان في الفيزياء.
كان اختياره بطبيعة الحال ملهما؛ فمواهبه الفطرية أتاحت له التفوق في الفيزياء. ولكن كانت لديه موهبة أخرى أكثر أهمية على الأرجح، ولست أدري إن كانت فطرية أم لا؛ تلك الموهبة هي الحدس.
إن الحدس الفيزيائي هو نوع من المهارات الوقتية المدهشة؛ إذ كيف يعرف المرء أي منهج سيكون أكثر فائدة في حل مشكلة فيزيائية ما؟ لا شك أن بعض جوانب الحدس السليم مكتسبة. فلهذا السبب نحتاج إلى المتخصصين في فروع الفيزياء المختلفة لحل العديد من المشكلات. فعن طريق التخصص يبدءون في معرفة الأساليب التي تفلح والتي لا تفلح، ويزيدون من حصيلة الأساليب التي يتقنونها مع مرور الوقت. ولكن من المؤكد أن أحد جوانب الحدس الفيزيائي لا يمكن اكتسابه بالتعلم، وهو جانب لا يظهر إلا في مكان وزمان معينين. كان أينشتاين يمتلك هذا الجانب من جوانب الحدس، وقد أفاده كثيرا طوال أكثر من عشرين عاما، بداية من بحثه الفريد عن النسبية الخاصة وحتى الإنجاز الذي توج به أعماله ، وهو النسبية العامة. غير أن حدسه بدأ يخذله عندما بدأ ينحرف ببطء بعيدا عن تيار الاهتمام الرئيسي بميكانيكا الكم في القرن العشرين.
وكان حدس فاينمان فريدا من زاوية مختلفة. ففي حين وضع أينشتاين نظريات جديدة كليا بشأن الطبيعة، فقد استكشف فاينمان الأفكار الموجودة بالفعل من منظور جديد تماما وأكثر فائدة في المعتاد. فقد كانت الطريقة الوحيدة التي يمكنه بها حقا فهم الأفكار الفيزيائية هي أن يستنتجها بطريقته الخاصة. ولكن لما كانت طريقته أيضا في المعتاد من نواتج تعلمه الذاتي، فقد كانت النتائج النهائية تختلف اختلافا جذريا أحيانا عما كانت المعرفة «التقليدية» تنتجه. وكما سنرى لاحقا، فإن فاينمان صنع معرفة خاصة به.
غير أن حدس فاينمان كان أيضا مكتسبا بالطريقة الصعبة، نتيجة لجهد دءوب. فأسلوبه المنهجي والشمولية التي كان يفحص بها المشكلات كانا واضحين بالفعل أثناء دراسته بالمدرسة الثانوية. وقد سجل تقدمه في دفاتر ملاحظات احتوت على حسابات لجيب الزاوية وجيب التمام أجراها بنفسه، وسجله فيما بعد في دفتر ملاحظات التفاضل والتكامل الشامل الذي حمل عنوان «حساب التفاضل والتكامل للشخص العملي»، والذي احتوى على جداول تكامل شاملة، مرة أخرى كان هو من وضعها بنفسه. وفي وقت لاحق من حياته، كان يبهر الناس باقتراح طريقة جديدة لحل مشكلة ما، أو بفهمه الفوري لجوهر مسألة معقدة. وفي كثير من الأحيان، كان هذا يرجع إلى أنه في وقت ما، ضمن آلاف صفحات الملاحظات التي دونها أثناء عمله على فهم الطبيعة، قد فكر في تلك المشكلة نفسها ودرس عدة طرق مختلفة وليس طريقة واحدة لحلها. وكان هذا الاستعداد لفحص المشكلة من كل زاوية ممكنة، ولتنظيم أفكاره بعناية حتى استنفاد جميع الاحتمالات الممكنة هو ما ميزه عمن سواه، وهو نتاج لذكائه المتوقد وقدرته التي لا تكل على التركيز.
ربما كلمة «استعداد» ليست هي الكلمة المناسبة هنا. وربما كانت كلمة «احتياج» خيارا أفضل. فقد كان لدى فاينمان احتياج إلى فهم كل مشكلة يواجهها فهما كاملا عن طريق البدء من البداية، وحل المشكلة بطريقته الخاصة، وكثيرا ما كان يحلها بطرق عديدة مختلفة . وفيما بعد، حاول إضفاء هذا الخلق على طلابه، الذين قال أحدهم لاحقا: «شدد فاينمان على الإبداع؛ الذي كان يعني من وجهة نظره استنباط الأمور من البداية. لقد كان يحث كل واحد منا على خلق كون من الأفكار الخاصة به، بحيث تتسم نتائجنا - وإن كانت مجرد حلول لمشكلات مطلوب منا حلها في قاعة المحاضرات - بطابع أصيل يميزها؛ تماما كما كانت أعماله تحمل الطابع الفريد لشخصيته.»
لم تكن قدرة فاينمان على التركيز لفترات طويلة هي وحدها البارزة عندما كان صغيرا، وإنما برزت أيضا قدرته على التحكم في أفكاره وتنظيمها. أذكر أنني أيضا كنت أمتلك مجموعة الكيمياء عندما كنت طفلا، وأذكر أيضا أنني كثيرا ما كنت أخلط المواد بعضها ببعض على نحو عشوائي وأنتظر لأرى ما سيحدث. لكن فاينمان - كما أكد لاحقا - لم يعبث بالمواد العلمية بعشوائية مطلقا، وإنما كان دائما ما يقوم ب «عبثه» العلمي على نحو خاضع للسيطرة، ودائما ما كان منتبها لما يحدث. ومرة أخرى، في وقت لاحق، بعد وفاته، أصبح واضحا من خلال الملاحظات المكثفة التي دونها أنه سجل بعناية كل استكشاف من استكشافاته. بل إنه في لحظة معينة فكر في تنظيم حياته المنزلية مع زوجته المستقبلية على أسس علمية، قبل أن يقنعه صديق بأن هذا أمر يفتقر للواقعية على نحو ميئوس منه. وفي نهاية الأمر، اختفت سذاجته في هذا الشأن، وبعد ذلك بوقت طويل نصح أحد طلابه قائلا: «لا يمكن تطوير الشخصية بالفيزياء وحدها. يجب دمج باقي جوانب الحياة في عملية تطوير الشخصية.» وعلى أي حال، كان فاينمان يحب اللعب والمزاح، ولكن عندما كان الأمر يتعلق بالعلوم، فمنذ نعومة أظفاره وطوال باقي حياته كلها، يصبح جادا إلى أبعد الحدود.
ربما انتظر حتى نهاية سنته الدراسية الأولى بالجامعة قبل أن يعلن تخصصه في الفيزياء، ولكن الرؤية كانت قد اتضحت وهو بعد طالب بالمدرسة الثانوية. وباستعادة الماضي، فإن اللحظة التي يمكن اعتبارها حاسمة جاءت عندما عرفه أستاذه بالمدرسة - السيد بادر - على أحد الأسرار الغامضة الأكثر خفية وروعة للعالم القابل للرصد ، وهي حقيقة قائمة على اكتشاف توصل إليه قبل ثلاثمائة عام من مولده المحامي البارع المتنسك الذي تحول إلى عالم رياضيات، بيير دي فيرما.
كما هي حال فاينمان، حقق فيرما الشهرة ونال التقدير لدى العامة في وقت متأخر من حياته عن شيء لا علاقة له بأعظم إنجازاته. ففي عام 1637، خط فيرما ملحوظة موجزة على هامش نسخته من كتاب «الحساب» - تحفة عالم الرياضيات اليوناني الشهير ديوفانتوس - مشيرا إلى أنه اكتشف برهانا بسيطا على حقيقة مهمة. فالمعادلة س
ن + ص
ن = ع
ن
ليست لها حلول ذات أعداد صحيحة إذا كان ن أكبر من 2 (لأنه إذا كان ن يساوي 2، فتلك هي الحالة المعروفة باسم نظرية فيثاغورس حول أطوال أضلاع المثلث قائم الزاوية). ومن المشكوك فيه أن فيرما كان يمتلك حقا مثل هذا البرهان، الذي احتاج إثباته، بعد 350 عاما من عصره، إلى جميع تطورات القرن العشرين في الرياضيات وعدة مئات من الصفحات. ومع ذلك، فلو أن أحدا يذكر فيرما اليوم في أوساط عامة الناس، فليس السبب في هذا هو إسهاماته الكبيرة العديدة في الهندسة، والتفاضل والتكامل، ونظرية الأعداد، وإنما هو ما كتبه في هامش ذلك الكتاب الذي سيظل يعرف إلى الأبد باسم «نظرية فيرما الأخيرة».
إلا أنه بعد مرور خمسة وعشرين عاما على هذا الادعاء المشكوك في صحته، قدم فيرما برهانا مكتملا على شيء آخر مختلف تماما هو: مبدأ مميز، يكاد يكون من عالم الغيب، رسخ منهج التعامل مع الظواهر الفيزيائية واستخدمه فاينمان فيما بعد في تغيير طريقة تفكيرنا في الفيزياء في العالم المعاصر. كانت المسألة التي حول فيرما انتباهه إليها عام 1662 تتعلق بظاهرة وصفها العالم الهولندي ويلبرورد سنيل قبل أربعين عاما من ذلك التاريخ. اكتشف سنيل انتظاما رياضيا في الطريقة التي ينحني بها الضوء، أو ينكسر، عندما يعبر بين وسطين مختلفين، مثل الهواء والماء. إننا نسمي هذه الظاهرة اليوم باسم «قانون سنيل»، وغالبا ما تدرس تلك الحقيقة في مقررات الفيزياء بالمدارس الثانوية كحقيقة أخرى مملة من تلك الحقائق التي ينبغي حفظها، على الرغم من أنها لعبت دورا شديد الأهمية في تاريخ العلوم.
يتعلق قانون سنيل بالزوايا التي يصنعها شعاع الضوء عندما ينتقل عبر سطح يقع بين وسطين مختلفين. ولا يعنينا هنا الصيغة المحددة لهذا القانون، والمهم هو طابعه العام وأصله الفيزيائي. بعبارات بسيطة، ينص القانون على أنه عندما ينتقل الضوء من وسط أقل كثافة إلى وسط أعلى كثافة، ينحني مسار شعاع الضوء مقتربا من الخط العمودي على السطح الفاصل بين الوسطين (انظر الشكل).
والآن، لماذا ينحني الضوء؟ حسنا، إذا كان الضوء مكونا من تيار من الجسيمات، كما كان نيوتن وغيره يعتقدون، يمكن للمرء أن يفهم هذه العلاقة إذا كانت الجسيمات تزيد سرعتها عند انتقالها من وسط إلى آخر؛ فسوف تسحب الجسيمات حرفيا إلى الأمام، لتتحرك بفعالية أكبر في اتجاه عمودي على السطح الذي عبرته للتو. غير أن هذا التفسير بدا مريبا حتى في ذلك الوقت البعيد. فعلى أي حال، في وسط أعلى كثافة، من المفترض أن تواجه أي جسيمات كهذه مقاومة أكبر لحركتها، تماما كما تتحرك السيارات ببطء أكبر عندما تزيد كثافة حركة المرور.
إلا أنه كان هناك احتمال آخر، كما أوضح العالم الهولندي كريستيان هيجنز عام 1690. فإذا كان الضوء يتألف من موجات وليس جسيمات، فتماما كما تنحني الموجات الصوتية نحو الداخل عندما تبطئ سرعتها، سيحدث الشيء نفسه للضوء إذا قلت سرعته أيضا في الوسط الأعلى كثافة. وكما يعرف أي شخص لديه اطلاع على تاريخ الفيزياء، فإن سرعة الضوء تقل بالفعل في الأوساط الأعلى كثافة، وهكذا فإن قانون سنيل يمنحنا دليلا مهما على أن الضوء - في هذه الحالة - يسلك سلوكا يشبه سلوك الموجة.
قبل قرابة ثلاثين عاما من عمل هيجنز، استنتج فيرما أيضا أن الضوء لا بد أن ينتقل في الأوساط الكثيفة بسرعة أبطأ من سرعة انتقاله في الأوساط الأقل كثافة. غير أنه بدلا من أن يفكر من منظور كون الضوء موجات أو جسيمات، أوضح فيرما - عالم الرياضيات - أنه في هذه الحالة يمكن للمرء أن يفسر مسار الضوء في ضوء مبدأ رياضي عام ، ندعوه الآن «مبدأ الزمن الأقل لفيرما». وكما بين، فإن الضوء سيتبع المسار المنحني نفسه الذي حدده سنيل بالضبط إذا «انتقل بين نقطتين معينتين تقعان على مسار أقصر زمن».
يمكن فهم هذا تجريبيا كما يأتي: إذا كان الضوء ينتقل بسرعة أكبر في الوسط الأقل كثافة، فإنه لكي يصل من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» (انظر الشكل) في أقصر زمن ممكن، سيكون من المنطقي أن يقطع مسافة أطول في هذا الوسط، ويقطع مسافة أقصر في الوسط الآخر الذي ينتقل فيه ببطء أكبر. غير أنه لا يمكنه الانتقال في الوسط الأول لوقت أطول مما ينبغي، وإلا فإن المسافة الإضافية التي يقطعها ستفوق المكسب الذي يتحقق من خلال الانتقال بسرعة أكبر في الوسط الأقل كثافة. ومع ذلك فثمة مسار واحد هو المسار الأنسب، ويتبين لنا أن هذا المسار هو المسار المنحني الذي يتطابق بالضبط مع المسار الذي رصده سنيل.
يعد مبدأ الزمن الأقل لفيرما وسيلة بارعة رياضيا لتحديد المسار الذي يسلكه الضوء دون اللجوء إلى أي وصف ميكانيكي يعتمد على الموجات أو الجسيمات. والمشكلة الوحيدة هي أنه عندما يفكر المرء في الأساس الفيزيائي لهذه النتيجة، يبدو لنا أنها توحي بنوع من «التعمد»، بمعنى أن الضوء يدرس بطريقة ما جميع المسارات المحتملة قبل أن يبدأ رحلته - مثل مسافر على الطريق في ساعة الذروة الصباحية لأول أيام أسبوع العمل يستمع إلى التقرير المروري - ويختار في نهاية المطاف المسار الذي سيوصله إلى وجهته في أسرع وقت.
ولكن الشيء العجيب حقا هو أننا لسنا بحاجة إلى أن نعزو أي نوع من التعمد إلى انتقال الضوء. فمبدأ فيرما هو مثال رائع على خاصية فيزيائية أكثر روعة، وهي خاصية أساسية للحقيقة المدهشة وغير المتوقعة مسبقا التي تقول إن الطبيعة يمكن فهمها من خلال الرياضيات. ولو أن هناك خاصية واحدة مثلت شعاع النور الذي اهتدى به ريتشارد فاينمان إلى منهجه في الفيزياء، وكانت جوهرية في جميع اكتشافاته تقريبا، فهي تلك الخاصية، التي كان يعتقد أنها في غاية الأهمية حتى إنه أشار إليها مرتين على الأقل في خطاب تسلمه جائزة نوبل. في المرة الأولى، إذ قال أولا:
دائما ما يبدو لي غريبا أن قوانين الفيزياء الأساسية، عند اكتشافها، يمكن أن تأخذ أشكالا عديدة مختلفة لا تبدو متطابقة على نحو واضح في البداية، ولكن مع القليل من العبث بالرياضيات يمكن إظهار العلاقة بينها ... كان هذا شيئا تعلمته بالتجربة. هناك دائما طريقة أخرى لتعبر عن نفس الشيء، وهي لا تشبه على الإطلاق الطريقة التي عبرت عنه من قبل ... أعتقد أن هذا يمثل بطريقة ما تجسيدا لبساطة الطبيعة. لست أدري ما يعنيه اختيار الطبيعة لتلك الأشكال الغريبة، ولكن ربما كانت تلك وسيلة لتعريف البساطة. ربما كان الشيء بسيطا إذا استطعت أن تصفه على نحو كامل بطرق عديدة مختلفة، دون أن تعرف في التو أنك تصف الشيء نفسه.
ولاحقا (وهو ما يحمل أهمية لما سيأتي مستقبلا) أضاف فاينمان قائلا:
قد تكون النظريات الموضوعة عما هو معروف لنا - التي يمكن وصفها بالاستعانة بأفكار فيزيائية مختلفة - متساوية في جميع تنبؤاتها، ومن ثم لا يمكن تمييز بعضها عن بعض. غير أنها ليست متطابقة من الناحية النفسية عند محاولة الانتقال من هذا الأساس نحو المجهول؛ لأن الصور المختلفة تقترح أنواعا مختلفة من التعديلات الممكنة، ومن ثم لا تكون متساوية في الفرضيات التي يتوصل إليها المرء من خلالها أثناء محاولته فهم ما لم يفهم بعد.
مبدأ الزمن الأقل لفيرما يجسد بوضوح مثالا صارخا على تلك الوفرة الغريبة لقوانين الفيزياء التي أبهرت فاينمان أيما إبهار، وكذلك على «الفوائد النفسية» المتباينة للتفاسير المختلفة. إن التفكير في انحناء الضوء من منظور القوى الكهربائية والمغناطيسية عند السطح البيني الفاصل بين وسطين يكشف شيئا ما عن خصائص الوسط. والتفكير في الأمر نفسه من منظور سرعة الضوء ذاتها يبوح بشيء عن الخاصية الجوهرية للضوء الشبيهة بالموجة. والتفكير فيه من منظور مبدأ فيرما قد لا يكشف شيئا عن قوى محددة أو عن الطبيعة الموجية للضوء، ولكنه يسلط الضوء على شيء عميق حول طبيعة الحركة . ومن حسن الطالع أن جميع هذه الأوصاف البديلة تؤدي إلى تنبؤات متطابقة.
هكذا يمكننا أن نطمئن؛ فالضوء «لا يعرف» أنه يتخذ أقصر مسار ممكن. إنه يفعل هذا فحسب. •••
مع ذلك، لم يكن مبدأ الزمن الأقل، وإنما فكرة أخرى أكثر دقة وروعة هي التي غيرت مجرى حياة فاينمان في ذلك اليوم الحاسم في المدرسة الثانوية. وكما قال فاينمان لاحقا: «عندما كنت في المدرسة الثانوية، استدعاني مدرس الفيزياء - وكان اسمه السيد بادر - ذات يوم بعد حصة الفيزياء وقال لي: «يبدو عليك الملل، وأريد أن أخبرك بشيء مثير للاهتمام.» ثم أخبرني بشيء وجدته مبهرا إلى أقصى حد، وقد ظل - منذ ذلك الحين - مبهرا لي ... إنه مبدأ الفعل الأقل.» قد يبدو مبدأ «الفعل الأقل» تعبيرا أكثر ملاءمة لوصف سلوك موظف خدمة عملاء في شركة هاتف من ملاءمته لعلم الفيزياء، وهو علم يقوم - على كل حال - على وصف الأفعال. غير أن مبدأ الفعل الأقل مشابه تماما لمبدأ الزمن الأقل الذي وضعه فيرما.
يخبرنا مبدأ الزمن الأقل أن الضوء دائما ما يسلك مسار أقصر زمن. ولكن ماذا عن كرات البيسبول، وقذائف المدافع، والكواكب، وما إلى ذلك؟ إنها لا تتصرف بمثل هذه البساطة بالضرورة. هل ثمة شيء بخلاف الزمن يقلل إلى أقصى حد ممكن حين تتبع هذه الأجسام المسارات التي تمليها القوى المؤثرة عليها؟
تأمل أي جسم يتحرك، مثل جسم ثقيل يسقط. هذا الجسم يقال إن له نوعين مختلفين من الطاقة؛ أحدهما هو «طاقة الحركة»، وهي طاقة ترتبط بحركة الأجسام (والكلمة في اللغة الإنجليزية
kinetic
مشتقة من كلمة يونانية تعني الحركة)، وكلما تحرك الجسم بسرعة أكبر زادت طاقته حركته. والشق الآخر من طاقة الجسم من الأصعب كثيرا إثباته والتحقق منه، كما يتضح من اسمه وهو: «طاقة الوضع». وربما كان هذا النوع من الطاقة خفيا، ولكنه المسئول عن قدرة الجسم على إحداث أثر فيما بعد. فمثلا، إذا سقط جسم ثقيل من أعلى مبنى شاهق فسيحدث ضررا أكبر (ومن ثم سيكون له أثر أكبر) في تحطيم سقف سيارة تقف أسفل المبنى عن الضرر الذي يحدثه نفس الجسم إذا سقط من ارتفاع عدة بوصات فوق السيارة. ومن ثم، من الواضح أنه كلما كان الجسم أعلى زادت قدرته على إحداث أثر، ومن ثم زادت طاقة وضعه.
إذن فما يخبرنا به مبدأ الفعل الأقل هو أن «الفارق» بين طاقة حركة الجسم في أي لحظة من الزمن وبين طاقة وضعه في اللحظة ذاتها، عند حسابه عند كل نقطة على طول المسار ثم جمع نواتج جميع النقاط على طول المسار، سيكون أصغر في حالة المسار الفعلي الذي يأخذه الجسم عن أي مسار محتمل آخر. فالجسم، بطريقة ما، يضبط حركته بحيث تكون طاقة الحركة وطاقة الوضع له متكافئتين - في المتوسط - إلى أقصى حد ممكن.
إذا بدا هذا غامضا وغريبا، فالسبب هو أنه غامض وغريب بالفعل. فأنى لأحد أن يبتكر مثل هذا المزيج في المقام الأول، ناهيك عن تطبيقه على حركة الأجسام العادية؟
إننا ندين بالشكر عن هذا لعالم الرياضيات والفيزيائي الفرنسي جوزيف لويس لاجرانج، الذي اشتهر بأبحاثه في الميكانيكا السماوية. فمثلا، حدد لاجرانج النقاط الموجودة في المجموعة الشمسية التي عندها تؤدي قوة جذب الكواكب المختلفة إلى إلغاء قوة جذب الشمس. وتلك النقاط تسمى «نقاط لاجرانج». وترسل وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» الآن العديد من الأقمار الصناعية إلى هذه النقاط حتى تتمكن من البقاء في مدارات ثابتة ومن ثم تتمكن من دراسة الكون.
غير أن أعظم إسهامات لاجرانج في الفيزياء ربما تضمنت إعادة صياغته لقوانين الحركة. إن قوانين الحركة لنيوتن تعزو حركة الأجسام إلى صافي القوى المؤثرة عليها. إلا أن لاجرانج استطاع أن يبين أن قوانين الحركة يمكن إعادة استنباطها بالضبط إذا استخدم المرء «الفعل» - الذي هو حاصل جمع الفوارق بين طاقة الحركة وطاقة الوضع لجميع نقاط المسار - والذي يسمى الآن على نحو ملائم «اللاجرانجية»، ومن ثم حدد بالضبط أنواع الحركة التي من شأنها أن تنتج المسارات التي تقلل تلك الكمية إلى أدنى حد ممكن. وأنتجت عملية التقليل، التي تطلبت استخدام حساب التفاضل والتكامل (الذي ابتكره نيوتن أيضا )، أوصافا رياضية للحركة تختلف تماما عن قوانين نيوتن، ولكنها كانت - استحضارا لروح فاينمان - متطابقة رياضيا، على اختلافها الشديد «نفسيا». •••
كان هذا المبدأ الغريب للفعل الأقل - الذي كثيرا ما يسمى «مبدأ لاجرانج» - هو ما شرحه السيد بادر لفاينمان في سن المراهقة. وما كان لمعظم المراهقين أن يجدوا هذا الأمر ساحرا أو حتى مفهوما، لكن فاينمان وجده كذلك، أو كان هذا على الأقل هو ما دونه في مذكراته عندما صار أكبر سنا.
غير أنه لو كانت لدى فاينمان الشاب أي فكرة في ذلك الوقت عن أن هذا المبدأ سيصبغ حياته بالكامل فيما بعد، فمن المؤكد أن تصرفاته لم تكن توحي بهذا عندما بدأ يتعلم المزيد عن الفيزياء لدى التحاقه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. بل كان العكس تماما هو الصحيح. ففي وقت لاحق، قال عنه تيد ويلتون، الذي كان أفضل أصدقاء فاينمان أثناء الدراسة الجامعية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بل أثناء الدراسات العليا أيضا: «كان يرفض رفضا يثير الجنون الاعتراف بأن لاجرانج كان لديه شيء مفيد يضيفه إلى علم الفيزياء. كان باقي الطلاب جميعا منبهرين - كما كان ينبغي لنا - بإحكام وأناقة وفائدة صياغة لاجرانج، ولكن ريتشارد أصر بعناد أن علم الفيزياء الحقيقي يكمن في تحديد جميع القوى المؤثرة وتحليلها على نحو صحيح إلى مكونات أولية.»
إن الطبيعة - مثلها في ذلك مثل الحياة - تأخذ جميع أنواع التقلبات والمنعطفات الغريبة، والأهم من كل شيء آخر أنها لا تبالي بما يحبه المرء وما يبغضه. وبقدر ما حاول فاينمان في بداياته المبكرة أن يركز على فهم الحركة بطريقة تنسجم مع حدسه البريء البسيط، فقد أخذت مسيرته نحو العظمة مسارا مختلفا تماما. لم تكن هناك يد خفية توجهه. وبدلا من ذلك، أرغم هو حدسه على الانصياع لمتطلبات مشكلات عصره، وليس العكس. وكان التحدي من الصعوبة بحيث احتاج إلى ساعات وأيام وشهور لا حصر لها من العمل المضني على تدريب عقله على الالتفاف حول المشكلات التي لم تتمكن أعظم العقول في فيزياء القرن العشرين من حلها، حتى ذلك الوقت.
وكان فاينمان يجد نفسه يعود مرة أخرى إلى المبدأ نفسه الذي جعله يتحول إلى الفيزياء منذ البداية متى احتاج إليه.
الفصل الثاني
عالم الكم
لقد كنت دوما معنيا بالفيزياء. فلو أن فكرة ما بدت لي تافهة، أقول إنها تبدو تافهة، ولو بدت لي جيدة، أقول إنها تبدو جيدة.
ريتشارد فاينمان
كان فاينمان محظوظا أن التقى تيد ويلتون في عامه الدراسي الثاني بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا حين كان الاثنان - والوحيدان من طلاب العام الثاني - يحضران مقررا دراسيا متقدما لطلاب الدراسات العليا في الفيزياء النظرية. وباعتبارهما روحين متشابهتين، كان كل منهما يراجع الكتب الدراسية المتقدمة في الرياضيات في المكتبة، وبعد فترة وجيزة من محاولة أحدهما التفوق على الآخر، قررا التعاون معا «في النضال ضد فريق يبدو عدوانيا من الطلاب الآخرين الأكبر سنا وطلاب الدراسات العليا» في الصف الدراسي.
دفع كل منهما الآخر إلى آفاق جديدة، حيث راحا يتبادلان فيما بينهما دفتر ملاحظات كانا يدونان فيه معا بعض الحلول والأسئلة حول موضوعات تباينت من النسبية العامة إلى ميكانيكا الكم، وهي موضوعات تعلمها كل واحد منهما تعليما ذاتيا. ولم يؤد هذا فقط إلى تشجيع سعي فاينمان الحثيث الذي يبدو أنه لا يهدأ إلى اشتقاق كل شيء في علم الفيزياء بنفسه وبطريقته الخاصة، وإنما أدى أيضا إلى تعلم بعض الدروس العملية التي ظلت معه حتى نهاية حياته. وأحد هذه الدروس تحديدا يستحق التوقف عنده وتأمله. فقد حاول فاينمان وويلتون تحديد مستويات طاقة الإلكترونات في ذرة الهيدروجين عن طريق تعميم المعادلة القياسية لميكانيكا الكم - المسماة «معادلة شرودينجر» - لتضم نتائج النسبية الخاصة لأينشتاين. وأثناء قيامهما بهذا أعادا اكتشاف ما كان في واقع الأمر معادلة شهيرة هي «معادلة كلاين-جوردون». ومع الأسف، بعد أن حث ويلتون فاينمان على تطبيق تلك المعادلة بغرض فهم ذرة الهيدروجين، انتهت المحاولة إلى نتائج مخالفة تماما للنتائج التجريبية. وليس هذا مستغربا؛ لأنه كان من المعروف أن معادلة كلاين-جوردون ليست هي المعادلة المناسبة التي ينبغي استخدامها لوصف الإلكترونات النسبية، وهو ما أوضحه عالم الفيزياء النظرية البارع بول ديراك قبل عقد واحد فقط من الزمان، من خلال العمل الذي قاده للفوز بجائزة نوبل عن اشتقاق المعادلة الصحيحة.
وصف فاينمان تجربته بأنها درس «فظيع» ولكنه في غاية الأهمية ولم ينسه أبدا من وقتها. لقد تعلم ألا يعتمد على جمال نظرية رياضية أو على «شكلها المبهر»، وأن يقر بأن الاختبار الحقيقي للنظرية الجيدة هو هل يستطيع المرء «تطبيقها على الواقع» أم لا؛ والمقصود بالواقع هنا هو البيانات التجريبية.
ولم يكن فاينمان وويلتون يتعلمان كل شيء عن الفيزياء تعليما ذاتيا؛ فقد كانا يحضران المحاضرات أيضا. وخلال الفصل الدراسي الثاني من العام الثاني، أبهرا أستاذهما في مادة الفيزياء النظرية، فيليب مورس، إلى حد جعله يدعوهما - مع طالب ثالث - إلى دراسة ميكانيكا الكم معه في مجموعة دروس خصوصية يحضرونها يوما واحدا كل أسبوع في فترة ما بعد الظهر، وذلك خلال العام الدراسي الثالث بالمعهد. ثم دعاهما في وقت لاحق إلى بدء برنامج «بحث حقيقي» حسبا فيه خصائص الذرات الأكثر تعقيدا من الهيدروجين، وأثناء ذلك تعلما أيضا كيف يستخدمان الجيل الأول مما يسمى الآلات الحاسبة، وهي مهارة أخرى أفادت فاينمان كثيرا فيما بعد.
وبحلول السنة الدراسية الأخيرة له كطالب جامعي، كان فاينمان قد أتقن أغلب المناهج الجامعية ومناهج الدراسات العليا في الفيزياء، وصار متحمسا بالفعل لاحتمال امتهانه البحث العلمي واتخذ قرار المضي قدما وإكمال دراساته العليا. وفي الحقيقة، كان تطوره في الدراسة الجامعية مبهرا للغاية حتى إنه أثناء العام الدراسي قبل الأخير، أوصى قسم الفيزياء بمنحه درجة البكالوريوس بعد ثلاث سنوات بدلا من أربع. ورفضت الجامعة تلك التوصية، لذا، بدلا من ذلك، أكمل بحثه خلال السنة النهائية، وكتب بحثا عن ميكانيكا الكم للجزيئات نشر في دورية «فيزيكال ريفيو» ذات المكانة المرموقة، باعتباره بحثا عن الأشعة الكونية. أمضى أيضا بعض الوقت في تعزيز اهتمامه الأساسي بتطبيقات الفيزياء، وسجل اسمه لحضور مقررين دراسيين في علم المعادن والمختبرات - وهما مقرران أفاداه كثيرا فيما بعد أثناء عمله في لوس ألاموس - بل إنه ابتكر آلية مبدعة لقياس سرعات الأعمدة الدوارة المختلفة .
لم يكن الجميع مقتنعين أن فاينمان مستعد لاتخاذ الخطوة الكبيرة التالية في مسيرته التعليمية؛ إذ لم يكن أي من والديه قد أكمل تعليما جامعيا، ولم يكن ثمة أساس منطقي واضح لأن يكمل ابنهما ثلاث أو أربع سنوات دراسية أخرى بعد الحصول على شهادته الجامعية. زار والد ريتشارد، ميلفيل فاينمان، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في خريف عام 1938 للتحدث مع البروفسور مورس وسؤاله هل استكمال ابنه للدراسة أمر ذو قيمة، وهل ابنه جدير بذلك. وأجاب مورس بأن فاينمان الابن كان ألمع طالب جامعي درس له الفيزياء يوما، وأن استكمال دراساته العليا ليس فقط أمرا مهما وذا قيمة، وإنما هو ضروري أيضا إذا أراد فاينمان مواصلة حياته المهنية في مجال العلوم. وهكذا قضي الأمر.
كان فاينمان يفضل أن يستمر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. غير أن أساتذة الفيزياء الحكماء كانوا يحثون طلابهم عموما، حتى أفضل هؤلاء الطلاب، على متابعة دراساتهم العليا في معاهد أخرى جديدة. فمن المهم للطلاب أن يتعرضوا في بداية حياتهم المهنية لنطاق واسع من الأساليب المختلفة في ممارسة العلم، ونقاط التركيز المختلفة؛ لأن قضاء حياتهم الأكاديمية كلها في معهد واحد من الممكن أن يكون مقيدا للعديد من الناس. لذا أصر المشرف الأول على أطروحة ريتشارد فاينمان في الدراسات العليا، جون سلاتر، على أن يلتحق فاينمان بالدراسات العليا في مكان آخر، وقال له: «ينبغي أن تتعرف على باقي العالم.»
عرضت على فاينمان منحة دراسية للالتحاق بكلية الدراسات العليا في هارفارد دون حتى أن يتقدم لها؛ لأنه كان قد فاز ب «مسابقة ويليام لويل بوتنام في الرياضيات» عام 1939. وكانت تلك أكثر مسابقات الرياضيات الوطنية المفتوحة أمام الطلاب الجامعيين أهمية وصعوبة، وكان ذلك العام هو عامها الثاني. وأذكر عندما كنت في المرحلة الجامعية أن أفضل الطلاب في الرياضيات كانوا ينضمون لفريق جامعتهم ويتدربون على حل المشكلات عدة أشهر قبل امتحان المسابقة. ولا أحد يحل جميع المشكلات في الامتحان، وفي سنوات عديدة يخفق عدد كبير من المشتركين في المسابقة في حل ولو مشكلة واحدة. وكان قسم الرياضيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا قد طلب من فاينمان الانضمام إلى فريق المعهد للمشاركة في المسابقة وهو في السنة النهائية، وكان الفارق بين درجات فاينمان ودرجات جميع المشاركين الآخرين في المسابقة من جميع أنحاء البلاد مذهلا للقائمين على الامتحان، ولذلك عرضت عليه جائزة منحة هارفارد الدراسية. وكان فاينمان فيما بعد يتظاهر أحيانا بالجهل بالرياضيات عند الحديث عن الفيزياء، ولكن درجاته في مسابقة بوتنام كانت تدل على أنه - كعالم رياضيات - قادر على منافسة أفضل علماء الرياضيات في العالم.
لكن فاينمان رفض عرض هارفارد؛ فقد قرر أنه يريد الالتحاق بجامعة برينستون، وأعتقد أن قراره كان راجعا للسبب نفسه الذي جعل العديد من الفيزيائيين الشبان يرغبون في الالتحاق بها وهو: أن أينشتاين كان هناك! وكانت برينستون قد قبلته وعرضت عليه وظيفة مساعد باحث مع يوجين ويجنر، الذي فاز بجائزة نوبل في المستقبل. ومن حسن حظه أن تم تعيينه بعد ذلك مع أستاذ مساعد شاب هو جون أرشيبالد ويلر، وهو رجل كان خياله مكافئا لبراعة فاينمان في الرياضيات.
وفي ذكرى فاينمان بعد وفاته، تذكر ويلر مناقشة دارت بين أعضاء لجنة القبول بالدراسات العليا في ربيع عام 1939، وخلالها تحدث أحد أعضاء اللجنة بحماس عن حقيقة أنه ما من شخص آخر من المتقدمين للجامعة حقق درجات قبول في الفيزياء والرياضيات تقترب من الدرجات المرتفعة للغاية التي حققها فاينمان (وكان قد حقق 100٪ في الفيزياء)، وفي الوقت نفسه تذمر عضو آخر من أعضاء اللجنة قائلا إنهم لم يقبلوا مطلقا من قبل طالبا حقق تلك الدرجات المتدنية للغاية في مادتي التاريخ واللغة الإنجليزية. ومن حسن حظ مستقبل العلم أن الفيزياء والرياضيات كانت لهما الغلبة.
ومن المثير للاهتمام أن ويلر لم يتحدث عن مسألة أساسية أخرى، ولعله لم يكن على دراية بها: وهي قضية ديانة فاينمان اليهودية. كان رئيس قسم الفيزياء في برينستون قد كتب إلى فيليب مورس بشأن فاينمان، حيث سأله عن انتمائه الديني، وأضاف: «ليست لدينا قاعدة محددة ضد اليهود، ولكن علينا أن نحافظ على نسبتهم في القسم صغيرة إلى حد معقول بسبب صعوبة تسكينهم.» وفي النهاية، تقرر أن فاينمان لم يكن يهوديا ملتزما «في سلوكه» إلى درجة تجعل هذا عقبة في الطريق. ولم تكن حقيقة أن فاينمان غير مهتم في الأساس بأمور الدين - شأنه في ذلك شأن العديد من العلماء - جزءا من المناقشة. •••
غير أن الحقيقة الأكثر أهمية من كل هذه التطورات الخارجية هي حقيقة أن فاينمان كان قد وصل الآن إلى مرحلة من مراحل تعليمه يمكنه فيها البدء في التفكير في الأمور المثيرة بحق؛ نعني بها تحديدا الفيزياء غير المنطقية وغير المفهومة. فالتطورات المتقدمة في العلم دائما ما تكون متناقضة ومتضاربة إلى حد ما، ومثل الكلاب البوليسية، يركز علماء الفيزياء العظماء على عناصر الغموض والتناقض تلك تحديدا لأنه فيها تكمن الجائزة الحقيقية.
كانت المشكلة التي قال فاينمان لاحقا إنه «وقع في غرامها» عندما كان طالبا بالجامعة تمثل جزءا مألوفا من أهم قضايا الفيزياء النظرية طوال ما يقرب من قرن، وهي: النظرية الكلاسيكية للكهرومغناطيسية. ومثل العديد من المشكلات العميقة، يمكن عرض المشكلة ببساطة. فالقوة العاملة بين شحنتين متشابهتين هي قوة تنافر؛ ولذا يتطلب الأمر شغلا لتقريب إحداهما من الأخرى. وكلما زاد قربهما احتاج الأمر إلى المزيد من الشغل. والآن تخيل إلكترونا منفردا؛ فكر فيه على أنه «كرة» ذات شحنة لها نصف قطر معين. وبهذا فإن جمع الشحنة كلها معا عند نصف القطر لتكوين الإلكترون يتطلب شغلا. والطاقة التي يصنعها الشغل أثناء جمع الشحنة معا تسمى عادة «الطاقة الذاتية» للإلكترون.
والمشكلة هي أننا لو قلصنا حجم الإلكترون وصولا إلى نقطة واحدة، فإن الطاقة الذاتية للإلكترون ستصل إلى ما لا نهاية؛ لأن الأمر يتطلب قدرا لانهائيا من الطاقة لجمع الشحنة كلها معا في نقطة واحدة. وكانت تلك المشكلة معروفة منذ فترة، ووضعت العديد من المخططات لحلها، ولكن كان أبسط هذه المخططات هو أن نفترض أن الإلكترون ليس محصورا حقا في نقطة واحدة، وإنما له حجم محدد.
غير أنه في وقت مبكر من القرن العشرين، اتخذت هذه المسألة منظورا مختلفا . فمع تطور ميكانيكا الكم، تغيرت صورة الإلكترونات، والمجالات الكهربائية والمغناطيسية تماما. فعلى سبيل المثال، تقول قاعدة ازدواجية الموجات والجسيمات، وهي جزء من نظرية الكم: إن كلا من الضوء والمادة - وهي الإلكترونات في هذه الحالة - تسلك في بعض الأحيان سلوك الجسيمات وتسلك في أحيان أخرى سلوك الموجات. ولكن مع تطور فهمنا لعالم الكم، في الوقت الذي زادت فيه غرابة هذا العالم أكثر وأكثر، اختفت بعض الألغاز الأساسية في الفيزياء الكلاسيكية، ولكن بقيت ألغاز أخرى بلا حلول، ومن بينها لغز الطاقة الذاتية للإلكترون. ولكي نضع هذا الأمر في سياقه السليم، نحن بحاجة لاستكشاف عالم الكم.
تتسم ميكانيكا الكم بسمتين أساسيتين، وكلتاهما تتحدى على نحو سافر حدسنا التقليدي بشأن العالم؛ السمة الأولى: هي أن الأجسام التي تسلك سلوكا ميكانيكيا كميا هي الأجسام الأساسية متعددة المهام؛ فهي قادرة على اتخاذ العديد من الأشكال المختلفة في نفس الوقت. ويتضمن هذا وجودها في أماكن مختلفة وأداء مهام مختلفة في وقت واحد. فعلى سبيل المثال، في حين يتصرف الإلكترون وكأنه يدور مغزليا نحو الأعلى، فإنه قادر أيضا على أن يتصرف وكأنه يدور في العديد من الاتجاهات المختلفة في الوقت نفسه.
إذا كان الإلكترون يتصرف وكأنه يدور مغزليا في عكس اتجاه عقارب الساعة حول محور يتجه من الأرض نحو الأعلى، نقول إن له «دورانا علويا». وإذا كان يدور في اتجاه عقارب الساعة، نقول إن له «دورانا سفليا». وفي أي لحظة معينة، يكون احتمال دوران الإلكترون لأعلى هو 50 بالمائة، واحتمال دورانه لأسفل هو 50 بالمائة. وإذا تصرفت الإلكترونات على النحو الذي يقترحه حدسنا التقليدي، فسيكون معنى هذا أن كل إلكترون نقيسه يدور لأعلى أو يدور لأسفل، وأننا سنجد 50 بالمائة من الإلكترونات في وضع واحد معين، وسنجد ال 50 بالمائة الأخرى في الوضع الآخر.
هذا صحيح من زاوية ما. فلو أننا قسنا الإلكترونات بهذه الطريقة، فسنجد أن 50 بالمائة منها تدور لأعلى و50 بالمائة تدور لأسفل. و«لكن» - وتلك «لكن» مهمة للغاية - من الخطأ أن نفترض أن كل إلكترون يدور في أحد الاتجاهين أو الآخر قبل أن نقيس. ففي لغة ميكانيكا الكم، كل إلكترون في «حالة تراكب مكونة من حالتي دوران لأعلى ودوران لأسفل» قبل القياس. إنه باختصار يدور في كلا الاتجاهين!
كيف نعرف إذن أن افتراض أن الإلكترونات تأخذ وضعا معينا أو الآخر هو افتراض «خاطئ»؟ يتبين لنا أننا نستطيع إجراء تجارب تعتمد نتائجها على ما يفعله الإلكترون عندما لا نقيسه، وسوف تكون النتائج مختلفة إذا كان الإلكترون يتصرف على نحو متوقع؛ أي بأحد الوضعين المحددين أو الآخر بين القياسات.
أشهر مثال على هذا يتضمن إطلاق الإلكترونات على جدار به شقان، ووراء الجدار توجد شاشة وامضة، تشبه كثيرا شاشات تليفزيونات الصمامات المفرغة القديمة، وتضيء متى اصطدم بها إلكترون. وإذا لم نقس الإلكترونات بين اللحظة التي تترك فيها المصدر واللحظة التي ترتطم فيها بالشاشة - بحيث لا يمكننا أن نعرف أي شق مر عبره كل إلكترون - فسوف نرى نمطا من البقع الداكنة والمتألقة يظهر على الشاشة الخلفية، وهو نفس «نمط التداخل» بالضبط الذي نراه لموجات الضوء أو الصوت التي تعبر جهازا ذا شقين، أو ربما على نحو مألوف أكثر، نمط لحظات التموج والهدوء المتناوبة التي تنشأ غالبا عندما يلتقي جدولان متدفقان بالماء معا. والمدهش أن هذا النمط يظهر حتى إذا أطلقنا إلكترونا واحدا فقط نحو الشقين في الجدار في أي لحظة. وهكذا فإن النمط يوحي بأن الإلكترون «يتداخل» مع نفسه بطريقة ما بعد أن يمر عبر كلا الشقين في الوقت نفسه!
للوهلة الأولى تبدو تلك الفكرة محض هراء؛ لذا فإننا نغير التجربة قليلا. نضع كاشف إلكترونات غير مدمر بجوار كل شق ثم نطلق الإلكترونات. وهنا نجد أن كاشفا واحدا فقط من الاثنين هو الذي سيشير إلى مرور أحد الإلكترونات من الشق في أي لحظة معينة، مما يتيح لنا أن نعرف أن كل إلكترون يمر عبر شق واحد فقط من الشقين في واقع الأمر، وعلاوة على ذلك يمكننا أن نحدد الشق الذي مر منه كل إلكترون.
كل شيء يسير على ما يرام حتى الآن، ولكن هنا يأتي عنصر الإزعاج الكمي. فلو أننا فحصنا النمط الذي يظهر على الشاشة بعد هذا التدخل الذي يبدو بريئا، فسنجد أن النمط الجديد يختلف تماما عن النمط القديم. فحينها سيبدو النمط شبيها بالنمط الذي كنا سنحصل عليه لو أننا كنا نطلق الرصاص على تلك الشاشة عبر حاجز الشقين؛ بمعنى أنه ستكون هناك بقعة مضيئة وراء كل شق، وستكون بقية الشاشة مظلمة.
لذا، سواء شئنا أم أبينا، فإن الإلكترونات وغيرها من الأجسام الكمية يمكنها أداء أعمال سحرية تقليدية بقيامها بأشياء عديدة مختلفة في الوقت ذاته، على الأقل طالما كنا لا نراقبها أثناء ذلك.
والخاصية الأساسية الثانية لميكانيكا الكم تنطوي على ما يسمى ب «مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج». ويقضي هذا المبدأ بأن هناك تركيبات معينة من الكميات الفيزيائية - مثل موضع الجسيم وزخمه (أو سرعته) - لا يمكننا قياسها في اللحظة عينها بدقة مطلقة. فمهما كانت كفاءة المجهر أو جهاز القياس الذي نستخدمه، فإن ضرب عامل عدم اليقين بشأن الموضع في عامل عدم اليقين بشأن الزخم لا تكون نتيجته صفرا أبدا، ودائما ما يكون الناتج أكبر من رقم معين، وهذا الرقم يسمى «ثابت بلانك». وهذا الرقم أيضا هو الذي يحدد نطاق التباعد بين مستويات الطاقة في الذرات. وبعبارة أخرى، إذا قسنا الموضع بدقة كبيرة بحيث يكون عدم اليقين بشأن الموضع صغيرا جدا، فإن هذا يعني أن معرفتنا بزخم أو سرعة الجسيم لا بد أن تكون غير دقيقة إلى حد بعيد، وبهذا يكون ناتج عدم اليقين بشأن الموضع وعدم اليقين بشأن الزخم أكبر من ثابت بلانك.
هناك تركيبات أخرى من «أزواج هايزنبرج» تلك، مثل زوج الطاقة والزمن. فلو أننا قسنا الحالة الميكانيكية الكمية لجسيم أو ذرة ما لوقت قصير للغاية، فسوف يكون هناك عامل عدم يقين كبير في الطاقة المقاسة للجسيم أو الذرة. ولكي نقيس الطاقة بدقة، سيكون علينا أن نقيس الجسم على مدار فترة زمنية طويلة، وفي هذه الحالة لا يمكننا أن نعرف بالضبط متى تم قياس الطاقة بالضبط.
ولو أن كل هذا ليس سيئا بما يكفي، فإن عالم الكم يصبح أكثر غرابة عندما نضيف إلى هذا المزيج نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن النسبية تضع الكتلة والطاقة على قدم المساواة. فلو أن لدينا طاقة كافية متوفرة، يمكننا خلق شيء له كتلة!
إذن، إذا وضعنا كل هذه الأشياء معا - التعدد الكمومي، ومبدأ عدم اليقين لهايزنبرج، والنسبية - فما الذي سنحصل عليه؟ سنحصل على صورة للإلكترونات أكثر إثارة للحيرة إلى ما لا نهاية من الصورة التي تعرضها لنا النظرية الكلاسيكية، التي أدت هي نفسها إلى طاقة ذاتية لانهائية للإلكترون.
على سبيل المثال، كلما حاولنا تصور إلكترون، فإنه ليس بالضرورة أن يكون إلكترونا واحدا! ولكي نفهم هذا، فلنعد إلى الكهرومغناطيسية الكلاسيكية. إن إحدى السمات الأساسية لجوهر هذه النظرية هي حقيقة أننا إذا هززنا إلكترونا، فإنه سيبعث إشعاعا كهرومغناطيسيا، مثل الضوء أو موجات الراديو. نشأ هذا الاكتشاف العظيم عن التجارب الرائدة التي أجراها في القرن التاسع عشر مايكل فاراداي، وهانز كريستيان أورستد، وغيرهما، والبحث النظري الرائد لجيمس كلارك ماكسويل. من زاوية ميكانيكيا الكم، لا بد أن تكون هذه الظاهرة المرصودة قابلة للتنبؤ بها؛ لأنه إذا كان ينبغي لميكانيكا الكم أن تصف العالم على نحو صحيح، فلا بد أن تتفق تنبؤاتها مع المشاهدات. ولكن الخاصية الأساسية الجديدة هنا هي أن ميكانيكا الكم تخبرنا بأن نفكر في الإشعاع على أنه مكون من «كموم» فردية، أو حزم من الطاقة، تسمى الفوتونات.
والآن لنعد إلى الإلكترون. يخبرنا مبدأ هايزنبرج أننا إذا قسنا الإلكترون لبعض الوقت المحدد، يظل هناك قدر من عدم اليقين محدد القيمة في معرفتنا بطاقته. ولكن إذا كان هناك قدر من عدم اليقين، فكيف لنا أن نعرف أننا نقيس الإلكترون وحده؟ فمثلا، إذا كان الإلكترون يبعث فوتونا يحمل طاقة ضئيلة للغاية، فإن الطاقة الكلية للمنظومة سوف تتغير، وإن كان التغيير ضئيلا جدا. ولكن إذا كنا لا نعرف بالضبط مقدار طاقة المنظومة، فإننا لا نستطيع إذن أن نحدد هل بعثت فوتونا منخفض الطاقة أم لا. لذا فإن ما نقيسه حقا ربما كان هو طاقة الإلكترون بالإضافة إلى الفوتون الذي أطلقه.
لكن لماذا نتوقف عند هذا الحد؟ ربما بعث الإلكترون عددا لانهائيا من الفوتونات منخفضة الطاقة؟ فإذا راقبنا الإلكترون فترة كافية، يمكننا قياس طاقته بدقة كبيرة، ويمكننا وضع عداد فوتونات بالقرب منه لنرى إن كانت هناك فوتونات حوله. وفي هذه الحالة، ترى ماذا حدث لجميع الفوتونات التي كانت تتحرك مع الإلكترون خلال تلك الفترة؟ الأمر بسيط: يمكن للإلكترون أن يمتص كل تلك الفوتونات قبل أن تتاح لنا فرصة قياسها!
يطلق على نوع الفوتونات التي يمكن للإلكترون أن يطلقها ويعيد امتصاصها خلال فترة زمنية قصيرة للغاية لا تتيح لنا قياسها اسم «الجسيمات الافتراضية»، وكما سأوضح لاحقا، فقد أدرك فاينمان أننا عندما ندرج آثار كل من النسبية وميكانيكا الكم، لا يكون هناك مفر من الإقرار بوجود هذه الجسيمات. لذا عندما نفكر في إلكترون يتحرك، يصير لزاما علينا أن نفكر فيه على أنه جسم شديد التعقيد تحيط به سحابة من الجسيمات الافتراضية.
تلعب الجسيمات الافتراضية دورا مهما آخر في نظرية الكم للكهرومغناطيسية؛ فهي تغير الطريقة التي نفكر بها في المجالات الكهربائية والمغناطيسية والقوى بين الجسيمات. فمثلا، افترض أن الإلكترون يبعث فوتونا. يمكن لهذا الفوتون حينئذ أن يتفاعل بدوره مع جسيم آخر، وقد يمتصه هذا الجسيم. وبناء على طاقة الفوتون، سوف ينتج عن هذا انتقال للطاقة والزخم من إلكترون إلى آخر. ولكن هذا هو ما نصفه عادة بأنه تجسد للقوة الكهرومغناطيسية بين هذين الجسيمين المشحونين كهربائيا.
وفي الواقع - وكما سنرى - في عالم الكم يمكن اعتبار القوتين الكهربائية والمغناطيسية ناتجتين عن تبادل الفوتونات الافتراضية. ولأن الفوتون عديم الكتلة، فإن الفوتون المنبعث يمكن أن يحمل قدرا ضئيلا جدا من الطاقة. لذا - كما يخبرنا مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج - يمكن للفوتون أن ينتقل لمسافة طويلة جدا (مستغرقا وقتا طويلا جدا) بين الجسيمات قبل إعادة امتصاصه الحتمية من أجل إعادة الطاقة التي يحملها إلى الإلكترون. ولهذا السبب تحديدا يمكن للقوة الكهرومغناطيسية بين الجسيمات العمل على بعد مسافات طويلة. ولو كانت للفوتون كتلة، فإنه كان سيحمل دائما أقل طاقة ممكنة، وفقا للمعادلة «ط = ك س
2 »، حيث «ك» هي كتلة الفوتون، ولكي يظل هذا الانتهاك لقانون حفظ الطاقة مختفيا في ثنايا الشكوك الكمومية، فإن مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج يقضي بضرورة إعادة امتصاص الفوتون بواسطة الإلكترون الأصلي أو بواسطة إلكترون آخر في غضون زمن محدد أو مسافة محددة على نحو مكافئ.
إننا نسبق الأحداث بوصولنا إلى هذه النقطة، أو على الأقل نسبق ما كان فاينمان يدركه في تلك الحقبة من حياته، ولكنني أوردت هذه التعقيدات هنا لغرض معين، وهو أنه إذا كان كل هذا يبدو لك معقدا للغاية ويصعب تصوره، فانضم إلى جموع الناس، خاصة إذا كنا نتحدث عن حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية. كان هذا هو عالم الفيزياء الأساسية حين دخله ريتشارد فاينمان طالبا، وقد كان عالما بدا أن قواعده الجديدة الغريبة تنتج هراء سخيفا. فعلى سبيل المثال، ظلت الطاقة الذاتية اللانهائية الكلاسيكية للإلكترون جزءا من نظرية الكم، ويرجع الفضل في ذلك بوضوح إلى حقيقة أن الإلكترون يمكنه أن يطلق فوتونات ذات طاقة عالية جدا ويعيد امتصاصها، طالما أنه يفعل هذا خلال فترات زمنية قصيرة للغاية.
غير أن الحيرة كانت أسوأ من ذلك. فنظرية الكم تنسجم جيدا بوجه عام مع النتائج التجريبية، ولكن كلما حاول علماء الفيزياء حساب التنبؤات بالضبط لتضاهي القياسات الدقيقة، فكانوا مثلا إذا أدرجوا عملية تبادل تضم أكثر من فوتون واحد بين الجسيمات - وهي عملية لا بد أنها تحدث على نحو أكثر ندرة من تبادل فوتون واحد - وجدوا أن المساهمة الإضافية الناتجة عن هذا التأثير ذي «الرتبة الأعلى» ذات قيمة لانهائية. وعلاوة على هذا، فإن حسابات نظرية الكم المطلوبة لاستكشاف تلك القيم اللانهائية كانت صعبة ومملة إلى درجة مزعجة؛ إذ كانت كل واحدة من تلك الحسابات تتطلب من أفضل العقول في ذلك الوقت أشهرا كاملة دون أدنى مبالغة.
وعندما كان فاينمان لا يزال طالبا بالجامعة، راودته فكرة حملها معه إلى كلية الدراسات العليا. فماذا لو كانت «الصورة » الكلاسيكية للكهرومغناطيسية - كما شرحتها منذ قليل - صورة خاطئة؟ ماذا لو كانت هناك - على سبيل المثال - قاعدة «جديدة» تقول إن الجسيم الذي يحمل شحنة كهربائية لا يمكنه التفاعل مع نفسه؟ هذا من شأنه أن يخلصنا من الطاقة الذاتية اللانهائية للإلكترون؛ لأنه لا يستطيع التفاعل مع المجال الكهربائي الخاص به. إنني أؤكد أن اللانهائية التي وضعت هذه القاعدة الجديدة لتجنبها موجودة في النظرية الكلاسيكية الخالصة، حتى دون النظر للآثار الميكانيكية الكمية.
لكن فاينمان كان أكثر جرأة. فماذا لو كان ما نسميه بالمجال الكهرومغناطيسي - الناشئ عن تبادل الفوتونات الافتراضية - بين الجسيمات، ضربا من الخيال أيضا؟ ماذا لو كانت الكهرومغناطيسية بأسرها ناتجة عن تفاعل مباشر بين الجسيمات المشحونة دون وجود أي مجال على الإطلاق؟ على نحو تقليدي، تتحدد المجالات الكهربائية والمغناطيسية كليا بواسطة حركة الجسيمات المشحونة التي تنتجها، لذا - من وجهة نظر فاينمان - لم تكن هناك حاجة إلى وجود المجال نفسه. وبعبارة أخرى، ما إن يتحدد الشكل الأولي للشحنات وحركتها، حتى يمكن تحديد جميع حركاتها اللاحقة من حيث المبدأ ببساطة عن طريق دراسة الأثر المباشر للشحنات بعضها على بعض.
علاوة على ذلك، فكر فاينمان أننا إذا استطعنا الاستغناء عن المجال الكهرومغناطيسي في النظرية الكلاسيكية، فإن هذا قد يحل مشكلات الكم أيضا؛ لأننا إذا استطعنا التخلص من جميع الأعداد التي لا حصر لها من الفوتونات التي تربك العمليات الحسابية لنظرية الكم والتعامل فقط مع الجسيمات المشحونة، فلربما أمكننا التوصل إلى حلول معقولة. وقد عبر عن المسألة في خطاب تسلمه جائزة نوبل بقوله: «حسنا، بدا واضحا لي تماما أن فكرة أن الجسيم يؤثر على نفسه ليست بالفكرة الضرورية؛ إنها فكرة سخيفة نوعا ما في واقع الأمر. وهكذا أوحيت لنفسي أن الإلكترونات لا يمكنها التفاعل مع نفسها، وإنما يمكنها فقط التأثير على إلكترونات أخرى. وهذا يعني أنه ما من مجال على الإطلاق. كان هناك فقط تفاعل مباشر بين الشحنات، وإن كان يحدث بقدر من التأخر.»
كانت تلك أفكارا جريئة، وقد حملها فاينمان إلى كلية الدراسات العليا في برينستون، وإلى جون أرشيبالد ويلر، الذي كان هو الرجل المناسب تماما لتفنيدها ودحضها. لقد عرفت جون ويلر إنسانا شديد الدماثة والمودة، مهذبا ومراعيا للآخرين إلى أبعد الحدود، وكأنه سيد نبيل مثالي من الجنوب (وإن كان منحدرا من ولاية أوهايو). لكنه عندما كان يتحدث عن الفيزياء، يصبح فجأة جريئا مقداما. وقد وصفه أحد زملائه في برينستون خلال تلك الفترة بقوله: «في مكان ما وسط تلك الوجوه المهذبة التي يظهر بها، يوجد نمر طليق ... لديه الشجاعة الكافية لمواجهة أي مشكلة مجنونة.» وكان هذا النوع من الشجاعة ملائما تماما لميول فاينمان الفكرية. أذكر أنني تسببت في نوبات من الضحك عندما اقتبست عبارة كتبها فاينمان ذات مرة في رسالة بعث بها إلى فيزيائي شاب واعد تقول: «تبا للطوربيدات. لنندفع بأقصى سرعة إلى الأمام.» بالطبع كان فاينمان يقلد الأدميرال ديفيد فاراجت (صاحب المقولة الشهيرة أثناء إحدى العمليات البحرية الجسورة التي نفذها خلال الحرب الأهلية الأمريكية)، ولكن تلك الحقيقة التاريخية بدت غير ذات صلة بالموضوع. وقد كانت هذه العبارة تنطبق بنفس القدر على كل من فاينمان وويلر.
كان التوافق بينهما مثاليا ورائعا. وتلا ذلك في برينستون ثلاث سنوات مكثفة من التبادل الفكري بين هذين العقلين الفذين، وكانت تلك هي الفيزياء كما ينبغي أن تكون. لم يكن أي منهما يتجاهل على الفور الأفكار المجنونة التي يطرحها الآخر. وقد كتب ويلر في وقت لاحق يقول: «سأظل ممتنا إلى الأبد للحظ السعيد الذي جمعنا معا في أكثر من مشروع عمل رائع ... كانت مناقشاتنا تتحول إلى ضحكات، والضحكات تتحول إلى نكات، والنكات تتحول إلى المزيد من الأفكار ... وقد عرف من خلال أكثر من مقرر من مقرراتي التعليمية أنني أؤمن بأن أي شيء مهم هو شيء بسيط تماما في جوهره.»
عندما عرض فاينمان فكرته المجنونة لأول مرة على ويلر، لم يتلقها هذا الأخير بالسخرية. وإنما بدأ على الفور يوضح مواطن الخلل فيها، مؤكدا على الحقيقة القائلة: «الحظ الطيب منحة لا يتلقاها إلا صاحب العقل المتأهب.» حيث كان ويلر أيضا يفكر بأسلوب يشبه جدا أسلوب فاينمان.
كان فاينمان قد أدرك مسبقا وجود خطأ فادح في فكرته. فمن المعروف جيدا أن تعجيل جسيم مشحون يتطلب شغلا أكبر من الذي يتطلبه تعجيل جسيم متعادل؛ لأن الجسيم المشحون يطلق إشعاعا ويبدد طاقة أثناء عملية التعجيل. وهكذا فإن الجسيم المشحون يبدو أنه يؤثر على نفسه عن طريق توليد مقاومة إضافية لعملية التعجيل (تسمى «مقاومة الإشعاع»). وكان فاينمان يأمل في أن يتمكن من حل هذه المشكلة بطريقة ما عن طريق دراسة رد الفعل على الجسيم، ليس من ذاته، وإنما من الحركة المستحثة لجميع الشحنات الأخرى في الطبيعة التي ستتأثر بتفاعلاتها مع الجسيم الأول. أعني أن القوة التي يمارسها الجسيم الأول على الجسيمات الأخرى ستجعل تلك الجسيمات تتحرك، وسوف تولد حركتها تيارات كهربائية يمكن أن يكون لها حينئذ رد فعل على الجسيم الأول.
عندما سمع ويلر هذه الأفكار لأول مرة، أوضح أنه إذا كان هذا ما يحدث، فإن مقاومة الإشعاع المتولدة من الجسيم الأول سوف تعتمد على مواضع تلك الشحنات الأخرى، وهي لا تعتمد على ذلك في واقع الأمر، علاوة على أنها سوف تتأخر زمنيا؛ لأنه ما من إشارة يمكنها الانتقال بسرعة تتجاوز سرعة الضوء. ومن ثم سوف يتطلب الأمر بعض الوقت كي يتفاعل الجسيم الأول مع الجسيم الثاني، الموجود على بعد مسافة منه، ثم يتطلب وقتا أطول كي يستجيب الجسيم الثاني بالتفاعل مع الجسيم الأول، وهو ما سيتسبب في تأخر رد الفعل زمنيا إلى حد بعيد مقارنة بالحركة الأولية للجسيم الأول.
لكن حينها اقترح ويلر فكرة أشد جنونا: ماذا لو أن رد فعل تلك الشحنات الأخرى كان يحدث، بشكل ما، عكس مسار الزمن؟ عندئذ بدلا من أن يحدث رد فعل تلك الجسيمات على الجسيم الأول بعد أن يبدأ الجسيم الأول في الحركة بفترة طويلة، فإنه قد يحدث في الوقت نفسه بالضبط الذي يتحرك فيه الجسيم الأول! وعند هذه النقطة قد يقول مبتدئ حصيف: «مهلا، أليس هذا جنونا؟ إذا كان يمكن للجسيمات أن يكون لها رد فعل في عكس اتجاه الزمن، ألا يعني هذا انتهاك مبادئ فيزيائية مقدسة مثل مبدأ السببية، الذي يقضي بضرورة حدوث الأسباب قبل حدوث النتائج؟»
لكن على الرغم من أن القبول بفكرة حدوث رد الفعل في عكس اتجاه الزمن يفتح الباب أمام مثل هذا الاعتراض من حيث المبدأ، فلكي يعرف الفيزيائيون هل هذا يسبب مشكلات حقا، يجب عليهم أن يكونوا أكثر دقة وأن يجروا الحسابات فعليا أولا. وكان هذا ما فعله فاينمان وويلر. لقد كانا يجربان ليريا هل بمقدورهما حل مشكلاتهما دون خلق مشكلات جديدة، وكانا مستعدين لإرجاء شكهما إلى أن تحتم نتائجهما الرجوع إليه.
في المقام الأول، وبناء على تفكيره المسبق في تلك المسائل، استطاع ويلر أن يدرك مع فاينمان على الفور أنه يمكن استنتاج أن رد فعل الإشعاع في هذه الحالة يكون مستقلا عن مواضع الشحنات الأخرى، ويمكن أيضا من حيث المبدأ جعله يحدث في الوقت المناسب، وليس في وقت لاحق متأخر.
كان اقتراح ويلر تعتريه مشكلاته الخاصة أيضا، لكنه استحوذ على تفكير فاينمان وحساباته. عالج فاينمان التفاصيل وحدد بالضبط مقدار رد الفعل العكسي بين الجسيمات المطلوب لكي تسير الأمور على ما يرام، وكما هو معتاد من فاينمان، فقد راجع بعدها أيضا الكثير من الأمثلة المختلفة للتأكد من أن هذه الفكرة لن تنتج ظواهر مجنونة لم ترصد من قبل أو انتهاكات للبديهيات والمنطق السليم. ألح على أصدقائه أن يبحثوا عن مثال قد يربكه، وأوضح أنه ما دام في كل اتجاه في الكون يوجد يقين بنسبة 100 بالمائة أن المرء سيصادف في النهاية جسيما مشحونا يمكنه التفاعل كرد فعل للجسيم الأصلي، فإن المرء لا يستطيع أبدا استخدام تلك التفاعلات المجنونة التي تسير في عكس اتجاه الزمن لإنتاج جهاز يمكن أن يعمل قبل ضغط زر التشغيل، أو أي شيء من هذا القبيل. •••
كما قال همفري بوجارت ذات مرة، كانت تلك بداية علاقة صداقة جميلة. ففي حين امتلك فاينمان براعة مدهشة في الرياضيات وبصيرة نافذة على نحو مذهل، امتلك ويلر الخبرة والمنظور السليم. استطاع ويلر سريعا تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة لدى فاينمان واقتراح بعض التحسينات، ولكنه كان يمتلك عقلا متفتحا وشجع فاينمان على الاستكشاف واكتساب الخبرة الحسابية الكافية للانسجام مع مواهبه. وحين جمع فاينمان هذه إلى تلك، صار من المستحيل إيقاف تقدمه.
الفصل الثالث
طريقة تفكير جديدة
إن الفكرة التي تبدو متناقضة تماما للوهلة الأولى، إذا حللت على نحو كامل بجميع تفاصيلها وفي مواقف تجريبية، قد لا تكون متناقضة في واقع الأمر.
ريتشارد فاينمان
على الرغم من تطمينات أساتذة ريتشارد فاينمان الجامعيين لوالده، فإن ميلفيل فاينمان لم يتخل عن مخاوفه بشأن مستقبل ابنه. فبعد أن بدأ ريتشارد علاقة العمل التي جمعته بجون أرشيبالد ويلر في كلية الدراسات العليا، قام ميلفيل برحلة إلى برينستون ليتحرى مرة أخرى عن تقدم ابنه والآفاق المستقبلية المفتوحة أمامه. ومرة أخرى، قيل له إن ريتشارد أمامه مستقبل باهر يتطلع إليه، ولا علاقة لهذا ب «خلفيته الاجتماعية البسيطة» أو أي «تحيز محتمل ضد اليهود»، بحسب صياغة ميلفيل. ربما كان ميلفيل يجمل الواقع، أو ببساطة يعكس ميوله التعليمية الشخصية. فبينما كان بعد طالبا، كان هو مؤسس ورئيس ما يعرف باسم «اتحاد شباب الكنيسة والكنيس».
إلا أن أي عداء للسامية ما زال باقيا في الأوساط الأكاديمية ما كان ليكفي لإيقاف مسيرة ريتشارد فاينمان الناجحة وتقدمه. لقد كان ببساطة أبرع من أن يقف شيء في طريقه وكان يستمتع بوقته. الأحمق وحده هو من كان يمكن أن يغفل عن عبقريته وقدراته. لقد امتد افتتان فاينمان بالفيزياء وقدرته على حل مشكلات لا يستطيع الآخرون حلها ليغطيا نطاق عالم الفيزياء كله، من القضايا الخفية الغامضة التي لا تفهمها إلا فئة قليلة من الناس وحتى الأمور التي تبدو عادية وبسيطة، واستمر هذا الأمر طوال حياته كلها.
كانت لمحات من طاقته الهائلة العابثة اللاهية تنتشر في كل مكان. فقد عشق أطفال ويلر زياراته لهم وانتظروها بشوق، حيث كان كثيرا ما يسليهم بحيله البارعة. وقد تحدث ويلر ذات مرة متذكرا ظهيرة أحد الأيام عندما طلب فاينمان علبة من الصفيح وأخبر الأطفال أنه يستطيع أن يعرف هل ما بداخلها مادة سائلة أم صلبة دون أن يفتحها أو ينظر إلى الملصق الموجود عليها. وكان السؤال من الأطفال جميعا في وقت واحد: «كيف؟!» فأجابهم: «من خلال الطريقة التي ستسقط بها عندما أقذفها في الهواء.» وبالطبع كان محقا فيما قال.
كان شعور فاينمان الشخصي بالإثارة تجاه العالم يعني أن شعبيته لدى الأطفال في أوج قوتها، كما يتبين لنا من خلال خطاب كتبه عام 1947 الفيزيائي فريمان دايسون، الذي كان طالبا بالدراسات العليا في كورنيل حينما كان فاينمان أستاذا مساعدا هناك. كان دايسون يصف حفلا في منزل عالم الفيزياء الكبير هانز بيته على شرف ضيف مميز، وذكر أن ابن بيته البالغ من العمر خمس سنوات، واسمه هنري، ظل يتذمر من عدم وجود فاينمان قائلا: «أريد ديك. لقد أخبرتني أن ديك سيأتي.» وأخيرا وصل فاينمان، واندفع إلى الطابق العلوي وراح يلهو مع هنري محدثا جلبة أوقفت جميع المحادثات التي كانت دائرة في الطابق السفلي.
وبينما كان فاينمان يلهو مع أطفال ويلر، استمر هو وويلر في تسلية أحدهما الآخر أثناء عملهما خلال العام على استكشاف أفكارهما الغريبة حول تخليص الكهرومغناطيسية الكلاسيكية من مشكلة التفاعل الذاتي اللانهائي للجسيمات المشحونة كهربائيا، وذلك بواسطة تفاعلات غريبة تسير في عكس اتجاه الزمن مع ممتصات خارجية تقع في عالم خارجي غير محدود.
كان حافز فاينمان لمواصلة هذا العمل بسيطا ومباشرا؛ فقد أراد حل مشكلة رياضية في الكهرومغناطيسية الكلاسيكية على أمل الوصول في نهاية المطاف إلى المشكلات الأكثر أهمية التي تنشأ في نظرية الكم. ومن ناحية أخرى، كانت لدى ويلر فكرة أكثر جنونا أراد تطويرها لتفسير الجسيمات الجديدة التي كانت ترصد في الأشعة الكونية وفي تجارب الفيزياء النووية: ربما كانت جميع الجسيمات الأولية هي فقط مكونة من تركيبات مختلفة من الإلكترونات، وبطريقة ما تتفاعل على نحو مختلف مع العالم الخارجي. كانت الفكرة مجنونة بحق، ولكنها على الأقل ساعدت في الحفاظ على حماسه للعمل الذي كانا يقومان به.
يتجسد توجه فاينمان اللاهي بشأن الإحباطات والعقبات الحتمية المرتبطة بالعمل النظري في الفيزياء من خلال أحد أول الخطابات التي كتبها لوالدته، بعد وقت قصير من بدء دراسته في كلية الدراسات العليا وقبل أن يتحول عمله مع ويلر تجاه إعادة دراسة الكهرومغناطيسية:
كانت الأمور تسير بسرعة ودقة هائلتين في الأسبوع الماضي، ولكنني الآن أواجه بعض الصعوبات في الرياضيات، وإما سأتغلب عليها أو ألتف حولها أو أسلك سبيلا آخر - وكل هذه الصعوبات تستهلك وقتي كله - لكنني أحب إنجاز الكثير، وأنا في غاية السعادة في الواقع. لم يسبق لي أن فكرت في مشكلة ما كل هذا الوقت وبكل هذا الثبات والإصرار - لذا فإنني إذا لم أصل إلى شيء فسوف يزعجني هذا كثيرا - إلا أنني وصلت بالفعل إلى شيء ما، شيء بعيد - وعلى نحو نال رضى البروفسور ويلر. غير أن المشكلة لم تنته على الرغم من أنني بدأت للتو أرى المسافة التي تفصلني عن النهاية وكيف يمكننا الوصول إليها (مع أن بعض الصعوبات في الرياضيات تلوح في الأفق، كما ذكرت آنفا)، سأحظى ببعض المرح!
اشتملت فكرة فاينمان عن المرح على التغلب على صعوبات الرياضيات؛ وتلك إحدى الصفات العديدة التي ميزته على الأرجح عن رجل الشارع العادي.
بعد بضعة أشهر مكثفة من الأخذ والرد مع ويلر في ربيع وشتاء عام 1940-1941 أثناء العمل على أفكارهما الجديدة عن الكهرومغناطيسية، أخيرا منح ويلر الفرصة لفاينمان لعرض هذه الأفكار، ليس أمام طلاب الدراسات العليا، ولكن أمام علماء فيزياء متخصصين، وذلك من خلال ندوة قسم الفيزياء بجامعة برينستون. أدار الندوة يوجين ويجنر، والذي فاز لاحقا بجائزة نوبل، وقد دعا مجموعة خاصة من العلماء من بينهم: عالم الرياضيات الشهير جون فون نويمان، وعالم الفيزياء القدير الفائز بجائزة نوبل وأحد مؤسسي ميكانيكا الكم، فولفجانج باولي، الذي جاء زائرا من زيورخ، وألبرت أينشتاين بنفسه، الذي كان قد عبر عن اهتمامه بالحضور (ربما بسبب اتصال حثه ويلر خلاله على الحضور).
لقد حاولت أن أتخيل نفسي في موقف فاينمان في ذلك الوقت، باعتباره طالبا بالدراسات العليا يتحدث أمام مجموعة كهذه. فلم يكن من السهل إرضاء جمهور كهذا، حتى مع غض الطرف عن مقامهم الرفيع. كان معروفا عن باولي مثلا أنه ينهض من مكانه وينتزع الطباشير من يد المتحدث الذي يختلف معه في الرأي.
غير أن فاينمان أعد خطابه وما إن بدأ في التحدث حتى استحوذت الفيزياء عليه وزال كل ما كان متبقيا من عصبيته. وكما هو متوقع، اعترض باولي شاعرا بالقلق تجاه احتمال أن استخدام التفاعلات التي تسير عكس الزمن يوحي بأن المرء كان ببساطة يعمل رياضيا في اتجاه عكسي بادئا بالحل الصحيح بدلا من أن يشتق بالفعل شيئا جديدا. كذلك كان قلقا بشأن فكرة «الفعل عن بعد»، التي تنشأ عن التخلي عن المجالات التي تنقل القوى والمعلومات عادة، وسأل أينشتاين عن احتمال كون هذا الأمر يتعارض مع بحثه الخاص حول النسبية العامة. وعلى نحو مثير، أجاب أينشتاين بتواضع بأنه قد يكون هناك تعارض حقا، ولكن على أي حال فإن النظرية التي وضعها هو نفسه عن الجاذبية (التي اعتبرها باقي العلماء في مجتمع الفيزياء النظرية الأكثر أهمية منذ عصر نيوتن) «لم تكن راسخة بقوة». وفي الواقع، كان أينشتاين متعاطفا مع فكرة استخدام حلول عكس اتجاه الزمن كما كان متعاطفا مع الحلول التي تسير في الاتجاه الطبيعي للزمن، وذلك حسبما قال ويلر فيما بعد متذكرا الوقت الذي ذهب فيه بصحبة فاينمان لزيارة أينشتاين في منزله الواقع في شارع ميرسر لمناقشته مناقشة أكثر توسعا في أفكارهما.
المشكلة هي أن واحدة من أكثر الخصائص وضوحا للعالم المادي، وهي خاصية تتجلى منذ اللحظة التي نستيقظ فيها كل يوم، هي أن المستقبل يختلف عن الماضي. لا ينطبق هذا فقط على التجربة الإنسانية، وإنما ينطبق أيضا على سلوك الأجسام غير الحية. فعندما نضيف اللبن إلى قهوتنا مثلا ونقلبه، لن يمكننا أبدا أن نجعل هذا اللبن في لحظة ما في المستقبل يعود ليتحد في صورة قطرات صغيرة كما كان يبدو عندما صببناه على القهوة لأول مرة. والسؤال هو: هل خاصية عدم القابلية للانعكاس المؤقتة الواضحة تلك في الطبيعة تنشأ بسبب عدم تناظر في العمليات الميكروسكوبية؟ أم أنها ملائمة فقط للعالم الكبير القابل للرصد الذي نعيش فيه؟
كان أينشتاين، تماما مثل فاينمان وويلر، يؤمن بأن المعادلات الميكروسكوبية للفيزياء يجب أن تكون مستقلة عن اتجاه الزمن؛ أي إن خاصية عدم إمكانية عكس الظواهر في العالم الكبير الذي نعيش فيه تنشأ لأن أوضاعا معينة تزداد احتمالات وجودها كثيرا في الطبيعة عندما تشارك العديد من الجسيمات عن أوضاع أخرى. وفي حالة أفكار فاينمان وويلر، كما أوضح فاينمان لطالب زميل في الدراسات العليا، فإن الفيزياء تسلك سلوكا منطقيا على مستوى الأحجام الكبيرة؛ أي إن المستقبل يختلف عن الماضي على الرغم من التفاعل الذي يسير في عكس اتجاه الزمن الذي استنتجه هو وويلر. ويرجع هذا تحديدا إلى أن الاحتمالات المرتبطة بسلوك بقية العدد الذي يفترض أنه لانهائي من الشحنات الأخرى في الكون، التي تستجيب لحركة الشحنة محل الدراسة، تنتج ذلك النوع من عدم قابلية الانعكاس على مستوى الأجسام الكبيرة الذي اعتدنا رؤيته في العالم من حولنا.
في وقت لاحق، عام 1965، اكتشف علماء الفيزياء - على نحو أدهشهم كثيرا - أن عمليات ميكروسكوبية معينة للجسيمات الأولية لها اتجاه زمني معين مصاحب لها؛ بمعنى أن معدلات عملية ما ومعدلات النسخة المعكوسة زمنيا من نفس العملية يختلف بعضها عن بعض قليلا. كانت تلك النتيجة مدهشة، حتى إنها حصدت جائزة نوبل للعلماء التجريبيين الذين توصلوا إليها. غير أنه في حين يمكن لهذا التأثير أن يلعب دورا مهما في فهم خصائص معينة عن كوننا - ربما من بينها سبب أننا نعيش في كون من المادة وليس من المادة المضادة - فإن المعرفة التقليدية ما زالت تقترح أن اتجاه الزمن في عالم الأجسام الكبيرة مرتبط بنزوع الاضطراب إلى التزايد والنشوء، ليس من الفيزياء الميكروسكوبية للأجسام الصغيرة، وإنما من احتمالات عالم الأجسام الكبيرة، وذلك كما افترض أينشتاين وفاينمان وويلر. •••
وفي النهاية كان كل هذا الاضطراب الذي ثار بسبب تفسير أفكار فاينمان وويلر في غير موضعه. فالأفكار النظرية التي اقترحاها اتضح في النهاية أنها خاطئة بدرجة أو أخرى، وذلك لأن اقتراحاتهما لم تتفق في نهاية المطاف مع الواقع الفعلي. فالإلكترونات تتفاعل بالفعل مع نفسها، والمجالات الكهرومغناطيسية - بما فيها تلك التي تحتوي على جسيمات افتراضية - حقيقية وموجودة. وقد أوجز فاينمان المسألة جيدا بعد عقد من الزمان عندما كتب إلى ويلر يقول: «لذا أظن أن تخميناتنا في عام 1941 كانت خاطئة. هل تتفق معي؟» ولم يسجل لنا التاريخ ردا من ويلر، ولكن في ذلك الحين كانت الأدلة لا تقبل الجدل.
ما كانت جدوى كل هذا الجهد إذن؟ حسنا، في العلوم، تكاد كل فكرة مهمة جديدة تكون خاطئة، إما خاطئة بقدر بسيط (بمعنى أنها تحتوي على خطأ رياضي) وإما خاطئة من الأساس (أي إنه بقدر الجمال الذي قد تكون عليه الفكرة، فإن الطبيعة لا تستخدمها بأي صورة). ولو لم تكن الحال كذلك، لكان توسيع حدود العلم وتحقيق التقدم العلمي أسهل مما ينبغي ومما هو عليه بكثير.
وفي ضوء هذا، يكون لدى العلماء خياران. فإما يختارون اتباع السبل المألوفة ودفع النتائج الثابتة للأمام خطوة بخطوة بقدر معقول من ضمان النجاح، وإما يمكنهم اتخاذ سبل جديدة أكثر خطورة، حيث لا توجد ضمانات للنجاح وحيث لا بد أن يكونوا مستعدين للفشل. قد يبدو هذا محبطا، ولكن خلال عملية استكشاف جميع الطرق المسدودة والسبل المقطوعة، يكتسب العلماء الخبرة والحدس السليم ومجموعة من الأدوات المفيدة. وفوق ذلك، يفوزون بأفكار غير متوقعة ناتجة عن مقترحات لا تؤدي إلى أي شيء - على الأقل فيما يتعلق بالمشكلة الأصلية موضع الدراسة - ولكنها تأخذهم أحيانا في اتجاه لم يكن متوقعا على الإطلاق، وأحيانا يكون هذا الاتجاه هو ما يؤدي إلى تحقيق تقدم حقيقي. وأحيانا تكون الأفكار التي لم تفلح في أحد ميادين العلم هي بالضبط عين المطلوب لحل مشكلة كبرى في ميدان آخر. وكما سنرى، كانت تلك هي الحال في رحلة ريتشارد فاينمان الطويلة في فيافي الديناميكا الكهربائية. •••
وسط التدفق الذهني المضطرب في حياة فاينمان خلال تلك الفترة، تطورت حياته الشخصية بعمق أيضا. فمنذ أن كان فتى يافعا ، أو حتى وهو يكاد يكون طفلا، عرف فتاة معينة، وأعجب بها، وحلم بها، وكانت فتاة امتلكت صفات افتقر هو إليها: امتلكت مواهب فنية وموسيقية، وامتلكت الثقة الاجتماعية والمكانة السامية المصاحبة لهما. صارت آرلين جرينبوم حاضرة في حياته في مرحلة مبكرة من دراسته بالمدرسة الثانوية. كان قد التقاها في حفل عندما كان في الخامسة عشرة وكانت هي في الثالثة عشرة من العمر. لا بد أنها كانت تمتلك كل ما كان يبحث عنه؛ فقد كانت تعزف على البيانو، وترقص، وترسم. وبحلول الوقت الذي التحق فيه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كانت قد صارت جزءا ثابتا من حياته العائلية، حيث كانت ترسم ببغاء على باب خزانة ملابس العائلة، وتعلم شقيقته جوان دروس البيانو، ثم تصطحبها في نزهة سيرا على الأقدام بعد ذلك.
لن نعرف أبدا هل كانت هذه الأعمال الكريمة من جانب آرلين هي وسيلتها للتودد إلى فاينمان والفوز بالحظوة عنده أم لا، ولكن كان من الواضح أنها قررت أنه الشاب المناسب لها، وكان هو أيضا مسحورا بها. زعمت جوان، شقيقة ريتشارد، في وقت لاحق أنه بحلول الوقت الذي التحق فيه بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عندما كان في السابعة عشرة من عمره، أدرك باقي أفراد الأسرة أن ريتشارد وجوان سيتزوجان يوما ما. لقد كانا مناسبين أحدهما للآخر. كانت آرلين تزوره في الجماعة التي انضم لها في بوسطن في العطلات الأسبوعية خلال أول سنتين دراسيتين بالكلية، وعندما أصبح في السنة الثالثة، تقدم لخطبتها، ووافقت على الخطبة.
كان ريتشارد وآرلين حبيبين عاشقين. لم يكونا نسختين متطابقتين، بل كانا ضدين متكافلين؛ فكل منهما يكمل الآخر. انبهرت آرلين بعبقرية ريتشارد العلمية الواضحة، وأحب ريتشارد حقيقة أنها أحبت وتفهمت أشياء لم يكن يقدرها أو يهتم بها في ذلك الوقت. ولكن كان أهم ما تشاركا فيه على الإطلاق هو حب الحياة وروح المغامرة.
تستحق آرلين الظهور في تلك الترجمة العلمية لحياة ريتشارد فاينمان في هذه المرحلة، ليس فقط لأنها كانت أول حب في حياة فاينمان، وأعمق حب أيضا على الأرجح، ولكن أيضا لأن روحها زودته بالشجاعة الضرورية التي احتاجها للاستمرار، والبحث عن طرق جديدة، وكسر العادات والتقاليد، العلمية منها وغير العلمية.
كان انسجامهما معا خلال السنوات الخمس التي مرت منذ لحظة تقدمه لخطبتها وحتى لحظة موتها بمرض السل عميقا ومؤثرا إلى حد بعيد. لقد كانا يمثلان زوجا شابا مفعما بالأمل المقترن بحب واحترام متبادلين، ومصرا على شق طريقه في الحياة أيا كانت العقبات.
في يونيو عام 1941، حينما كان ريتشارد في خضم دراساته العليا، وقبل عام من زواجهما، كتبت إليه آرلين تطلعه على آخر مستجدات زياراتها للأطباء (فقد شخصت حالتها بصورة خاطئة مرات عديدة قبل أن يصل الأطباء إلى التشخيص الصحيح)، ولكن الخطاب كان يركز عليه أكثر مما يركز عليها:
حبيبي ريتشارد، كم أحبك ... ما زال أمامنا المزيد لنتعلمه في لعبة الحياة والشطرنج تلك التي نعيشها، ولست أريدك أن تضحي بأي شيء من أجلي ... أعلم أنك حتما تعمل بكد شديد لكي تنتهي من أطروحتك، وأنك تحل مشكلات أخرى على هامش ذلك، وأنا في غاية السعادة لأنك ستنشر شيئا ما، فسوف أبتهج كثيرا عندما يحظى عملك بالتقدير، وأريدك أن تستمر فيما تفعل وتقدم للعالم والعلم كل ما تستطيع تقديمه ... وإذا تلقيت أي نقد فتذكر أن كل إنسان يحب بطريقة مختلفة.
لقد عرفت آرلين ريتشارد كما لم يعرفه شخص آخر، وبهذا كانت تمتلك القدرة على احتوائه وعلى دفعه للأمام ليظل متمسكا بمعتقداته. وكانت أهم هذه المعتقدات هي الصدق وشجاعة اتخاذ قراراته بنفسه. وكان عنوان أحد كتب السيرة الذاتية التي كتبها: «وما يضيرك فيما يعتقده الآخرون؟» هو السؤال الذي كانت تكرره عليه كثيرا عندما تجده في لحظة تردد أو خوف، ومثال ذلك أنها أرسلت له ذات مرة علبة أقلام رصاص نقش على كل واحد منها عبارة: «حبيبي ريتشارد، أحبك! بوتسي!» (وكان اسم «بوتسي» هو الاسم الذي يدللها به)، ثم رأته ذات مرة يكشط كلمات العبارة خشية أن يراها البروفسور ويلر أثناء عملهما معا. ويرجع الفضل الأكبر في امتلاك فاينمان لشجاعة التمسك بمعتقداته، ومن ثم شجاعة أن يسير في طريقه الخاص في الحياة، من الناحية الفكرية وغيرها، إلى آرلين وإلى ذكراها.
وفي حين كان ميلفيل فاينمان مهتما بحياة ابنه المهنية، كانت والدته، لوسيل، مهتمة بالقدر نفسه بحياة ابنها الشخصية. لقد أحبت آرلين بكل تأكيد، ولكنها كتبت إلى ريتشارد قرب انتهائه من دراساته العليا، كأم يهودية تقليدية، تعبر له عن قلقها من أن آرلين سوف تكون عقبة في طريق عمله وعثوره على وظيفة وعلى أوضاعه المالية؛ فمرض آرلين سوف يتطلب رعاية خاصة، ووقتا، ومالا، وكانت لوسيل تخشى أن ريتشارد لا يمتلك ما يكفي من أي من هذه الأشياء.
ورد ريتشارد على خطاب أمه قبل أسابيع من نيله درجة الدكتوراه وزواجه من آرلين، في يونيو عام 1942، بفتور ملحوظ قائلا:
لست غبيا بما يكفي لأن أربط حياتي المستقبلية بأسرها بوعد قطعته في الماضي في ظل ظروف مختلفة ... إنني أريد الزواج من آرلين لأنني أحبها، وهذا يعني أنني أريد الاعتناء بها. هذا كل ما في الأمر ...
غير أن لدي رغبات وأهدافا أخرى في الحياة بالطبع. وأحد هذه الأهداف هو أن أسهم بأكبر قدر أستطيعه في علم الفيزياء. وهذا، في عقلي، أكثر أهمية من حبي لآرلين.
لذا فمن حسن الطالع أن زواجي - كما أرى (أظن) - لن يعيق عملي إلا قليلا، هذا إن أعاق من الأساس هدفي الرئيسي في الحياة. إنني واثق من أنني أستطيع القيام بكلا الأمرين في وقت واحد. (بل إن هناك احتمالا أن السعادة المترتبة على الزواج، والتشجيع والمشاركة العاطفية المستمرين من جانب زوجتي، سوف يدعمان جهودي، لكن الحقيقة هي أن حبي لم يؤثر كثيرا في الماضي على عملي بالفيزياء، ولا أعتقد حقا أنه سيكون شديد التأثير في المستقبل.)
ولأنني أشعر أنني أستطيع الاستمرار في مهمتي الرئيسية، في الوقت نفسه الذي أستمتع فيه ببهجة الاعتناء بشخص أحبه، فإنني أنوي الزواج في غضون وقت قصير.
وسواء أثر حبه على عمله بالفيزياء أم لا، فإن آرلين عززت بوضوح عزمه على متابعة أفكاره أيا كان ما يمكن أن تؤدي إليه. لقد أسهمت في ضمان استقامته الفكرية، ومع أن كلمات خطابه بدت باردة وفاترة إلى حد ما، لكن لو كانت آرلين قد قرأتها لكانت شعرت بالتشجيع بسببها؛ لأن هذه الكلمات عكست نوع التفكير العقلاني الذي أرادت بشدة تعزيزه في الرجل الذي أحبته واحترمته إلى أبعد الحدود.
ولعلها كانت ستتأثر أيضا بالقدر نفسه بحدث يخلع الفؤاد وقع بعد وقت طويل من ذلك الوقت، في يوم وفاتها في 16 يونيو 1945، وقبل ستة أسابيع من إلقاء القنبلة الذرية التي شارك ريتشارد في صنعها على هيروشيما. فبعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة في غرفة المستشفى، قبلها ريتشارد، وسجلت الممرضة وقت الوفاة في الساعة 9:21 مساء. وبعدها اكتشف ريتشارد أن المنبه الموضوع إلى جوار فراشها توقف عند ذلك الوقت بالضبط! ولعل عقلا أقل منطقية كان سيجد في هذا الأمر سببا لتأثر أو إلهام روحي، وهو نوع الظواهر الذي يجعل الناس يؤمنون بنوع من الذكاء الكوني الأعلى. ولكن فاينمان كان يعلم أن المنبه عرضة للعطب لأنه كان قد أصلحه عدة مرات، ففكر أن الممرضة لا بد التقطته حين أرادت معرفة وقت وفاة آرلين فتسببت في توقفه عن العمل. وسيبدي فاينمان نفس النوع من التركيز الذهني والعزم على مواصلة الطريق الذي بدأه عام 1941، وهو طريق كان من شأنه أن يغير بعمق وعلى نحو دائم طريقة تفكيرنا في العالم. •••
قالت الكاتبة لويز بوجان ذات مرة: «اللغز الأولي الذي يصاحب أي رحلة هو: كيف وصل المسافر إلى نقطة البداية في المقام الأول؟» وفي حالة رحلة فاينمان، كالعديد من الرحلات الملحمية، كانت البداية بسيطة. لقد أكمل هو وويلر عملهما الذي يوضح أن الكهرومغناطيسية الكلاسيكية يمكن عرضها في شكل لا يتضمن إلا التفاعلات المباشرة فحسب بين الجسيمات المشحونة المختلفة، وإن كانت تحدث مع اتجاه الزمن وفي عكس اتجاه الزمن. وبهذا يمكن للمرء أن يتجنب مشكلة الطاقة الذاتية اللانهائية لأي جسيم فردي مشحون. وكان التحدي التالي هو معرفة هل هذه النظرية يمكن أن تنسجم مع ميكانيكا الكم أم لا، وهل يمكن أن تحل المشكلات الرياضية الشائكة التي أدت إلى نظرية كمية للكهرومغناطيسية.
كانت المشكلة الوحيدة هي أن نظريتهما شديدة الغرابة، التي كانت مكتظة بالتفاعلات التي تحدث في أزمنة وأماكن مختلفة لكي تكون مكافئة في تنبؤاتها لنتائج الكهرومغناطيسية الكلاسيكية، ذات المجالات الكهربائية والمغناطيسية التي تنقل تلك التفاعلات، كانت تتطلب شكلا رياضيا لم تكن ميكانيكا الكم تستطيع التعامل معه في ذلك الوقت. نشأت المشكلة بسبب التفاعلات بين الجسيمات في أزمنة مختلفة، أو كما عبر فاينمان فيما بعد عن الأمر فإن: «مسار جسيم معين في زمن معين يتأثر بمسار جسيم آخر في زمن مختلف. لذا إذا حاولت أن تصف الأمور ... وتعبر عن كنه الأوضاع الحالية للجسيمات، وكيف ستؤثر تلك الأوضاع على المستقبل، فستجد أنه من المستحيل أن تتمكن من هذا بواسطة الجسيمات وحدها؛ لأن شيئا فعلته الجسيمات في الماضي سوف يؤثر على المستقبل.» حتى هذه النقطة، كانت ميكانيكا الكم معتمدة على مبدأ بسيط. فلو أننا عرفنا بطريقة ما الحالة الكمية لمنظومة ما في وقت معين، فإن معادلات ميكانيكا الكم تسمح لنا بأن نحدد بالضبط التطور الديناميكي التالي للمنظومة. وبطبيعة الحال فإن معرفة التطور الديناميكي للمنظومة بالضبط لا يعني التنبؤ بدقة بما سنقيسه لاحقا. إن التطور الديناميكي لمنظومة كمية لا يتضمن تحديد الحالة النهائية للمنظومة بالضبط، بل تحديد مجموعة من الاحتمالات التي تخبرنا بالحالة التي من المحتمل أن تكون عليها المنظومة المقاسة في وقت لاحق.
المشكلة هي أن الديناميكا الكهربائية وفقا لصياغة فاينمان وويلر كانت تتطلب معرفة مواضع وحركات العديد من الجسيمات الأخرى في أوقات عديدة مختلفة من أجل تحديد حالة أي جسيم معين في أي وقت معين. وفي هذه الحالة، فإن الطرق الكمية القياسية لتحديد التطور الديناميكي التالي لهذا الجسيم تكون قد فشلت.
كان فاينمان قد نجح خلال خريف وشتاء عام 1941-1942، كعادته دوما، في صياغة نظريتهما بمجموعة من الطرق المختلفة، وإن كانت متساوية من الناحية الرياضية. وفي هذه الأثناء، اكتشف فاينمان أنه يستطيع إعادة كتابتها بالكامل من منظور المبدأ ذاته الذي أنكره بشدة عندما كان طالبا بالجامعة.
لعلك تذكر أن فاينمان عرف في المدرسة الثانوية أن هناك صيغة لقوانين الحركة لم تكن معتمدة على ما يحدث في وقت واحد معين، وإنما على ما حدث في جميع الأوقات: إنها صيغة لاجرانج، ومبدأ الفعل الأقل الذي وضعه.
ولعلك تذكر أيضا أن مبدأ الفعل الأقل يخبرنا أنه لكي نحدد المسار الكلاسيكي الفعلي لجسيم ما، يمكننا دراسة جميع المسارات المحتملة للجسيم بين نقطتي البداية والنهاية ثم نحدد المسار الذي له أقل قيمة متوسطة للحركة (التي تتحدد باعتبارها الفارق بين نوعين مختلفين من الطاقة الكلية للجسيم - وهما اللذان يسميان بطاقة الحركة وطاقة الوضع - مجموعة على النحو الملائم لكل مسار). كان هذا هو المبدأ الذي بدا لفاينمان أكثر أناقة وإحكاما مما ينبغي، بحيث فضل أن يحسب المسارات عن طريق دراسة القوى المؤثرة عند كل نقطة ويستخدم قوانين نيوتن. لقد بدت فكرة أنه ينبغي عليه أن يهتم بالمسار الكامل للجسيم لكي يستطيع حساب سلوكه عند أي نقطة فكرة غير فيزيائية في ذلك الوقت.
غير أن فاينمان طالب الدراسات العليا اكتشف أن نظريته هو وويلر يمكن إعادة صياغتها بالكامل في ضوء أحد مبادئ الحركة، الذي تصفه بالكامل مسارات الجسيمات المشحونة مع مرور الزمن، دون حاجة لوضع المجالات الكهربائية والمغناطيسية في الاعتبار. وبتأمل الماضي، يبدو واضحا لماذا كانت هذه الصيغة - التي ركزت على مسارات الجسيمات - ملائمة لوصف نظرية فاينمان-ويلر. فعلى أي حال فإن هذه المسارات هي التي حددت شكل نظريتهما في الأساس، وهي النظرية التي تعتمد كليا على التفاعلات بين الجسيمات التي تتحرك بطول مسارات مختلفة في الزمن. لذا، قرر فاينمان أنه لصياغة نظرية كم فإنه سيحتاج إلى معرفة كيفية استخدام ميكانيكا الكم مع منظومة كتلك التي كان هو وويلر يدرسانها، والتي يمكن تحديد الديناميكا الكلاسيكية لها بواسطة مبدأ فعل كهذا، ولكن ليس بطرق تقليدية.
أدت الفيزياء - أو على الأقل الفيزياء التي كان يتخيلها هو وويلر - بفاينمان إلى موقف ما كان يتوقع قط أن يكون فيه قبل ذلك بنحو خمس أو ست سنوات! وكان التحول في طريقة تفكيره في أعقاب جهوده المكثفة لاستكشاف نظريتهما الجديدة تحولا جذريا. لقد صار مقتنعا في تلك اللحظة أن التركيز على أحداث تقع في وقت محدد ليس هو طريقة التفكير المناسبة، وأن مبدأ الفعل - المعتمد على استكشاف مسارات كاملة عبر المكان والزمان - هو الطريقة المناسبة للتفكير. وقد كتب لاحقا يقول: «لدينا [في مبدأ الفعل] شيء يصف طابع المسار عبر المكان والزمان. إن سلوك الطبيعة يتحدد عن طريق القول إن مسار المكان والزمان الكامل الخاص بها له طابع معين.» ولكن كيف يمكن ترجمة هذا المبدأ إلى ميكانيكا الكم، التي كانت حتى ذلك الوقت تعتمد اعتمادا حاسما على تعريف المنظومة في وقت معين بهدف حساب ما سوف يحدث في أوقات لاحقة؟ وجد فاينمان مفتاح الحل خلال حفل غير متوقع لتناول الجعة في برينستون، ولكن لكي نستطيع تقدير هذا المفتاح حق قدره، علينا أولا أن نأخذ منعطفا قصيرا لنراجع الصورة التي رسمناها لعالم الكم الغامض الذي كان فاينمان على وشك تغييره.
الفصل الرابع
أليس في بلاد الكم
الكون ليس فقط أغرب مما نظن، بل هو أيضا أغرب مما «يمكن» أن نظن.
جيه بي إس هالدن، 1924
على الرغم من أن العالم البريطاني النابغة جيه بي إس هالدن كان متخصصا في علم الأحياء وليس الفيزياء، فإن مقولته السابقة عن الكون هي منتهى الدقة والذكاء، على الأقل لعالم ميكانيكا الكم الذي كان ريتشارد فاينمان على وشك غزوه. فكما رأينا من قبل، يمكن للجسيمات، على نطاق المقاييس الصغيرة التي تصير فيها الآثار الميكانيكية الكمية مؤثرة وواضحة، أن تظهر وكأنها في عدة مواضع مختلفة في آن واحد، وكذلك تؤدي عدة وظائف مختلفة في آن واحد في كل موضع منها.
الكمية الرياضية التي يمكنها تفسير كل هذا الجنون الظاهري هي الدالة التي اكتشفها عالم الفيزياء النمساوي الشهير إرفين شرودينجر، الذي اشتق ما صار بعد ذلك الفهم التقليدي لميكانيكا الكم خلال أسبوعين مشحونين كان منشغلا فيهما هو أيضا بتأدية عدة أعمال مختلفة في وقت واحد؛ في خضم مغامرة عاطفية مع امرأتين مختلفتين في شاليه جبلي منعزل. ولعل هذا كان أمثل مناخ يمكن فيه تخيل عالم تتحطم فيه - في نهاية المطاف - جميع قواعد السلوك التقليدية المعروفة.
تسمى تلك الدالة التي توصل إليها شرودينجر «الدالة الموجية» لجسم ما، وهي تفسر لنا الحقيقة الغامضة - التي تقع في لب ميكانيكا الكم - والتي تقول إن جميع الجسيمات تسلك سلوكا يشبه بطريقة ما سلوك الموجات، وجميع الموجات تسلك سلوكا يشبه بطريقة ما سلوك الجسيمات، والفارق بين الجسيم والموجة أن الجسيم يقع في نقطة محددة في حين تنتشر الموجة فوق مساحة ما.
وهكذا، إذا أردنا وصف جسيم - لا ينتشر فوق مساحة - بواسطة شيء يسلك سلوك موجة منتشرة فوق مساحة، فلا بد أن تستوعب الدالة الموجية تلك الحقيقة. وحسبما اكتشف شرودينجر، كان هذا ممكنا لو أن الدالة الموجية - التي يمكن أن تسلك هي ذاتها سلوك الموجة - لا تصف الجسيم ذاته وإنما بالأحرى تصف «احتمال» العثور على الجسيم في أي موضع محدد في المكان في زمن معين. فإذا كانت الدالة الموجية - ومن ثم قيمة احتمال العثور على جسيم ما - غير صفرية في أماكن عديدة مختلفة، فإن الجسيم يتصرف وكأنه موجود في عدة أماكن مختلفة في أي زمن معين.
حتى الآن الأمور تسير على ما يرام، حتى لو بدت الفكرة ذاتها مجنونة. غير أن هناك قدرا إضافيا حاسما من الجنون يقع في موضع القلب من ميكانيكا الكم، وينبغي أن أؤكد أن علماء الفيزياء ليس لديهم فهم جذري للأسباب التي تجعل الطبيعة تسلك هذا السلوك، إلا أنهم يسلمون بأنها تفعل. فإذا كانت قوانين فيزياء الكم تحدد سلوك الدالة الموجية، فإن الفيزياء تقول لنا إنه في ظل وجود الدالة الموجية لجسيم ما في زمن معين، تتيح لنا ميكانيكا الكم من حيث المبدأ حساب الدالة الموجية للجسيم - على نحو حاسم تماما - في وقت لاحق. وحتى هذه النقطة، لا يزال الأمر مثل قوانين نيوتن تماما، التي تخبرنا كيف تتطور الحركة التقليدية لكرة بيسبول مع الزمن، أو معادلات ماكسويل، التي تقول لنا كيف تتطور الموجات الكهرومغناطيسية مع الزمن. والفارق أن الكمية التي تتحرك مع مرور الزمن بأسلوب محدد لا يمكن مشاهدتها مباشرة في حالة ميكانيكا الكم، وإنما هي مجموعة من الاحتمالات للتوصل إلى مشاهدات معينة، وهي في حالتنا هذه احتمالات لقياس وجود الجسيم في مكان معين في زمن معين.
حتى الآن الأمر غريب بما فيه الكفاية، غير أنه يتبين لنا بعد ذلك أن الدالة الموجية نفسها لا تصف بصورة مباشرة احتمال العثور على جسيم ما في مكان ما في زمن ما، وإنما «مربع» الدالة الموجية هو الذي يعطينا تلك الاحتمالات. هذه الحقيقة بعينها هي المسئولة عن الغرابة التي تحيط بعالم ميكانيكا الكم لأنها تفسر قدرة الجسيمات على التصرف تماما وكأنها موجات، كما سأوضح الآن.
بداية، لاحظ أن احتمالات الأشياء التي نقيسها تكون موجبة القيمة بصفة عامة (إذ لن نقول مطلقا إن هناك احتمالا بنسبة سالب 1 بالمائة للعثور على شيء ما) إلى جانب أن مربع أي كمية لا يمكن إلا أن يكون موجب القيمة، وهكذا فإن ميكانيكا الكم تتنبأ دائما باحتمالات موجبة القيمة، وهذا أمر طيب. غير أن معناه في الوقت نفسه أن الدالة الموجية ذاتها يمكن أن تكون موجبة أو سالبة؛ لأن القيمتين −1 / 2 و+1 / 2 - على سبيل المثال - كلتيهما تعطي نفس القيمة (+1 / 4) عند تربيعها.
لو كانت الدالة الموجية هي التي وصفت احتمال العثور على جسيم ما في موضع ما مثل الموضع «س»، فهذا يعني إذن أنه إذا كان لدينا جسيمان متطابقان، فإن احتمال العثور على أي من الجسيمين عند الموضع «س» يكون هو حاصل جمع الدالتين الموجيتين المفردتين (وكلتاهما بالضرورة موجبة القيمة). غير أنه لما كان مربع الدالة الموجية هو الذي يحدد احتمال العثور على الجسيمات، ولما كان مربع حاصل جمع عددين «لا» يساوي حاصل جمع مربع العددين، فإن الأمور بذلك تصبح أكثر تشويقا بكثير في ميكانيكا الكم.
إذا افترضنا أن قيمة الدالة الموجية التي تحسب احتمال العثور على الجسيم «أ» في الموضع «س» هي م1، وقيمة الدالة الموجية التي تحسب احتمال العثور على الجسيم «ب» في الموضع «س» هي م2 ، فإن ميكانيكا الكم تخبرنا بأن احتمال العثور على أي من الجسيمين «أ» أو «ب» في الموضع «س» يساوي (م1 + م2)
2 . لنفترض أن م1 = 1 / 2 وم2 = −1 / 2. إذن، إذا كان لدينا جسيم واحد فحسب، وليكن الجسيم «أ»، فإن احتمال العثور عليه في الموضع «س» يساوي (1 / 2)
2 = 1 / 4. وبالمثل، سيكون احتمال العثور على الجسيم «ب» عند الموضع «س» هو (−1 / 2)
2 = 1 / 4. ولكن إذا كان لدينا جسيمان، فإن احتمال العثور على «أي» منهما في الموضع «س» هو ((1 / 2) + (−1 / 2))
2 = صفر!
هذه الظاهرة، التي تبدو مضحكة للوهلة الأولى، هي في حقيقة الأمر مألوفة في عالم الموجات، مثل الموجات الصوتية. فهذه الموجات يمكنها التداخل بعضها مع بعض بحيث يمكن للموجات التي تسير في وتر ما - على سبيل المثال - أن تتداخل فتصنع مواضع على الوتر، تسمى «عقدا»، لا تتحرك على الإطلاق. وبالمثل، إذا انبعثت موجات صوتية من سماعتين مختلفتين في غرفة، فقد نجد، إذا تمشينا في أرجاء الغرفة، أن هناك مواضع معينة تلغي فيها الموجات تأثير بعضها على بعض، أو - كما يقول علماء الفيزياء - تتداخل سلبيا بعضها مع بعض. (يصمم خبراء الصوتيات قاعات الحفلات الموسيقية آملين ألا يكون فيها مثل تلك «البقع الصماء».)
وما تخبرنا به ميكانيكا الكم، من خلال تحديد الاحتمالات بواسطة مربع الدالة الموجية، هو أن الجسيمات أيضا يمكن أن «يتداخل» بعضها مع بعض، بحيث إذا وجد جسيمان داخل صندوق، فإن احتمال العثور على أي منهما في موضع ما يقل عن احتمال العثور على جسيم واحد في ذلك الموضع إذا كان وحده في الصندوق.
ولما كان طول الموجة الناتجة - أو «النطاق» - هو الذي يتأثر بالتداخل عندما يحدث - وقد يكون النطاق موجبا أو سالبا، تبعا لوجوده في قمة أو في قاع الموجة - فإن هناك اسما آخر للدالة الموجية لجسيم ما وهو «نطاق الاحتمال» الذي من الممكن أن يكون بالموجب أو بالسالب.
وتماما مثلما هي الحال في الأطوال المعتادة للموجات الصوتية، فإن نطاقات الاحتمالات المنفصلة للجسيمات المختلفة يمكن أن يلغي بعضها تأثير بعض.
هذه الحسابات الرياضية تحديدا هي التي تقف وراء سلوك الإلكترونات التي تطلق على شاشة وامضة، كما أوضحت في الفصل
الثاني . وهنا نجد أن الإلكترون يمكن أن يتداخل مع نفسه لأن احتمال وجود الإلكترونات في عدة مواضع مختلفة في وقت واحد هو احتمال غير صفري.
لنفكر أولا في كيفية حساب الاحتمالات في عالم عقلاني تقليدي: لنفترض أننا قررنا السفر من البلدة «أ» إلى البلدة «ج» متخذين مسارا معينا عبر البلدة «ب». ولنفترض أن احتمال اختيار مسار ما من «أ» إلى «ب» يساوي م(أ ب)، وأن احتمال اختيار مسار معين من «ب» إلى «ج» هو م(ب ج) حينئذ، إذا افترضنا أن ما يحدث عند «ب» مستقل تماما عما يحدث عند «أ» و«ج»، فإن احتمال السفر من «أ» إلى «ج» عبر مسار محدد يمر بالبلدة «ب» يمكن التوصل إليه ببساطة من حاصل ضرب الاحتمالين، أي إن: م(أ ب ج) = م(أ ب) × م(ب ج). فمثلا، لنفترض أن هناك احتمالا بنسبة 50٪ لاتخاذ مسار من «أ» إلى «ب»، واحتمال بنسبة 50٪ لاتخاذ مسار آخر من «ب» إلى «ج». هكذا، إذا أرسلنا أربع سيارات، فإن اثنتين سوف تصلان إلى «ب» عبر المسار المختار، وواحدة من هاتين الاثنتين سوف تتخذ المسار المختار التالي من «ب» إلى «ج». وهكذا فإن هناك احتمالا بنسبة 25٪ (0,5 × 0,5) لاتخاذ المسار المطلوب عبر الطريق بأكمله من البداية للنهاية.
والآن لنفترض أنه لا يعنينا الموضع المحدد الذي سنصله في البلدة «ب» الواقعة بين «أ» و«ج». حينها يكون احتمال الانتقال من «أ» إلى «ج»، الذي يساوي م(أ ج)، هو ببساطة حاصل جمع احتمالات م(أ ب ج) الخاصة باختيار المرور من «أي» نقطة عند البلدة «ب» تقع بين «أ» و«ج».
وسبب منطقية هذا الفرض أننا في المعتاد إذا كنا متجهين من «أ» إلى «ج»، وكانت «ب» تمثل إجمالي المدن المختلفة التي يمكننا المرور بها - وليكن مثلا في منتصف الطريق بين «أ» و«ج» - فلا بد أن نمر عبر إحداها خلال رحلتنا (انظر الشكل). (لما كانت هذه الصورة تذكرنا بالصور القديمة لأشعة الضوء، فبإمكاننا القول إنه إذا كان المثال الذي بين أيدينا متعلقا بانتقال أشعة الضوء من النقطة «أ» إلى «ج»، فإن باستطاعتنا استخدام قاعدة الزمن الأقل لتحديد أن احتمال اتخاذ أحد المسارات - وهو المسار الذي يستغرق أقل زمن - يساوي 100٪، وأن احتمال اتخاذ أي مسار آخر يساوي صفرا.)
والمشكلة هي أن الأمور لا تسير على هذا النحو في ميكانيكا الكم. فلما كانت الاحتمالات تتحدد عن طريق مربعات نطاقات الاحتمالات للانتقال من مكان إلى آخر، فإن احتمال الانتقال من «أ» إلى «ج» لا يمكن حسابه بجمع احتمالات الانتقال من «أ» إلى «ج» عبر أي نقطة وسيطة محددة مثل «ب». هذا لأنه، في ميكانيكا الكم، فإن «نطاقات» الاحتمالات المستقلة لكل جزء من المسار هي التي تتضاعف وليس الاحتمالات ذاتها. ومن ثم فإن نطاق الاحتمال للانتقال من «أ» إلى «ج» عبر نقطة معينة هي «ب» يحتسب بضرب نطاق الاحتمال للانتقال من «أ» إلى «ب» في نطاق الاحتمال للانتقال من «ب» إلى «ج».
وإذا لم نحدد النقطة «ب» التي سنمر بها، فإن نطاق الاحتمال للانتقال من «أ» إلى «ج» يمكن حسابه مجددا بجمع ناتج نطاقات الاحتمالات للانتقال من «أ» إلى «ب» والانتقال من «ب» إلى «ج»، لجميع نقاط «ب» الممكنة. غير أن هذا يعني أن الاحتمال الفعلي صار الآن يساوي «مربع» مجموع هذه النواتج. ولما كان بعض حدود هذا المجموع من الممكن أن تكون سالبة القيمة، فإن السلوك الكمي المجنون الذي تناولناه في الفصل
الثاني
للإلكترونات التي تصطدم بشاشة يصبح ممكنا. أعني بهذا أننا إذا لم نقس أي النقطتين، ولنفترض مثلا أنهما «ب» و«ب''»، فسوف يمر بها الجسيم أثناء تحركه عبر واحد من شقين يقعان بين «أ» و«ج»، واحتمال الوصول للنقطة «ج» على الشاشة يتحدد بجمع مربعات نطاقات الاحتمالات للمسارين المختلفين المتاحين. أما إذا قسنا النقطة، «ب» أو «ب''»، التي سيعبرها الجسيم خلال انتقاله بين «أ» و«ج»، فإن الاحتمال يكون ببساطة هو مربع نطاق الاحتمال لمسار واحد. وفي حال إطلاق العديد من الإلكترونات واحدا بعد الآخر، فإن الشكل النهائي على الشاشة في الحالة الأولى سيتحدد عن طريق جمع مربعات حاصل جمع نطاقات الاحتمالات لكل من المسارين المحتملين لكل جسيم، وسيتحدد في الحالة الأخرى عن طريق جمع مربعات نطاقات الاحتمالات لكل مسار يتخذه كل إلكترون على حدة. ومرة أخرى، نظرا لأن مربع مجموع عدة أعداد لا يساوي مجموع مربعات تلك الأعداد، فإن الاحتمال الأول يمكن أن يختلف تماما عن الاحتمال الأخير. وكما رأينا من قبل، إذا كانت الجسيمات إلكترونات، فإن النتائج تكون مختلفة بالتأكيد إذا لم نقس الجسيم بين نقطتي البداية والنهاية مقارنة بما يحدث لو أننا فعلنا ذلك.
إن ميكانيكا الكم تعمل، سواء بدت لنا منطقية أم لا. •••
هذا الجانب الذي يبدو منافيا للمنطق من ميكانيكا الكم هو «بالتحديد» ما ركز عليه ريتشارد فاينمان. وكما عبر هو عن المسألة لاحقا، فإن الصورة الكلاسيكية تكون خاطئة إذا كانت الإفادة بأن موضع الجسيم في منتصف الطريق من «أ» إلى «ج» له قيمة محددة - هي «ب» - إفادة خاطئة. وعوضا عن ذلك فإن ميكانيكا الكم تسمح بجميع «المسارات» الممكنة، مع إمكانية اختيار جميع قيم «ب» في الوقت نفسه.
وكان السؤال الذي طرحه فاينمان بعد ذلك هو: هل يمكن لميكانيكا الكم أن تصاغ في إطار «المسارات» المرتبطة بنطاقات الاحتمالات وليس في إطار نطاقات الاحتمالات ذاتها؟ وقد تبين أنه لم يكن أول من طرح هذا التساؤل، إلا أنه كان أول من قدم إجابة له.
الفصل الخامس
نهايات وبدايات
بدلا من حفظ الشيء في العقل أو الذهن، أحفظه في صورة رقم.
ريتشارد فاينمان
أثناء كفاحه لابتكار وسيلة لوضع صيغة لميكانيكا الكم توفق بين نظريته الغريبة وبين آراء ويلر، حضر ريتشارد فاينمان ما سماه لاحقا «حفلة جعة» في حانة ناساو في برينستون. وهناك التقى بعالم الفيزياء الأوروبي هربرت ييلي، الذي كان يزور المكان في ذلك الوقت وسأل ريتشارد عما هو عاكف عليه. قال فاينمان إنه يحاول التوصل لوسيلة لتطوير ميكانيكا الكم بناء على مبدأ الفعل. أخبره ييلي عن بحث أجراه أحد آباء ميكانيكا الكم، وهو عالم الفيزياء الشهير بول ديراك، ربما وجد فيه الحل. حسبما تذكر ييلي الأمر، اقترح ديراك كيفية استخدام الكمية التي يحتسب بها الفعل (وهي - كما نتذكر من الفصل
الأول - دالة لاجرانج؛ التي تساوي الفارق بين طاقة الحركة وطاقة الوضع لنظام من الجسيمات) في سياق ميكانيكا الكم.
وفي اليوم التالي مباشرة توجها إلى مكتبة برينستون للاطلاع على البحث الذي أجراه ديراك عام 1932، والذي كان يحمل عنوانا مناسبا هو «دالة لاجرانج في ميكانيكا الكم». في هذا البحث، اقترح ديراك بعبقرية وببصيرة تنبئيه أن «هناك أسبابا تدفعنا للاعتقاد أن [المنهج] «اللاجرانجي» أكثر أهمية» من المناهج الأخرى وذلك لأنه: (أ) يتصل بمبدأ الفعل، (ب) يمكنه استيعاب نتائج نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين بسهولة أكبر (وهذا أمر ذو أهمية جوهرية لأبحاث فاينمان اللاحقة، غير أنه حقيقة لم يفكر فيها في ذلك الحين). ولكن على الرغم من أن ديراك كان يقينا يملك الأفكار الأساسية في ذهنه، فإنه في بحثه هذا اكتفى بالشكليات التي بينت وجود تطابقات مفيدة، واقترح وجود تشابه غامض بين مبدأ الفعل في الميكانيكا الكلاسيكية وبين الصيغ القياسية للتطور في الزمن للدالة الموجية للجسيمات في ميكانيكا الكم.
قرر فاينمان، لأنه فاينمان، في التو والحال أخذ بعض الأمثلة البسيطة والبحث في مدى دقة التشابه. في ذلك الوقت كان فقط يفعل ما كان يظن أن على عالم الفيزياء الجيد أن يفعله، وهو تحديدا فحص مثال تفصيلي لمعرفة ماذا كان ديراك يقصد بما قاله. غير أن ييلي - الذي كان يراقب فاينمان، طالب الدراسات العليا، في نفس الوقت الذي يجري فيه حساباته بسرعة أكبر من قدرة ييلي على متابعته، في تلك الحجرة الصغيرة بمكتبة برينستون - كان أكثر حكمة. وقد عبر عن الأمر بقوله: «أنتم أيها الأمريكيون دائما ما تحاولون اكتشاف كيفية الانتفاع بشيء ما. وتلك طريقة طيبة لاكتشاف أشياء جديدة.»
لقد أدرك أن فاينمان طور بحث ديراك ووصل إلى مرحلة أبعد، وأنه إبان ذلك توصل بالفعل لاكتشاف مهم. لقد بين بوضوح كيف يمكن صياغة ميكانيكا الكم في ضوء «دالة لاجرانج». وبذلك خطا فاينمان الخطوة الأولى نحو إعادة صياغة نظرية الكم بالكامل. •••
أعترف أنني كنت مرتابا بشأن ما إذا كان فاينمان قد تفوق حقا على ديراك في ذلك الصباح ببرينستون أم لا. من المؤكد أن أي شخص قادر على أن يفهم بحث ديراك باستطاعته أن يدرك أن البحث يضم جميع الأفكار الرئيسية تقريبا. أما السبب الذي حال دون قيام ديراك بالخطوة التالية ليعرف إن كان تطبيق تلك الأفكار ممكنا فعليا أم لا فهو أمر لن نعرفه أبدا. لعله كان قانعا بأنه بين وجود تناظر محتمل لكنه لم يتصور مطلقا أنه قد يكون ذا فائدة خاصة في أي أغراض عملية.
المعلومة الوحيدة التي لدينا بشأن عدم إثبات ديراك لنفسه مطلقا دقة التشابه الذي توصل إليه تأتينا من ذكرى فاينمان اللاحقة لمحادثة دارت بينه وبين ديراك عام 1946 في الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لجامعة برينستون. ذكر فاينمان أنه سأل ديراك هل يعرف أن التشابه الذي توصل إليه يمكن إثباته بواسطة ثابت بسيط «للتناسبية». تذكر فاينمان أن الحوار سار على النحو الآتي:
فاينمان : «هل كنت تعلم أنهما متناسبان؟»
ديراك : «وهل هما كذلك؟»
فاينمان : «أجل!»
ديراك : «أوه، هذا مثير!»
بالنسبة لديراك، الذي كان معروفا عنه التحدث باقتضاب وبحرفية إلى أبعد الحدود، كان هذا حوارا مطولا، وهو يوحي بالكثير والكثير على الأرجح. فعلى سبيل المثال، كان ديراك متزوجا من شقيقة عالم فيزياء شهير آخر هو يوجين ويجنر، فكان كلما قدم زوجته للناس عرفها لهم على أنها «شقيقة ويجنر»، وليس على أنها زوجته هو، ولعله في ظاهر الأمر كان يشعر أن تلك الحقيقة الأخيرة غير ذات أهمية (أو ربما لا لشيء سوى إظهار أنه «عدو للمرأة» تماما كالكثير من زملائه في ذلك الوقت).
ولعل القصة الأكثر ملاءمة ودلالة في هذا الشأن هي تلك التي سمعتها من عالم الفيزياء الدنماركي الشهير نيلز بور، الذي كان يشكو فيما يبدو من ذلك الباحث الحاصل على الدكتوراه المتسم بالهدوء المفرط، ديراك، الذي أرسله عالم الفيزياء الذي لا يقل عن بور شهرة، إرنست رذرفورد، من إنجلترا. بعد ذلك حكى رذرفورد لبور قصة عن شخص ذهب لمتجر الحيوانات الأليفة ليبتاع ببغاء، فعرض عليه البائع طائرا بديع الألوان وقال له إنه ينطق عشر كلمات مختلفة وسعره 500 دولار. ثم عرض البائع عليه طائرا أروع شكلا وأزهى ألوانا، ولديه حصيلة لغوية من 100 كلمة، وقال إن سعره 5000 دولار. بعدها شاهد الرجل طائرا بشع الهيئة في ركن المتجر فسأل البائع عن سعر ذلك الطائر، فقال له 100 ألف دولار! قال الرجل متعجبا للبائع: «لماذا؟ هذا الطائر لا يتمتع بأي جمال على الإطلاق. كم عدد الكلمات التي ينطقها؟» أجابه البائع إنه لا ينطق أي كلمة. قال الرجل للبائع مبهوتا: «هذا طائر جميل المنظر وينطق عشر كلمات وثمنه 500 دولار، وذاك طائر ينطق مائة كلمة وثمنه 5000 دولار، فكيف يكون ثمن ذلك الطائر الضئيل البشع هناك، الذي لا ينطق بكلمة واحدة 100 ألف دولار؟!» ابتسم البائع وقال: «هذا الطائر يفكر.» •••
كان ما خمنه ديراك بالحدس عام 1932، وما التقطه فاينمان مباشرة وبوضوح (مع أنه احتاج فترة من الوقت حتى يصفه بتلك البساطة وذلك الوضوح)، هو أنه في حين تحدد الحسابات «اللاجرانجية» ودالة «الفعل» في الميكانيكا الكلاسيكية المسار التقليدي الصحيح بتعيين احتمالات بسيطة لمسارات تقليدية مختلفة تصل بين «أ» و«ج»، بحيث تحدد في النهاية احتمالا ذا وحدة أساسية للمسار الأقل فعلا، وذا قيمة تساوي صفرا لكل مسار آخر، فإنه في ميكانيكا الكم يمكن استخدام دالة لاجرانج ودالة الفعل لحساب «نطاقات» الاحتمالات - وليس الاحتمالات - لمسارات الانتقال بين «أ» و«ج»، وعلاوة على ذلك، ففي ميكانيكا الكم، يمكن أن تكون لمسارات عديدة مختلفة نطاقات احتمالات ذات قيم غير صفرية.
أثناء بحثه تلك الفكرة باستخدام مثال بسيط، اكتشف فاينمان - أمام عيني ييلي المندهشتين في ذلك الصباح بمكتبة برينستون - أنه إذا حاول أن يحسب نطاقات الاحتمالات بهذه الطريقة - لأزمنة انتقال بالغة القصر - فإنه يستطيع الحصول على نتيجة مطابقة للنتيجة التي نحصل عليها في ميكانيكا الكم التقليدية من معادلة شرودينجر. والأكثر من هذا أنه عند الوصول إلى الحد الذي تصبح عنده المنظومات كبيرة الحجم، وتصبح تأثيرات ميكانيكا الكم ضئيلة وغير ذات قيمة بحيث تتحكم قوانين الحركة التقليدية في النظام، تتحول الصيغة التي وضعها فاينمان لتعكس فقط «مبدأ الفعل الأقل» الكلاسيكي.
الطريقة التي يحدث بها ذلك واضحة ومباشرة نسبيا. فإذا تأملنا جميع المسارات المحتملة بين «أ» و«ج»، يمكننا تعيين نطاق احتمال - «وزن» - لكل مسار يكون متناسبا مع إجمالي الفعل لذلك المسار. ففي ميكانيكا الكم، يمكن للعديد من المسارات المختلفة - ربما كان عددا لانهائيا، بما فيها المسارات المجنونة التي تبدأ وتنتهي وتغير سرعاتها في الحال وما إلى ذلك - أن يكون لها نطاقات احتمالات ذات قيم غير صفرية. الآن أصبح «عامل الوزن» المحدد لكل مسار معبرا عنه في ضوء إجمالي الفعل المرتبط بذلك المسار تحديدا. وإجمالي فعل أي مسار في ميكانيكا الكم لا بد أن يكون أحد مضاعفات وحدة بالغة الصغر للفعل تسمى «ثابت بلانك»، وهو «الكم» الأساسي للفعل في نظرية الكم، الذي رأينا أيضا من قبل أنه يفرض حدا أدنى على القيم غير المؤكدة عند قياس المواضع وكميات الحركة.
وصفة فاينمان الكمية إذن هي حاصل جمع كافة كل الأوزان المرتبطة بنطاقات الاحتمالات لجميع المسارات المستقلة، ومربع هذه الكمية هو الذي يحدد احتمال الانتقال للتحرك من «أ» إلى «ج» بعد مرور زمن ما.
وحقيقة أن الأوزان يمكن أن تكون ذات قيمة موجبة أو سالبة لا تفسر فقط السلوك الكمي الغريب، وإنما تفسر أيضا سبب اختلاف سلوك النظم التقليدية عن سلوك نظم الكم. فإذا كان النظام كبير الحجم، بحيث يكون إجمالي الفعل لكل مسار ضخما بالمقارنة بثابت بلانك، فإن تغييرا ضئيلا في المسار يمكنه تغيير الفعل - معبرا عنه بوحدات من ثابت بلانك - بمقدار ضخم. ونتيجة لذلك، ففي حالة المسارات المختلفة القريبة بعضها من بعض، قد تتباين دالة الوزن تباينا شاسعا بين الموجبة والسالبة. وبصفة عامة، عند جمع تأثيرات تلك المسارات المختلفة بعضها مع بعض، فإن القيم الموجبة العديدة المتنوعة سوف تعادل القيم السالبة العديدة.
غير أنه يتبين أن مسار الفعل الأقل (ومن ثم، المسار المفضل عادة) يملك خاصية أن أي تغيير بسيط في المسار يكاد لا يحدث أي تغيير في الفعل. وهكذا فإن المسارات القريبة من مسار الفعل الأقل سوف تسهم بنفس الوزن في المجموع، ولن يزول تأثيرها. ومن هنا عندما يصير النظام كبير الحجم، يكون الإسهام في احتمال الانتقال خاضعا تماما وبصفة أساسية للمسارات شديدة القرب من المسار التقليدي، الذي سيكون من ثم ذا احتمال قيمته واحد، بينما تكون بقية المسارات الأخرى ذات احتمالات قيمتها صفر. وهكذا نعود إلى مبدأ الفعل الأقل. •••
بينما كان مستلقيا في فراشه بعدها بأيام قلائل، تخيل فاينمان كيفية التوسع في التحليل الذي أجراه للمسارات ذات الفترات الزمنية بالغة القصر ليشمل مسارات كبيرة بكل معنى الكلمة، وفي هذه المرة أيضا، عن طريق تطوير فكر «ديراك». وبقدر ما كان مهما أن يتمكن من إيضاح أن الحد التقليدي كان معقولا، وأنه بالإمكان اختزال العمليات الرياضية في معادلة شرودينجر القياسية لنظم الكم البسيطة، فإن الأمر الذي بدا أكثر إثارة لفاينمان هو أنه صار الآن يمتلك آلية تمكنه من استكشاف ميكانيكا الكم لنظم فيزيائية أكثر تعقيدا، مثل النظام الكهروديناميكي الذي صممه مع ويلر، والذي لم يتمكنا من وصفه بالطرق التقليدية.
وعلى الرغم من أن دافعه كان التوسع في ميكانيكا الكم بحيث يمكنها وصف نظم لم يكن بالإمكان وصفها بطريقة أخرى، فقد كان صحيحا أيضا (حسبما أكد فاينمان فيما بعد) أنه فيما يخص النظم التي يمكن تطبيق صيغ كل من ديراك وشرودينجر وهايزنبرج الأكثر قياسية عليها، فإن جميع الطرق متكافئة تماما. إلا أن المهم في الأمر هو أن هذه الطريقة «الجديدة» في تصوير العمليات الفيزيائية تعطينا فهما «نفسيا» مختلفا تماما لعالم الكم.
ولاستخدام كلمة «تصوير» هنا دلالة مهمة؛ لأن طريقة فاينمان تتيح التفكير في ميكانيكا الكم بطريقة تصويرية جميلة. لقد استغرق التوصل لهذه الطريقة الجديدة بعض الوقت، حتى من فاينمان، الذي لم يتحدث صراحة عن «حاصل جمع المسارات» في أطروحته العلمية. وبحلول الوقت الذي كتب فيه أطروحته في صورة مقال بعدها بستة أعوام في دورية «ريفيوز أوف مودرن فيزيكس»، كانت هذه الفكرة محورية. هذا البحث الذي نشر عام 1948 بعنوان «نهج زمكاني لفهم ميكانيكا الكم اللانسبية» يبدأ بحجة احتمالية مشابهة لتلك التي عرضتها هنا، ثم يشرع على الفور في مناقشة المسارات الزمكانية. والمدهش أن البحث يخلو من الرسوم بشكل واضح. ربما كان تكليف أحد الفنانين بوضع الرسوم أمرا باهظ التكلفة في تلك الأيام. لم تكن تلك مشكلة، فقد جاءت الرسوم لاحقا. •••
أثناء كتابة فاينمان لتلك النتائج كي تشكل أساس رسالته، كان العالم عام 1942 في حالة اضطراب عارم، وقد اشتعل أتون الحرب العالمية الثانية في ذلك القرن. ووسط كل مشاغله الأخرى - إتمام بحثه العلمي، والزواج، والبحث عن وظيفة - دخل عليه مكتبه ذات صباح روبرت ويلسون، وكان يعمل في ذلك الوقت مدرسا للفيزياء التجريبية ببرينستون. طلب ويلسون من فاينمان الجلوس وأفصح له عما كان يعد معلومات غاية في السرية، إلا أن تلك المعلومات تحديدا كانت من الحداثة بحيث لم تكن قد صنفت بعد على أنها سرية.
كانت الولايات المتحدة على وشك البدء في مشروع تصنيع القنبلة الذرية، وكانت مجموعة علماء في برينستون ستبدأ العمل على واحدة من الطرق المحتملة لصنع المادة الخام للقنبلة، وهي نظير خفيف لليورانيوم يسمى يورانيوم 235 (حيث الرقم 235 يمثل العدد الذري؛ أي مجموع عدد البروتونات والنيوترونات الموجودة في النواة). كانت حسابات الفيزياء النووية بينت أن نظير اليورانيوم المتوافر في الطبيعة، وهو يورانيوم 238، لا يمكن استخدامه بكميات عملية معقولة في إنتاج القنبلة. وكان السؤال هو: كيف يمكن فصل النظير النادر يورانيوم 235 - الذي يمكن إنتاج القنبلة باستخدامه - عن اليورانيوم 238 الأكثر توافرا منه بكثير؟ ولما كانت نظائر عنصر ما لا يختلف بعضها عن بعض إلا في عدد النيوترونات الموجودة داخل النواة، لكنها متطابقة من الناحية الكيميائية نظرا لاحتواء كل منها على نفس عدد البروتونات والإلكترونات الذي تحتوي عليه النظائر الأخرى، فإن تقنيات الفصل الكيميائي لن تفلح. وصار لزاما الاستعانة بعلم الفيزياء. كشف ويلسون عن هذا السر لأنه أراد تعيين فاينمان للمعاونة ببحثه النظري الذي يحتاجون إليه كي يروا هل ستفلح طرقه التجريبية المقترحة أم لا.
وضع هذا العرض فاينمان في ورطة حقيقية؛ إذ كان يتلهف بشدة على إنهاء أطروحته، وكان مستمتعا بالمشكلة التي يعمل على حلها، وكان راغبا في مواصلة العمل في العلم الذي أحبه. كان راغبا في التخرج أيضا، إذ كان هذا أحد شروطه المسبقة التي ألزم نفسه بها من أجل الزواج. والأدهى أن ويلسون أراد منه التركيز على مشكلات اعتبرها فاينمان هندسية في المقام الأول، وهو مجال تطرق إليه فاينمان وهو لا يزال طالبا بالجامعة غير أنه هجره كي يدرس الفيزياء.
كان ميالا في البداية إلى رفض العرض. ولكن في الوقت نفسه، كيف يمكنه أن يرفض احتمال المساعدة على تحقيق النصر في الحرب؟ لقد فكر من قبل في الانضمام إلى صفوف الجيش لو أمكنه العمل في سلاح الإشارة، ولكن قيل له إنه لا يوجد ضمان لذلك. وها قد جاءت فرصة للقيام بشيء أكثر أهمية بكثير. والأكثر من هذا أنه أدرك أن الفيزياء النووية المعنية لم تكن سرا. وعلى حد قوله فيما بعد: «المعرفة العلمية عالمية؛ إنها مسألة دولية ... لم يكن هناك احتكار للمعرفة أو المهارة في ذلك الوقت ... لذا لم يوجد سبب للاعتقاد أنهم [الألمان] لن يفكروا في تلك الإمكانية أيضا. إنهم بشر مثلنا ويملكون نفس المعلومات ... كان السبيل الوحيد الذي أعرفه كي نمنع ذلك هو أن نصل قبلهم، أو نهزمهم.» ولقد حدث نفسه لبرهة هل صنع مثل هذا السلاح المخيف هو الصواب الذي ينبغي فعله أم لا، غير أنه في نهاية المطاف وضع أطروحته في درج مكتبه وانطلق لحضور الاجتماع الذي حدثه عنه ويلسون.
ومنذ تلك اللحظة فصاعدا، لم يعد مشغولا بالعالم المجرد لميكانيكا الكم والإلكترونات، وإنما بالتفاصيل الدقيقة لعلم الإلكترونيات وخصائص المواد. كان مستعدا على نحو جيد - كعادته دائما - بما تعلمه بنفسه وما تعلمه في بعض المقررات الدراسية المتميزة في الفيزياء النووية على يد ويلر وفي خصائص المواد من ويجنر. ومع ذلك، تطلب الأمر بعض الوقت للتعود والتكيف . بدأ هو ومساعد باحث آخر لدى ويلر، اسمه بول أولوم وهو خريج قسم الرياضيات بجامعة هارفارد، يعملان بأسرع ما يمكنهما في إجراء حسابات لم يكونا متيقنين منها، على الرغم من أن الفيزيائيين التجريبيين من حولهما كانوا عاكفين على بناء جهاز كانت مهمتهما أن يقررا إن كان سيفلح في إنجاز المطلوب أم لا.
كانت تلك أولى خبرات فاينمان - التي تكررت كثيرا خلال حياته المهنية فيما بعد - فيما يتعلق بإدراك أنه على الرغم من حبه للحسابات النظرية، فإنه لا يجب أن يثق فيها حقا تمام الثقة إلا بعد إخضاعها أولا للتجربة العملية. وكما أن محاولة فهم الطبيعة عند حواف المعرفة مهمة مفزعة، كان من المفزع بنفس القدر تحمل مسئولية قرارات مبنية على حساباته سيكون لها في نهاية الأمر أثر مباشر على أكبر مشروع صناعي ينفذه بلد واحد منفرد على مر العصور.
وفي نهاية الأمر، لم يختر الجهاز الذي اقترحه ويلسون لفصل نظير اليورانيوم. وكان ما وقع عليه الاختيار هو أسلوب الطرد المركزي الذي لا يزال مستخدما إلى الآن والذي يسبب الذعر لأن دولا مثل إيران تخصص موارد هائلة من أجل بناء أجهزته.
لم يتخل جون ويلر - المشرف على رسالة فاينمان - عنه خلال تلك الفترة. كان ويلر قد رحل عن برينستون إلى جامعة شيكاجو للعمل مع إنريكو فيرمي على بناء أول مفاعل نووي بهدف اختبار مبدأ التفاعلات المتسلسلة المحكومة كخطوة أولى نحو التفاعلات المتسلسلة غير المحكومة التي ستكون هناك حاجة إليها لصنع القنبلة النووية. غير أن ويلر كان يعرف ما يعمل فيه فاينمان، وفي ربيع عام 1942 قرر ويلر أن هذا يكفي. شعر هو وويجنر أن أطروحة فاينمان قريبة من الاكتمال إلى حد يجعل من الواجب كتابتها بالتفصيل والانتهاء منها، وأخبره بذلك بوضوح تام.
وهذا بالضبط ما شرع فاينمان في عمله. كان مدركا لما حققه بالفعل. لقد أعاد اشتقاق ميكانيكا الكم من منظور مبدأ فعل يتضمن مجموع مسارات مختلفة (أو بالأحرى، «متمم»، بلغة الرياضيات). وأتاح هذا إمكانية التعميم في الحالات التي لا يفلح فيها أسلوب شرودينجر التقليدي، وبصفة خاصة نظرية الامتصاص التي وضعها هو وويلر للكهرومغناطيسية. كان هذا ما يثير اهتمامه - وخطوته الحقيقية للأمام، حسبما كان يظن - وكانت الطريقة الجديدة التي ابتكرها لاشتقاق ميكانيكا الكم هي في الأساس وسيلة نحو تحقيق تلك الغاية.
غير أنه كان مشغولا أكثر بما لم يتمكن من تحقيقه بعد، وقد خصص القسم الأخير من رسالته لوصف أوجه القصور في بحثه حتى ذلك الوقت. وكان أول أوجه القصور وأهمها أن رسالته لم تحتو على أي مقارنة باستخدام التجارب العملية، التي كان يعتبرها الاختبار الحقيقي لقيمة أي فكرة نظرية. كان أحد جوانب المشكلة أنه أعاد صياغة ميكانيكا كم لانسبية محضة، ولكن لكي يتعامل مع تجارب حقيقية تتضمن شحنات وإشعاعا، هناك حاجة للنظرية الملائمة - الديناميكا الكهربائية الكمية - من أجل دمج النسبية، القادرة على التعامل مع مجموعة متنوعة من المشكلات التي لم يتعامل معها بعد، وقد كان يدرك هذا بفطنة.
وأخيرا، كان فاينمان مشغولا بالتفسير المادي لوجهة نظره الجديدة الخاصة بالتعامل مع عالم الكم، وبالتحديد، مسألة إيجاد ارتباط بين المسارات الموزعة زمنيا ونطاقات الاحتمالات المتأصلة في صيغته الجديدة، وبين احتمال إجراء قياسات مادية حقيقية في أي زمن معين. لم تكن مشكلة القياس جديدة أو فريدة في أطروحة فاينمان. بدا فقط أن عمله يفاقم المشكلة. إن عالم القياسات يقع ضمن العالم التقليدي الذي نعرفه، وهو عالم يبدو أن متناقضات الكم العجيبة لا تظهر فيه مطلقا. فكيف تضمن لنا «عملية قياس» أن عالم الكم الخفي سيظهر أمام أعيننا بصورة معقولة في نهاية الأمر؟
كان أول من يحاول مناقشة مشكلة القياس تلك مناقشة شاملة «كميا» في سياق ميكانيكا الكم هو جون فون نويمان، من برينستون، الذي أتيحت لفاينمان فرصة التفاعل والاختلاف معه. أي شخص سمع من قبل عن ميكانيكا الكم غالبا ما يسمع أنه لا يمكن الفصل بين الراصد وبين ما يرصده. لكن عمليا، هذا هو عين المطلوب للتوصل للتنبؤات ومقارنتها بالبيانات التجريبية. وكان فاينمان شديد الانشغال بهذا السؤال المحوري حول كيفية فصل أداة القياس عن النظام محل الرصد في سياق حسابات ميكانيكا الكم المحددة التي أراد إجراءها.
تقول الصياغة اللفظية التقليدية: عندما نقوم بعملية قياس، فإننا نسبب «انهيار الدالة الموجية». وبعبارة أخرى، فإننا فجأة نقلص نطاق الاحتمال إلى صفر في كل الحالات فيما عدا واحدة. لذا، يكون احتمال أن يأخذ النظام شكلا واحدا فقط هو 100 بالمائة، ولا تتداخل الأشكال المختلفة المحتملة بعضها مع بعض، كما في الأمثلة التي تناولناها في الفصل الأخير. غير أن هذا ببساطة يثير التساؤلات التالية: كيف تؤدي عملية قياس لانهيار الدالة الموجية، وما الشيء المميز في عملية قياس كهذه؟ وهل هناك حاجة لوجود بشري لإجراء عملية الرصد؟
إذا نحينا جانبا آراء المحتالين من دعاة العلم الزائف، فسنجد أن مسألة الوعي ليست هي الأساس. بل على العكس، زعم فاينمان أنه لا بد من اعتبار النظام والراصد معا نظاما كميا واحدا (وهذا صحيح في أساسه على أي حال). فإذا كانت أداة الرصد «كبيرة» - بمعنى أن لها عدة درجات داخلية من الحرية - فبإمكاننا إذن أن نبين أن مثل هذا النظام الكبير يسلك سلوكا تقليديا؛ أي إن التداخل بين حالات الكم الممكنة المختلفة التي يمكن مشاهدتها بالعين المجردة لأداة القياس يصبح متناهي الصغر؛ إلى حد يكون معه غير ملائم على الإطلاق من الناحية العملية.
وعن طريق إجراء فعل القياس نفسه، فإننا بطريقة ما نصنع تداخلا بين نظام الرصد «الكبير» وبين نظام كمي «صغير»، فيصيران مرتبطين معا. هذا الارتباط يرغم في نهاية الأمر نظام ميكانيكا الكم الصغير على الوجود في حالة واحدة محددة بدقة، وهي الحالة التي «نقيس» بعد ذلك النظام فيها. وبهذا المعنى نقول إن الدالة الموجية للنظام الصغير قد «انهارت» (بمعنى أن نطاق احتمال كون النظام في أي حالة أخرى غير تلك التي نقيسها صار الآن صفرا). وليس للبشر أي علاقة بهذا الأمر؛ فنظام الرصد يجب ببساطة أن يكون كبيرا وتقليديا ومرتبطا بالنظام الكمي بواسطة عملية القياس.
غير أن كل هذا لم يحل المشكلة بعد، التي تأخذ حينئذ شكل السؤال: كيف يمكننا تحديد مكونات جزء الرصد التقليدي الكبير من النظام المجمع وتحديد مكونات جزء الكم والفصل بينها؟ لقد أمضى فاينمان وقتا لا يستهان به في مناقشة هذه المسألة مع فون نويمان. ولم يقتنع فاينمان بحجة فون نويمان بأنه يجب على شخص ما أن يحدد - اعتباطيا إلى حد ما - أين يقع الخط الفاصل بين الراصد التقليدي وبين ما يرصده. لقد بدت له تلك الحجة وكأنها مراوغة هروب فلسفية. لقد آمن فاينمان بأنه ما دامت ميكانيكا الكم هي الأساس الكامن وراء الحقيقة، فيجب دائما دمجها في كل شيء بدلا من إجراء عمليات فصل ظرفية ملفقة بين الراصد وما يرصده. في حقيقة الأمر، لقد عمل فاينمان جاهدا على تعريف القياسات في ضوء الارتباطات بين النظم الفرعية المختلفة وترك حجم أحدها يصل إلى ما لانهاية. إذا ظلت الارتباطات اللاصفرية والمحدودة بنهاية داخل هذا الحد، سمى فاينمان هذا «قياسا» للنظام الفرعي الأصغر، الذي يمكن جعله دقيقا اعتباطيا مع زيادة حجم الجزء «القائم بالقياس» من النظام أكثر وأكثر. وقد عبر فاينمان عن الأمر ببراعة في ملحوظة كتبها لنفسه بخصوص مثال لبقعة على لوح فوتوغرافيا سجلت بطريقة ما حدثا يتعلق بذرة واحدة فقال:
ما الذي يمكننا أن نتوقع الوصول إليه إذا قلنا إننا غير قادرين على أن نرى بدقة أشياء كثيرة تتعلق بذرة واحدة؟ ما الذي يمكننا في الواقع رؤيته؟ المقترح: خصائص الذرة الواحدة التي يمكن قياسها هي تلك التي يمكن ربطها (بنطاق احتمالات محدود) (بواسطة ترتيبات تجريبية متنوعة) بعدد غير محدود من الذرات (أي إن البقعة الفوتوغرافية «حقيقية» لأنه يمكن تكبيرها وعرضها على الشاشات، أو التأثير على أوعية ضخمة تحتوي على مواد كيميائية، أو على أمخاخ كبيرة ... إلخ إلخ: يمكن جعلها تؤثر على أشياء تتزايد أحجامها إلى ما لانهاية، ويمكنها تحديد هل سيتجه قطار ما من نيويورك إلى شيكاجو أم لا، أو إن كانت قنبلة ذرية ستنفجر أم لا ... إلخ).
لا تزال نظرية القياس تمثل «بعبع» ميكانيكا الكم. وعلى الرغم من تحقق تقدم عظيم، فلا يزال من الإنصاف أن نقول إن الوصف الكامل للكيفية التي ينشأ بها العالم التقليدي الذي نعيش فيه من واقع الكم الكامن الخفي لم يمكن الوصول إليه بعد، على الأقل بدرجة ترضي جميع علماء الفيزياء.
هذا المثال على بؤرة تركيز فاينمان أثناء مرحلة إنهاء أطروحته يتسم بالأهمية؛ لأنه يوضح القضايا المعقدة التي أصر ذلك الطالب بالدراسات العليا المتخصص في علم الفيزياء على التعامل معها خلال عمله. بالإضافة إلى ذلك فإن «صيغة تكامل المسار» التي وضعها فاينمان جعلت من الممكن تقسيم النظم إلى أجزاء منفصلة، وهو ما يبدو أمرا محوريا لفكرة القياس في ميكانيكا الكم؛ إذ يسمح لنا بعزل أجزاء نظام ما إما لأننا لا نقيسها أو لا نستطيع قياسها، وفصل تلك الأجزاء فصلا واضحا عن الأجزاء التي نريد التركيز عليها. وهذا الأمر بصفة عامة غير ممكن في الصيغ التقليدية لميكانيكا الكم.
الفكرة مباشرة وواضحة نسبيا في حقيقة الأمر. إننا نجمع كل تلك الأوزان المتوافقة مع الفعل المرتبط بالمسارات أو أجزاء المسارات التي نرغب في تجاهل تفاصيلها المحددة، مثل جمع تأثيرات حلقات دائرية صغيرة جدا - لدرجة لا يمكننا معها قياسها - تدور في دوامات حول المسار المستقيم الأقرب للطبيعي بين نقطتين. ربما تكون نتيجة عمليات الجمع تلك هي تغيير، بمقدار صغير يمكن حسابه، ما سيكون عليه «الفعل» المرتبط بالمسار المستقيم لو لم تكن تلك الحلقات موجودة. وبعد إجراء عملية الجمع (أو التكامل، في حالة وجود عدد غير محدود من تلك المسارات الإضافية)، يمكننا حينها تجاهل تلك المسارات الحلقية الزائدة والتركيز فقط على المسارات الأكثر استقامة، ما دمنا نستخدم في حساباتنا «الفعل» الجديد المعدل لذلك المسار. وتسمى هذه العملية «التكامل الاستبعادي» لأجزاء من النظام.
قد يبدو هذا، للوهلة الأولى، أشبه بتفاصيل تقنية غير جديرة بالذكر. غير أن هذا، كما سنرى فيما بعد، أتاح في نهاية المطاف التوصل لغالبية التطورات النظرية المهمة في علم الفيزياء الأساسي خلال القرن العشرين، وسمح لنا بتطوير كمي شامل لأفكار كانت غامضة وأصبحت بمنزلة الحقائق العلمية.
لكن في تلك اللحظة من الماضي؛ أي في عام 1942، وبينما كان فاينمان يكمل رسالته العلمية التي جاءت بعنوان «مبدأ الفعل الأقل في ميكانيكا الكم»، كانت هناك أشياء أخرى تشغل باله. كان يتأهب للتخرج في شهر يونيو من نفس العام، وكان قد تلقى وعدا بالانتقال إلى لوس ألاموس للتركيز على التصنيع الفعلي للقنبلة الذرية. وكان مشغولا أيضا بالتخطيط لزواجه الذي طالما حلم به بعد تخرجه. وهكذا كان مضطرا لمنح اهتماماته الفيزيائية المباشرة إجازة مؤقتة للتركيز على باقي جوانب حياته. ولعل كل تلك الانحرافات عن المسار تفسر لنا لماذا، على الرغم من امتنانه لبروفسور ويلر على نصيحته وتشجيعه إياه (وإنهاء فترة تعاونهما معا)، لم ينتهز الفرصة مطلقا كي يضيف ما كان سيصبح بلا شك تقديرا أكثر شاعرية وتأثيرا بكثير للارتباط القائم بين موضوع أطروحته (والعمل الذي كفل له الفوز بجائزة نوبل في نهاية الأمر) وبين ذلك اليوم المصيري أثناء أحد دروس الفيزياء بالمدرسة الثانوية عندما أيقظ الأستاذ بادر ذهنه على جوانب الجمال الكامنة في الفيزياء النظرية.
وبعد خمس سنوات بدت له دون شك فيما بعد وكأنها عمر كامل، وضعت الحرب أوزارها وتمكن أخيرا من كتابة رسالته وإعدادها للنشر. لم يكن قادرا على إدراك هذا الارتباط بعد. لكنه كان قادرا على التعبير بوضوح عما كان دون شك يمثل آماله نفسها التي حملها معه يوم رحل عن برينستون، وهي الآمال التي ظلت تمثل له طوق النجاة وسط خضم أشكال متباينة من جنون أحوال البشر التي لم يكن لديه سوى أقل القليل من القدرة على التحكم فيها، إلى أن جاء أخيرا ذلك اليوم الذي صار فيه حرا للتفرغ لاستكشاف جنون أشد هو جنون عالم الكم، الذي كان أكثر ثقة بكثير في قدرته على قهره. يقول فاينمان:
الصيغة من الناحية الرياضية تكافئ الصيغ التقليدية المألوفة. لهذا لم تكن هناك نتائج جديدة جذريا. غير أنه توجد متعة في التعرف على أمور قديمة من وجهة نظر جديدة. توجد أيضا مشكلات يمكن أن تستفيد استفادة كبيرة من وجهة النظر الجديدة ... وعلاوة على ذلك، هناك دائما أمل في أن تلهم وجهة النظر الجديدة فكرة تتيح تعديل النظريات الحالية، وهو تعديل ضروري لاحتواء التجارب الحالية.
الفصل السادس
فقد البراءة
إنه ديراك آخر، لكنه هذه المرة إنسان.
يوجين ويجنر،
متحدثا عن ريتشارد فاينمان
تخرج ريتشارد فاينمان في جامعة برينستون عام 1942 وقد نال شهادة الدكتوراه وهو شاب غر إلى حد ما ومفعم بالأمل، اشتهر بين زملائه من الطلبة وأساتذته بالعبقرية والنبوغ، لكنه مجهول إلى حد بعيد خارج حدود جامعته. ثم بزغ نجمه بعدها بثلاثة أعوام، من لوس ألاموس؛ كفيزيائي أثبت جدارته ونال تقديرا رفيعا من أغلب فطاحل علم الفيزياء في جميع أنحاء العالم، وشابا ناضجا منهك القوى سئم الحياة. فخلال تلك الفترة، تعرض فاينمان لخسارة شخصية هائلة، بالإضافة إلى فقد البراءة الفكرية والأخلاقية كنتيجة ثانوية حتمية لويلات الحرب. •••
بالكاد كان الحبر الذي حررت به شهادة فاينمان قد جف عندما شرع في تنفيذ قراره، الموضح في ذلك الخطاب الفاتر الذي بعث به إلى والدته، وهو قرار الزواج من آرلين. لم تجد معارضة والديه ووالدي آرلين نفعا، وكانوا جميعا أكثر انشغالا بصحته وصحة آرلين من اهتمامهم بحبهما المشترك. كان كل منهما يشعر بأن الآخر هو الحصن الذي يحتمي به من أي هجوم يتعرض له من بقية العالم. معا كان كل شيء ممكنا، وقد رفضا الاستسلام للتشاؤم تجاه المستقبل. وفي خطاب كتبته آرلين لريتشارد بعد فترة قصيرة من انتقاله إلى شقة جديدة في برينستون وأثناء إجراء الترتيبات النهائية لحفل الزفاف قالت: «إننا لسنا شخصين تافهين؛ إننا عملاقان ... أعلم أن أمامنا مستقبلا ينتظرنا معا، وعالما من السعادة؛ الآن وإلى الأبد.»
كانت كل مناحي حياتهما القصيرة معا، إذا تأملناها الآن، تمزق نياط القلوب. ففي اليوم المفترض أن يكون يوم زفافهما، استعار ريتشارد سيارة ستيشن من أحد أصدقائه، وزودها بالحشايا حتى تتمكن آرلين من الرقود بداخلها. وبعدها قاد السيارة من برينستون إلى منزل والديها كي يصطحبها وقد ارتدت ثوب عرسها، وتوجها معا إلى حي وجزيرة ستاتن أيلاند بنيويورك حيث ستقام مراسم الزواج دون أن يكون معهما أي من الأهل أو الأصدقاء، ومن هناك توجها إلى ما أصبح منزلا مؤقتا لآرلين، وهو مستشفى خيري في نيوجيرسي!
بعدها بفترة قصيرة، ودون مدعوين أو شهر عسل، عاد فاينمان إلى عمله ببرينستون، غير أنه لم يكن هناك شيء يفعله هناك؛ فمشروعه مع ويلسون قد توقف وكان فريق العمل لا يزال في انتظار أوامر جديدة. ولما كان النشاط الرئيسي في ذلك الحين يحدث في شيكاجو، حيث كان إنريكو فيرمي وويلر يعملان على بناء مفاعل نووي، أوفد فاينمان إلى شيكاجو ليتعرف على ما يجري هناك.
كانت رحلته عام 1943 بمنزلة بداية لما سيصبح بعد ذلك سلسلة متعاقبة من الفرص لمقابلة أقرانه ورؤسائه وإبهارهم. وعلى الرغم من أن الحرب كدرت حياة الجميع، فقد قدمت لفاينمان في الوقت نفسه - من ناحيتين على الأقل - فرصا مدهشة ما كانت لتتاح له لولا الحرب.
من ناحية، لما كانت خيرة العقول وألمعها تجمع معا كي تقضي عامين في تعاون وثيق، فقد سنحت الفرصة لفاينمان كي يتألق أمام أشخاص لولا تلك الظروف لاضطر أن يرتحل في جميع أرجاء المعمورة كي يلتقي بهم. كان قد أبهر من قبل بالفعل - من خلال حضوره للقاءات جماعية دورية ظلت تعقد منذ عام 1942 في نيويورك وفي معمل الإشعاع بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بماساتشوستس - عالم الفيزياء العبقري، والمتوتر في الوقت نفسه، روبرت أوبنهايمر، الذي اختير بعدها بفترة قصيرة لقيادة مشروع القنبلة الذرية بأكمله. وفي شيكاجو، أثناء قيامه بمهمة جمع المعلومات، أذهل أعضاء مجموعة العلماء النظريين هناك عندما تمكن من إجراء عملية حسابية ظلت مستعصية عليهم لما يزيد على شهر كامل.
وعقب عودته إلى برينستون وتقديم تقريره الذي أوجز فيه نتائج مهمته، لم يضطر للانتظار طويلا قبل أن يعلم ما سيحدث بعد ذلك. لقد اختير أوبنهايمر لقيادة مشروع القنبلة، وبعدها بفترة وجيزة اختار لوس ألاموس بولاية نيو مكسيكو - وهي منطقة ريفية نائية رائعة الجمال زارها من قبل وهو أصغر عمرا، وتفي كذلك بشروط الجيش فيما يتعلق بالعزلة والأمن - لتكون الموقع الذي سرعان ما أصبح بعدها أكثر معامل العالم تطورا، والذي تجمع به أكبر عدد من عباقرة العلم في مكان واحد (بل ربما أبرع من توماس جيفرسون نفسه، كما ضرب جون إف كنيدي ذات مرة المثل أثناء استقباله مجموعة من الفائزين بجائزة نوبل).
كان أوبنهايمر عالما عبقريا، لكن الأمر الذي كان أكثر أهمية لنجاح مشروع القنبلة الذرية، أنه كان عبقريا بالقدر نفسه في الحكم على مواهب الآخرين. وسرعان ما بدأ أوبنهايمر يعين ويحشد فريقا من أقرانه المتميزين لينتقلوا إلى لوس ألاموس، حتى قبل اكتمال بناء المعمل والمنطقة السكنية المحيطة به. ومن نافلة القول أنه بحث عن فاينمان وبذل كل ما في وسعه لإقناعه بالانتقال إلى نيو مكسيكو مع الموجة الأولى من العلماء، في نهاية مارس 1943.
أدى عرض أوبنهايمر إلى الأثر السعيد الآخر الذي جلبه المجهود الحربي للزوجين. كان مرض آرلين يتفاقم؛ فلم يكن مقدرا لها أن تعيش أكثر من عامين بعد الزواج. وعادة ما تكون السنوات الأولى من عمر أي زيجة فترة للرومانسية والمغامرات؛ لو كان مقدرا أن تكون هناك فترة كتلك. ولو لم تكن الحرب قد قلبت العالم رأسا على عقب، فما من شك أن فاينمان كان سيستغرق وقتا أطول كي ينهي رسالة الدكتوراه التي يعدها، وكان هو وآرلين سيواصلان مكوثهما المفعم بالمعاناة في برينستون إذ كانت صحتها في تدهور مستمر، ومن ثم، قبل وفاتها، ربما كان سيمضي في طريقه لنيل درجة أستاذ مساعد في مكان ما لا يختلف كثيرا عن برينستون. وبدلا من ذلك، فإن قراره الانتقال إلى الجنوب الغربي الجامح المجهول منح الزوجين الشابين، ولا سيما آرلين، الفرصة للاستمتاع بشيء من الرومانسية والمغامرة التي طالما تاقا إليها والتي ما كانت آرلين لتستمتع بها مطلقا لولا ذلك.
تأثر فاينمان باهتمام أوبنهايمر به وتقديره إياه. وبدا «أوبي»، وهو الاسم الذي كان زملاؤه ينادونه به، القائد الأمثل لتلك الكوكبة من العلماء أصحاب الفكر المستقل. لقد استحق احترامهم جميعا، وعلى حد قول فاينمان فيما بعد: «كان بمقدورنا مناقشته في أي شيء فنيا لأنه كان يفهم كل شيء.» وفي الوقت نفسه أظهر أوبنهايمر اهتماما غير عادي بسلامة ورفاهية كل فرد عينه معه في هذه المهمة. ومرة أخرى، يقول فاينمان متذكرا: «كان أوبنهايمر مفرطا في إنسانيته. فعندما كان يعين كل هؤلاء الناس للذهاب إلى لوس ألاموس ... كان يهتم بجميع التفاصيل. فمثلا، عندما طلب مني القدوم أخبرته عن تلك المشكلة؛ أن زوجتي مريضة بالسل. وقد بحث بنفسه عن مستشفى ثم اتصل بي ليخبرني أنه عثر على مكان يمكنه أن يعتني بها. لم أكن إلا واحدا من كثيرين يحاول تجنيدهم للعمل في المشروع، لكن هذا كان دأبه دائما؛ منشغلا بمشكلات الناس الشخصية.» كانت مكالمة أوبنهايمر من شيكاجو بشأن عثوره على مستشفى لآرلين أول اتصال هاتفي يتلقاه فاينمان من مكان بعيد للغاية كهذا، ولعل هذا كان من أسباب تأثره. وعلى أي حال، بعد إجراء بعض المفاوضات مع سلطات الجيش، رتب لآرلين وريتشارد استقلال القطار «سانتا في تشيف» من شيكاجو في 30 مارس. كانت آرلين في حالة غير عادية من البهجة والإثارة:
حبيبي ريتش، آه لو تعلم كم أسعدتني برحلة القطار تلك؛ لقد كانت منتهى أملي وأحلامي منذ تزوجنا ... لم يتبق سوى يوم واحد. إنني في غاية الإثارة والسعادة وأتفجر بهجة. إنني أفكر وآكل وأنام «بك»؛ حياتنا، حبنا، زواجنا، والمستقبل الرائع الذي نبنيه معا. فقط لو أن غدا يأتي سريعا.
بإلحاح من آرلين، ابتاع الزوجان تذكرة مقصورة خاصة، ثم صعدا إلى متن القطار واتجها إلى الغرب. وفي نهاية المطاف، وبعد بحث عدة احتمالات ممكنة، وضعت آرلين في مصحة في ألباكيركي، التي تبعد مائة ميل عن موقع المعمل (ولم يكن المعمل قد أنشئ بعد)، وكان ريتشارد يذهب لرؤيتها مرة كل أسبوع.
بطريقة ما يمكن القول إن ريتشارد فاينمان كان يعد لهذه التجربة طيلة حياته؛ فجميع مواهبه كانت ستستغل خلال العامين التاليين: قدراته الحسابية الخارقة، عبقريته السحرية في الرياضيات، حبه الفطري لعلم الفيزياء، تقديره الجلي لأهمية التجريب، بغضه وازدراؤه للسلطة، اتساع معرفته بعلم الفيزياء، من الفيزياء النووية إلى فيزياء المواد (بعد وصوله بفترة قصيرة أصابه المرض، وأرسل خطابا إلى والدته يخبرها فيه أنه قرأ مرجعا في الهندسة الكيميائية يحتوي موضوعات متباينة من «نقل السوائل» إلى «التقطير» أثناء إقامته مدة ثلاثة أيام في مصحة لأمراض الصدر)، وافتتانه بالآلات الحاسبة.
كان العمل الفيزيائي مختلفا تماما عن عمله الأكاديمي. لقد كان أيسر من الخوض في قوانين مجهولة، لكنه أقذر كثيرا من العمل على الإلكترونات المنفردة في ذرات الهيدروجين البسيطة. وبجانب إسهامه في اختراع القنبلة، ترك فاينمان القليل من التراث العلمي الخالد من نتاج عمله خلال تلك الفترة. (هناك معادلة خاصة بحساب كفاءة السلاح النووي، اسمها معادلة «بيته-فاينمان»، لا تزال مستخدمة إلى اليوم، لكن هذا كل ما أعرفه عنها.)
إلا أن لوس ألاموس كان لها تأثيرها البالغ على المسار المهني لفاينمان، وقد بدأ كل شيء بالصدفة البحتة، مثلما هو الحال مع أمور أخرى عديدة. ومرة أخرى نقتبس من كلماته: «معظم العلماء الكبار كانوا خارج البلدة لسبب أو لآخر، ينقلون أثاثهم أو أشياء من هذا القبيل؛ فيما عدا هانز بيته. ويبدو أنه عندما كان يبحث فكرة ما كان يحب دائما أن يناقشها مع شخص آخر. ولما لم يستطع العثور على أحد في الجوار، جاء لزيارتي في مكتبي ... وبدأ يشرح ما كان يفكر فيه. وفيما يختص بعلم الفيزياء فإنني أنسى مع من أتحدث بالضبط، لهذا كنت أقول له: «لا، لا! هذا جنون!» وما إلى ذلك. وكلما اعترضت على شيء، كان يتبين لي دائما أنني مخطئ، ومع ذلك كان هذا هو ما يريده.» ويتذكر بيته الأمر على هذا النحو: «لم أكن أعلم أي شيء عنه ... لقد حصل حديثا على شهادة الدكتوراه تحت إشراف ويلر في برينستون. بدأنا نتحدث، وكان من الواضح أنه شديد الذكاء. في الاجتماعات والندوات التي كانت تعقد، كان دائما ما يطرح أسئلة تنم عن ذكاء استثنائي وفكر ثاقب. وبدأنا نتعاون معا.» وفي ذكرى أخرى يقول: «كان شديد الحيوية منذ البداية ... أدركت على الفور أنه بمنزلة ظاهرة غير طبيعية ... كنت أعتقد أن فاينمان ربما يكون الأكثر عبقرية في القسم بأكمله، لذا تعاونا معا كثيرا.»
كانت الفرصة التي سنحت له للعمل مع بيته في لوس ألاموس حاسمة إلى أقصى حد. لقد أكمل كل منهما الآخر على نحو رائع، إذ تشاركا في حدس فيزيائي خارق للعادة، وقدرة تحمل ذهنية عالية، وقدرات حسابية فذة. غير أن بيته كان مختلفا تماما عن فاينمان، من عدة وجوه أخرى؛ كان هادئا ورزينا، وعلى العكس من فاينمان القابل للاستثارة، كان بيته «رابط الجأش». وقد انعكس هذا على أسلوب كل منهما في التعامل مع الرياضيات. كان بيته يبدأ الحسابات من البداية حتى يصل إلى النهاية، مهما طال الطريق بين البداية والنهاية ومهما كانت صعوبته. أما فاينمان فكان يبدأ من المنتصف أو حتى من النهاية، ثم يقفز عائدا تارة للوراء وتارة أخرى يتقدم للأمام إلى أن يقنع نفسه بأنه على صواب (أو خطأ). وفي جوانب أخرى كان بيته قدوة لفاينمان. لقد أحب فاينمان روح الدعابة التي يتمتع بها بيته، وسلوكه الرزين، وأسلوبه المباشر والأخوي في التعامل مع الآخرين. وفي حين ساعده ويلر في إطلاق حماسته وإبداعه، فإنه لم يكن بنفس براعة بيته في علم الفيزياء. ولو أراد فاينمان أن يرتقي لمستويات جديدة أعلى، فقد كان بحاجة لشخص يمكن أن ينافسه، وكان بيته هو الشخص المنشود.
بحلول الوقت الذي انتقل فيه بيته إلى لوس ألاموس، كان قد تمكن من الإجابة عن واحد من أهم التساؤلات المحيرة في علم الفيزياء الفلكية: كيف تتوهج الشمس؟ طوال ما يربو على قرن من الزمان ظل العلماء يتساءلون عن مصدر طاقة الشمس الذي يجعلها تشع ضياء منذ ما يزيد على 4 مليارات سنة. اقترح أول التقديرات، على لسان طبيب ألماني في أوائل القرن الثامن عشر، أنه لو كانت الشمس كرة هائلة الحجم من الفحم المشتعل، لظل في استطاعتها مواصلة الاشتعال وإطلاق ذلك القدر الذي نشاهده من الوهج لمدة تقارب 10 آلاف سنة، وهي فترة زمنية تصادف أنها تتفق مع بعض التقديرات التوراتية لعمر الكون. وفي وقت لاحق من نفس القرن، أعلن اثنان من الفيزيائيين المشاهير، وهما هينريتش هيلمهولتز ولورد كلفن، تقديراتهما التي تقول إن الشمس ربما كانت تشع بواسطة الطاقة المنطلقة أثناء عملية الانكماش بالجاذبية، وأن هذا المصدر يمكنه تغذية الشمس بالطاقة مدة قد تصل إلى 100 مليون سنة. غير أنه حتى هذا التقدير ظل أقل بكثير من أن يفسر العمر التقديري للمجموعة الشمسية، وهو عمر يقدر بمليارات السنين لا بمئات الملايين.
استمر هذا اللغز الغامض قائما طيلة عقد العشرينيات، عندما زعم عالم الفيزياء الفلكية البريطاني الشهير سير آرثر ستانلي إدنجتون أنه لا بد أن يكون هناك مصدر مجهول للطاقة يغذي باطن الشمس. كانت المشكلة أن نموذج حسابات عمر الشمس يفترض أن باطن الشمس لا تزيد درجة حرارته على 10 ملايين درجة مئوية، وهي بالطبع درجة حرارة شديدة الارتفاع لكنها ليست مرتفعة بما يكفي. وبعبارة أخرى فإن العمليات الفيزيائية المرتبطة بالطاقات المتوفرة عند درجات حرارة كتلك كان يعتقد أنها مفهومة جيدا، وما من مجال لفيزياء حديثة غريبة. ونتيجة لذلك، قوبل تصريح إدنجتون بالتشكيك، وهو ما أدى به إلى إطلاق عبارة التوبيخ الشهيرة التي قال فيها: «لأولئك الذين يعتقدون أن درجة الحرارة في مركز الشمس ليست مرتفعة بما فيه الكفاية لإحداث عملية فيزيائية جديدة أقول: اذهبوا وابحثوا عن مكان أكثر سخونة!»
بيته، الذي كان زميل دراسة لأعظم علماء الفيزياء النظرية في أوروبا، ومنهم أرنولد سومرفيلد وبول ديراك وإنريكو فيرمي، ثبت أقدامه بحلول أوائل الثلاثينيات ربما كأهم مرجعية في العالم في مجال الفيزياء النووية البازغ حديثا. وقد كتب مجموعة من المقالات النقدية الحاسمة في هذا الميدان، ودرسها فاينمان وهو طالب بالجامعة. ولو كان هناك شخص مؤهل لاكتشاف العملية الجديدة التي تتولد بها طاقة الشمس، لكان هذا الشخص هو بيته، وفي عام 1939 توصل لاكتشافه العظيم؛ لقد أدرك أن التفاعلات النووية المكتشفة حديثا (التي تشبه في جوهرها تلك التي استخدمت لاحقا في تصنيع القنبلة الانشطارية، لكنها بدلا من أن تكون قائمة على تحطيم أنوية ثقيلة كنواة اليورانيوم والبلوتونيوم، فإنها تقوم على عمليات اندماج لأنوية خفيفة كأنوية الهيدروجين لتتحول إلى أنوية أثقل) هي أساس إطلاق كميات مهولة من الطاقة . وإضافة إلى ذلك، أوضح بيته أن هناك سلسلة من التفاعلات تبدأ بالبروتونات، التي تشكل أنوية الهيدروجين، وتنتج في نهاية المطاف أنوية ثاني أخف عنصر بعد الهيدروجين، وهو الهيليوم، الذي يطلق طاقة تقدر بأكثر من 20 مليون ضعف الطاقة التي تطلقها تفاعلات كيميائية مشابهة بين أنوية الهيدروجين. وفي حين أنه عند درجة حرارة لا تزيد على 10 ملايين درجة مئوية ربما تستغرق نواة الهيدروجين في المتوسط أكثر من مليار سنة حتى تتعرض لتصادم قوي بما فيه الكفاية لبدء مثل هذا التفاعل، فإن أكثر من مائة ألف طن من الهيدروجين يمكنها أن تتحول إلى هيليوم كل ثانية، مولدة طاقة كافية لجعل الشمس تشع ضياءها الحالي لمدة تقترب من نحو 10 مليارات سنة.
وعن هذا الاكتشاف النظري المهم، منح بيته جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969، بعد أربع سنوات من تقاسم فاينمان الجائزة مع عالمين آخرين عن عمله في الديناميكا الكهربائية الكمية. وقد أعيد صياغة تفاعلات «الاندماج» النووي التي استخدمها بيته في تفسيره للتفاعلات التي تحدث داخل الشمس بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بأربع سنوات لتطوير «القنابل النووية الحرارية»، المعروفة باسم القنابل الهيدروجينية.
جند أوبنهايمر بيته في فريقه عام 1942 واختاره بحكمة ليرأس القسم النظري، الذي ضم أعظم العقول وأضخم الذوات التي ستقطن لوس ألاموس. لم يكن بيته مناظرا فكريا لهم فحسب، وإنما كانت قوة شخصيته الهادئة والمثابرة في آن واحد ضرورة أساسية للمعاونة على توجيههم وإخماد نيران الصراعات التي قد تنشأ بينهم، والأهم من هذا كله، تحمل سماتهم الشخصية الغريبة.
وجد بيته في فاينمان ضالته المنشودة لتمحيص وتنقية الأفكار، تماما مثلما وجد فاينمان في بيته المعلم الناصح المثالي الذي يساعده على توجيه خياله الخصب النشط. لم يضر أيا منهما أن كليهما يحب عمله. أحسن بيته في أنه سرعان ما أدرك موهبة فاينمان واتخذ ما بدا قرارا جريئا بتعيين الشاب البالغ أربعة وعشرين عاما فحسب قائدا لمجموعة علماء في قسم الفيزياء النظرية، متجاوزا بذلك زملاء أكبر منه سنا وأعظم حنكة. يتذكر ستيفان جرويف تفاعلاتهما معا قائلا: «كان في الإمكان سماع صوت ريتشارد فاينمان من طرف الممر النائي وهو يقول : «كلا، كلا، أنت مجنون!» وكان زملاؤه في القسم النظري بلوس ألاموس يرفعون أبصارهم عن أجهزة الكمبيوتر التي يعملون عليها ويتبادلون ابتسامات العالمين ببواطن الأمور. قال أحدهم: «ها هما يبدآن مجددا. البارجة وزورق الطوربيدات!»»
لم يكن من الصعب تخمين من منهما البارجة ومن الزورق. ومع ذلك، فبخلاف الضحك المشترك الصادر من القلب والتبارز الفكري، كان الأمر الذي ترك أكثر الانطباعات استدامة لدى ذلك الشاب الذي كان لا يزال في سن التأثر والانبهار هو إصرار بيته على ربط كل عملية حسابية نظرية برقم ما، أي كمية يمكن مقارنتها بنتائج التجارب العملية. ومهما قيل عن ذلك فإننا لن نتمكن من وصف عمق تأثير هذه السمة على كل ما قام به فاينمان بعد ذلك في حياته كعالم. وقد عبر هو نفسه عن الأمر فيما بعد بقوله: «كانت لبيته سمة تعلمتها منه، وهي أن تحسب الأرقام. فإذا كانت أمامك مشكلة ما، فإن الاختبار الحقيقي لكل شيء - والذي لا يمكنك التغاضي عنه - هو أن تستخلص الأرقام؛ فإذا لم تستطع تمثيل فكرك على أرض الواقع، فهو إذن غير ذي أهمية. لذا كان توجهه دائما هو استخدام النظرية. وهذا الاستخدام يتحقق من خلال تطبيق النظرية عمليا.»
كانت قائمة الأنشطة التي أنجزها فاينمان أثناء فترة عمله تحت قيادة بيته في لوس ألاموس مدهشة بحق، ويكفي تنوع هذه الأنشطة. لقد بدأ بأن ابتكر بسرعة طريقة لحساب تكامل عددي (أو إيجاد حاصل جمع) لما يسمى المعادلات التفاضلية من الدرجة الثالثة، التي تحتوي على مشتقات من مشتقات من مشتقات. وتبين أن طريقته تلك أكثر دقة مما يمكن للمرء أن يفعله بمعادلات أبسط منها من الدرجة الثانية. وفي غضون شهر تال، توصل فاينمان وبيته لمعادلتهما لحساب كفاءة السلاح النووي.
ثم انتقل بعد ذلك لمشكلة كانت أكثر صعوبة من الناحية النظرية، وهي حساب انتشار النيوترونات السريعة التي تستحث عمليات الانشطار داخل القنبلة الذرية المصنوعة من اليورانيوم 235. وابتكر من أجل حل هذه المشكلة أسلوبا كان شديد الشبه من الناحية الرياضية بالصياغة التي سيصنعها في نهاية المطاف من أجل التعامل مع الديناميكا الكهربائية الكمية.
خلال المراحل الأخيرة من صنع القنبلة، أصبح فاينمان مسئولا عن العمليات الحسابية، ومشرفا في النهاية على جميع الجوانب الحسابية لتصنيع قنبلة بلوتونيوم ناجحة، التي اقترح جون فون نويمان أنه يمكن تفجيرها بواسطة تفجير داخلي هائل يعمل على زيادة كثافة المادة وجعل الكتلة المستقرة في الأحوال العادية تصبح كتلة حرجة. وكان أول انفجار نووي من صنع الإنسان - حدث في الصحراء قبل شروق الشمس بلحظات يوم 16 يوليو 1945، وأعطي الاسم الكودي «ترينيتي» - ناجحا إلى حد بعيد بسبب القيادة الحسابية لفاينمان في تلك الشهور الأخيرة الحرجة.
اشتمل عمل فاينمان على استخدام، بل حتى تجميع، جيل جديد من الآلات الحاسبة الكهروميكانيكية لأداء الحسابات المعقدة للنماذج الضرورية لتصميم الاختراع الجديد، وهو الأمر الذي مثل تحديا لنبوغ فاينمان الميكانيكي والرياضي معا. وصف بيته ذلك لاحقا بقوله:
كان بمقدور فاينمان عمل أي شيء، أي شيء على الإطلاق. فذات مرة، كانت أهم مجموعة في قسمنا مشغولة بالآلات الحاسبة ... وكان الرجلان اللذان جعلتهما مسئولين عن تلك الحاسبات يكتفيان باللهو بها، ولم يقدما لنا أبدا الحلول التي أردناها ... فطلبت من فاينمان تولي مسئولية ذلك. وبمجرد وصوله إلى هناك، صرنا نحصل على الحلول كل أسبوع؛ الكثير من الحلول بالغة الدقة. كان يعلم دوما ما المطلوب، وكان يعلم دائما ما يجب عمله لتحقيقه ... (وجدير بي أن أذكر أن أجهزة الكمبيوتر وصلت إلينا في صناديق؛ كل منها فيما يقرب من عشرة صناديق. وجمع فاينمان ومعه واحد من قادة المجموعات السابقين الأجهزة ... وفيما بعد زارنا واحد من فنيي شركة آي بي إم المتخصصين فقال: «لم يحدث هذا أبدا من قبل، لم أر من قبل رجلا غير متخصص يجمع أجزاء هذه الآلات، وهو عمل بالغ الإتقان!»)
وجاء أفضل وصف لإسهام فاينمان في تصنيع القنبلة بنجاح وهو يستغل مواهبه الفطرية وينضج كفيزيائي على لسان الفيزيائي والمؤرخ العلمي سيلفان شويبر حين قال: «كان تنوع قدراته أسطوريا. وأكسبته عبقريته - في تشخيص وإصلاح أعطال حاسبات مارشانت ومونرو، وتجميع آلات آي بي إم ، وحل الألغاز والمسائل الفيزيائية العويصة، واقتراحاته باتباع مناهج حسابية مبتكرة، وشرحه للنظريات للقائمين بالتجارب وشرح التجارب للعلماء النظريين - إعجاب جميع من تعاملوا معه.»
كانت مواهب فاينمان وطاقاته في لوس ألاموس مستمدة من سمة معينة وصفها صديقه وزميله القديم في الكلية تيد ويلتون، الذي انضم إليهم فيما بعد في لوس ألاموس، بقوله: «ما إن تقابله أحجية فيزيائية صيغت بوضوح، أو نتيجة رياضية ما، أو حيلة من حيل الورق، أو أي شيء كان، فلا ينام [فاينمان] قبل أن يجد لها حلا.» واتفق شويبر معه في الرأي قائلا إن هذا التعليق يصف بالضبط جوهر شخصية فاينمان، الذي «تسيطر عليه حاجة ملحة «لحل» كل ما يمثل «سرا غامضا».»
كانت إنجازات فاينمان أكثر إبهارا إذا وضعنا في اعتبارنا أنه في خضم كل ذلك، كانت زوجته ترقد بين الحياة والموت في مستشفى ألباكيركي. كان عليه القيام برحلة أسبوعية لمسافة 200 ميل جيئة وذهابا كي يزورها، سواء باستعارة سيارة أو بإيقاف السيارات والسفر متطفلا. وكانت مراسلاته لها تزداد كلما تفاقمت أعراض مرضها وازدادت حالتها الصحية سوءا، وأصبحت تلك المراسلات يومية قرب النهاية. كان حبهما المتبادل، ورقة مشاعره والقلق الذي عبر عنه في كتاباته متجليا بوضوح ومؤلما لمن يقرؤه.
خلال الشهور الأربعة التي سبقت وفاة آرلين في السادس عشر من يونيو 1945 - أي قبل إلقاء القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما بستة أسابيع - كتب ريتشارد فاينمان اثنين وثلاثين خطابا لآرلين. كان يكتب للأطباء محاولا استكشاف طرق علاج جديدة للسل ومتوسلا لذلك، ثم نقلها إلى موقع لوس ألاموس ليكونا قريبين، إلى أن تسبب عدم شعورها بالارتياح من أسلوب تعامل أطقم تمريض الجيش، واللوائح، وترتيبات الإقامة في جعل ريتشارد يعيدها من جديد إلى ألباكيركي، على الرغم من شكوكه ومخاوفه. كتب يحكي لها عن مشاعر الندم التي أحس بها عندما شرب حتى الثمالة يوم عيد نصر الحلفاء في أوروبا، وعن خوفهما المشترك من احتمال أن تكون حاملا، وعن الطرود البريدية الآتية من موطنهما ، وعن مقاومة حريق بالغابة، وعن حظر اقتراب الرجال من سكن البنات (ومازحها بأنه لم يذهب إلى سكن البنات منذ أكثر من عام)، لكن أكثر ما كتب عنه هو حبه لها. واختتم آخر خطاب كتبه لها، في السادس من يونيو، كما يلي:
سآتي هذا الأسبوع، وإذا لم تريدي رؤيتي فما عليك إلا أن تخبري الممرضة. سوف أتفهم يا عزيزتي، سوف أتفهم. سوف أتفهم كل شيء لأنني أعلم الآن أنك في شدة المرض بحيث لا تستطيعين أن تشرحي لي أي شيء. ولست بحاجة لأي شرح أو تفسير. أحبك، أعشقك، وسوف أخدمك دون أن أسأل، وإنما بتفهم ... إنني أعشق امرأة عظيمة وصبورة. سامحيني على بطئي في الفهم. أنا زوجك. أحبك.
في هذه الأثناء، وخلال تلك الفترة العصيبة، كان هو وباقي العلماء بلوس ألاموس يمضون قدما بإيقاع مسعور نحو صنع قنبلة من شأنها أن تغير تاريخ العالم إلى الأبد. كانت المشاعر متقدة، وربما كان هذا ما جعلهم يواصلون العمل. فعندما لحقت الهزيمة بألمانيا، لم يبد أن أحدا طرح هذا السؤال: لماذا نصنع هذه القنبلة؟ كان الجميع يتمنون مشاهدة ثمرة عنائهم تخرج إلى النور، لتنهي الحرب في المحيط الهادي.
من وجهة نظر إنسان مثلي، شب عن الطوق في حقبة اتسمت بالازدهار العلمي والبيروقراطية الشديدة، تعد الشدة والسرعة الكبيرتان اللتان مضى بهما مشروع مانهاتن أمرا يكاد يكون غير مفهوم. كان الوقت الذي مضى منذ كانت القنبلة مجرد تصور نظري حتى إتمام تجربة ترينيتي أقل من خمس سنوات! وكان الوقت الذي مضى منذ تعيين فاينمان وآخرين في المشروع أقل من ثلاث سنوات! أنجزت أبرع العقول في علم الفيزياء، التي كان حافزها في البداية الاعتقاد بأن العدو (ألمانيا) كان هو الآخر بصدد صنع سلاح نووي، في ثلاثة أعوام ما قد يستغرق في زماننا الحالي فترة لا تقل عن عقد أو عقدين من الزمن. إن مشروع فصل النظير المشع، وهو المشروع الهائل الذي أنجز في مختبر أوك ريدج بتنيسي وحده والذي ضاعف بنسبة تزيد على مليون مرة إجمالي كمية اليورانيوم 235 في العالم خلال تلك السنوات الثلاث - في ظل ظروف بالغة الخطورة أرسل فاينمان عام 1945 لمحاولة تصحيحها - من شأنه أن يستغرق في زمننا الحالي وقتا لا يقل عن تلك المدة لمجرد إخلاء البيئة المحيطة قبل السماح له بالبدء.
كان فاينمان يتعجل ليكون إلى جوار آرلين في ساعاتها الأخيرة يوم 16 يونيو، لكن بعد أن توفيت، أدرك أنه لم يعد بيده ما يمكنه فعله، فجمع متعلقاتها، ورتب لإقامة الشعائر الجنائزية فورا، وعاد، محطما، إلى لوس ألاموس على نحو مثير للدهشة ليواصل عمله في المساء التالي. لم يوافق بيته على ذلك وأمره بالعودة إلى منزله بلونج أيلاند كي يحصل على قسط من الراحة. لم تكن أسرته قد أخطرت مسبقا بوصوله، وبقي معهم إلى أن تلقى برقية مشفرة بعدها بحوالي شهر تستدعيه للعودة من جديد إلى نيو مكسيكو. عاد في الخامس عشر من يوليو، وأرسلت إليه سيارة لتحمله إلى منزل بيته كي يتناول شطائر أعدتها له السيدة روز، زوجة بيته، ثم استقل حافلة إلى موقع صحراوي مقفر يسمى «خورنادا دل مويرتو»، حيث انضم إلى زملائه لمشاهدة اختبار القنبلة التي وصلوا الأيام بالليالي طيلة السنوات الثلاث الأخيرة عاكفين على تصميمها وصنعها؛ القنبلة التي ستغير شكل العالم إلى الأبد.
كل من شاهد الانفجار شعر بالرهبة، لكن بصور متباينة. فالبعض، مثل أوبنهايمر، تذكر الشعر، وكان ما تذكره في تلك اللحظة فقرة غامضة من شعر باجافاد جيتا تقول: «الآن صرت الموت، مدمر العوالم.» أما فاينمان، الذي استطاع تجنب الخرافات لحظة وفاة زوجته، والعاطفية بعدها مباشرة، فقد حافظ على رباطة جأشه وتماسكه. أخذ يفكر في العمليات التي كونت تلك السحب التي أحاطت بموجة الانفجار، والعمليات التي جعلت الجو يتألق بالضياء أثناء تأينه نتيجة لحرارة الانفجار، وبعدها بمائة ثانية، عند وصول صوت الانفجار المدوي أخيرا إلى منصة المراقبة، كان يبتسم. فقد أثبتت الطبيعة صحة الحسابات التي بذل فيها جهدا مضنيا.
الفصل السابع
مسارات نحو العظمة
هناك متعة في فهم الأشياء القديمة من وجهة نظر جديدة.
ريتشارد فاينمان
كانت تلك أجمل الأوقات، وفي الوقت نفسه أكثرها مرارة. رحل ريتشارد فاينمان عن لوس ألاموس في أكتوبر من عام 1945 نجما جديدا لامعا في مجتمع الفيزياء. كان أوبنهايمر قد حاول سابقا في عام 1943 إقناع رئيس قسم الفيزياء بجامعة كاليفورنيا ببيركلي أن يعرض عليه وظيفة، قائلا له: «إنه بلا أدنى شك أكثر الفيزيائيين الشبان نبوغا هنا ... إن تميزه معروف جيدا، سواء في برينستون ... أو لعدد لا يستهان به من «كبار العلماء» العاملين في هذا المشروع، وقد عرض عليه بالفعل وظيفة لفترة ما بعد الحرب، ومن المؤكد أنه ستعرض عليه غيرها.» كان أوبنهايمر يقصد عرضا جاء من بيته الفطن دائما، الذي كان بحلول نوفمبر عام 1943 رتب لعرض أكاديمي لفاينمان للعمل في جامعة كورنيل، بحيث يعتبر فاينمان في إجازة رسمية من كورنيل أثناء وجوده في لوس ألاموس. وتباطأ رئيس جامعة بيركلي الرصين في تقديم العرض حتى صيف 1945، قائلا لفاينمان: «لم يسبق لأحد أن رفض وظيفة عرضناها عليه.» ولكن فاينمان رفض العرض. لقد عرف بيته وأحبه، وكان الأخير يكون مجموعة ممتازة في كورنيل. علاوة على ذلك، استطاع بيته أن يجعل عرض جامعة كورنيل منافسا لعرض بيركلي وبراتب أعلى، وهكذا غادر فاينمان لوس ألاموس في الخريف، واتجه إلى كورنيل ليكون أول من غادر الموقع من قادة المجموعات.
كان تنبؤ أوبنهايمر صائبا، كما كان الحال في أغلب الأحيان. وفي خلال عام واحد، تلقى فاينمان مزيدا من العروض بوظائف ثابتة بمعهد الدراسة المتقدمة، وجامعة برينستون، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وقد رفضها جميعا حتى يتمكن من الاستمرار ضمن مجموعة بيته. وتسببت تلك العروض في ترقيته بكورنيل من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك.
كان من الطبيعي أن ترفع كل هذه الموافقات والعروض من معنويات فاينمان. إلا أنه على الرغم من ذلك كان منهكا، متشائما، ومكتئبا. فعلى الرغم من أن وفاة زوجته كانت أمرا متوقعا، فإنها كانت صدمة مروعة له. لقد كانت آرلين طوق النجاة له في الحياة. وما ضاعف من شعوره بالاكتئاب في أعقاب وفاتها إحساس غريب بالغربة والضياع اجتاحه لدى معرفته أنه قد صار في الإمكان صنع الأسلحة النووية، وأن الولايات المتحدة لن تظل طويلا المحتكرة الوحيدة لها. فعلى سبيل المثال، تذكر فاينمان في وقت لاحق أنه كان مع والدته في نيويورك بعد الحرب مباشرة وفكر في عدد من يمكن أن يقتلوا لو أن قنبلة ألقيت على المدينة.
وعند هذا الحد، بدا التأمل في المستقبل بلا معنى لأنه شعر بأنه لا يوجد مستقبل. وعلى غرار أينشتاين، الذي قال ذات مرة: «كل شيء تغير، إلا طريقة تفكيرنا.» رأى فاينمان أنه لم يحدث أي تغيير في العلاقات الدولية بعد الحرب، وكان على يقين من أن الأسلحة النووية سوف تستخدم مرة أخرى في القريب العاجل. وعلى حد قوله: «ما يمكن لأحد الحمقى أن يفعله، يستطيع أحمق آخر فعله أيضا.» وكان يعتقد أنه من السخف بناء الجسور التي سرعان ما ستتعرض للتدمير. لهذا أيضا، لا بد أنه قال لنفسه، ما الداعي لمحاولة التوصل إلى فهم جديد للطبيعة؟
بالإضافة لكل هذا كان لديه فتور طبيعي ورغبة في الاسترخاء بعد ذلك الإيقاع اللاهث والضغط الشديد الذي تعرض له أثناء المشاركة في مشروع ضخم هائل كمشروع مانهاتن: التحدي الذهني، والاستراحات القصيرة السريعة، والعمل الجماعي ... كل هذا تغير عندما انتقل إلى كورنيل. وبعد سنوات الحرب عالية الإنتاجية، التي كان لا بد خلالها من إيجاد حلول عاجلة لمشكلات حقيقية، وإخضاع النتائج لاختبارات عملية في وقت قصير، لا بد أن العودة إلى التأمل مليا في قضايا يحدث التقدم فيها بإيقاع أبطأ وأكثر تشتتا على نحو حتمي كانت أكثر صعوبة على فاينمان.
ربما كانت المشكلات التي ارتبطت بمشروع القنبلة الذرية مليئة بالتحديات الرياضية، غير أنها اشتملت بصورة أساسية على فيزياء أو هندسة مفهومة جيدا. ومن هذا المنطلق كانوا أشبه بمن يحل المسائل في قاعة الدرس - فكلاهما محدد جيدا وميسور - باستثناء أن المخاطر أكبر بكثير والضغوط أشد. أما المشكلات التي كان فاينمان بصدد العودة إليها فقد تضمنت أسئلة عميقة عن المبادئ، حيث لا أحد يعلم أين الاتجاه الصحيح. فمن الممكن أن يعمل لسنوات دون تحقيق تقدم واضح. وهذا النوع من الأبحاث يمكن أن يكون محبطا حتى في أفضل الظروف.
اجتمع مع هذا قلقه بشأن إضاعة ثلاث سنوات من عمره كان يمكن أن يعمل فيها على حل تلك المشكلات، وقلقه من أن العالم كان يتجاوزه. كان جوليان شفينجر، الذي التقاه لأول مرة في لوس ألاموس بعد اختبار ترينيتي بفترة قصيرة، والذي تقاسم معه لاحقا جائزة نوبل، في نفس عمر فاينمان، أي في السابعة والعشرين، غير أن شفينجر كان اسمه قد ارتبط بالفعل باكتشافات في مجال الفيزياء (وفي غضون عامين كان سيحصل على الأستاذية الكاملة في هارفارد)، في حين شعر فاينمان أنه ليس لديه ما يعرضه على الرغم من كل الجهود التي بذلها.
وأخيرا، كانت هناك صدمة البدء بغتة في مجال وظيفي جديد كأستاذ جامعي. فبعد تركيز الاهتمام على المشكلات البحثية، سواء أكانت عميقة أم غير ذلك، فإن وابل التفصيلات الدقيقة الذي يتعرض له المدرسون الجدد، والذي لا يكونون مستعدين له على الإطلاق تقريبا، يمكن أن يكون معوقا على أقل تقدير. وصل فاينمان إلى كورنيل مبكرا عن زملائه الآخرين، ولم يصل بيته إلا في شهر ديسمبر، وبهذا لم يكن موجودا ليؤدي دور الناصح لفاينمان خلال المرحلة الانتقالية لوظيفته الجديدة.
إن التدريس يستغرق وقتا أطول بكثير مما يتوقع المرء، وكون المرء مدرسا ناجحا - كما كان فاينمان فيما يبدو في علوم الفيزياء الرياضية والكهربية والمغناطيسية - يمكن أن يخلق شعورا سلبيا تجاه الحالة البحثية للمرء. قال أينشتاين ذات مرة إن التدريس أمر طيب لأنه يمنح الإنسان كل يوم وهما مفاده أنه أنجز شيئا ما. فمن الممكن أن تحقق المحاضرة الجيدة إشباعا فوريا، في حين أن البحث العلمي الواحد قد يستمر شهورا دون إحراز أي تقدم.
وفوق كل ذلك، فإن والد فاينمان - وهو الرجل الذي كان أول من شجعه على حل الألغاز وحثه على الاستمتاع بطرح الأسئلة عن كل ما يتصل بالطبيعة، والذي كان مشغولا للغاية بشأن مستقبل ولده، والذي كتب له خطابا أخيرا مليئا بالفخر والزهو بعد تعيينه في كورنيل - توفي فجأة جراء إصابته بسكتة دماغية بعد عام واحد من رحيل آرلين في توقيت كان فاينمان خلاله في ذروة الاكتئاب. كان فخر أبيه به مدعاة لتفاقم مخاوفه بشأن ما سيحققه من إنجازات. لقد انتبه إلى أن آخر بحث منشور له كان ذلك البحث الذي كتبه أثناء دراسته الجامعية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مما جعله يشعر بأنه قد استنزف، إذ شعر أن أفضل سنين عمره قد ولت وهو بعد في تلك السن المبكرة، في الثامنة والعشرين من عمره. هذا التفكير جعل العروض الوظيفية الجذابة التي يسيل لها لعاب أي شخص والتي انهالت عليه تبدو في نظره أسوأ، كما لو كان لا يستحق هذا التزلف، وأنه لم يعد بمقدوره إنجاز أي شيء مهم.
قد يكون من المثبط جدا للمعنويات أن يراك العالم بصورة مختلفة عن الصورة التي ترى نفسك بها. أذكر مرة أخرى من واقع تجربتي الشخصية كيف أنني - بعد أن نلت الزمالة التي طالما حلمت بها من جامعة هارفارد - لم أستطع التركيز في عملي لأكثر من ثلاثة شهور لأنه بعد خمس سنوات من الحياة في نفس المدينة كطالب دراسات عليا مغمور لا يعرفه أحد، كان الانتقال إلى مكانة جديدة كفيلا بأن يجعلني أشعر على أفضل تقدير بعدم الجدارة. وعندما تلقى فاينمان عرضين في آن واحد من برينستون ومن معهد الدراسة المتقدمة، كان رده: «لقد كانوا مجانين بحق.»
ينسب فاينمان إلى عدد من الأمور الفضل في إخراجه من أزمته، ومن بينها حوار مع روبرت ويلسون، الذي انتقل إلى كورنيل مديرا لمعملها الجديد للدراسات النووية. طلب منه ويلسون أن يكف عن القلق، وقال إنه لا ينبغي أن يشعر بأي ضغوط، فتعيين كورنيل له مسئوليتهم هم لا مسئوليته. وذكر فاينمان لاحقا قصة شهيرة ذكرته بالسبب وراء استمتاعه بدراسة الفيزياء: لقد شاهد طبقا يلقى في الكافيتريا يرتعش بطريقة غريبة مرة كل دورتين، فقرر معرفة سبب حركته على هذا النحو، بغرض اللهو.
ولعل أكثر ما أسهم في شفائه من تلك الحالة كان مرور الوقت ، والحاجة إلى التغلب على أحزانه لوفاة زوجته ووالده، والحاجة للتصالح مع أمه، التي كانت معارضتها لزواجه من آرلين سببا في ابتعادها إلى حد ما عن ولدها، ثم أخيرا الحاجة لاستعادة إيقاع الفيزياء كما عرفه قبل الحرب. لم يكن من الممكن طمس شخصيته، المشعة حماسا وثقة بالنفس، وعقليته - التي انصب اهتمامها على المغامرة الكبرى المتمثلة في حل ألغاز الطبيعة - إلى الأبد. (وقد علق بيته لاحقا، عندما علم باكتئاب فاينمان، الذي لم يكن ظاهرا للآخرين في كورنيل، بقوله: «إن فاينمان وهو مكتئب يكون أكثر بشاشة إلى حد ما من أي شخص آخر عندما يكون مبتهجا.») •••
خلال سنوات الحرب، لم يكف فاينمان تماما عن التفكير في مشكلات الفيزياء. لقد كان يحمل معه في كل مكان مجموعة من قصاصات الورق المليئة بالحسابات، التي كثيرا ما كان يجريها أثناء رحلاته الأسبوعية لزيارة آرلين، وفيها كان يعود لطرح سؤاله عن كيفية صياغة نظرية كمية حقيقية للكهرومغناطيسية. انصب تركيزه في المقام الأول على كيفية دمج نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين في معادلاته بصورة صحيحة.
تذكر أنه عرف، وهو بعد طالب في الجامعة، أنه ما من أحد غير بول ديراك اكتشف الطريقة السليمة لوصف الحركة النسبية للإلكترونات، وأن بحث ديراك عن صياغة لاجرانج لميكانيكا الكم كان هو الملهم للعمل الذي أدى لأطروحة فاينمان العلمية. كانت المشكلة تكمن في أنه على الرغم من أن طريقة «حاصل جمع المسارات» التي ابتكرها يمكنها على نحو كامل إنتاج معادلة شرودينجر، وهي معادلة ملائمة لميكانيكا الكم في إطار خارج النسبية، فإن فاينمان لم يتمكن من إيجاد وسيلة للتوسع فيها بسهولة بحيث تنتج معادلة ديراك في سياق النسبية. لقد اكتشف أنه عندما حسب مجموع الطاقات ظل يحصل على إجابات لا معنى لها، من بينها الجذور التربيعية لأرقام سالبة، وعلاوة على ذلك، عندما حاول حساب الاحتمالات، كان جمع احتمالات جميع الأحداث لا ينتج حاصلا مقداره 100 بالمائة.
بعد انتهاء الحرب، ومع بداية عودته لتلك المسائل، ركز اهتمامه في البداية على ما كان من المفترض أن يمثل مهمة أكثر يسرا: كتابة نتائج رسالة الدكتوراه التي بدأها عام 1942، والتي لم تنشر رسميا بعد. وهنا بدأت سمة أخرى من سمات شخصية فاينمان في البروز بوضوح. لم يجد سهولة في كتابة بحثه وإعداده للنشر. لم تكن لديه مشكلة في كتابة النتائج بشكل عفوي لاستخدامه الشخصي أو بحيث يفهمها هو - ففي حقيقة الأمر، لقد فعل ذلك في العديد من المناسبات بانضباط عظيم - ولكن الكتابة من أجل النشر تتطلب صياغة تعليمية رسمية لا يحتاج فيها لاستعراض تاريخ كيفية اكتشاف الأشياء وإنما يحتاج لتحليل متدرج مترابط منطقيا للنتائج النهائية باستخدام لغة وعلاقات يرتاح إليها باقي الوسط العلمي.
علاوة على ذلك، كانت هناك قضية أخرى تتمثل في الدقة. فعندما كان فاينمان يعمل على مشكلات تخصه هو، كان يتوصل للحلول بديهيا في الغالب، ثم كان في استطاعته بعد ذلك مراجعتها للتأكد من أنه كان على صواب بتجربة العديد من الأمثلة المحددة. لم يكن يتبع أي تسلسل منطقي واضح، غير أنه كان يدرك أن هذا هو المطلوب من أجل نشر المقالات. تطلبت ترجمة نتائجه جهدا هائلا؛ كان هذا أشق عليه من خلع ضرس.
ظهر عمله للنور أخيرا عام 1947 في دورية ريفيوز أوف مودرن فيزيكس بعد أن رفضت نشره دورية بحثية أكثر التزاما بالنهج التقليدي في نشر البحوث وهي «فيزيكال ريفيو». غير أنه ربما ما كان لينشر في تلك الدورية ذلك العام لو لم يكن صديقاه بيرت ومليكة كوربن - اللذان كان في زيارة لهما في صيف عام 1947 - قد أرغماه على كتابة البحث أثناء إقامته عندهما. وصف بيرت الأمر ببساطة بهذه الكلمات: «لقد حبسنا ديك فعليا في غرفة وأمرناه ببدء الكتابة.» وأدخلت السنون على تلك القصة المزيد من التفاصيل، وعندما رواها الفيزيائي فريمان دايسون - الذي قال هو نفسه عن فاينمان: «كان الأمر يتطلب إجراءات متطرفة لإقناعه بكتابة أي شيء!» - في مذكراته كان محورها عندئذ مليكة وكانت القصة أكثر تطرفا: «لقد استضافت فاينمان في منزلها، وحبسته بكل بساطة داخل غرفة ورفضت أن تطلق سراحه حتى يكتب البحث. بل أعتقد أنها رفضت إطعامه إلا بعد أن يكتبه.»
أيا كان ما حدث بالفعل ، فإن إعادة صياغة رسالته من جديد لم تتح له إنعاش أفكاره القديمة فحسب، وإنما كذلك التوسع فيها بحيث بدأت صياغته لميكانيكا الكم تبدو مرئية أكثر. بدأ «يفكر» من منظور المسارات. والحقيقة أن فاينمان في مقاله هذا يصف بشكل صريح ولأول مرة ميكانيكا الكم بهذه اللغة الجديدة؛ من منظور «حاصل جمع المسارات». وقد قال عن ذلك لاحقا: «جاء الوضوح من خلال كتابة مقال دورية ريفيوز أوف مودرن فيزيكس ... أمكنني حينها رؤية المسار ... وكان لكل مسار نطاق.» وبهذا البحث أتم فاينمان إعادة صياغته لفهمنا لميكانيكا الكم. ولسوف تتطلب الأهمية الحقيقية لإعادة الصياغة - وإدراك أنه عند مستوى عميق معين قد لا يتوقف الأمر عند كونها صورا أكثر جوهرية من الصور التقليدية وإنما أعظم قوة بكثير منها أيضا - بعض الوقت ليترسخ فهمها، سواء من فاينمان أو من باقي أعضاء مجتمع الفيزياء. •••
بعد أن تحرر من هذا العبء، عاد فاينمان إلى مهمة محاولة صياغة نظرية كمية نسبية للكهرومغناطيسية. وقد تناول هذه المسألة مثلما تعامل مع كل المشكلات المشابهة، باستكشاف كل طريقة ممكنة لتصويرها. وحسبما وصف في خطاب كتبه إلى تيد ويلتون، قال: «يحدوني الأمل في أن يعمل تعديل طفيف في واحدة من الصور على حل بعض المشكلات الحالية ... صحيح أننا لسنا بحاجة إلا لإجراء الحسابات، لكن من المؤكد أن الصورة وسيلة مريحة، ولا يقترف المرء إثما بتشكيل صورة.»
ولكي نفهم طبيعة الصور التي كان يلهو بها، نحتاج أولا لاستكشاف قدر بسيط من التعقيد الكبير الجديد الذي أدخله ديراك على ميكانيكا الكم عندما اكتشف معادلته الشهيرة حول الخصائص النسبية لجسيمات مثل الإلكترونات. كما أوضحت من قبل، تمتلك الإلكترونات خاصية تسمى «اللف المغزلي» لأنها تحمل داخلها «زخما زاويا» ذاتيا، وهي الخاصية التي تمتلكها الأجسام العادية عندما تدور في حركة مغزلية. على نحو تقليدي، لا يوجد هذا المفهوم مطلقا على مستوى الجسيم النقطي، الذي لا يمكنه أن يسلك سلوكا يبدو معه وكأنه يتحرك حركة مغزلية لأنه لا يوجد له «مركز» (أي نقطة أخرى) يدور حوله. فلكي يكون لها زخم زاوي، مثل عجلة الدراجة الدوارة، يجب أن يكون للأجسام العادية امتداد مكاني.
هذا الدوران الغريب، أو الزخم الزاوي، الذي يجري «تكميمه» - شأنه شأن كل شيء آخر في ميكانيكا الكم - (أي إنه يوجد على صورة مضاعفات تكاملية لأصغر وحدة)، يلعب دورا محوريا، ليس في سلوك الإلكترونات وحدها وإنما في سلوك كل صور المادة في واقع الأمر. الإلكترونات التي تدور في مدارات حول الأنوية داخل الذرات، على سبيل المثال، تمتلك زخما زاويا، مثلها مثل الكواكب التي تدور حول الشمس، لكن القيم تكون مكممة، كما أوضح نيلز بور وكان أول من بين ذلك. ثم يتضح أن الزخم الزاوي الذاتي للإلكترونات يحمل قيمة تساوي نصف أصغر وحدة للزخم الزاوي المداري، لذا نسميها جسيمات اللف المغزلي 1 / 2.
تفسر لنا هذه الخاصية في نهاية المطاف السبب الذي يجعل الأجسام الصلبة موجودة وتتصرف على النحو الذي تسلكه. كان عالم الفيزياء النظرية السويسري العظيم فولفجانج باولي، قد أوضح من قبل أن الخصائص الذرية يمكن فهمها إذا افترضنا وجود ما سماه «مبدأ استبعاد» على النحو الآتي: الإلكترونات، أو أي جسيم آخر من جسيمات اللف المغزلي 1 / 2 (البروتونات والنيوترونات أيضا تنتمي لهذه الجسيمات)، لا يمكنها أن توجد في ذات الحالة الميكانيكية الكمية في نفس المكان وفي نفس الزمن.
من ثم، لا يمكن لإلكترونين يدوران داخل ذرة هيليوم، على سبيل المثال، أن يوجدا على نحو طبيعي في نفس المدار تماما. لكن يمكنهما ذلك إذا كانا يدوران في اتجاهين مختلفين تماما بحيث لا يكونان في حالتين متطابقتين من حيث ميكانيكا الكم في هذا المدار. وإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى ثاني أخف عنصر بعد الهيليوم، وهو الليثيوم الذي تدور حول نواته ثلاثة إلكترونات، فسنجد أنه لا يوجد خيار للإلكترون الثالث، الذي ينبغي عليه حينئذ الدوران حول النواة في مدار مختلف، وهو مدار يفترض أنه ذو طاقة أعلى. إن علم الكيمياء كله يمكن فهمه في ضوء تطبيق هذه القاعدة البسيطة للتنبؤ بمستويات طاقة الإلكترونات في الذرات.
بالمثل، إذا قربنا ذرتين متماثلتين تماما إحداهما من الأخرى، فلن يكون هناك تنافر كهربي بين الإلكترونات ذات الشحنة السالبة في إحداهما وبين نظيراتها في الذرة الأخرى فحسب، بل يخبرنا مبدأ الاستبعاد لباولي أنه سيكون هناك أيضا تنافر إضافي لأنه لا يمكن أن يوجد إلكترونان في نفس الحيز في نفس الحالة الكمية. وهكذا فإن إلكترونات إحدى الذرات تدفع بعيدا عن إلكترونات الذرات المجاورة حتى لا تتداخل معا في نفس الموضع في نفس المدار. وتجتمع هاتان الظاهرتان الناجمتان عن مبدأ الاستبعاد لباولي لتحددا الخصائص الميكانيكية لجميع المواد التي تشكل العالم الذي نعرفه.
بعد ذلك بحث الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي في إحصائيات نظم العديد من الجسيمات المتطابقة ذات اللف المغزلي 1 / 2 مثل الإلكترونات، وأوضح أن مبدأ الاستبعاد يحكم بقوة سلوك العديد من حالات الجسيمات تلك. ونحن الآن نسمي جميع تلك الجسيمات ذات اللف المغزلي 1 / 2، و3 / 2، وغيرها «فيرميونات»، نسبة إلى فيرمي. أما الجسيمات الأخرى ذات قيم الدوران الكاملة، ومن بينها الفوتونات - كميات المجالات الكهرومغناطيسية ذات اللف المغزلي 1 - وكذلك الجسيمات التي لا توجد لها قيمة لف مغزلي على الإطلاق، فتسمى الآن «بوزونات»، نسبة إلى عالم الفيزياء الهندي ساتيندرا بوز، الذي وصف، هو وألبرت أينشتاين، السلوك الجمعي لتلك الجسيمات. •••
عن طريق «اللهو» - على حد تعبيره فيما بعد في الوصف الرياضي لجسيمات اللف المغزلي 1 / 2 - تمكن ديراك عام 1928 من اشتقاق معادلة تصف الإلكترونات، ويمكنها أن تفسر دورانها، وتحقق متطلبات السرعات النسبية وفقا لنظرية النسبية لأينشتاين. كان هذا إنجازا رائعا، كما كان بمنزلة نبوءة أكثر روعة؛ في الحقيقة، نبوءة من الروعة بحيث إن ديراك، ومعظم كبار العلماء الآخرين، لم يصدقوها. لقد تنبأت النظرية بأنه بالإضافة للإلكترونات، ينبغي أن توجد جسيمات مثل الإلكترونات تماما تمثل حلول طاقة سالبة للمعادلات. غير أنه لما كانت الطاقة السالبة تبدو غير مادية - إذ إن معادلات أينشتاين تربط دائما بين الطاقة الموجبة والكتلة - فإن تلك الجسيمات يجب فهمها بصورة مختلفة قليلا.
يذكرني التفسير الذي توصل إليه ديراك بنكتة قديمة سمعتها عن اثنين من علماء الرياضيات جالسين في إحدى حانات باريس ينظران إلى مبنى قريب. مع بدء تناولهما وجبة الغداء، شاهدا شخصين يدخلان المبنى. وأثناء التحلية، لاحظا خروج ثلاثة أشخاص. وعندها التفت واحد منهما للآخر وقال: «لو دخل شخص آخر هذا المبنى فسوف يكون خاليا من الناس!»
بالمثل، إذا فسرنا الطاقة السالبة على أنها طاقة أقل من الصفر، فإننا قد نتصور على نحو خاطئ أنه إذا كان الإلكترون يحمل طاقة موجبة، وإذا كانت حالة عدم وجود إلكترونات تعني طاقة تساوي صفرا، فإن حالة الطاقة السالبة تعني ببساطة وجود عدد أقل من الصفر من الإلكترونات. وهكذا فإن حالة طاقة سالبة مساوية بالضبط ومعاكسة في الوقت نفسه لطاقة إلكترون واحد توصف بأنها أقل بإلكترون واحد عن الحالة التي يوجد فيها عدد صفر من الإلكترونات.
مع أن هذه العبارة تبدو سليمة، فإنها من الناحية الفيزيائية سخيفة. فما الذي يعنيه فيزيائيا قولنا: «صفر إلكترونات ناقص إلكترون»؟ يأتي مفتاح الإجابة عن هذا السؤال من التفكير في الشحنة الكهربائية التي يحملها الإلكترون: فلما كانت الإلكترونات تحمل شحنة كهربائية سالبة، وكانت حالة «صفر إلكترونات» معناها شحنة كهربائية قيمتها صفر، فإن حالة الصفر ناقص واحد إلكترون يكون لها شحنة كهربائية موجبة. وللتعبير عن هذه الفكرة بطريقة مختلفة، نقول إن وجود عدد سالب من الإلكترونات يعادل وجود عدد موجب من الجسيمات موجبة الشحنة. ومن ثم فإن حالة الطاقة السالبة التي ظهرت في معادلة ديراك يمكن تفسيرها على أنها تعبير عن جسيم موجب الطاقة له شحنة تعادل شحنة الإلكترون ومضادة له.
غير أنه كانت هناك مشكلة كبرى واحدة على الأقل في هذا التفسير الغريب. فالطبيعة ليس بها سوى جسيم «واحد فقط» معروف أنه يحمل شحنة موجبة مساوية ومضادة لشحنة الإلكترون: إنه البروتون. غير أن البروتون لا يشبه الإلكترون على الإطلاق؛ فهو، على سبيل المثال، أثقل منه ألفي مرة.
في توقيت سابق، بعد أن اشتق ديراك هذه المعادلة مباشرة، أدرك وجود مشكلة أخرى مهمة في حالات الطاقة السلبية التي اكتشفها. تذكر أنه في ميكانيكا الكم يجري استكشاف جميع الأوضاع الممكنة مع تطور النظام. وعلى وجه التحديد، وعلى حد تعبيره في نظريته الجديدة: «يمكن أن تحدث عمليات تحول تتغير فيها طاقة الإلكترون من القيمة الموجبة إلى السالبة حتى في غياب أي مجال خارجي، وينبعث فائض الطاقة، المقدر ب 2ك س
2
على الأقل، تلقائيا في صورة إشعاع.» وللتعبير عن هذا بطريقة أكثر بساطة، نقول إنه يمكن للإلكترون أن ينحل تلقائيا ليتحول إلى جسيم ذي شحنة موجبة ليتوافق مع حالة الطاقة السالبة. غير أن هذا من شأنه أن يغير إجمالي شحنة المنظومة، وهو أمر غير مسموح به في الكهرومغناطيسية. وعلاوة على ذلك، إذا كان الجسيم ذو الشحنة الموجبة هو البروتون الأثقل بكثير، فإن هذا التحول سيمثل أيضا خرقا لمبدأ حفظ الطاقة.
بغرض التعامل مع تلك المشكلات، قدم ديراك مقترحا جامحا. علينا أن نتذكر أن الإلكترونات فيرميونات، ومن ثم لا يمكن إلا لجسيم واحد فقط أن يوجد في كل حالة كم مختلفة. تخيل ديراك ما يمكن أن يحدث إذا احتوى حيز الفراغ بالفعل على «بحر» لا نهاية له من الإلكترونات سالبة الشحنة وصار من الممكن شغل جميع حالات الكم المتاحة لتلك الجسيمات. عندها لن توجد حالات متاحة تتحول إليها الإلكترونات الحقيقية موجبة الطاقة. علاوة على هذا، زعم ديراك أنه إذا صارت إحدى حالات الطاقة السالبة غير مشغولة وفقا لعملية ما، فإن هذا من شأنه أن يترك «فجوة» في التوزيع. واستجابة لغياب الإلكترون ذي الشحنة السالبة في بحر الإلكترونات، يمكن اعتبار الفجوة على أنها جسيم ذو شحنة موجبة، وهو ما يمكن اعتباره بروتونا.
كان التعليق المؤقت لحالة عدم التصديق الذي ترتب على تأكيدات ديراك هائلا. كان معناه الضمني أولا أن الفراغ - أي الحيز الخاوي من المادة - يحوي بصورة أو بأخرى عددا غير محدود من الجسيمات التي لا يمكن رصدها والتي تقابل المستويات المشغولة بطاقة سالبة، وعلاوة على ذلك فإن الفجوة المفردة في تلك المستويات المشغولة يمكن رؤيتها كبروتون، وهو جسيم مخالف تماما للإلكترون فيما عدا أنه يحمل نفس قدر شحنته الكهربية.
بقدر ما كان مقترح ديراك بوجود بحر لا نهائي من الجسيمات ذات الشحنة السالبة نوعا من الشجاعة الفكرية الفائقة، فقد كان مقترحه بأن الفجوات الموجودة في هذا البحر تمثل بروتونات ينم عن نوع نادر من الجبن الفكري. لقد بدت الحالات سالبة الطاقة في معادلته متوازنة تماما مع حالات الطاقة الموجبة، بما يشير إلى أن لها بالضبط نفس الكتلة، وهو ما يمثل تناقضا صريحا مع حقيقة أن البروتون أثقل كثيرا من الإلكترون. لقد حاول ديراك الالتفاف حول هذه المشكلة الواضحة بأن افترض أنه في البحر الممتلئ تكون التفاعلات بين الجسيمات في حالة تسمح للفجوات القليلة التي قد تظهر بتلقي إسهام إضافي يضيف إلى كتلتها نتيجة لتلك التفاعلات.
لو كان لدى ديراك قدر أكبر من الشجاعة لأمكنه ببساطة التنبؤ بأن تلك الفجوات تمثل جسيمات أولية جديدة في الطبيعة ذات كتلة مساوية لكتلة الإلكترون، لكنها ذات شحنة كهربية معاكسة. لكن حسبما قال لاحقا: «كل ما هنالك أنني لم أجرؤ على افتراض وجود جسيم جديد عند هذه المرحلة؛ لأن المناخ العام للرأي في ذلك الوقت كان ضد فكرة وجود جسيمات جديدة.»
ولعل ديراك كان يأمل في وضع تفسير لجميع الجسيمات الأولية المعروفة في ذلك الوقت، وهي الإلكترونات والبروتونات، باعتبارها ناتجة عن مظاهر متنوعة لجسيم واحد هو الإلكترون. يعكس هذا روح علم الفيزياء، وهي تفسير الظواهر التي تبدو مختلفة باعتبارها ليست سوى وجهين لعملة واحدة. وعلى كل الأحوال فإن الارتباك لم يدم طويلا. فقد بحث علماء فيزياء آخرون مشاهير هذه النظرية، من بينهم فيرنر هايزنبرج، وهيرمان وايل، وروبرت أوبنهايمر، واستدلوا على نحو صائب على أن التفاعلات الواردة في «بحر ديراك» لا يمكنها مطلقا أن تضيف كتلة إلى الفجوات وأن تؤدي إلى جعل هذه الفجوات تمتلك كتلة مختلفة عن كتلة الإلكترونات. وفي نهاية المطاف اضطر حتى ديراك نفسه للاعتراف بأن نظريته تنبأت بوجود جسيم جديد في الطبيعة، وهو الجسيم الذي أطلق عليه اسم «الإلكترون المضاد».
أعلن ديراك استسلامه عام 1931، وقد جاء إعلانه هذا في الوقت المناسب. فلم تحتج الطبيعة إلا لعام واحد حتى تثبت أنه على صواب، على الرغم من وجود قدر من التشكيك في احتمال وجود الجسيمات الأولية الجديدة غير المرئية حتى إنه بعد العثور على دلائل قوية على وجودها، لم تصدق مجموعة العلماء التي كانت أول من لاحظ الإلكترون المضاد، أو «البوزيترون» كما أطلق عليه فيما بعد، ما توصلت إليه من بيانات.
خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وقبل اختراع معجلات الجسيمات وتصنيعها لأول مرة، كانت الغالبية العظمى من المعلومات عن الجسيمات الأولية تأتي من مشاهدات لمنتجات المعجلات الفيزيائية الفضائية الموجودة في الطبيعة، وتحديدا الأشعة الكونية التي تنهمر على كوكب الأرض يوميا، والتي تتباين مصادرها؛ فتارة تكون من مكان قريب كالشمس، أو من مصادر أكثر نشاطا مثل النجوم المتفجرة في مجرات بعيدة من الكون. في عام 1932 كانت هناك مجموعتان مختلفتان من العلماء على جانبي الأطلنطي تبحث كل منهما بيانات الأشعة الكونية. إحدى المجموعتين - وكانت تعمل في نفس المعمل الذي يعمل فيه ديراك بكامبريدج بالمملكة المتحدة - تحت قيادة باتريك بلاكيت، أبلغت ديراك أنها عثرت على أدلة تشير إلى جسيمه الجديد، غير أنهم جبنوا عن نشر نتائجهم قبل إجراء المزيد من الاختبارات. في هذه الأثناء - وربما على نحو مميز للسلوك الأمريكي الأكثر تهورا - نشر كارل أندرسون في كاليفورنيا دليلا مؤكدا على وجود البوزيترون عام 1932، وهو ما أوصله في نهاية المطاف لنيل جائزة نوبل عن اكتشافه هذا. ومن المثير أنه حتى بعد أن تشجع بلاكيت ومعاونه جيوسيبي أوشيلياني أخيرا بسبب اكتشاف أندرسون على نشر نتائجهما بعدها بعام، فقد ظلا مع ذلك مترددين في أن ينسبا هذا الجسيم إلى اقتراح ديراك. وأخيرا، بحلول نهاية عام 1933 اضطر حتى أولئك التجريبيون للاعتراف بأنه إذا كان الطائر يشبه البطة ويصيح مثل البطة، فهو على الأرجح بطة. لقد كانت الخصائص التي تنبأ بها ديراك تتفق بصورة مذهلة مع المشاهدات العملية، وسواء شئنا أم أبينا، بدا أن الإلكترونات والبوزيترونات - وهي أول مثال معروف من الطبيعة على الجسيمات المضادة - يمكن صنعهما أزواجا وسط السيول القوية التي تحدثها الأشعة الكونية التي تقصف أنوية الذرات.
فجأة صارت البوزيترونات حقيقة واقعة ! وقد قال ديراك فيما بعد وهو يتأمل تردده الأولي في قبول نتائج نظريته التي تنبأت بوجود الجسيمات المضادة: «كانت معادلتي أكثر ذكاء مني!» •••
في ظل تلك التطورات العجيبة والثورية، شرع ريتشارد فاينمان عامي 1947 و1948 في ابتكار «صور» جديدة لضم إلكترونات ديراك المتوافقة مع النسبية إلى الصورة الناشئة التي رسمها لميكانيكا الكم والتي تشتمل على حاصل جمع المسارات والمكان والزمان. وأثناء قيامه بهذا، اكتشف أنه بحاجة لإعادة ابتكار أسلوبه الخاص في ممارسة علم الفيزياء من جديد، على الرغم من أنه يحاول في الوقت نفسه إعادة ابتكار ذاته، والتعامل مع الخواء العميق في حياته الشخصية.
الفصل الثامن
من هنا إلى ما لا نهاية
لذا يبدو أن ظني كان في محله، وأن الصعوبات التي تعترض الديناميكا الكهربائية والصعوبات التي تعترض نظرية الفجوة لديراك منفصلة بعضها عن بعض ويمكن حل صعوبات إحداهما قبل الأخرى.
ريتشارد فاينمان،
في خطاب مؤرخ عام 1947
ربما كان الأمر يتطلب رجلا مستعدا لخرق جميع القواعد لكي يروض ترويضا كاملا نظرية كنظرية ميكانيكا الكم تخرق هي نفسها جميع القواعد. وعندما وجه ريتشارد فاينمان انتباهه مرة أخرى نحو الديناميكا الكهربائية الكمية، كان قد بدأ بالفعل يكتسب شهرة باستهزائه بالمعايير المتعارف عليها في مجتمع مهنته، وبعلاقاته الغرامية، وبتعاملاته المستهجنة. فحتى عندما كان في لوس ألاموس كان يهوى إحداث فوضى؛ فكان يبحث عن فتحات في أسوار الأمن، ويدخل منها، ثم يخرج من البوابة الرئيسية دون أن يكون هناك سجل لدخوله، أو ينزع أقفال خزائن الأسرار العليا ويترك رسائل بداخلها.
بعد وفاة آرلين واكتشافه الحديث لمفهوم العدم بعد تفجير قنبلة ترينيتي، كان رد فعله تجاه معاناته واضطرابه الداخلي أن كفر بكل الأعراف والتقاليد المتبعة. ومنذ ذلك الحين فصاعدا، بدأ يستمتع بكونه مختلفا. ومع أنه في السابق كان يتصف بالحياء مع النساء، فقد صار بعد ذلك زير نساء. ففي غضون شهور من وفاة آرلين، وهو لا يزال في لوس ألاموس، شرع في مواعدة النساء الجميلات بإيقاع محموم. وبعدها بعامين، حين طفت أحزانه الدفينة على السطح أخيرا، تمكن من كتابة خطاب لآرلين يكشف فيه عما يشعر به من ألم: «أراهن أنك ستدهشين من أنني ليست لي حتى صديقة (فيما عداك يا حبيبتي) بعد مرور عامين. غير أنه لا حيلة لك يا عزيزتي - ولا أنا - لا أفهم الأمر، إذ إنني التقيت العديد من الفتيات الجميلات ... غير أنه بعد لقاءين أو ثلاثة يبدون جميعا كالرماد.»
ربما جعلته العلاقات الغرامية يشعر بالخواء، غير أنها استمرت مع ذلك. فعندما وصل إلى كورنيل أول مرة، كان لا يزال يبدو مثل الطلبة، وخلال أوقات إحساسه بالوحدة بدأ يواعد الطالبات اللاتي كان يلتقي بهن في حفلات رقص الطلاب المستجدين. لم يكن ما يعادل مطاردته للنساء في الشدة سوى رغبته في تركهن. وفي عام 1947، وقبل أن يضع الدرجات النهائية لطلبته، غادر الجامعة في رحلة شهيرة تجوب أرجاء البلاد مع فريمان دايسون، وكان لا يزال طالبا وقتها. كان هدفه الرئيسي من هذه الرحلة إنهاء علاقة مع امرأة من لوس ألاموس كان مستمرا في علاقة غرامية حميمة طويلة الأمد معها، وكانت تتسبب في إثارة غيرة امرأة أخرى في إيثاكا فتصب غضبها عليه. وفي الوقت نفسه، تعاملت معه امرأة أخرى - وهي واحدة من عديدات يبدو أنهن حملن منه وأجهضن حملهن - ببرود في خطاب كتبته إليه، وفيه صححت أيضا خطأه في تهجي اسمها.
لم يستقر فاينمان مطلقا في مكان واحد طيلة الفترة التي مكث خلالها في إيثاكا. كان كثيرا ما يقيم مع أصدقاء له، عادة ما يكونون متزوجين، وكانت تلك الزيارات كثيرا ما تنتهي بصورة سيئة نتيجة لبذاءته جنسيا. بعدها بسنوات قليلة، عندما أمضى عاما في البرازيل، وضع بالفعل مجموعة من القواعد البسيطة لإغواء النساء في الحانات، ومن بينهن العاهرات. صار مشهورا بغواية النساء في المؤتمرات التي تعقد بالخارج.
كانت جاذبيته أمرا مفهوما؛ فقد كان بارع الذكاء، مرحا، واثقا من نفسه، ويتمتع بشخصية كاريزمية آسرة إلى أقصى حد؛ كان طويل القامة، وقد ازداد وسامة مع مرور السنين. كانت عيناه الثاقبتان ساحرتين، وكان نشاطه وحماسه يصيبان من يعرفه بالإدمان.
غير أن خرقه للأعراف والتقاليد لم يقتصر فقط على الأمور الجنسية؛ ففي كل مكان وجد فيه ما يعتبره من قبيل الهراء، كان يتمرد، وعلى نحو يخالف الأعراف الرسمية في أغلب الأحيان. وهناك واقعة حدثت مع عدة أطباء نفسانيين كانوا يجرون فحصا ثانيا له في صيف عام 1947 جديرة بأن تكون موضوع إحدى حلقات مسلسل الكوميديا الشهير «أبوت وكوستيللو»، وقد صارت واقعة شهيرة فيما بعد. فنتيجة للهياج الذي أبداه خلال المقابلة، أعلن الأطباء أنه غير لائق للخدمة من الناحية العقلية، وهي النتيجة التي جعلته وهانز بيته ينفجران في ضحك متصل بلا توقف لمدة نصف ساعة بعد عودته إلى العمل.
طور فاينمان لاحقا مثل هذه الحكايات لتكون جزءا من أسطورة فاينمان التي كان يحب الترويج لها. غير أنه في عام 1947 لم يكن قد حقق شهرة بعد، وكان تراكم سلوكياته ومواقفه غير التقليدية متزامنا مع ما صار يمثل أكثر عامين في حياته قوة من حيث النشاط الإبداعي، وهي فترة اكتشافاته التجريبية التي جعلت من حل مسألة رياضية غامضة أمرا أكثر إلحاحا من أجل تحقيق تقدم فيزيائي.
كان الاكتشاف التجريبي للبوزيترون عام 1932 بمنزلة إثبات مهم لنظرية الديناميكا الكهربائية الكمية المتفقة مع النسبية التي توصل إليها ديراك، إذ مثل سابقة أولى في التاريخ لاكتشاف جسيم أولي لم يكن مكتشفا من قبل عن طريق الحدس وعلى أساس تفكير نظري محض. غير أنه أضاف، حرفيا، مستوى لانهائيا جديدا ومحبطا من الارتباك في أوساط علماء الفيزياء الذين كانوا يسعون لفهم منطق تنبؤات النظرية. ففور تأكيد وجود البوزيترونات، واجه علماء الفيزياء وجها لوجه التعقيدات المرعبة التي طرحها احتمال وجود «بحر» ديراك والتفاعلات بين الإلكترونات وتلك الجسيمات المكتشفة حديثا - البوزيترونات - من ناحية وبين الإشعاع من ناحية أخرى، وهي ذات التفاعلات التي كان فاينمان في البداية يأمل في محوها من النظرية الكمية للكهرومغناطيسية.
وفي حين كانت التفاعلات المتوقعة للإلكترونات المفردة مع الفوتونات المفردة أو حتى مع موجات الضوء أو الراديو الكهرومغناطيسية التقليدية تتفق على نحو مدهش مع المشاهدات، فإنه كلما حاول علماء الفيزياء الذهاب لما هو أبعد من هذا التقدير التقريبي الأبسط - بإضافة تفاعلات كمية متعددة أو حتى بمحاولة تناول المشكلة طويلة الأمد المتعلقة بتفاعل إلكترون مع نفسه، وهي ذات المشكلة التي حاول فاينمان في البداية حلها أثناء دراسته الجامعية - ظلت حلولهم تحمل قيم ما لانهاية، ومن ثم كانت حلولا واهية. كان من الممكن في ذلك الحين تجاهل هذا العجز عن فهم نظرية من الواضح أنها صحيحة عند مستوى عميق معين دون خوف في الغالبية العظمى من التطبيقات العملية، غير أنه أقض مضجع مجموعة معينة من علماء الفيزياء الطموحين وكان أشبه بعصب مؤلم مكشوف. ويمكن استجلاء شعور اليأس الذي هيمن على المشهد من خلال تصريحات العديد من أعظم علماء الفيزياء النظرية في ذلك الوقت. كتب هايزنبرج مثلا عام 1929 يقول إنه أصيب بالإحباط خلال محاولته فهم أفكار ديراك وأنه قلق من أن يظل «للأبد حانقا على ديراك». وعبر فولفجانج باولي عام 1929 عن مخاوفه (التي عكست بشكل تنبئي مخاوف أفصح عنها فيما بعد العديد من علماء الفيزياء، ومن بينهم فاينمان، بشأن تطورات أحداث وقعت في علم الفيزياء) بقوله: «لست راضيا تمام الرضا ... وتحديدا فإن الطاقة الذاتية للإلكترون تخلق صعوبات أكبر بكثير مما ظن هايزنبرج في البداية. أيضا فإن النتائج الجديدة التي تؤدي إليها نظريتنا مشكوك فيها تماما، والخطر عظيم بحق؛ أن يفقد الأمر برمته الاتصال بعلم الفيزياء ويتحول إلى رياضة بحتة.»
كتب هايزنبرج بدوره إلى باولي عام 1935 يقول: «فيما يخص الديناميكا الكهربائية الكمية ... نحن نعلم أن كل شيء خطأ. ولكن حتى نعثر على الاتجاه الصحيح الذي ينبغي علينا السير فيه ... علينا أن نعرف عواقب الصياغة الرسمية الحالية على نحو أفضل كثيرا من معرفتنا الحالية.» ثم أضاف لاحقا في بحث تال: «النظرية الحالية للبوزيترون والديناميكا الكهربائية الكمية يجب اعتبارها مؤقتة.» وحتى ديراك قال عن الديناميكا الكهربائية الكمية عام 1937: «نظرا لتعقيدها البالغ، فإن معظم علماء الفيزياء سوف يسعدهم أن يشهدوا نهاية لها.»
كانت المخاوف من الشدة بحيث إن هؤلاء الفيزيائيين - وبخاصة عالم الفيزياء الدنماركي العظيم نيلز بور - أبدوا قلقهم من أن ميكانيكا الكم ذاتها ربما تكون هي أصل المشكلة، وربما كان من الواجب استبدال فيزياء مختلفة بها. كتب بور إلى ديراك عام 1930 يقول: «كنت أفكر مليا في الآونة الأخيرة في مشكلات نظرية النسبية، وأعتقد يقينا أن حل المشكلات الحالية لن يتحقق دون مراجعة أفكارنا الفيزيائية العامة الأكثر عمقا من تلك التي نتباحث بشأنها في ميكانيكا الكم الحالية.»
حتى باولي اقترح، عام 1936، أنه ربما كان من الضروري مراجعة ميكانيكا الكم عند التعامل مع منظومات - مثل نظرية فجوة ديراك - تسمح بوجود عدد لانهائي من الجسيمات داخل حيز خاو؛ لأنه وراء قيمة ما لانهاية الشهيرة المرتبطة بالطاقة الذاتية للإلكترون نتيجة لتفاعله مع مجاله الكهرومغناطيسي، جاء تقديم ديراك للجسيمات المضادة ليخلق فئة جديدة من التفاعلات اللانهائية التي زادت الأمور غموضا وتعقيدا في عالم الكم. لم تتضمن تلك التفاعلات الجديدة الفوتونات الوسيطة التي عمل فاينمان وويلر جاهدين من أجل التخلص منها، وإنما تضمنت أزواجا «افتراضية» من الإلكترونات والبوزيترونات.
ولما كان علماء الفيزياء قد صاروا يعلمون الآن أن الجسيمات والجسيمات المضادة يمكن أن تفنى متحولة إلى إشعاع صاف، فإن العملية العكسية، أي التحول الكامل للطاقة إلى كتلة، من الممكن أيضا - من حيث المبدأ - أن تحدث. إلا أنه يوجد قيود على هذا التحول. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للإلكترون وجسيمه المضاد، البوزيترون، أن يتحولا إلى جسيم إشعاعي واحد، أي الفوتون، لنفس السبب الذي يجعل القنبلة عندما تنفجر، لا تتطاير شظاياها في اتجاه واحد. فإذا التقى إلكترون مع بوزيترون وهما يسيران في اتجاهين متضادين وبنفس السرعة فإن زخمهما الإجمالي يكون صفرا. وإذا نتج عن فنائهما فوتون واحد، فإنه سيتطاير بنفس سرعة الضوء في اتجاه ما، حاملا زخما قيمته غير صفرية. وهكذا نرى أنه لا بد أن ينتج فوتونان على الأقل عند فناء إلكترون وبوزيترون، بحيث يمكن للجسيمين المنبعثين أن ينطلقا في اتجاهين متقابلين ومتساويين أيضا. وبالمثل، لا يمكن لفوتون واحد أن يتحول فجأة إلى زوج مكون من بوزيترون وإلكترون؛ إذ ينبغي أن يجتمع فوتونان حتى ينتجا ذلك الزوج النهائي.
لكن علينا أن نتذكر أنه في حالة الجسيمات الافتراضية، تكون كل الاحتمالات مستبعدة، فلا حاجة للاحتفاظ بالطاقة والزخم ما دام الجسيم الافتراضي يتلاشى في وقت قصير للغاية بحيث لا يمكن قياسه مباشرة. ومن ثم، فإن الفوتون الافتراضي يمكنه التحول تلقائيا إلى زوج مكون من إلكترون وبوزيترون، ما دام هذا الزوج يمكنه الانحلال والتحول مرة أخرى إلى فوتون افتراضي واحد خلال فترة زمنية قصيرة.
يطلق على هذه العملية التي ينشطر فيها فوتون لحظيا إلى زوج مكون من إلكترون وبوزيترون اسم «استقطاب الفراغ». وقد أطلق عليها هذا الاسم لأنه في وسط حقيقي كأي جسم صلب مكون من ذرات - تحتوي على شحنات موجبة وسالبة - إذا صنعنا مجالا كهربيا خارجيا كبيرا، فإنه يمكننا «استقطاب» الوسط بفصل الشحنات مختلفة النوع؛ فتندفع الشحنات السالبة في اتجاه بفعل المجال، في حين تنجذب الشحنات الموجبة في الاتجاه الآخر. ومن ثم تظل المادة المتعادلة متعادلة، غير أن الشحنات ذات العلامة المختلفة تنفصل مكانيا. هذا ما يحدث لحظيا في الفراغ عندما ينقسم الفوتون مؤقتا إلى إلكترون سالب الشحنة وجسيم مضاد، أو بوزيترون، موجب الشحنة. وهكذا يستقطب الفراغ لحظيا.
وأيا كانت تسميتنا له، فإن الإلكترون، الذي كان لا بد فيما مضى أن نعتبره محاطا بسحابة من الفوتونات الافتراضية من حوله، صار من الضروري الآن التفكير فيه بوصفه محاطا بسحابة من الفوتونات الافتراضية علاوة على أزواج مكونة من إلكترونات وبوزيترونات. وبطريقة ما، تعد هذه الصورة مجرد طريقة أخرى للتفكير في تفسير ديراك للبوزيترونات باعتبارها «فجوات» داخل بحر لا نهاية له من الإلكترونات الموجودة في الفراغ. وأيا كانت الطريقة، فما إن نضم النسبية، ووجود البوزيترونات، فإن نظرية الإلكترون الواحد تتحول إلى نظرية لعدد لانهائي من الإلكترونات والبوزيترونات.
علاوة على ذلك، فإنه تماما مثلما أنتج انبعاث الفوتونات الافتراضية وامتصاصها بواسطة إلكترون واحد طاقة ذاتية إلكترونية لانهائية في العمليات الحسابية، فإن إنتاج أزواج افتراضية مكونة من جسيمات وجسيمات مضادة أنتج تصحيحا جديدا لانهائيا في حسابات الديناميكا الكهربائية الكمية. وعلينا أن نتذكر مرة أخرى أن القوة الكهربية بين الجسيمات يمكن اعتبارها ناتجة عن تبادل الفوتونات الداخلية بين تلك الجسيمات. والآن إذا كان يمكن للفوتونات أن تنشطر إلى أزواج مكونة من إلكترونات وبوزيترونات، فإن هذه العملية من الممكن أن تغير من قوة التفاعل بين الجسيمات ومن ثم تحول الطاقة المحسوبة للتفاعل بين إلكترون وبروتون داخل ذرة كذرة الهيدروجين. وكانت المشكلة هي أن التحول المحسوب اتخذ قيمة لانهائية!
كانت الحقيقة المخيبة للآمال أن نظرية ديراك أنتجت تنبؤات بالغة الدقة بمستويات الطاقة للإلكترونات داخل الذرات ما دامت عمليات تبادل الفوتون الواحد هي فقط الموضوعة في الحسبان دون حساب تأثيرات المرتبة الأعلى المزعجة التي أنتجت قيما لانهائية. وعلاوة على ذلك فإن تنبؤ ديراك بالبوزيترونات أثبت بواسطة بيانات تجريبية. ولولا تلك الحقائق، لفضل كثير من علماء الفيزياء - حسبما ذكر ديراك ضمنا - الاستغناء ببساطة عن الديناميكا الكهربائية الكمية برمتها. •••
تبين أن ما كنا بحاجة إليه كي نحل كل تلك الصعوبات لم يكن التخلص من ميكانيكا الكم بالكلية، ولا الاستغناء عن كل تلك الجسيمات الافتراضية، وإنما بالأحرى تطوير فهم أعمق لأسلوب تطبيق المبادئ الأساسية لنظرية الكم في سياق النسبية. كان هذا يحتاج إلى السير في طريق ملتو طويل غير مباشر، وأن يأتي التوجيه من تجارب رئيسية، حتى تنجلي في نهاية المطاف هذه الحقيقة المختبئة وسط مستنقع موحل من الحسابات المعقدة المضنية، سواء لفاينمان أو لبقية العالم.
بدأت عملية الاكتشاف ببطء وعلى نحو مرتبك، كما هي العادة دائما. فبعد اكتمال بحثه الذي نشره في دورية ريفيوز أوف مودرن فيزيكس، حول فاينمان انتباهه من جديد نحو نظرية ديراك. كان قد انتهى مرة أخرى إلى أن الفيزياء علم ممتع، وعلى الرغم من ظروفه الشخصية غير المستقرة، فإن تركيزه لم يتشتت مطلقا عن المشكلة التي استحوذت على تفكيره منذ كان طالبا بالجامعة؛ ألا وهي مشكلة الطاقة الذاتية اللانهائية للإلكترون. لقد كان هذا لغزا لم يحله بعد، وكان ضد طبيعته أن يترك الأمر يمر ويتخلى عنه.
بدأ فاينمان بمشكلة صغيرة للإحماء. فلما كان اللف المغزلي للإلكترون لا يمكن فهمه إلا في إطار ميكانيكا الكم، فقد بدأ فاينمان بمحاولة فهم إن كان في استطاعته تفسير الحركة المغزلية مباشرة في إطار صياغته لحاصل جمع المسارات أم لا. كان أحد تعقيدات نظرية ديراك هو أنها معادلة واحدة مجزأة إلى أربعة أجزاء: واحدة لوصف الإلكترونات التي تدور في اتجاه أعلى، وأخرى للإلكترونات التي تدور لأسفل، وواحدة لوصف البوزيترونات التي تدور لأعلى، وأخرى للبوزيترونات التي تدور لأسفل. ولما كان المفهوم الطبيعي للف المغزلي يتطلب وجود ثلاثة أبعاد في الفراغ (مستوى ثنائي الأبعاد يدور فيه الجسيم ومحور عمودي يدور حوله)، فكر فاينمان أنه يستطيع جعل المسألة أكثر بساطة لو أنه حاول أولا التفكير في عالم ذي بعد مكاني واحد فحسب وبعد زماني واحد، حيث لا تكون للاختلافات بين المسارات تأثير كبير. ومن ثم تتضمن جميع المسارات الانتقال جيئة وذهابا في بعد واحد في الفراغ، وتحديدا، في خط مستقيم.
تمكن فاينمان من اشتقاق نسخة مبسطة من معادلة ديراك ملائمة لعالم ثنائي الأبعاد كهذا، بحيث إنه في كل مرة يدور الإلكترون «على عقبيه» وهكذا بعد أن يتحرك نحو اليمين يعاود التحرك نحو اليسار، وجرت مضاعفة نطاق احتمال هذا المسار بضربه في «معامل طوري»، وهو في هذه الحالة «رقم مركب»، وهو رقم غريب يحتوي على الجذر التربيعي ل −1. ويمكن للأرقام المركبة أن تظهر في نطاقات الاحتمالات؛ تذكر أن الاحتمالات الفعلية تعتمد على مربع تلك الأرقام، وبهذا لا تظهر في النتيجة النهائية سوى أرقام حقيقية.
كانت فكرة أن الحركة المغزلية قد تنتج بطريقة ما أطوارا إضافية عند حساب نطاقات الاحتمالات بمنزلة نبوءة متبصرة. غير أنه عندما حاول فاينمان تجاوز بعد مكاني واحد والربط بين عوامل أطوار أكثر تعقيدا أثناء التفاف الإلكترونات والتحرك في اتجاه مختلف، توصل إلى حلول غير منطقية ولم يتمكن من الحصول على نتائج تتفق مع نظرية ديراك.
ظل فاينمان يجرب بدائل مختلفة في شتى الاتجاهات لإعادة صياغة النظرية ، لكنه لم يحقق تقدما يذكر. غير أنه كان هناك مجال معين تبين أن طريقة حاصل جمع المسارات التي ابتكرها مفيدة فيه للغاية. فالنسبية الخاصة تقول لنا إن «حاضر» شخص ما قد لا يكون هو «حاضر» شخص آخر؛ أي إن الراصدين في حالة الحركة النسبية لديهم أفكار مختلفة بشأن «التزامن». توضح النسبية الخاصة كيف أن تلك الفكرة المكانية عن التزامن تنطوي على قصر نظر، وكيف أن قوانين الفيزياء الأساسية مستقلة عن التفضيلات الفردية للراصدين المختلفين ل «الحاضر».
كانت المشكلة في الصورة التقليدية لميكانيكا الكم هي أنها اعتمدت صراحة على تعريف «حاضر» ترسخ فيه شكل مبدئي للكم، ثم ترك تحديد كيفية تطور هذا الشكل إلى وقت لاحق. وأثناء هذا، يطمر الثبات النسبي لقوانين الفيزياء؛ لأنه في اللحظة التي نختار فيها إطارا مكانيا معينا لتحديد الدالة الموجية المبدئية وثابتا للزمن نسميه ز = صفر، نفقد الاتصال الواضح مع جمال النظرية النسبي الكامن المستقل عن الإطار.
غير أن صورة فاينمان عن اتصال المكان والزمان كانت معدلة تحديدا لجعل الثبات النسبي للنظرية ظاهرا جليا؛ في المقام الأول: كان هذا الثبات محددا على صورة كميات - قيم لاجرانجية - يمكن كتابتها بصيغة ثابتة من حيث النسبية. ثانيا: لما كانت طريقة حاصل جمع المسارات تتعامل بالضرورة مع كل من المكان والزمان معا، فإننا لسنا مضطرين لتقييد أنفسنا بتحديد لحظات معينة في الزمان أو المكان. وهكذا درب فاينمان نفسه على أن يجمع في الديناميكا الكهربائية الكمية بين كميات تعتبر في أي سياق آخر منفصلة بعضها عن بعض، ويضعها في مجموعات تسلك سلوكا تظل فيه خصائص النسبية ظاهرة. وعلى الرغم من أنه لم يحرز تقدما حقيقيا في إعادة صياغة نظرية ديراك من المبادئ الأولى بأي طريقة تحل المشكلات التي كان مشغولا بها، فإن الحيل التي ابتكرها ثبتت لاحقا أهميتها الحاسمة في التوصل إلى الحل النهائي. •••
ظهر الحل في الأفق، كما يحدث دائما، بإجراء تجربة. في الواقع، في حين أن العلماء النظريين عادة ما يسترشدون بنتائج التجارب، فإنه في هذه الحالة بالذات تحمل التجارب العملية أهمية كبيرة حاسمة في تحقيق التقدم. فحتى تلك اللحظة، كانت قيم ما لانهاية محبطة للعلماء النظريين، لكن هذا كل شيء. فما دامت تنبؤات مرتبة الصفر لمعادلة ديراك كافية لتفسير جميع نتائج الفيزياء الذرية - في نطاق الدقة التجريبية الممكن الوصول إليها - فإن العلماء النظريين كان بإمكانهم القلق بشأن حقيقة أن التصويبات الأعلى مرتبة - التي كان ينبغي أن تكون صغيرة - كانت في حقيقة الأمر لانهائية، غير أن قيم ما لانهاية لم تكن حتى وقتها عائقا عمليا أمام استخدام النظرية في سياق فيزيائي.
يعشق العلماء النظريون التكهنات، لكنني اكتشفت أنه إلى أن ينتج التجريبيون بالفعل نتائج قائمة على أسس صلبة تسبر غور النظرية عند مستوى جديد، يكون من العسير على العلماء النظريين أن يتعاملوا حتى مع أفكارهم هم أنفسهم بالجدية الكافية للاستكشاف الدقيق لجميع تفرعات تلك الأفكار، أو أن ينتهوا إلى حلول عملية للمشكلات القائمة. وقد تندر الفيزيائي التجريبي الأمريكي الأبرز في ذلك الحين، آي آي رابي - وهو الذي جعل من جامعة كولومبيا العاصمة التجريبية العالمية لعلماء الفيزياء الذرية - على ذلك العجز من قبل العلماء النظريين عن الارتقاء لمستوى تحديات الديناميكا الكهربائية الكمية في غياب التوجيه التجريبي. فيقال إنه في ربيع عام 1947 قال لأحد زملائه أثناء تناول الغداء: «إن السنوات الثماني عشرة الأخيرة كانت أكثر السنوات عقما في هذا القرن.»
كل ذلك تغير في غضون بضعة شهور. فكما أوضحت من قبل، حتى ذلك الحين، كانت حسابات المرتبة الأدنى التي أجريت بواسطة نظرية ديراك النسبية تنتج نتائج خاصة بطيف مستويات الطاقة للإلكترونات المرتبطة بالبروتونات في ذرات الهيدروجين وهي نتائج كانت كافية ليس فقط لفهم السمات العامة للطيف، وإنما لتحقيق اتفاق كمي مع المشاهدة أيضا، باستثناء القليل من نقاط التضارب المحتملة التي ظهرت عند آخر حدود الحساسيات التجريبية، ولذا جرى تجاهلها إلى حد بعيد. غير أن الحال ظل كذلك إلى أن قام الفيزيائي الأمريكي ويليس لامب - وكان يعمل ضمن مجموعة رابي بكولومبيا، وهو واحد من آخر أفراد سلالة من علماء الفيزياء المتمرسين في التجارب العملية والحسابات على حد سواء - بمحاولة جسورة غيرت كل شيء.
لعلك تذكر أن النجاح المبدئي العظيم لميكانيكا الكم خلال العقود الأولى من القرن العشرين يكمن في تفسير طيف الضوء المنبعث من الهيدروجين. كان نيلز بور أول من اقترح تفسيرا خاصا بميكانيكا الكم تحديدا لمستويات الطاقة في ذرة الهيدروجين، لو كانت الإلكترونات قادرة على القفز بين المستويات الثابتة فقط أثناء امتصاصها للإشعاع أو إطلاقه. وبعدها، بين شرودينجر، بمعادلته الشهيرة للموجة، أن مستويات طاقة الإلكترونات بذرة الهيدروجين يمكن اشتقاقها بدقة بالاستعانة بالدالة الموجية التي ابتكرها، بدلا من إصدار أحكام كما هو الحال في ذرة بور.
ما إن اشتق ديراك نسخته النسبية من الديناميكا الكهربائية الكمية حتى صار بمقدور علماء الفيزياء أن يحاولوا استبدال معادلة ديراك بمعادلة شرودينجر بهدف التكهن بمستويات الطاقة. وقد فعلوا هذا واكتشفوا أن مستويات الطاقة في مختلف الحالات كانت تفصل بينها مقادير طفيفة، نتيجة لتأثيرات النسبية (على سبيل المثال، الإلكترونات الأكثر نشاطا داخل الذرات تكون ذات كتلة أكبر، وفق النسبية) ونتيجة للف المغزلي ذي القيمة غير الصفرية للإلكترونات التي تضمنتها معادلة ديراك. وعلى نحو عجيب، توافقت تنبؤات ديراك مع مشاهدات لأطياف ذرات الهيدروجين المتحللة إلى أطياف أكثر دقة، حيث رأينا بذلك ما كان يعد ترددا واحدا للانبعاث والامتصاص ينقسم إلى ترددين مستقلين للضوء يفصل بينهما فاصل دقيق للغاية. كان هذا «التركيب الدقيق» للطيف، وهو الاسم الذي عرف به بعد ذلك، بمنزلة إثبات جديد لنظرية ديراك.
غير أنه في عام 1946 قرر ويليس لامب أن يقيس التركيب الدقيق للهيدروجين بدقة تفوق أي وقت مضى، بهدف اختبار نظرية ديراك. وقد فسر اقتراحه لهذه التجربة الدافع وراء إجرائها: «ذرة الهيدروجين هي أبسط الذرات في الوجود، وهي الذرة الوحيدة التي يمكن إجراء الحسابات النظرية الأساسية الدقيقة عليها ... ومع ذلك، فإن الموقف التجريبي في الوقت الراهن يقول إن الطيف المشاهد لذرة الهيدروجين لا يوفر القدرة على إجراء اختبار شديد الحساسية ... فالاختبار الحساس لا يمكن الحصول عليه إلا بقياس ... التركيب الدقيق.»
في السادس والعشرين من أبريل 1947 (في الأيام التي كان يمر فيها بين اقتراح إجراء تجربة وإتمامها في فيزياء الجسيمات بضعة شهور لا عقود)، أتم لامب وتلميذه روبرت رذرفورد بنجاح قياسا حاز الإعجاب كان يعد من قبل أمرا لا يمكن تصوره. وكانت النتيجة مذهلة بالقدر نفسه.
تنبأت نظرية ديراك عن المرتبة الأدنى، مثل نظرية شرودينجر من قبلها، بأن نفس الطاقة تعزى إلى حالتين مختلفتين لهما ذات الزخم الزاوي الإجمالي لإلكترون الهيدروجين - الناشئ من مجموع الزخم الزاوي للف المغزلي للإلكترون والزخم الزاوي المداري له - حتى لو كانت القيم المنفصلة للمجموع مختلفة في الحالتين. غير أن تجربة لامب أثبتت بصورة قاطعة أن طاقة الإلكترونات في إحدى الحالتين تختلف عن طاقة الإلكترونات في الحالة الأخرى. وقد لاحظ تحديدا أن حالات تحول الإلكترونات من حالة ما إلى حالة ثابتة أعلى في ذرة الهيدروجين أدت إلى انبعاث أو امتصاص الضوء الذي اختلف تردده بمقدار نحو مليار دورة في الثانية مقارنة بالتحولات التي تحدث للإلكترونات من الحالة الأخرى والحالة الثابتة الأعلى. قد يبدو هذا رقما مهولا، لكن الترددات المميزة للضوء المنبعث والممتص بين مستويات الطاقة في الهيدروجين كانت أكبر بحوالي عشرة ملايين ضعف من هذا الفارق في التردد. لذا كان لامب مطالبا بقياس الترددات بدقة تفوق جزءا من عشرة ملايين جزء.
كانت حالة الفيزياء النظرية في أعقاب انقلاب ديراك النظري قد وصلت إلى حد جعل من تأثير هذا الفارق الطفيف الذي لا يكاد يدرك - ولكنه لا يساوي صفرا - عن تكهنات نظرية ديراك، تأثيرا عميقا. وفجأة، صارت المشكلة في نظرية ديراك ملموسة ومحددة. لم تعد تدور حول نتائج لانهائية غامضة ومبهمة الملامح، وإنما صارت الآن بيانات تجريبية محددة وواقعية من الممكن حسابها. وقد وصف فاينمان لاحقا هذا التأثير بأسلوبه المميز المعتاد بقوله: «ظنا مني أني أفهم علم الهندسة، ورغبة مني في تحديد طول قطر مربع مساحته خمسة أقدام، أحاول تخمين الطول الذي يجب أن يكون عليه. ولأنني لست خبيرا أحصل على قيمة ما لانهاية؛ لا فائدة ... إننا لا نبحث في علم الفلسفة ، وإنما في سلوك أشياء حقيقية. لذا، وعلى نحو يائس، أقيسه قياسا مباشرا، ويا للعجب ، إنه يقترب من سبعة أقدام؛ فلا هو ما لانهاية، ولا هو بالصفر. وهكذا قسنا أشياء أعطتنا النظرية لها تلك النتائج الغريبة.»
في شهر يونيو من عام 1947 عقدت الأكاديمية الوطنية للعلوم مؤتمرا مصغرا جمع أعظم العقول النظرية الباحثة في نظرية الكم للديناميكا الكهربائية (ومن حسن الحظ أن المشرف السابق على رسالة فاينمان، جون ويلر، كان أحد منظمي المؤتمر لذا كان فاينمان بين المدعوين) في فندق صغير بشيلتر أيلاند بالقرب من لونج أيلاند بنيويورك. كان الغرض من المؤتمر الذي سمي «مؤتمر أسس نظرية الكم» استكشاف المشكلات البارزة في نظرية الكم التي نحيت جانبا أثناء الحرب، عندما كان فاينمان وزملاؤه يعملون بكل طاقاتهم من أجل إنتاج القنبلة الذرية. وعلاوة على فاينمان، كانت جميع العقول اللامعة من العلماء الأفذاذ الذين عملوا في لوس ألاموس حاضرة، من بيته إلى أوبنهايمر والنجم الشاب اللامع في سماء الفيزياء النظرية جوليان شفينجر.
في هذا الاجتماع المصغر، الذي بدأ بطريقة دراماتيكية ملائمة للحدث، حيث كانت الشرطة ترافق العلماء «الذريين» أبطال الحرب المشاهير أثناء المرور عبر لونج أيلاند، قدم لامب نتائج تجربته. وكان هذا أهم قضايا الاجتماع، الذي أشار فاينمان إليه لاحقا على أنه أهم مؤتمر حضره في حياته.
غير أنه فيما يخص عمل فاينمان، وربما جميع علماء الفيزياء النظرية الذين يفكرون في مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية، فإن أهم نتائج المؤتمر لم تكن العملية الحسابية التي أجراها فاينمان، وإنما كانت عملية حسابية أجراها معلمه، هانز بيته، أثناء رحلة العودة بالقطار إلى إيثاكا قادما من نيويورك سيتي، حيث أمضى بيته بضعة أيام في زيارة لوالدته. كان بيته في حالة إثارة شديدة بسبب النتيجة التي توصل إليها حتى إنه اتصل بفاينمان من شينيكتادي لإبلاغه بالنتيجة: فبأسلوبه التقليدي، عندما عرض عليه أخيرا رقما تجريبيا، لم يستطيع بيته مقاومة الاستعانة بأي آلة نظرية متاحة تحت تصرفه، مهما كانت محدودة، لاشتقاق تنبؤ كمي يمكن مقارنته بالنتيجة التجريبية. ولدهشته الشديدة ورضاه، وحتى بدون فهم كامل لكيفية التعامل مع أرقام ما لانهاية الغريبة التي تميز الديناميكا الكهربائية الكمية، زعم بيته أنه يفهم حجم ومنشأ التغير في التردد الذي كان قد عرف بالفعل باسم «تحول لامب».
وهكذا، بات هذا الإعلان بمنزلة التحدي الذي ألقي في وجوه فاينمان وشفينجر وباقي أعضاء المجتمع العلمي.
الفصل التاسع
شطر ذرة
يمكن أن نعرف حقائق أكثر بكثير جدا مما يمكننا إثباته.
ريتشارد فاينمان، من الخطاب الذي ألقاه
أثناء تسلم جائزة نوبل، عام 1965
عندما عرض ويليس لامب النتيجة التي توصل إليها في بداية مؤتمر شيلتر أيلاند، ظهر على الفور سؤال حول ما قد يكون السبب في التباين بين المشاهدات العملية ونظرية ديراك للديناميكا الكهربائية الكمية. اقترح أوبنهايمر - الذي هيمن على الاجتماع - أنه ربما كان مصدر تباين التردد هو الديناميكا الكهربائية الكمية ذاتها، لو استطاع أحد بالفعل معرفة كيفية ترويض تصويبات النظرية الأعلى مرتبة واللانهائية على نحو لا يتفق مع قوانين الفيزياء. اعتمدت جهود بيته للقيام بذلك تحديدا على أفكار استلهمها من أوبنهايمر ومن عالمي الفيزياء إتش إيه كريمرز وفيكتور فايسكوبف، الذي حصل فيما بعد على إجازة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كي يصبح أول مدير للمعمل الأوروبي للأبحاث النووية، الذي يحمل الآن اسم «سيرن»، في جنيف.
أكد كريمرز على أنه لما كانت مشكلة الإسهامات بقيم لانهائية في الكهرومغناطيسية تعود إلى المشكلة الكلاسيكية بشأن الطاقة الذاتية للإلكترون، فيجب على علماء الفيزياء التركيز على الكميات القابلة للرصد، التي هي بطبيعة الحال ذات قيمة محددة، وذلك عند التعبير عن نتائج العمليات الحسابية. على سبيل المثال، مصطلح كتلة الإلكترون الذي ظهر في المعادلات، وتلقى بدوره تصويبات طاقة ذاتية ذات قيم لانهائية، لا يجب اعتباره يمثل الكتلة الفيزيائية المقاسة للجسيم. وبدلا من ذلك يمكن تسميته «الكتلة المجردة». فإذا كانت قيمة حد الكتلة المجردة في المعادلة هي ما لانهاية، فلعل حاصل جمع هذا الحد والتصويب اللانهائي للطاقة الذاتية يلغي كل منهما الآخر، تاركين القيمة المتبقية المحددة التي من الممكن أن تتساوى عندئذ مع الكتلة التي قيست في التجارب.
كان اقتراح كريمرز أن جميع قيم ما لانهاية التي أمكن حسابها في الديناميكا الكهربائية - على الأقل للإلكترونات التي تتحرك دون ارتباط بالنسبية - يمكن التعبير عنها في صورة إسهام الطاقة الذاتية اللانهائية في كتلة السكون للإلكترون. وفي هذه الحالة، ما دمنا تخلصنا من هذه الكمية اللانهائية المنفردة عن طريق التعبير عن كافة النتائج في صورة كتلة مقاسة ذات قيمة محددة، فإن جميع الحسابات قد تنتج حلولا ذات قيمة محددة. وبهذا، يمكن للمرء تغيير النطاق، أو «تطبيع» حد الكتلة الذي يظهر في المعادلات الأساسية، لهذا صارت هذه العملية تعرف باسم «إعادة التطبيع».
نحو واضح نظرية الكم النسبية للديناميكا الكهربائية في محاولة لتطبيق هذه الفكرة، وحققا تقدما. وتحديدا، أوضحا أن قيمة ما لانهاية المحسوبة للطاقة الذاتية للإلكترون صارت في حقيقة الأمر أخف وطأة قليلا عند دمج تأثيرات النسبية.
أجرى بيته - وقد حفزته تلك الادعاءات - حسابا تقريبيا لهذا الإسهام محدد القيمة. وعلى حد قول فاينمان لاحقا في الخطاب الذي ألقاه في حفل تسلم جائزة نوبل: «بروفسور بيته ... رجل يتمتع بهذه السمة: إذا ظهر رقم جيد من خلال التجارب، فعليك أن تتوصل إليه من خلال النظرية. وهكذا، أرغم الديناميكا الكهربائية الكمية التي سادت في تلك الأيام على أن تقدم له حلا للانفصال بين هذين المستويين [في الهيدروجين].» ولا شك أن منطق بيته كان يشبه ما يأتي: إذا كانت تأثيرات الإلكترونات والفجوات والنسبية تبدو أنها تروض قيم ما لانهاية إلى حد ما، فلعله من الممكن أن يجري المرء عملية حسابية بواسطة النظرية غير النسبية - التي تعد أكثر سهولة بكثير في التعامل معها - وبعد ذلك يتجاهل بكل بساطة إسهام جميع الفوتونات الافتراضية الأعلى من الطاقة المساوية تقريبا لكتلة السكون المقاسة للإلكترون. فتأثيرات النسبية لا تتدخل إلا عندما يتجاوز إجمالي الطاقات قيمة كتلة السكون هذه، وربما عندما يحدث هذا، تضمن هذه التأثيرات أن إسهام الجسيمات الافتراضية ذات الطاقة الأعلى يصبح غير ذي صلة.
عندما أجرى بيته العملية الحسابية مستخدما هذا الخصم الاعتباطي لطاقة الجسيمات الافتراضية، كان التحول المتوقع للتردد بين الضوء المنبعث أو الممتص بواسطة الحالتين المداريتين المختلفتين في الهيدروجين يقدر بنحو 1,040 ميجاسايكل (مليون دورة) في الثانية، وكانت هذه القيمة متفقة إلى حد بعيد جدا مع ملاحظات لامب!
تذكر فاينمان بعد ذلك أنه - على الرغم من عبقريته - لم يقدر النتيجة التي توصل إليها بيته في حينه حق قدرها. لم يفهم فاينمان أهمية النتيجة التي توصل إليها بيته وكيف أن كل العمل الذي قام به حتى تلك اللحظة يتيح له تحسين تقديرات بيته، إلا فيما بعد، في كورنيل، عندما ألقى بيته محاضرة حول الموضوع، مشيرا إلى أنه إذا كانت لدى المرء وسيلة معتمدة كليا على النسبية للتعامل مع إسهامات المستوى الأعلى في النظرية، فإنه لا يكون قادرا فقط على التوصل لنتيجة أكثر دقة وإنما يكون قادرا أيضا على توضيح مدى اتساق ومتانة الإجراء الذي استخدمه.
توجه فاينمان بعد انتهاء المحاضرة إلى بيته قائلا له: «يمكنني القيام بهذا من أجلك. سوف أحضر لك النتيجة غدا.» كانت ثقته مبنية على سنوات أضنى نفسه خلالها في إعادة صياغة ميكانيكا الكم مستخدما مبدأ الفعل الذي وضعه وحاصل جمع المسارات، وهو ما أمده بنقطة بدء معتمدة على النسبية يمكنه استخدامها في حساباته. أتاح له الشكل الذي ابتكره في الحقيقة تعديل المسارات المحتملة للجسيمات بطريقة تحجم الحدود لانهائية القيمة في حساب الكم عن طريق التحديد الفعال لأقصى طاقة للجسيمات الافتراضية التي تدخل في العملية الحسابية، لكنه فعل ذلك بطريقة تتفق أيضا مع النسبية، تماما مثلما طلب بيته.
كانت المشكلة الوحيدة أن فاينمان لم يعمل من قبل قط باستخدام عملية حساب الطاقة الذاتية للإلكترون في نظرية الكم، لذا توجه إلى مكتب بيته، كي يشرح له الأخير كيف يمكنه إجراء العملية الحسابية، ولكي يشرح فاينمان بدوره لبيته كيف يستخدم أسلوبه. وفي واحدة من حالات المصادفات الكشفية السعيدة التي أثرت في مستقبل الفيزياء، عندما توجه فاينمان لزيارة بيته وأجريا معا حساباتهما على السبورة ارتكبا خطأ. ونتيجة لذلك، لم تكن النتيجة التي حصلا عليها في ذلك الوقت لانهائية وحسب، وإنما كانت القيم اللانهائية أسوأ في الواقع مما ظهر في الحسابات غير المعتمدة على النسبية، مما جعل فصل الأجزاء التي تمثل قيما محددة أكثر صعوبة.
عاد فاينمان إلى غرفته، وهو على يقين من أن العملية الحسابية الصحيحة لا بد أن تصل إلى رقم محدد. وفي النهاية، وبأسلوب فاينمان المعتاد، قرر أن عليه أن يعلم نفسه على نحو تفصيلي مؤلم كيفية إجراء حساب الطاقة الذاتية بالطريقة التقليدية المعقدة بواسطة الفجوات، وحالات الطاقة السالبة وما إلى ذلك. وبمجرد أن عرف بالتفصيل كيف يجري الحسابات بالطريقة التقليدية، صار على ثقة من قدرته على تكرارها باستخدام أسلوب تكامل المسار الجديد الذي ابتكره، مع إجراء التعديلات الضرورية لجعل النتيجة محددة القيمة ولكن بطريقة تظل النسبية وفقها موضوعة في الاعتبار بشكل واضح.
وعندما استقرت الأمور، جاءت النتيجة كما كان يأملها فاينمان تماما. تمكن فاينمان من التوصل لقيم محددة، من بينها نتيجة شديدة الدقة لتحول لامب، معبرا عن كل شيء بما يتفق مع كتلة سكون الإلكترون المقاسة.
وكما تبين لاحقا، استطاع آخرون أيضا إجراء عملية حسابية معتمدة على النسبية في نفس الوقت تقريبا، ومن بين هؤلاء فايسكوبف وتلميذه أنتوني فرينش، وكذلك شفينجر. وعلاوة على ذلك، استطاع شفينجر أن يبين أن ترويض نفس قيم ما لانهاية التي تسببت في تحول لامب محدد القيمة والقابل للحساب أتاح أيضا حساب انحراف تجريبي آخر عن تنبؤات نظرية ديراك غير المصوبة، وهو الانحراف الذي اكتشفته مجموعة رابي في كولومبيا. وكان لهذا التأثير علاقة بالعزم المغناطيسي المقاس للإلكترون.
لما كان الإلكترون يتصرف وكأنه يدور دورانا مغزليا، ولما كان يحمل شحنة كهربية، فإن الكهرومغناطيسية تخبرنا بأنه ينبغي أن يسلك أيضا سلوك مغناطيس دقيق الحجم. لذا ينبغي أن تكون قوة مجاله المغناطيسي مرتبطة بمقدار اللف المغزلي للإلكترون. غير أن قياس هذه القوة كشف أنه ينحرف عن التنبؤ البسيط الأدنى مرتبة بنحو واحد بالمائة. إنه مقدار ضئيل، ومع ذلك فإن القياس كان من الدقة بحيث جعل الفارق عن التنبؤ ملموسا ومؤثرا. ومن هنا صارت هناك حاجة لفهم النظرية عند مرتبة أعلى لكي نعرف إن كانت متفقة مع البيانات التجريبية أم لا.
أوضح شفينجر أن نفس نوع الحساب، الذي يفصل الأجزاء ذات القيم اللانهائية ويعدلها بأسلوب محدد بدقة، ثم التعبير عن كافة النتائج المحسوبة في صورة كميات مثل الكتلة السكونية المقاسة للإلكترون، قد أنتج تغيرا متوقعا في العزم المغناطيسي للإلكترون بالمقدار الصحيح الذي يفسر النتيجة التجريبية.
كتب رابي لبيته ملحوظة مفعمة بالنشوة عند سماعه نبأ العملية الحسابية التي أجراها شفينجر، ورد بيته، مشيرا إلى تجارب رابي: «من المؤكد أنه أمر رائع أن قدمت لنا تجاربك وجهة جديدة تماما لفهم النظرية وأن النظرية أثمرت خلال فترة قصيرة نسبيا. الأمر بنفس قدر الإثارة التي كان عليها في الأيام الخوالي لميكانيكا الكم.»
لقد بدأت الديناميكا الكهربائية الكمية تبرز أخيرا بعد تخبط طويل في الظلام. وخلال السنوات التي مرت منذ ذلك الحين، ظلت تنبؤات النظرية تتفق مع نتائج التجارب بدرجة من الدقة لم يكن لها نظير في جميع فروع العلم. وببساطة، من هذه الزاوية، لا توجد نظرية علمية في الطبيعة أفضل من هذه النظرية. •••
لو كان فاينمان واحدا فحسب وسط حشد كبير من العلماء الذين بينوا على نحو صحيح كيف يمكن حساب تحول لامب، فما كنا على الأرجح لنحتفي بإسهاماته اليوم. إن القيمة الحقيقية التي تحققت لعلم الفيزياء من وراء جهوده في حساب تحول لامب، وفهمه لأسلوب ترويض القيم اللانهائية الداخلة في العملية الحسابية، تكمن في أنه بدأ في حساب المزيد والمزيد من الأشياء. وأثناء ذلك استعان فاينمان بمهاراته الرياضية الهائلة، إلى جانب حدسه الفطري الذي نماه خلال عملية إعادة صياغة ميكانيكا الكم، لكي يتوصل بالتدريج إلى طريقة جديدة كليا لتصوير الظواهر التي تحدث في الديناميكا الكهربائية الكمية. وقد فعل هذا بأسلوب نتج عنه ظهور طريقة جديدة رائعة لإجراء حسابات النظرية، تعتمد على مخططات بيانية زمكانية، وتعتمد هي ذاتها على طريقة «حاصل جمع المسارات». •••
كان أسلوب فاينمان في حل مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية يجمع بين كونه شديد الأصالة وشديد التشتت في آن واحد. كان في كثير من الأحيان يخمن بكل بساطة الشكل الذي يجب أن تأخذه المعادلات، ثم يختبرها بأثر رجعي ليتأكد من أنه كان على صواب بمقارنة تخميناته في سياقات متنوعة مع النتائج المعروفة عندما تتوافر له. علاوة على ذلك، في حين أتاح له الأسلوب الزمكاني الذي ابتكره استخدام الرياضيات بأسلوب يتفق مع النسبية، لم تكن حساباته الفعلية التي أجراها مشتقة بصورة مباشرة من أي إطار رياضي منهجي توحدت فيه النسبية مع ميكانيكا الكم، على الرغم من أن كل شيء سار بشكل صحيح.
كان الإطار المنهجي للجمع بين النسبية وميكانيكا الكم موجودا في الواقع منذ الثلاثينيات على الأقل. كان يطلق على هذا الإطار اسم «نظرية المجال الكمي»، وكان في جوهره نظرية تتعلق بما لا حصر له من الجسيمات، ولعل هذا هو السبب الذي دفع فاينمان بعيدا عنه. ففي الكهرومغناطيسية التقليدية، المجال الكهرومغناطيسي هو كمية توصف عند كل نقطة في المكان والزمان. وعند معاملة المجال بأسلوب ميكانيكا الكم، يكتشف المرء أنه يمكن النظر إليه باعتباره جسيمات أولية، وهي في حالتنا هذه، الفوتونات. وفي نظرية المجال الكمي، يمكن اعتبار المجال شيئا كميا، له احتمال معين لخلق (أو تدمير) فوتون عند كل نقطة في الفراغ. يتيح هذا وجود عدد من الممكن أن يكون لانهائيا من الفوتونات الافتراضية التي تنتج مؤقتا عن طريق التذبذبات التي تحدث في المجال الكهرومغناطيسي. وكان هذا التعقيد تحديدا هو ما حفز فاينمان من البداية على إعادة صياغة معادلات الديناميكا الكهربائية بطريقة تختفي فيها تلك الفوتونات تماما وتحدث فيها تفاعلات مباشرة للجسيمات المشحونة. ثم تعامل بعد ذلك مع تلك التفاعلات المباشرة بطريقة ميكانيكا الكم باستخدام أسلوب حاصل جمع المسارات.
في خضم انشغاله بالتوصل لأسلوب لدمج نظرية ديراك للإلكترونات المعتمدة على النسبية ضمن إطار عملياته الحسابية للديناميكا الكهربائية الكمية، وقع فاينمان على حيلة رياضية رائعة بسطت الحسابات بصورة هائلة وألغت الحاجة إلى التفكير في الجسيمات و«الفجوات» باعتبارها كيانات منفصلة. غير أن تلك الحيلة في الوقت نفسه أظهرت بوضوح حقيقة أنه في اللحظة التي تدمج فيها النسبية ضمن ميكانيكا الكم، لا يستطيع المرء أن يعيش في عالم يكون فيه عدد الجسيمات المحتملة محددا. فالنسبية وميكانيكا الكم «تحتاجان» ببساطة إلى نظرية يمكنها التعامل مع عدد من الممكن أن يكون لانهائيا من الجسيمات الافتراضية الموجودة في أي لحظة.
كانت الحيلة التي استعان بها فاينمان مرجعها أصلا فكرة قديمة عرضها عليه جون ويلر ذات يوم عندما قال إن جميع الإلكترونات في العالم يمكن اعتبارها ناشئة من إلكترون واحد، ما دام هذا الإلكترون سمح له بأن يتحرك ذهابا وإيابا عبر الزمن. فالإلكترون الذي يتحرك في الزمن عكسيا سوف يبدو كبوزيترون يتحرك للأمام زمنيا. وبهذه الطريقة، يمكن لإلكترون واحد يتحرك ذهابا وإيابا في الزمن (متنكرا في صورة بوزيترون أثناء الإياب) استنساخ نفسه عددا هائلا من المرات في أي لحظة. وبطبيعة الحال أوضح فاينمان العيب المنطقي الذي يعتري هذه الصورة عندما احتج بأنه لو كان هذا صحيحا، لكان هناك عدد من البوزيترونات يساوي أعداد الإلكترونات الموجودة في أي لحظة. غير أن البوزيترونات غير مقاسة في المادة العادية.
مع ذلك فإن فكرة أن البوزيترون يمكن اعتباره إلكترونا يسير عكسيا في الزمن كانت فكرة أدرك فاينمان فجأة - بعد مرور كل تلك السنوات - إمكانية استغلالها في سياق مختلف. وعند محاولته إجراء حسابات معتمدة على النسبية، حيث من الطبيعي وجوب إدراج كل من الإلكترونات والفجوات فيها، أدرك فاينمان أن باستطاعته الحصول على نفس النتائج بإدراج الإلكترونات فقط في صورته للزمكان، لكن مع السماح للعمليات التي تتحرك فيها الإلكترونات للأمام وللخلف في الزمن (وهي ذات الفكرة التي عرضها معلمي في المدرسة الثانوية بصورة مبتورة إلى حد ما أثناء محاولته إثارة اهتمامي بعلم الفيزياء في ذلك الدرس المسائي الصيفي منذ زمن بعيد).
كي نفهم كيف نشأت معالجة فاينمان الموحدة للبوزيترونات والإلكترونات، فإن أيسر سبيل لذلك هو أن نبدأ التفكير من منظور الرسوم البيانية التي بدأ فاينمان في نهاية المطاف يرسمها لنفسه لتصوير عمليات الزمكان التي نتجت في رؤيته لميكانيكا الكم المبنية على حاصل جمع المسارات.
تأمل مثلا رسما بيانيا يصف العملية الزمكانية لإلكترونين يتبادلان فوتونا افتراضيا ، ينبعث عند النقطة «أ» ويمتص عند النقطة «ب»:
لكي نحسب نطاق هذه العملية من منظور ميكانيكا الكم، سيكون علينا أن نحسب جميع المسارات الزمكانية المحتملة المتفقة مع تبادل فوتون افتراضي بين الجسيمين. ولما كنا لا نشاهد الفوتون، فإن العملية التالية، وفيها ينبعث الفوتون عند النقطة «ب» ويمتص عند النقطة «أ»، عندما تسبق «ب» «أ»، تسهم أيضا في المجموع النهائي:
الآن، هناك طريقة أخرى للتفكير في الرسمين البيانيين المنفصلين. تذكر أننا نتعامل مع ميكانيكا الكم، ومن ثم فإنه خلال الزمن الذي مر بين القياسين، يكون أي شيء يتفق مع مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج مسموحا به. وهكذا، على سبيل المثال، فإن الفوتون الافتراضي ليس مقيدا للانتقال بسرعة الضوء بالضبط طيلة فترة انتقاله بين الجسيمين. غير أن النسبية الخاصة تقول إنه إذا كان يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء، فيمكن القول إنه سيبدو وكأنه يتحرك عكسيا في الزمن وفقا لإطار مرجعي معين. وإذا كان يتحرك عكسيا في الزمن، فمن الممكن أن ينبعث عند «أ» ويمتص عند «ب». وبعبارة أخرى، فإن الرسم البياني الثاني يمثل عملية مطابقة لتلك التي يصورها الرسم الأول، غير أنه في الحالة الأخيرة كان الفوتون الافتراضي يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء.
في حقيقة الأمر، على الرغم من أن فاينمان لم يصف العملية مطلقا بشكل صريح في ذلك الحين، على حد علمي، فإن نفس هذه الظاهرة تفسر سبب «احتياج» نظرية نسبية الإلكترونات - أي نظرية ديراك - للجسيمات المضادة. إن فوتونا، لا يحمل أي شحنة كهربية، يتحرك عكسيا في الزمن من «أ» إلى «ب» يشبه تماما فوتونا يتحرك للأمام في الزمن من «ب» إلى «أ». غير أن جسيما مشحونا يتحرك عكسيا في الزمن سيبدو أشبه بجسيم ذي شحنة مضادة يتحرك للأمام في الزمن.
وهكذا، فإن العملية البسيطة التي يتحرك فيها إلكترون (ك−) بين نقطتين، التي يصورها هذا الرسم البياني للمكان والزمان:
يجب أن تكون مصحوبة أيضا بهذه العملية:
غير أن العملية الأخيرة يمكن وصفها أيضا ببوزيترون وسيط (ك+) على النحو التالي:
بعبارة أخرى، يبدو أن إلكترونا واحدا يبدأ رحلته، وعند نقطة أخرى ينشأ زوج مكون من إلكترون وبوزيترون من الفراغ الخاوي، ويتحرك بوزيترون افتراضي للأمام في الزمن، ليتلاشى في نهاية المطاف مع الإلكترون الأول، تاركا الإلكترون الأخير المنفرد فقط في نهاية الرحلة.
قدم فاينمان لاحقا وصفا جميلا لهذا الموقف في بحثه عام 1949 الذي كان بعنوان «نظرية البوزيترونات». كان تشبيهه الشهير مستعارا من قائد قاذفة قنابل ينظر بمنظاره لأسفل على طريق (ما من شك أن الحرب العالمية الأخيرة أثرت دون شك على اختيارات فاينمان لتشبيهاته هنا): «الأمر يشبه قائد طائرة قاذفة يرى طريقا واحدا من خلال منظار القنابل لطائرة تحلق على ارتفاع منخفض ثم فجأة يرى ثلاثة طرق، وفقط عندما يلتقي اثنان منهما ثم يختفيان مرة أخرى، يدرك أنه ببساطة قد مر فوق تعرج طويل لطريق واحد.»
وهكذا فإن عدد الجسيمات في نظرية كم نسبية يجب أن يكون غير محدد. فما إن نظن أن لدينا جسيما واحدا، حتى يبرز لنا زوج مكون من جسيم وجسيم مضاد من الفراغ، فتصبح ثلاثة. وبعد أن يبدد الجسيم المضاد أحد الجسيمين (سواء شريكه أو الجسيم الأصلي)، يصبح هناك جسيم واحد مرة أخرى، تماما مثلما شاهد قاذف القنابل من كوة إلقاء القنابل وهو يعد الطرق التي تقع تحته. فالفكرة الأساسية مرة أخرى ليست هي أن حدوث هذا «ممكن» وحسب وإنما أن النسبية «تقتضي» حدوثه، حتى إننا بالنظر للأمر من المنظور الحالي نرى أن ديراك لم يكن أمامه خيار سوى تضمين الجسيمات المضادة في نظريته النسبية للإلكترونات والضوء.
فكرة أن فاينمان كان هو الشخص الذي أشار في مخططاته إلى احتمال معاملة البوزيترونات باعتبارها إلكترونات تتحرك عكس الزمن هي فكرة مدهشة؛ لأنها توحي على الفور أن نفوره السابق من نظرية المجال الكمي كان في غير محله. وقد احتوى توسعه البياني الزمكاني بهدف حساب الآثار الفيزيائية في الديناميكا الكهربائية الكمية ضمنا على المحتوى الفيزيائي لنظرية يمكن بمقتضاها أن تنشأ الجسيمات وتفنى، ومن ثم يكون عدد الجسيمات خلال الخطوات الوسيطة لإحدى العمليات الفيزيائية غير محدد. وقد اضطرت الفيزياء فاينمان إلى إعادة إنتاج المحتوى الفيزيائي لنظرية المجال الكمي. (في الحقيقة، في بحث مغمور أجراه الفيزيائي الألماني إرنست ستوكلبرج عام 1941، قبل بحث فاينمان بثمانية أعوام، وجد هذا العالم نفسه مدفوعا نحو التفكير من منظور المخططات الزمكانية، والتفكير في البوزيترونات باعتبارها إلكترونات تتحرك عكسيا في الزمن، إلا أنه لم يجد الدافع الكافي لمتابعة المنهج الذي اتبعه فاينمان في نهاية المطاف مستخدما تلك الأدوات.)
الآن وقد ألفنا تلك الرسوم البيانية التي ستعرف فيما بعد باسم «مخططات فاينمان»، يمكننا رسم العمليات المتوافقة مع العمليات التي كانت قبل ذلك لانهائية والمرتبطة بالطاقة الذاتية للإلكترون واستقطاب الفراغ:
غير أنه من وجهة نظر فاينمان، كان هناك اختلاف جذري بين الرسمين البيانيين. فقد كان باستطاعته تخيل الرسم الأول بصورة طبيعية حين يبعث الإلكترون فوتونا ثم يعيد امتصاصه لاحقا. إلا أن الرسم البياني الثاني بدا غير طبيعي لأنه لا يمكن أن ينتج عن مسار إلكترون واحد يتحرك ويتفاعل جيئة وذهابا في المكان والزمان، وشعر فاينمان أن مثل هذه المسارات هي الوحيدة الملائمة لإدخالها ضمن حساباته. ونتيجة لهذا، كان متنبها لحاجته لإدراج تلك العمليات الجديدة، ولم يفعل هذا في البداية. وتسبب هذا القرار في عدد من المشكلات لفاينمان وهو يحاول اشتقاق إطار يمكن فيه تحاشي كل قيم ما لانهاية التي ظهرت في نظرية ديراك، ويمكن فيه اشتقاق تنبؤات واضحة للعمليات الفيزيائية.
ارتبط أول نجاح عظيم لأساليب فاينمان بحساب الطاقة الذاتية للإلكترون. كان أهم شيء أنه عثر على طريقة لتغيير تفاعل الإلكترونات والفوتونات على مقاييس بالغة الضآلة وطاقات بالغة الارتفاع بأسلوب يتفق مع متطلبات نظرية النسبية. وينتج هذا بشكل تصويري من تأمل الحالة التي تصبح فيها الحلقة الموجودة في رسم الطاقة الذاتية شديدة الصغر، ثم تغيير تفاعلات جميع الحلقات الصغيرة والأصغر. وبهذه الطريقة يمكن اشتقاق نتيجة مبدئية، وهي ذات قيمة محددة. علاوة على ذلك، من الممكن إيضاح أن هذه النتيجة مستقلة عن شكل تغيير تفاعلات الحلقات الصغيرة في الحدود التي تصبح فيها الحلقات أصغر وأصغر. وأهم شيء، كما أكدت من قبل، هو أنه لما كانت الحلقات تأخذ في الاعتبار زمنا عشوائيا للانبعاث والامتصاص وفي نفس الوقت تشمل عناصر تتحرك في الزمن ذهابا وإيابا، فإن شكل التعديل الذي أجراه فاينمان لم يفسد السلوك النسبي للنظرية، الذي لا يجب أن يعتمد على تعريف أي مشاهد منفرد للزمن.
وكما تنبأ كريمرز وغيره، كان المفتاح هو جعل إسهامات الحلقات المتغيرة تلك ذات قيم محددة، أو إخضاعها لنظام، حسبما أطلق على هذا لاحقا، بطريقة تتفق مع النسبية. حينها إذا عبر المرء عن التصويبات التي أجريت على الكميات الفيزيائية - مثل طاقة إلكترون في مجال ذرة هيدروجين - من حيث الكتلة المادية والشحنة المادية للإلكترون، فإن القيمة المتبقية، بعد حذف الحد الذي كان سيتخذ قيمة لانهائية لولا التعديل الذي تم على الحلقات الصغيرة، تجمع بين كونها محددة ومستقلة عن الشكل الصريح للتعديل الذي تم إجراؤه. والأهم من ذلك أنها تظل ذات قيمة محددة حتى بعد إنقاص مقياس الحجم الذي تتغير عنده أشكال الحلقات البيانية إلى صفر، حيث كان الرسم البياني للحلقة سيتخذ قيمة لانهائية لولا ذلك. ونجحت إعادة التطبيع! واتفق التصويب محدد القيمة بقدر معقول جدا مع تحول لامب المقاس، وأثبتت الديناميكا الكهربائية كنظرية كمية.
إلا أنه مع الأسف لم ينجح نفس النوع من الإجراءات الذي استخدمه فاينمان لتغيير النظرية على مقاييس مسافات ضئيلة عند بحثه في الطاقة الذاتية للإلكترون عندما بحث في التأثير اللانهائي للرسوم البيانية لاستقطاب الفراغ. فلم يتمكن فاينمان من العثور على تعديل لحلقات الإلكترون-البوزيترون الصغيرة بحيث يحافظ على الخصائص الرياضية الأنيقة للنظرية دون إجراء هذا التعديل. ولعل هذا سبب آخر، يضاف إلى إحساسه بأن تلك المخططات ربما لم تكن ملائمة فيزيائيا للمشكلة التي يبحثها، دفعه لتجاهلها في حساباته الأولى لتحول لامب.
دخل فاينمان في صراع متقطع مع هذه المشكلة على مدار عامي 1948 و1949. وتمكن من التوصل لنتائج دقيقة من المنظور الكمي بأن افترض بالحدس أن الحدود الإضافية المتنوعة في معادلاته، التي ظهرت بسبب تغيير شكل حلقة الإلكترون-البوزيترون، من المرجح أنها كانت غير فيزيائية؛ لأنها لم تتفق مع الدقائق الرياضية للديناميكا الكهربائية الكمية، ومن ثم صار بالإمكان تجاهلها بأمان. وحل هذا الوضع غير المرضي عندما أبلغ بيته فاينمان بعد ذلك في عام 1949 عن حيلة اكتشفها فولفجانج باولي وسمحت بتعديل متوافق رياضيا يجري إدخاله على رسوم استقطاب الفراغ البيانية.
ما إن أدخل فاينمان هذا المخطط في حساباته، حتى أمكنه ترويض جميع القيم اللانهائية في الديناميكا الكهربائية الكمية، وأمكن حساب كل كمية فيزيائية بدقة متناهية ومضاهاتها بنتائج التجارب. ومن المنظور العملي لامتلاك نظرية للإلكترونات والفوتونات يمكن للمرء من خلالها حساب تنبؤات محددة القيمة (ودقيقة) لجميع العمليات، حقق فاينمان الهدف الذي حفزه في البداية في مشروع تخرجه تحت إشراف ويلر.
غير أن فاينمان لم يتخل بسهولة عن شكوكه الحدسية، وفي بحثه الشهير عام 1949، بعنوان «نهج زمكاني لفهم الديناميكا الكهربائية الكمية»، الذي أوضح الأساليب البيانية والنتائج، أضاف حاشية أشار فيها إلى الحاجة لتجارب أكثر دقة على تحول لامب، حتى يعرف إن كان الإسهام الصغير الذي حسبه هو وآخرون حتى ذلك الوقت باعتباره ناجما عن تأثيرات استقطاب الفراغ حقيقيا أم لا.
وكان حقيقيا بالفعل.
الفصل العاشر
نظرة عابسة من وراء زجاج
لقد جاءت ماكيناتي من مكان بعيد بعيد.
ريتشارد فاينمان،
مخاطبا سيلفان شويبر، 1984
ربما يبدو رد فعل فاينمان المتردد تجاه ما توصل إليه من نتائج مثيرا للدهشة، غير أنه ليس كذلك، ولا هو فريد من نوعه. فالحلول الصحيحة في العلم لا تكون في جميع الأحوال بديهية وقت ظهورها. وعند العمل بأسلوب تجريبي، عند حافة المعرفة، ومع كثير من الانحرافات الخاطئة، والحارات المعتمة، والطرق المسدودة، من السهل عندئذ أن يتشكك المرء عندما يبدو أن الطبيعة تستجيب للعمليات الرياضية التي تخيلها وهو جالس على مكتبه. ومن ثم، فإن هذه ليست نهاية هذا الجزء من قصة فاينمان، على الأقل إذا أردنا أن نفهم تراثه العلمي الحقيقي. وإنما نحن في حاجة لبحث بعض الأحداث والشخصيات وتصاريف القدر التي تحكم التاريخ حقا؛ تلك النوعية من الأشياء التي كثيرا ما يتجنبها المرء عند محاولته تقديم شرح منطقي للمفاهيم العلمية بعد أن تظهر الحقيقة فعلا.
هناك شخصيتان هيمنتا على المناخ المحيط بفاينمان مباشرة وهو المناخ الذي طور فيه اكتشافاته وفهمها، وهما: جوليان شفينجر وفريمان دايسون. وقد التقينا من قبل بالفعل بجوليان شفينجر، الفتى المعجزة. مثل فاينمان، كان شفينجر مشدودا للسؤال الأساسي الأهم في الفيزياء النظرية في ذلك الحين: كيف نحول الديناميكا الكهربائية الكمية إلى نظرية متماسكة متسقة عن الطبيعة. ومثل فاينمان، كان شفينجر ممن أسهموا في المجهود الحربي، وكان لعمله وقتها تأثير بالغ أيضا على منهجه. فشفينجر، الذي عمل في معمل الإشعاع التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بدأ يتبع منهجا هندسيا معتمدا على الديناميكا الكهربائية التقليدية، مركزا اهتمامه على المصادر وردود الأفعال. ومثل فاينمان، كان مدفوعا بقوة بمنافسة بينه وبين نفسه في المقام الأول، ومع ما اعتقد أنه ينبغي أن يكون قادرا على فعله.
غير أن أوجه الشبه تتوقف عند هذا الحد. فمع أن شفينجر ينحدر أيضا من نيويورك، فإنه ترعرع في مانهاتن، وهو عالم آخر بعيد كل البعد عن لونج أيلاند، ولعله ليس باستطاعة أي فيزيائي أن يأتي من خلفية أكثر اختلافا من تلك. عينه رابي وهو في سن السابعة عشرة في جامعة كولومبيا لعبقريته وتألقه بعد أن ساعد في حل جدال نشب بين رابي وأحد زملائه في أحد أروقة الجامعة حول نقطة دقيقة في ميكانيكا الكم. وفي سن الحادية والعشرين، نال درجة الدكتوراه، وبعدها بثمانية أعوام صار أصغر أستاذ دائم في تاريخ جامعة هارفارد. كان يشع ثقة بالنفس وحسن تنظيم فائقين. ومع أن شفينجر كان يلقي محاضراته دائما بدون مذكرات، فإن كل شيء كان يبدو مرتبا في ذهنه، من الموضع الذي سيضع عنده الطباشير لأول مرة وحتى الموضع الذي سيترك فيه الطباشير السبورة، أو بالأحرى الموضعين؛ لأنه كان يكتب أحيانا بيديه الاثنتين. ربما كان تدفق أفكاره يبدو معقدا، وربما يقول كثيرون إنه كان أكثر تعقيدا مما ينبغي، لكنه كان مع ذلك دقيقا ومنطقيا وأنيقا إلى أقصى حد.
أما عبقرية فاينمان فقد أعلنت عن نفسها بنوع من نفاد الصبر الذهني. فعندما كان يهتم بحل مسألة ما كان يندفع إلى الأمام ليصل إلى الحل ثم يعمل في اتجاه عكسي كي يفهم ويحدد الخطوات التي تركها. وفي بعض الأحيان، كان يضيق ذرعا بأولئك الذين لا يستطيعون متابعة أفكاره، وقليل من كانوا يستطيعون. وعلى حد قوله، في رده على عرض وظيفي قدم إليه لاحقا من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك): «لا أحب طرح مشكلة ما ثم اقتراح وسيلة لحلها، وأشعر بالمسئولية بعد أن يعجز الطالب عن التعامل مع المسألة باستخدام الطريقة المقترحة في الوقت الذي توشك فيه زوجته على الولادة فلا يحصل على وظيفة. وما يحدث هو أنني لا أقترح ما لا أعلم إن كان سينجح أم لا، والسبيل الوحيد الذي أعلم به ما سينجح هو أن أجربه بالمنزل مسبقا، لذا فإنني أعتبر أن المقولة القديمة: «رسالة الدكتوراه هي بحث أجراه أستاذ في ظروف شديدة المشقة» حقيقة لا مراء فيها.»
ربما لهذا السبب لم يكن لدى فاينمان سوى عدد قليل للغاية من الطلبة الناجحين في الفيزياء. أما شفينجر، على الجانب الآخر، فقد أشرف على ما يزيد عن 150 طالب دكتوراه خلال حياته المهنية، نال ثلاثة منهم جائزة نوبل، اثنان في الفيزياء وواحد في الأحياء. لهذا لا يدهشنا أن مجتمع الفيزياء كان يهرع في أسراب وحشود للاستماع إلى شفينجر، وبصفة خاصة حين كان يحاول حل أكثر الألغاز وضوحا في طليعة الفيزياء الأساسية.
بعد المؤتمر الذي عقد في شيلتر أيلاند، أخذ شفينجر على عاتقه أيضا مهمة التوصل إلى عملية حسابية متفقة مع النسبية في الديناميكا الكهربائية الكمية لواحدة من الكميات التي اختلفت عن تنبؤات المرتبة الأدنى لنظرية ديراك؛ العزم المغناطيسي الغريب للإلكترون. وباستخدام مجموعة من الأدوات التي ابتكرها للتعامل مع مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية، وأفكار إعادة التطبيع التي كان هو وفيكتور فايسكوبف وإتش إيه كريمرز يروجون لها، كان أول من توصل إلى حل في أواخر عام 1947.
بدأت الأنباء تنتشر على الفور تقريبا في أوساط مجتمع الفيزياء حول إنجاز شفينجر . وفي اجتماع يناير 1948 للجمعية الفيزيائية الأمريكية - وهو الملتقى الكبير للفيزياء خلال العام - دعي شفينجر لإلقاء محاضرة، وبالفعل ألقى محاضرة بعنوان «التطورات الأخيرة في الديناميكا الكهربائية الكمية». وكان الاهتمام بها عظيما إلى حد أنه طلب منه إعادة المحاضرة في وقت لاحق من نفس اليوم، وبعدها مرة أخرى أمام جمهور أكبر لتلبية الطلب على الاستماع إلى النتائج التي توصل إليها.
في هذه الأثناء، نهض فاينمان بعد الحديث وذكر أنه حسب أيضا نفس الكميات التي حسبها شفينجر، بل إنه زعم توصله لقدر أكبر بعض الشيء من الشمولية في حساب العزم المغناطيسي الغريب للإلكترون. لكنه لم يشرح الأساليب التي استخدمها بعد، لذا كان إعلانه أقل تأثيرا بكثير.
حظيت أفكار فاينمان بقدر أقل من الاهتمام في الأوساط العلمية في ذلك الحين، ليس لأنه لم يمتلك نفس المنبر في ذلك الاجتماع، وإنما لأن منهجه بالكامل في التعامل مع المشكلات التي حلها في نهاية الأمر كان غريبا. لقد تجاهل طويلا شبكة الأمان الممثلة في نظرية مجال الكم التقليدية، ومع أن مخططاته أتاحت له حساب نتائج استثنائية، فإنها ربما بدت للآخرين أشبه بطلاسم نقشت بخط رديء في محاولة لتخمين الحل لمشكلات ذلك الوقت.
ذلك التحفظ الذي أبداه مجتمع علماء الفيزياء تجاه فهم أبحاثه تجلى في أوضح صوره خلال الفرصة الأولى التي لاحت لفاينمان لإلقاء محاضرة حول فكرته، بعد بضعة أشهر، في ورشة عمل أخرى أقيمت تحت رعاية الأكاديمية الوطنية للعلوم، أو ما يعرف باسم «مؤتمر بوكونو». جاءت محاضرته، وعنوانها «صياغة بديلة للديناميكا الكهربائية الكمية» بعد كلمة شفينجر، التي استمرت قرابة يوم كامل! ومع أن شفينجر كان يتصف بالهدوء والاتزان، فقد أصابه الاضطراب والارتباك بين الحين والآخر، حيث كان بور وديراك وغيرهما من كبار العلماء الحاضرين يقاطعونه على نحو مستمر.
لاحظ هانز بيته أن شفينجر يواجه مقاطعة أقل متى اتسم حديثه بطابع رسمي أكثر، لذا اقترح على فاينمان أن يقدم محاضرته بصورة تتسم بأنها رسمية ورياضية أيضا. وكان هذا الطلب أشبه بأن تطلب من بونو عزف مقطوعة لباخ على بيانو قيثاري. كان فاينمان قد استعد لتقديم مادته بنفس الطريقة تقريبا التي أجرى بحثه بها، مؤكدا على العمليات الحسابية الناجحة والنتائج التي سوف تعود به بعد ذلك للوراء كي تحفز أفكاره. غير أنه، مذعنا لاقتراح بيته، ركز على الرياضيات المرتبطة بأسلوبه الذي يجمع بين المكان والزمان بدلا من الفيزياء. وكانت النتيجة على حد تعبير فاينمان نفسه «محاضرة ميئوسا منها».
ظل ديراك يقاطعه سائلا عما إذا كانت نظريته «وحدوية» - وهو أسلوب رياضي لصياغة حقيقة ما، كما شرحت آنفا، مفاده أن المجموع المحسوب لاحتمالات جميع النتائج الفيزيائية الممكنة في أي موقف يجب أن يساوي واحدا صحيحا (بمعنى أن هناك احتمالا بنسبة 100٪ أن يحدث شيء ما) - غير أن فاينمان في الحقيقة لم يكن قد فكر في هذا الأمر، ولما كانت جسيماته تتحرك للأمام وللخلف في الزمن، فقد أجاب بأنه ببساطة لا يعلم.
بعدها، عندما قدم فاينمان فكرة سلوك البوزيترونات وكأنها إلكترونات تتحرك عكسيا في الزمن، سأله أحد المشاركين إن كان هذا يعني ضمنيا أنه في بعض مسارات الزمكان التي أدخلها في حساباته، قد تبدو عدة إلكترونات وكأنها تحتل نفس الحالة، وهو خرق واضح لمبدأ الاستبعاد لباولي. فأجابه فاينمان بالإيجاب لأنه في هذه الحالة لم تكن الإلكترونات المختلفة في حقيقة الأمر جسيمات مختلفة، وإنما هي نفس الجسيمات تتحرك جيئة وذهابا في الزمن! يذكر فاينمان لاحقا أن الفوضى عمت المكان بعدها.
في نهاية المطاف أدى هذا إلى أن شكك بور في الأساس الفيزيائي لمفهوم الزمكان لفاينمان ذاته. وزعم أن صورة مسارات الزمكان تخرق مبادئ ميكانيكا الكم، التي تقول إن الجسيمات لا تتحرك في مسارات فردية معينة على الإطلاق! وعند هذه النقطة تخلى فاينمان عن محاولة إقناع الحاضرين بصحة مخططه.
كان بور مخطئا بالطبع. لقد أوضح أسلوب حاصل جمع المسارات لفاينمان بما لا يدع مجالا للشك أنه لا بد من دراسة العديد من المسارات المختلفة في آن واحد عند حساب النتائج الفيزيائية، والحقيقة أن نجل بور جاء فيما بعد وقدم اعتذاره قائلا إن أباه أساء فهم فاينمان. غير أن نمط التساؤل الاستجوابي عكس ما كان من الواضح أنه شك عميق وريبة متنامية في أن فاينمان توصل إلى صورة متسقة تمام الاتساق. لقد كان يطلب ما لا يستطاع من جمهور الحاضرين، الذي لا يمكن أن يتوقع منه - على الرغم من وجود بعض ألمع العقول في علم الفيزياء في القرن العشرين وسطه - التأقلم في محاضرة واحدة مع هذا الأسلوب الجديد كليا الذي لم يكتمل بعد في التفكير في عمليات فيزيائية أساسية. فعلى أي حال، فإن فاينمان نفسه استغرق منه الأمر سنوات وآلافا من الصفحات التي أجرى فيها عملياته الحسابية حتى توصل إليه.
ربما يظن المرء أن فاينمان كان حتما يغار من شفينجر، لا سيما في ضوء تباين استقبال الناس المبكر لأبحاث كل منهما. ما من شك في أنهما كانا ميالين للمنافسة. لكنهما، حسبما يقول فاينمان على الأقل، كانا أقرب لشريكين في مؤامرة. لم يكن أي منهما يفهم تمام الفهم ما يفعله الآخر، غير أن كليهما كان يعرف قدرات الآخر ويثق بها، وكليهما كان يشعر بأنهما يسبقان غيرهما. ربما كانت ذاكرة فاينمان متحيزة لمصلحته، إذ إنه بالتأكيد لم يكن راضيا وقتها عن عدم فهم الآخرين له. وقد قرر، وهو يشعر بالحزن والكآبة بعد مؤتمر بوكونو، أن يقدم أفكاره مطبوعة حتى يتمكن من شرح ما كان يفعله بصورة ملائمة. وبالنسبة لفاينمان، الذي كان يكره كتابة أعماله للنشر، كان الدافع هنا واضحا.
تذكر أن منهج فاينمان في حل المسائل الفيزيائية كان من الممكن صياغته في إطار «الغايات تبرر الوسائل». وأعني بهذا أن المرء قد يخرج بفكرة أو طريقة جديدة شبه ناضجة، غير أن صحتها تكمن فيما تحققه من نتائج. فإذا اتفقت النتائج المحسوبة مع الطبيعة، من خلال التجارب، فالأرجح إذن أن الطريقة على المسار الصحيح وأنها تستحق المزيد من البحث والاستكشاف.
شعر فاينمان أن أسلوب حاصل جمع المسارات الذي ابتكره صحيح. كان بحلول ذلك الوقت قد حسب كل الكميات التي يمكن للمرء حسابها في الديناميكا الكهربائية الكمية تقريبا واتفقت نتائجه مع الطرق الأخرى عندما كانت متاحة. لقد ابتكر أساليبه أثناء تقدمه في مسيرته بغرض التعامل مع المسائل المحددة التي يواجهها. ولكن كيف يمكنه تقديم هذا مكتوبا لجمهور من الفيزيائيين غير المعتادين على العمل في اتجاه عكسي، وإنما يعملون في اتجاه أمامي لفهم النظريات؟
عندما يتعلق الأمر بفاينمان، كان الوصول إلى فهم واضح لأفكاره بقدر يسمح بعرضها على الآخرين يعني إجراء المزيد من الحسابات لنفسه. لذا، عكف طوال صيف عام 1948 على تنقيح طرقه الحسابية وتعميمها، وتوصل أيضا لطرق أكثر فعالية. وعن طريق جعل طرقه الحسابية أكثر اختصارا وإفادة وعمومية، من المرجح أنه شعر حينها أنه يستطيع توصيل نتائجه إلى مجتمع الفيزيائيين بسهولة أكبر. وأخيرا، بحلول ربيع عام 1949 كان فاينمان قد ناضل بما فيه الكفاية حتى تمكن من إتمام بحثيه الملحميين: «نظرية البوزيترونات» و«نهج زمكاني لفهم الديناميكا الكهربائية الكمية»، اللذين وضعا الأساس بصورة جوهرية لجميع أفكاره وحساباته الناجحة التي أجراها على مدار العامين السابقين.
هناك عاملان رئيسيان آخران أسهما في توطيد عزم فاينمان وتراثه؛ الأول: يتعلق بعالم رياضيات شاب مميز تحول إلى فيزيائي سبق أن التقينا به، وهو فريمان دايسون، الذي وصل إلى الولايات المتحدة عام 1947 قادما من جامعة كامبريدج طالبا للعمل مع بيته، والذي شرح أعمال فاينمان في نهاية المطاف لباقي العالم.
بعد أن اشتهر بالفعل في المملكة المتحدة لإنجازاته في الرياضيات، قرر فريمان دايسون وهو في سن الثالثة والعشرين أن المسائل الذهنية المثيرة بحق في ذلك الحين تكمن في الفيزياء النظرية، وبالتحديد في محاولة فهم النظرية الكمية للكهرومغناطيسية. لهذا، بينما كان زميل كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج، اتصل بالعديد من الفيزيائيين وسألهم إلى أين يتوجه ليلحق بالتطورات الحديثة الأكثر إثارة، وأشار عليه الجميع بالالتحاق بمجموعة بيته في كورنيل.
في غضون عام، كان دايسون قد أتم بحثا يحسب فيه التصويبات الكمية لتحول لامب في نظرية صغيرة تتفق مع النسبية مستخدما جسيمات ليس لها لف مغزلي. ومثل فاينمان ، كان متأثرا بشدة باحترامه البالغ وإعجابه الشديد ببيته، وكان انبهاره بالرجل مماثلا بقدر واضح لانبهار فاينمان. كتب دايسون يقول: «تمثلت رؤيته في ضرورة فهم أي شيء يمكن حسابه عدديا. كان هذا بالنسبة له يمثل جوهر ممارسة الفيزياء.»
بحلول ربيع عام 1948، كان تركيز دايسون منصبا بعمق على المشكلات المفاهيمية للديناميكا الكهربائية الكمية، وقرأ مع بقية أعضاء مجتمع الفيزياء، بعد أن نبههم روبرت أوبنهايمر، العدد الأول من الدورية اليابانية الجديدة «بروجرس إن ثيوريتيكال فيزيكس». وذهل عندما اكتشف أن علماء الفيزياء النظرية اليابانيين، مع عزلتهم التامة، أحرزوا تقدما كبيرا أثناء الحرب. ابتكر سين-إتيرو توموناجا تحديدا، بصورة مستقلة إلى حد بعيد، أسلوبا لحل مشكلات الديناميكا الكهربائية الكمية مستخدما تقنيات مشابهة لتلك التي ابتكرها شفينجر. كان الفارق يكمن في أن أسلوب توموناجا بدا أبسط كثيرا في رأي دايسون، الذي كتب يقول: «لقد عبر توموناجا عن أسلوبه بلغة بسيطة واضحة يمكن لأي شخص أن يفهمها، في حين لم يفعل شفينجر ذلك.»
خلال كل تلك الفترة، كان دايسون يتفاعل مع فاينمان، متعلما منه على السبورة ما أنجزه بالضبط. وأعطاه هذا فرصة فريدة من نوعها تقريبا لفهم أسلوب فاينمان في وقت لم يكن فاينمان قد نشر فيه بحثه بعد، ولا حتى قدم حلقة دراسية متماسكة حول الموضوع.
ولو كان هناك شخص أصبح دايسون يكن له الإعجاب مثلما كان يكنه لبيته أو ربما أكثر، فإن هذا الشخص هو فاينمان، الذي كانت عبقريته الممزوجة بالحماس والجاذبية والجرأة تأسر لب العالم الشاب. وسرعان ما أدرك دايسون أن الأمر لم يكن يقتصر على قوة النهج الزمكاني الذي ابتكره فاينمان وحسب، وإنما أنه لو كان صحيحا، فلا بد أن يكون ممكنا الكشف عن علاقة بين هذا النهج وبين الأساليب التي ابتكرها شفينجر وتوموناجا.
في الوقت نفسه، كان دايسون قد حقق قدرا من الإبهار للمشرف على أبحاثه إلى حد جعل بيته يقترح عليه أن يمضي العام الثاني من دراسة زمالة خريجي الكومنولث بمعهد الدراسة المتقدمة، مع أوبنهايمر. وخلال الصيف، وقبل انتقاله إلى نيو جيرسي، صاحب دايسون فاينمان في تلك الرحلة المصيرية عبر البلاد بالسيارة إلى لوس ألاموس، ثم التحق بمدرسة صيفية في ميشيجن، ثم قام برحلة أخرى عبر البلاد، هذه المرة بحافلة «جراي هاوند»، إلى بيركلي ثم العودة. وخلال رحلة العودة من كاليفورنيا، وبعد سفر بالحافلة دام ثمانيا وأربعين ساعة على نحو يعتبره كثيرون مجهدا للغاية للعقل، ركز دايسون تفكيره بكثافة على الفيزياء، وتمكن من الانتهاء ذهنيا من السمات الأساسية لبرهانه على أن أسلوب فاينمان وأسلوب شفينجر في الديناميكا الكهربائية الكمية متكافئان في حقيقة الأمر. وتمكن أيضا من صهرهما معا «في شكل جديد لنظرية شفينجر يجمع بين مزايا كليهما»، على حد قوله في أحد خطاباته.
بحلول شهر أكتوبر من عام 1948، وقبل أن يتم فاينمان بحثه الطويل في الديناميكا الكهربائية الكمية، تقدم دايسون ببحثه الشهير بعنوان «نظريات الإشعاع لتوموناجا وشفينجر وفاينمان»، مبرهنا على تكافئها. وكان التأثير النفسي لهذا البحث بالغا. لقد كان الفيزيائيون يثقون في شفينجر، غير أن أساليبه كانت معقدة إلى حد يفزعهم ويثبط هممهم. وعندما أثبت دايسون أن أسلوب فاينمان على نفس القدر من الجدارة والاستحقاق والاتساق وأنه يقدم منهجا منظما أكثر سهولة بكثير لحساب تصويبات الكم الأعلى رتبة، كشف بذلك لبقية أعضاء مجتمع الفيزياء عن أداة جديدة وفعالة يمكن للجميع البدء في استخدامها.
أتبع دايسون بحثه عن «الإشعاع» ببحث إبداعي أصيل آخر في أوائل عام 1949. فبعد أن ابتكر الوسائل التي تتيح تكييف صياغة معادلات شفينجر مع أساليب فاينمان بحيث يمكن حساب الإسهامات ذات الرتبة الأعلى شديدة التعقيد في النظرية، أخذ دايسون على عاتقه مهمة إثبات أن المسألة برمتها منطقية، على نحو دقيق، أو على الأقل دقيق بقدر كاف لإرضاء الفيزيائيين! وأوضح أنه بمجرد حل مشكلات قيم ما لانهاية في أبسط حسابات الطاقة الذاتية واستقطاب الفراغ، فعندئذ لن تكون هناك قيم لانهائية أخرى تؤدي إلى كافة حسابات الرتبة الأعلى. أتم هذا العمل برهانا على ما صار الآن يعرف ب «قابلية إعادة التطبيع» للنظرية، وفيها يمكن دمج جميع قيم ما لانهاية - ما إن تتحقق السيطرة عليها أولا بواسطة حيل رياضية من النوع الذي أتاحه أسلوب فاينمان بكل سهولة - ضمن «الكتلة المجردة» و«الشحنة» غير القابلتين للقياس في النظرية. وعندما يعبر عن كل شيء في صورة كتل وشحنات مقاسة فيزيائيا أعيد تطبيعها، تصبح كل التنبؤات ذات قيم محددة ومعقولة.
مع اكتمال بحثي دايسون، أمكن بحق ترويض الديناميكا الكهربائية الكمية. وأصبح بإمكانها الآن أن ترتقي إلى مرتبة «النظرية» وفق أفضل مفهوم علمي بمعنى كونها صياغة متسقة منطقيا حققت تنبؤات فريدة يمكن مقارنتها - وتمت بالفعل مقارنتها - بنجاح بالنتائج التجريبية.
ومن المثير أن بحث دايسون الأصلي الذي يبرهن على تكافؤ صور شفينجر وصور فاينمان لم يحتو إلا على مخطط زمكاني واحد فقط. غير أنه لما كانت بحوث فاينمان الأصلية الأولى حول النتائج التي توصل إليها لم تكن قد ظهرت بعد، فإن أول «مخطط لفاينمان» ظهر مطبوعا كان في الحقيقة من عمل دايسون!
من العسير أن نوفي بحث دايسون حقه من حيث الأهمية والتأثير. لقد أصبح دايسون على الفور أحد مشاهير مجتمع الفيزياء، ولكن الأهم من ذلك أن بحثه جعل آخرين، ممن لم يتمكنوا من فهم أسلوب فاينمان البياني أو كانوا مرتابين فيه، يتعلمون الصيغة ويبدءون في تبنيها. وفي حين أن عرض فاينمان الخاص لأعماله كان سيظهر فيما بعد في بحثين مبدعين أصليين كتبهما عامي 1949 و1950، فإن بحثي دايسون هما اللذان فتحا النافذة التي من خلالها تمكنت أفكار فاينمان من تغيير الطريقة التي كان علماء الفيزياء يفكرون بها في الفيزياء الأساسية.
عمل دايسون جاهدا، وربما أكثر من فاينمان نفسه، لإقناع بقية العالم بجدوى أفكار فاينمان. والحق أن كثيرا من استخدام علماء الفيزياء اللاحق لمخططات فاينمان خلال العقد التالي لظهور أعماله يمكن أن نعزوه في الأساس إلى تأثير دايسون، الذي صار، من خلال اتصاله الشخصي بفاينمان، حواريه الأول.
عكست أبحاث دايسون في الأساس رؤيته الخاصة التي مفادها أنه على الرغم من أن أساليب فاينمان وشفينجر وتوموناجا كانت متكافئة، فإن أسلوب فاينمان كان أكثر تنويرا ونفعا لأولئك الذين يرغبون في استخدام الديناميكا الكهربائية الكمية في حل مسائل الفيزياء.
ومع بدء تحول تيار الاهتمام بعيدا عن شفينجر ، لم يكن هذا الأخير غافلا عن ذلك، وقد علق فيما بعد بقوله: «كانت هناك رؤى حرة، تذيع وتنتشر بأسلوب قريب إلى حد ما من أسلوب الحواريين، الذي استخدم المنطق الإغريقي في تقديم إله اليهود إلى عبدة الأوثان.» ثم أصدر شفينجر بعدها إطراء آخر، ربما كان أكثر تعبيرا عن رؤيته أن التنوير لا يتحقق إلا لأولئك المستعدين لتحمل أشق المعاناة: «مثل رقاقة السليكون التي ظهرت في سنوات أقرب، كان مخطط فاينمان يعمل على إتاحة العمليات الحسابية للعامة.»
درس المؤرخ ديفيد كايزر «انتشار» أسلوب فاينمان المعتمد على المخططات في أوساط مجتمع علماء الفيزياء خلال السنوات التي سبقت، وتلت، مباشرة تاريخ نشر أبحاثه. وحسبما أوضح كايزر، كان هذا الانتشار يزداد بصورة أسية، ويتضاعف كل عامين تقريبا، وبحلول عام 1955، احتوى حوالي 150 بحثا على مخططات فاينمان. وما بدأ في صورة فضول لم يفهمه سوى فاينمان وحده وبعض من زملائه في كورنيل، ثم دايسون وآخرين في معهد الدراسة المتقدمة وبعض الأماكن الأخرى، استمر ليصبح أسلوبا ظل يظهر منذ ذلك الحين في كل عدد يصدر من أعداد دورية فيزيكال ريفيوز؛ وهي الدورية المرجعية القياسية للمتخصصين في ذلك المجال. وما بدأ في صورة جهد يهدف للتعامل مع الديناميكا الكهربائية الكمية صار الآن يستخدم في جميع مجالات علم الفيزياء تقريبا.
كان فاينمان ودايسون مختلفين أشد الاختلاف في فهم مخططات فاينمان في واقع الأمر. ففاينمان - متأثرا بصور الزمكان التي رسمها هو نفسه، وبأسلوب حاصل جمع المسارات الذي ابتكره، وبإصراره على التفكير في الجسيمات وهي تتحرك لا في مجالات الكم - اعتبر تلك المخططات صورا حقيقية لعمليات فيزيائية تتقافز فيها الإلكترونات من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان (للأمام وللخلف). وبناء على تلك الصور دون صيغه، واستطاع بعد ذلك أن يفحص ويتحقق ليرى إن كانت تلك الصيغ ستنتج حلولا صحيحة أم لا. لقد كان ذلك بحق جهدا ذاتيا غير معتمد على أساس جوهري راسخ بخلاف حدسه المميز المثير للإعجاب.
وجاءت أعمال دايسون لتغير كل هذا. فقد أوضح كيف يمكن أن تنتج المخططات عن مجموعات أساسية من المعادلات المبنية على نظرية مجال الكم. من وجهة نظر دايسون، كان كل جزء من كل مخطط يمثل حدا واضح المعالم في سلسلة من المعادلات. كانت المخططات بمنزلة عكاز يساعد على شرح المعادلات، ولم تكن «قواعد فاينمان» الموضوعة لترجمة المخططات إلى معادلات مخصصة لهذا الغرض تحديدا، كما وضعها فاينمان، وإنما كان يمكن تبرير وجودها ودعمه بواسطة معالجات محددة للمعادلات المرتبطة بميكانيكا الكم والنسبية الخاصة. وربما لهذا السبب، جاء تبني مخططات فاينمان بسرعة أكبر من تبني نهج الزمكان وتكامل المسار الذي ابتكره في الفيزياء، وهو الأسلوب الذي سيستغرق بضعة عقود أخرى ليغير كليا علم الفيزياء، كما سنرى لاحقا.
أدرك دايسون على الفور كيف يمكن لطرق فاينمان مساعدة البشر على إجراء الحسابات شديدة التعقيد لنظرية مجال الكم بأسلوب منهجي. وعلى حد وصفه لاحقا في مذكراته: «العملية الحسابية التي أجريتها لهانز بيته مستخدما النظرية التقليدية استغرقت عدة شهور من العمل وعدة مئات من الأوراق. وكان في استطاعة ديك فاينمان التوصل لنفس النتيجة، بإجراء العملية الحسابية على سبورة، خلال نصف ساعة.»
جاء شعور فاينمان بأنه قد ولد من جديد، لعلمه أنه حقا اكتشف شيئا مميزا، أثناء اجتماع الجمعية الفيزيائية الأمريكية في يناير 1949 في نيويورك، وهو ذات الاجتماع الذي احتفى فيه روبرت أوبنهايمر وآخرون بأعمال دايسون، أثناء كلمة الرئيس التي ألقاها أوبنهايمر. في ذلك الحين، عندما كان من الممكن جمع كافة العلماء النشطين في أبحاث الفيزياء في البلاد في فندق واحد كبير، ربما صار مؤتمر يناير أهم اجتماع يعقد في مجال الفيزياء في العالم أجمع. في عام 1949، كان المزاج احتفاليا إلى حد بعيد، حيث بدأ الفيزيائيون أخيرا يتبينون المشهد من خلال ضباب قيم ما لانهاية ليفهموا الديناميكا الكهربائية باعتبارها نظرية كم صالحة للعمل. علاوة على ذلك، مع ابتكار أول معجل جسيمات ذي قيمة، وهو السيكلوترون (المسرع الدوراني) قياس 184 بوصة في بيركلي، تم تخليق عدد لا يعد ولا يحصى من الجسيمات الأولية الجديدة التي يتفاعل بعضها مع بعض في ظل القوة النووية الشديدة الغريبة «في ظروف خاضعة للسيطرة وبأعداد هائلة»، على حد وصف فاينمان لاحقا في مقال نقدي كتبه عام 1948 لدورية جديدة اسمها «فيزيكس توداي». كان شعوره بالإثارة تجاه هذا العالم الجديد الغريب من الظواهر، والأمل في أن تتمكن الوسائل الجديدة التي ابتكرت من التعامل مع الديناميكا الكهربائية الكمية، واضحا محسوسا. ولم يأت العامل المحفز لشعور فاينمان بالحماس من المناقشات التي دارت حول الديناميكا الكهربائية الكمية ذاتها، وإنما من الجدل الذي دار حول التفاعلات بين الجسيمات التي خلقت حديثا والمسماة «ميزونات».
كان فيزيائي شاب، اسمه موراي سلوتنيك، قد استخدم طرق الحساب السابقة على أساليب فاينمان في نظرية مجال الكم ليحدد، بجهد هائل، تأثيرات تلك الأنواع الجديدة من الجسيمات إذا جرى تبادلها في صورة جسيمات حقيقية بين نيوترونات النواة والإلكترونات التي تدور حولها. وقد اكتشف أن نمطا واحدا فقط من التفاعل المحتمل من شأنه إحداث نتائج ذات قيم محددة، قام بحسابها لاحقا. وقدم سلوتنيك بحثه في إحدى جلسات الاجتماع.
بعد الانتهاء من محاضرته، نهض أوبنهايمر وبطريقته المعتادة دحض بسرعة وبقسوة نتائج سلوتنيك. وزعم أوبنهايمر أن أحد الباحثين الحاصلين على الدكتوراه من المعهد قد أثبت نظرية عامة تقول إن جميع التفاعلات المختلفة الممكنة الحدوث للميزون ستكون لها نفس التأثيرات على التفاعلات بين النيوترون والإلكترون، وهي نتيجة تتعارض بوضوح مع زعم سلوتنيك.
من الواضح أن فاينمان لم يصل إلا بعد انتهاء تلك الجلسة، لكنه أبلغ بالجدل الجديد الدائر، فطلب التعليق وإبداء رأيه الشخصي حول من هو على صواب. حتى هذه اللحظة لم يكن فاينمان قد أجرى أي حسابات نظرية تتعلق بالميزونات، غير أنه في ذلك المساء، بعد أن شرح له أحدهم ما تقوله النظريات، ترجم أساليبه في الديناميكا الكهربائية الكمية إلى هذا السياق الجديد، وأمضى عدة ساعات في حساب مختلف النظريات العديدة المحتملة عن الميزون. وفي الصباح قارن نتائجه بتلك التي توصل إليها سلوتنيك، الذي أجرى حسابه فقط في إطار حد خاص من حدود النظرية. كان فاينمان قد أجرى حساباته بتعميم كامل، لكنه عندما ألزم نفسه بالحد الذي استخدمه سلوتنيك، اتفقت نتائجهما.
اطمئن قلب سلوتنيك دون شك بالنتيجة التي توصل إليها فاينمان، وأصابه الذهول أيضا. فقد قضى ما يقرب من عامين في صياغة وإتمام عملية حسابية أجراها فاينمان في أمسية واحدة! ومن ناحية فاينمان، كان هذا الإدراك سببا في شعوره بنشوة هائلة؛ فحينئذ، وحينئذ فقط، أدرك القدرة الحقيقية لأساليبه الجديدة. وقد قال عن ذلك لاحقا: «عندئذ علمت حقا أن لدي شيئا ما. لم أكن أعلم حقيقة أنني أمتلك شيئا بتلك الروعة إلا عندما حدث هذا. كانت تلك هي اللحظة التي أدركت فيها فعلا أنه ينبغي علي نشر عملي، وأنني سبقت العالم ... كانت اللحظة التي نلت فيها جائزة نوبل عندما أخبرني سلوتنيك أنه ظل يعمل على تلك المسألة طيلة عامين. أما عندما تسلمت الجائزة فعلا فلم يكن ذلك بالأمر الجلل، لأنني كنت أعلم مسبقا أنني نجحت. لقد كانت تلك لحظة مثيرة.»
علاوة على ذلك، عندما قدم زميل أوبنهايمر الحاصل على الدكتوراه بحثه في اليوم التالي، لم يستطع فاينمان مقاومة رغبته في إهانة أوبنهايمر. وبعد أن قدم الباحث، واسمه كيس، محاضرته، نهض فاينمان ليعلن على نحو ارتجالي أنه لا بد أن يكون مخطئا، إذ صار قادرا على القول عن بحث سلوتنيك «إن عملية حسابية بسيطة تبين أنه صحيح».
هذه الواقعة لم تضرم النار الضرورية لإقناع فاينمان بأن عليه أن ينشر ما توصل إليه من نتائج فحسب، وإنما أرغمته كذلك على ابتكار الأدوات التي تتيح له تقديم أبحاثه بأسلوب يستطيع بواسطته باقي أعضاء مجتمع الفيزياء فهمها. في المقام الأول، شعر فاينمان بضرورة فهم ما أخطأ فيه كيس. لكن لكي يفعل ذلك، كان عليه أولا أن يفهم بالضبط ما قام به كيس، وكان هذا عسيرا عليه إذ إن كيس استخدم الأساليب التقليدية لنظرية مجال الكم، التي كان فاينمان يتجاهلها حتى تلك اللحظة. وأثناء تعلم فاينمان تلك الأساليب، من أحد طلبة الدراسات العليا في كورنيل، لم يتمكن فحسب من اكتشاف الخطأ الذي وقع فيه كيس، وإنما حقق أيضا مكسبا إضافيا من استثماره لذلك الوقت؛ لقد استطاع أخيرا فهم عمليات الفراغ بطريقة لم تتيسر له من قبل. ولعب فهمه الجديد دورا حيويا في عرضه لأول أبحاثه الملحمية في الديناميكا الكهربائية الكمية، «نظرية البوزيترونات».
بعدها، ومع معرفته المكتسبة حديثا بنظريات الميزون، التي كانت في غاية الشهرة حينها، تمكن فاينمان من صياغة قواعده البيانية لتلك النظريات وإعادة التوصل بسرعة لكل النتائج التي توصل إليها فيزيائيون آخرون على مر السنين. وقد أوجز تلك النتائج في بحثه الكلاسيكي التالي: «نهج زمكاني لفهم الديناميكا الكهربائية الكمية»، فأثارت الاهتمام دون شك في أوساط مجموعة كبيرة من الفيزيائيين الذين كانوا يناضلون من أجل فهم تلك الجسيمات الجديدة المتفاعلة بعضها مع بعض بقوة.
ولما تعرض للاستفزاز في مؤتمر بوكونو، حيث أفسد الأمور تماما في المحاضرة التي ألقاها، قرر أن يبدأ أولا بنشر أساليبه الحسابية البيانية بأسلوب متماسك، ثم يعرض الأسس الرياضية الرسمية فيما بعد. ولما كان يدرك أن النهج الزمكاني «جاء من مكان بعيد بعيد»، كتب في مقدمة بحثه يقول: «أسلوب لاجرانج ... عدل بما يتفق مع متطلبات معادلة ديراك وظاهرة نشوء الأزواج. وقد صار هذا الأمر أسهل عن طريق إعادة تفسير نظرية الفجوات. وأخيرا من أجل الحسابات العملية ابتكرت التعبيرات في سلسلة أسية ... كان من الواضح أن كل حد في السلسلة له تفسير فيزيائي بسيط. ولما كان فهم النتيجة أيسر من فهم الاشتقاق، فقد ظننت أن أفضل ما أفعله هو نشر النتائج أولا في هذا البحث.»
وعلى الرغم من أن فاينمان قلل إلى أدنى حد الدوافع النظرية والرياضية في عرضه المبدئي هذا، والذي أدرك أنه لا يمكن بحال أن «يحمل اليقين الراسخ بالحقيقة الذي يأتي مصاحبا لعملية الاشتقاق»، فقد أوضح مع ذلك للقارئ الميزة الواضحة لأساليبه. فعند مقارنة النهج الزمكاني الذي ابتكره بالنهج التقليدي؛ النهج «الهاميلتوني»، للتعامل مع نظرية ديراك النسبية في مقابل نظرية شرودينجر غير النسبية، كتب يقول: «وكنقطة إضافية أقول إن الثبات النسبي سيكون بديهيا واضحا بذاته. إن الشكل الهاميلتوني للمعادلات يطور المستقبل من الحاضر الآني. غير أنه من منظور راصدين مختلفين في حالة حركة نسبية، يكون الحاضر الآني مختلفا، ومتفقا مع قطع مختلف ثلاثي الأبعاد من الزمكان ... وعن طريق نبذ النهج الهاميلتوني، يمكن التوفيق بين النسبية وميكانيكا الكم على نحو طبيعي إلى أقصى حد.»
على امتداد العام التالي، أتم فاينمان البحثين المتبقيين الضروريين لتقديم اشتقاق شامل وأكثر دقة ورسمية لنتائجه، مستخدما نوعا جديدا من الأساليب الحسابية ابتكره، وليوضح رسميا تكافؤ أساليبه مع أساليب نظرية مجال الكم التقليدية. وبنشر أبحاث فاينمان الأربعة، اكتملت بذلك قصة الديناميكا الكهربائية الكمية على نحو جوهري. وما بدأ في صورة رغبة راودته عندما كان لا يزال طالبا بالدراسات العليا في إعادة صياغة الديناميكا الكهربائية الكمية كنظرية بدون أي قيم لانهائية، تطور ليصبح منهجا دقيقا يتسم بكفاءة مذهلة للتغلب على قيم ما لانهاية للحصول على نتائج يمكن مقارنتها بالتجارب.
لم يفقد فاينمان تمييزه للفارق بين الأمل والواقع. وفي جميع أجزاء أبحاثه الأربعة - مع تأكيده على الإنجاز الذي جسدته - عبر فاينمان عن شعور واضح بالإحباط. فعند مقارنة أساليبه الحسابية بأساليب شفينجر على سبيل المثال، كتب يقول عن الزمكان: «على الرغم من أن المنهجين يتفقان معا، فإن أيا منهما لا يبدو مرضيا تماما من الناحية النظرية. غير أنه يبدو واضحا أن لدينا الآن طريقة مكتملة ومحددة لحساب العمليات الفيزيائية من أي مرتبة في الديناميكا الكهربائية الكمية.»
على مدار السنوات العديدة السابقة على عام 1965، وحتى خلال ذلك العام الذي فاز فيه بجائزة نوبل عن أعماله، ظل فاينمان يشعر بأن أساليبه مفيدة فحسب، لكنها ليست بالغة التأثير. فهو لم يمط اللثام عن خصائص أساسية جديدة للطبيعة من شأنها أن تخلص النظرية من قيم ما لانهاية، وإنما عثر فحسب على طريقة تتيح تجاهل تلك القيم بأمان. كان يشعر أن الأمل الحقيقي - في أن يؤدي تكامل المسارات إلى الكشف عن أشياء جديدة في فهمنا الأساسي للطبيعة يرجو أن تعالج مشكلات فيزياء الكم النسبية - لم يصبح حقيقة ملموسة بعد. وعلى حد تصريحه لجريدة طلابية في يوم الإعلان عن جوائز نوبل : «كان الهدف من وراء نشر بحثي عام 1949 إتاحة تلك الطرق المبسطة في الحساب بشكل أكبر للجميع، فقد كنت لا أزال أظن أنني لم أحل أي مشكلات حقيقية ... وكنت لا أزال أنتظر أن يأتي يوم أصل فيه إلى نهاية لفكرتي الأصلية ... وأن أحصل على إجابات ذات قيم محددة، وأن أخرج هذا الإشعاع الذاتي وأن أقوم دوائر الفراغ وغيرها ... وهو ما لم أتمكن من تحقيقه مطلقا.» وعلى حد وصفه لاحقا في خطاب تسلم جائزة نوبل: «هذا يكمل قصة تطور النظرة الزمكانية للديناميكا الكهربائية الكمية. وإني لأتساءل هل يمكننا أن نتعلم منها أي شيء. أشك في ذلك.»
إلا أن التاريخ سيبرهن في نهاية المطاف على عكس ذلك.
الجزء الثاني
بقية الكون
لا يمكننا اليوم أن نعرف إن كانت معادلة شرودينجر تحوي ضفادع، أو مؤلفين موسيقيين، أو مبادئ أخلاقية، أو أنها لا تحوي شيئا من ذلك. ولا يمكننا أن نعرف إن كانت تحتاج إلى شيء يقف وراءها، كإله مثلا، أم لا. لذا يمكننا جميعا أن نعتنق آراء راسخة في أي اتجاه شئنا.
ريتشارد فاينمان
الفصل الحادي عشر
مادة القلب وقلب المادة
ما أحاول القيام به هو أن أبث الحياة في الوضوح، الذي هو في الحقيقة شيء تصوري شبه مرئي لم يأخذ حقه من التفكير والتأمل.
ريتشارد فاينمان
لم يلق ريتشارد فاينمان سلاحه عام 1949. كان قد أنجز شيئا رائعا، حتى هو نفسه لم يدرك مداه الكامل. في هذه الأثناء، واصلت الطبيعة التلميح بالإشارات. ومن منظور فاينمان، كان الاهتمام بالفيزياء يعني الفضول الشديد تجاه جميع جوانب العالم المادي، وليس بجبهة واحدة مثيرة فحسب. وتزامن إتمامه لعمله العظيم في الديناميكا الكهربائية الكمية أيضا مع نقلة شخصية أشد صعوبة عليه، تمثلت في الانتقال من جامعته المحبوبة كورنيل إلى إثارة وسحر أجواء أكثر غرابة.
على الرغم من تمتع فاينمان بشخصية غير تقليدية في سلوكه وفي أسلوبه في التعامل مع الأعراف الاجتماعية، فقد ظل خلال السنوات التي أعقبت الحرب محليا بصورة غريبة. لقد ذكرت من قبل مسألة عدم اهتمامه في بداية حياته بالموسيقى الكلاسيكية والفنون عامة. ومع أنه ربما بدا خبيرا بشئون الحياة والناس، ويعود هذا بصورة كبيرة إلى ما اكتسبه من خبرات خلال سنوات الحرب وإلى تعاملاته مع زملائه الوافدين من بلدان أخرى، فإنه حتى بلوغه سن الحادية والثلاثين لم يكن قد غادر حدود الولايات المتحدة مطلقا. إلا أن هذا سرعان ما تغير.
كان عقل فاينمان دائم البحث عن المشكلات والتحديات الذهنية الجديدة. وقد زحف هذا الميل نحو حياته الشخصية أيضا. قال لي ذات مرة: «على المرء أن يسعى نحو مغامرات جديدة ما أمكنه ذلك.»
أعتقد أن عقل فاينمان، بعد المجهود المكثف الذي بذله بين عامي 1946 و1950 في مغالبة الديناميكا الكهربائية الكمية، أراد الانتقال إلى مضمار آخر، ليس من حيث الموضوع فحسب وإنما من حيث الأسلوب أيضا. ولما كان يعاني الاضطراب العاطفي والتعاسة، والتوق للمغامرة، أراد فاينمان الفرار من قيود إيثاكا الكئيبة ذات المناخ الشتوي، وربما من العديد من العلاقات الجنسية المتشابكة التي تورط فيها. أومأت إليه كاليفورنيا المشمسة تدعوه إليها، غير أن أمريكا الجنوبية بدت أكثر إغواء.
مثل العديد من القرارات المهمة في حياته، اشتمل هذا القرار على قدر من موهبة اكتشاف الأشياء الطيبة بالصدفة. كان أحد زملائه القدامى في لوس ألاموس، وهو روبرت باشر، بصدد الانتقال إلى باسادينا لإعادة بناء برنامج للفيزياء كان خامدا في كالتك، وعلى الفور قفز إلى ذهنه اسم فاينمان. وقد اتصل به في الوقت المناسب. ووافق الرجل الذي رفض من قبل عروضا من برينستون، وجامعة شيكاجو، وبيركلي، ومجموعة متنوعة من المعاهد الأخرى، على زيارة باسادينا. وفي الوقت نفسه، كان خيال فاينمان يجنح إلى ما هو أبعد. كان قد قرر، لسبب ما، زيارة أمريكا الجنوبية، وبدأ بالفعل في تعلم اللغة الإسبانية عندما دعاه فيزيائي برازيلي زائر لزيارة البرازيل خلال صيف عام 1949. قبل فاينمان الدعوة بسرعة، وحصل على جواز السفر، وتحول نحو تعلم البرتغالية.
ألقى فاينمان محاضرات في الفيزياء في المركز البرازيلي لأبحاث الفيزياء بريو دي جانيرو ثم عاد إلى إيثاكا في الخريف، وقد صار أكثر معرفة باللغة البرتغالية وبأساليب البرازيليين، بفضل إحدى جميلات شاطئ «كوباكابانا»، تسمى كلوتايلد، التي تمكن من إقناعها بمصاحبته إلى الولايات المتحدة فترة وجيزة. بعد ذلك أقنعه الشتاء في إيثاكا بضرورة مغادرتها، كما أن كالتك، علاوة على أن طقسها أفضل، كانت تتمتع بالجاذبية لعدم كونها جامعة فنون حرة مثل كورنيل، التي قال في شأنها: «لا يوازي حجم التوسع النظري الناتج عن وجود العديد من مواد الإنسانيات التي تدرس بالجامعة سوى البلاهة المتفشية فيمن يدرسون تلك الأشياء.» قبل فاينمان العرض المقدم من كالتك وتفاوض على اتفاق يمنحه أفضل ما في جميع العوالم المتاحة. أمكنه الحصول فورا على إجازة لمدة عام والعودة مرة أخرى إلى محبوبته البرازيل، حيث يمكنه أن يظل على اتصال دائم بعلم الفيزياء في الوقت الذي يسبح فيه على شاطئ كوباكابانا ويمارس نزواته بالليل، مع حصوله على كافة مستحقاته من كالتك وبدعم من وزارة الخارجية الأمريكية.
كان اهتمامه الأول منصبا خلال تلك الفترة على الميزونات المكتشفة حديثا، والتشوش الذي أحدثته في علم الفيزياء النووية. وكان يستخدم محطة إذاعة لاسلكية بسيطة إلى جانب الخطابات للاتصال بزملائه في الولايات المتحدة، ليطرح عليهم تساؤلاته أو يقدم لهم نصائحه. وقد وبخه فيرمي ذات مرة قائلا: «كنت أتمنى لو أستطيع أنا أيضا أن أجدد أفكاري بالسباحة على شاطئ كوباكابانا.»
غير أن فاينمان في الوقت نفسه تعامل بجدية مع رسالته التي آمن بها وهي المساعدة في تجديد شباب علم الفيزياء في البرازيل. وأخذ يقدم دورات تعليمية بالمركز البرازيلي لأبحاث الفيزياء، وانتقد مسئولي التعليم البرازيليين لأنهم يعلمون الطلاب حفظ الأسماء والمعادلات عن ظهر قلب ولا يعلمونهم كيف يفكرون فيما يفعلونه. وتذمر من أنهم يتعلمون كيف يشرحون معاني الكلمات بكلمات أخرى، لكنهم في الواقع لا يفهمون شيئا وليس لديهم حس بالظواهر الفعلية التي يفترض أنهم يدرسونها. من منظور فاينمان، كان الفهم يعني أن يكون المرء قادرا على تطبيق ما يعرفه على مواقف جديدة.
لكن على الرغم من ذكاء فاينمان الكبير، فإن عزلته في البرازيل حرمته من متابعة ما يحدث عند الجبهة الأمامية لذلك المضمار في تلك الفترة. لقد تمكن مستقلا من تكرار النتائج التي اشتقت بالفعل، غير أنه لم يدفع عجلة مجال فيزياء الجسيمات الناشئ للأمام. وبدلا من ذلك، مر بمرحلة صحوة ثقافية، وحضر مهرجانا جنسيا.
أولا: الموسيقى. زعم فاينمان أنه كان أصم لا يميز بين النغمات، غير أنه ما من شك أنه ولد يهوى الإيقاع. كان جميع المقربين منه يعلمون أنه كان دائم النقر بأصابعه وكأنه يدق الطبل أثناء العمل، على الورق، وفوق الجدران، وعلى أي شيء ملائم. وفي ريو، عثر على الموسيقى المثالية لنوازعه النفسية؛ السامبا، موسيقى ساخنة إيقاعية ومزيج بسيط يجمع بين التقاليد اللاتينية والأفريقية. التحق بمدرسة لتعليم السامبا وبدأ في العزف على الطبول ضمن فرق السامبا. بل إنه تقاضي أجرا مقابل مجهوداته في بعض الأحيان! وكانت ذروة نشاطه أثناء الكرنفال السنوي، وهو مهرجان فسق يقام في الشوارع، وكان يمكنه فيه ممارسة الانحلال بإفراط، وهو ما فعله بالطبع. (بالمصادفة البحتة أكتب هذه الكلمات وأنا أحدق من نافذة فندق يطل على شاطئ كوباكابانا.)
من السهل أن نتفهم افتتان فاينمان بريو. فالمدينة جميلة بصورة تخلب الألباب، يحيط بها جبل رائع المنظر ومشهد المحيط، وهي مفعمة بالحيوية بمحافل الكاريوكا في ريو، وهم سكان محليون منشغلون بإقامة الحفلات الصاخبة والمشاحنات ولعب كرة القدم والمغازلة على الشاطئ. كانت جميع الأنشطة الإنسانية حاضرة في أغلب الأوقات. والمدينة رديئة السمعة، مبتذلة، جذابة، حادة، مخيفة، وبشوشة، ومسترخية في آن واحد. هناك كان فاينمان يفر من حصار المدينة الجامعية، حيث لا يمكن للمرء مطلقا الابتعاد تماما عن الزملاء والطلبة. وعلاوة على هذا فإن البرازيليين يتمتعون بالدفء، والبشاشة، ويتقبلون الآخرين. وتمكن فاينمان من الامتزاج بهم. ولا بد أن حماسه الشديد، الذي لا يخبو أبدا، قد لاقى صدى لدى جميع من حوله من علماء الفيزياء، وسكان الكاريوكا المحليين، والنساء بالطبع.
أقام فاينمان في فندق ميرامار بالاس المطل على شاطئ كوباكابانا ، حيث انغمس في الملذات التي يستمتع بها من شرب الخمر (الذي أفرط فيه إلى حد أرعبه وجعله يقسم على أن يقلع عن الخمور نهائيا) والجنس. كان يلتقط النساء من الشاطئ ومن الأندية ومن حانة الفندق، التي كان قربها من أنشطة كوباكابانا، ولا يزال، داعيا للإدمان. ظل لفترة متخصصا في الساقيات اللواتي يقمن بالفندق، وحسبما أوضح مرارا وتكرارا على نحو شهير، فقد كان يستمتع بالنساء المحليات اللواتي كان يلتقيهن في الحانات. وقد أقنع واحدة منهن ذات مرة ليس فقط بالنوم معه، وإنما بأن ترد له أيضا قيمة ما اشتراه لها من طعام في الحانة.
ولكن كما يحدث غالبا، فإن هذه الممارسات الجنسية مع نساء مجهولات - مع أنها أمر مسل - زادت وحسب من شعوره بالوحدة والعزلة، وربما لهذا السبب أقدم على تصرف سخيف بعيد عن شخصيته كل البعد. لقد طلب يد امرأة من إيثاكا كان يعرفها ويواعدها في خطاب أرسله إليها؛ امرأة شديدة الاختلاف عن الباقيات، وشديدة الاختلاف عنه هو نفسه، ولعله أقنع نفسه حينها بأنها تمثل المكمل المثالي له.
أدركت كثيرات من صديقاته السابقات أن المتعة المتبادلة التي اعتقدن أنهن يتقاسمنها مع فاينمان لم تكن متبادلة تماما. كان في استطاعة فاينمان أن يركز تركيزا كاملا على المرأة التي معه، بطريقة آسرة تماما. لكنه في الوقت نفسه، وعلى الرغم من شدة المشاركة البدنية التي كان يظهرها، فقد كان في حقيقة الأمر وحيدا مع خواطره. تبعته ماري لويز بل، التي لم تكن مدركة لهذا العيب، من إيثاكا إلى باسادينا. كانت شقراء يميل لون شعرها إلى الفضي تنزع إلى ارتداء الأحذية ذات الكعب العالي والثياب الضيقة، وظنت بطريقة ما أنها وجدت في فاينمان الأساس الذي يمكن أن تصنع منه الشكل النهائي الذي يروق لها، كانت تريد أن تصنع منه شخصا ذا مظهر خارجي أكثر بريقا ولديه تقدير أفضل للفنون، ولا يصاحب الكثير من علماء الفيزياء.
تزوجا عام 1952. وقال البعض لاحقا إن طلاقهما كان أمرا حتميا، ولكن ليست هناك قواعد حقيقية يمكن للمرء من خلالها التوصل لتنبؤات صحيحة في شئون القلب، مثلما هو الحال في الفيزياء. إلا أن أحد البنود التي طرحت أثناء إجراءات الطلاق كانت كاشفة. فقد قالت عن فاينمان إنه «يبدأ التفكير في حل المسائل الحسابية ما إن يستيقظ من نومه. لقد كان يجري حساباته أثناء قيادة السيارة، وأثناء جلوسه في غرفة المعيشة، وأثناء استلقائه في الفراش ليلا.»
خلال السنوات الأولى التي عاشاها معا، مع استقراره في باسادينا في أعقاب العام الجامح الذي أمضاه في البرازيل، ومع تحول جنته المنزلية شيئا فشيئا إلى جحيم خاص آخر، بدأ يساوره اعتقاد بأنه أخطأ، ليس فقط في اختيار شريكة حياته ولكن أيضا في اختيار الموطن الذي يعيش فيه؛ حتى إنه كتب إلى هانز بيته يناقشه في أمر العودة إلى كورنيل. غير أن إغراء كالتك كان أكبر من إغراء ماري لويز، وبعد زواجهما بأربع سنوات، وفي عام 1956، انفصل عن ماري لويز، لكنه ظل مقيما في باسادينا.
كانت جامعته الجديدة تنمو بسرعة لتصير منافسة لمدرسته الأم في الشرق، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. كان معهد كالتك يبدو مناسبا له تماما؛ بتميزه المتنامي في النواحي التجريبية والنظرية في ميادين متفاوتة من الفيزياء الفلكية إلى الكيمياء الحيوية وعلم الوراثة، بالإضافة إلى الميول العملية لكلية الهندسة. وقد كان كذلك بالفعل. وبالفعل ظل فيه طوال ما تبقى من حياته.
كان علم الفيزياء يمر بفترة مضطربة في الوقت نفسه الذي واجه فيه فاينمان اضطرابات في حياته الشخصية. فالجسيمات الأولية المكتشفة حديثا من ميزونات وما شابه كانت تتكاثر بجنون داخل معجلات الجسيمات المشيدة حديثا. وكانت حديقة حيوان فيزياء الجسيمات الأولية مكتظة على نحو مربك؛ مكتظة جدا في الواقع إلى حد أنه لم يكن واضحا أي من النقاط المضيئة الجديدة التي تظهر على شاشات أجهزة التسجيل وأي من المسارات الجديدة في غرف الفقاعات قد تمثل بالفعل جسيمات أولية جديدة وأيها يعبر فقط عن إعادة ترتيب لجسيمات موجودة بالفعل.
وعلى الرغم من أن فاينمان انشغل مبكرا في دراسة نظرية الميزونات عندما كان يحاول أن يتقن فهمه للديناميكا الكهربائية الكمية، فقد كان أيضا ذكيا وواقعيا بما يكفي لأن يعرف أن أساليبه الحديثة المعتمدة على المخططات ليست ملائمة لإنجاز المهمة. فلم يقتصر الأمر على أن الكثير من التجارب غير حاسمة فحسب، وإنما كانت التفاعلات بين الجسيمات شديدة القوة عموما بحيث بدا الجهد المنهجي في استخدام مخططات فاينمان لحساب تصويبات كمية صغيرة للعمليات التي تحدث جهدا في غير محله. وقد كتب فاينمان إلى إنريكو فيرمي من البرازيل يقول: «لا تصدق أي عملية حسابية في نظرية الميزون تستخدم مخططات فاينمان!» وفي موضع آخر أشار إلى ميدان فيزياء الميزونات بقوله: «ربما لا توجد دلائل كافية متاحة للعقل البشري كي يتبين النموذج القائم.»
أظن أنه، من وجهة نظره، لم يكن عالم الميزونات التجريبي مستعدا للتفسير بعد، وكانت لديه رغبة في طرق اتجاه فكري جديد، اتجاه ليس محكوما كثيرا بمحاولة حل التعقيدات الرياضية المتشابكة لعالم الكم بقدر ما يحاول مباشرة فهم وشرح نتائجها الفيزيائية. لقد أراد التفكير في شيء يمكنه أن يشعر به ويتعامل معه، لا شيء يعجز عن رؤيته إلا في عقله وحسب. لذا، بعد وقت قصير من وصوله إلى كالتك، تحول فاينمان إلى مشكلة مختلفة تماما في مضمار آخر من علم الفيزياء. فقد شرع في استكشاف عالم الكم للأشياء شديدة البرودة، لا الأشياء بالغة الصغر.
كرس عالم الفيزياء الهولندي كامرلينج أونس، الذي أجرى أبحاثه أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، جهوده طيلة حياته المهنية كلها لفيزياء عالم البرودة القارسة، مبردا الأنظمة لتقترب أكثر وأكثر من درجة الصفر المطلق، وهي درجة الحرارة التي عندها، من وجهة النظر التقليدية على الأقل، تتوقف جميع الحركات الداخلية للذرات. وأثناء قيامه بذلك، توصل لاكتشاف إعجازي عام 1911، فعند درجة حرارة تبلغ 4 درجات فوق درجة الصفر المطلق (وجدير بالذكر أنه وصل في النهاية إلى درجة حرارة أعلى من الصفر المطلق بأقل من درجة واحدة، وهي أبرد درجة حرارة أمكن تحقيقها يوما على سطح الأرض حتى ذلك الحين)، شاهد عملية تحول مذهلة تحدث في الزئبق، حيث بدا فجأة أن التيارات الكهربية تسري دون مقاومة على الإطلاق!
كان العلماء قد تكهنوا من قبل بأن المقاومة الكهربية تقل عند درجات الحرارة المنخفضة جدا، بناء على ملاحظة بسيطة هي أن مثل هذا الانخفاض للمقاومة يحدث أيضا عند درجات حرارة أعلى. وكان كامرلينج نفسه قد تكهن بأن المقاومة تنخفض إلى الصفر عند درجة الصفر المطلق، وهي درجة حرارة لا يمكن الوصول إليها مباشرة في المعمل. غير أن النتيجة المذهلة التي توصل إليها هي أن المقاومة انخفضت فجأة إلى درجة صفر بالضبط عند درجة حرارة متناهية الصغر، لكنها ليست صفرا. وفي حالة كهذه، فإن التيار الكهربي، بمجرد أن يبدأ، لا يتوقف أبدا! وهكذا اكتشف أونس الظاهرة التي أطلق عليها اسم «الموصلية الفائقة».
الطريف أنه عندما فاز أونس بجائزة نوبل بعدها بعامين، لم يكن فوزه بها بسبب هذا الاكتشاف تحديدا، وإنما بشكل عام عن «أبحاثه في خصائص المادة عند درجات الحرارة المنخفضة التي أدت - ضمن أشياء أخرى - إلى إنتاج الهيليوم السائل». فقد أظهرت لجنة نوبل بصيرة غير معتادة (كانت في الواقع من قبيل الصدفة) في سبب منح الجائزة؛ لأنه تبين فيما بعد، لأسباب ما كان لأحد أن يفكر فيها في عام 1913، أن الهيليوم السائل نفسه له خصائص لا تقل إبهارا عن تلك المرتبطة بموصلية الزئبق وغيره من المعادن عند درجات الحرارة المنخفضة جدا. ففي عام 1938، اكتشف أن الهيليوم السائل، عند تبريده بقدر كاف، يسفر عن ظاهرة تعرف باسم «الميوعة الفائقة»، وهي ظاهرة تبدو أكثر غرابة من ظاهرة الموصلية الفائقة. ومرة أخرى، وعلى نحو لا يقل إبهارا، من المرجح أن كامرلينج أونس برد الهيليوم السائل إلى درجات حرارة صار عندها فائق الميوعة، لكنه لم يعلق على تلك الظاهرة العجيبة.
في طوره فائق الميوعة، ينساب الهيليوم دون احتكاك من أي نوع. فإذا وضعته في وعاء، فستجده ينساب تلقائيا مكونا غلالة رقيقة فوق حوافه. ومهما كان صغر حجم شق ما، فسوف ينساب من خلاله. وعلى عكس الموصلية الفائقة، حيث يكمن السحر مختبئا وراء المقاومة وقياسات التيار الكهربي، فإن سحر الميوعة الفائقة يظهر أمام أعيننا بوضوح تام.
حتى وقت متأخر؛ مع بدايات الخمسينيات من القرن العشرين، لم تكن أي من هاتين الظاهرتين العجيبتين قد فسرت بعد في ضوء النظرية الذرية المجهرية. وعلى حد قول فاينمان، كانتا أشبه «بمدينتين واقعتين تحت الحصار ... فهما محاطتان تماما بالمعرفة إلا أنهما ظلتا معزولتين ومنيعتين». وفي الوقت نفسه، كان فاينمان مفتونا بكل الظواهر الجديدة الخلابة التي كشفت عنها الطبيعة عند درجات الحرارة المنخفضة، وقال عن ذلك: «أتخيل أن علماء الفيزياء التجريبية لا بد أنهم كثيرا ما ينظرون بعين الحسد إلى رجال من أمثال كامرلينج أونس، الذي اكتشف ميدانا مثل ميدان درجات الحرارة المنخفضة، الذي يبدو عميقا لا قرار له ويمكن للمرء أن يغوص فيه أكثر وأكثر.» كان فاينمان مفتونا بكل تلك الظواهر، غير أنه صب اهتمامه في الأساس على ألغاز الهيليوم السائل، على الرغم من أنه ظل يناضل، دون أن ينجح في نهاية الأمر، للكشف عن أصل الموصلية الفائقة.
وعلى الرغم من أن هذا الميدان، الذي أصبح في النهاية يعرف باسم «فيزياء المادة الكثيفة»، كان ميدانا صغيرا، فإنه من الصعب مع ذلك أن نوفي القفزة الهائلة التي قرر فاينمان القيام بها حقها من التقدير. فعلى الرغم من أن مشكلات الموصلية الفائقة والميوعة الفائقة لم تكن قد حلت بعد، فإن مجموعة العاملين في هذا المجال ضمت بعضا من أفضل العقول في علم الفيزياء، وعكف هؤلاء العلماء على التفكير في تلك المشكلات فترة من الوقت.
غير أنه من الواضح أن فاينمان اعتقد أن الأمر بحاجة إلى منهج جديد، ومن بين كافة جهوده البحثية، ربما لم يوضح أي منها على نحو أفضل قدرة حدسه الفيزيائي المميز، مضافا إليه براعته الفائقة في الرياضيات، على التحايل على العوائق القائمة التي تحول دون فهم الظواهر، بدلا من محاولة هدمها. لقد حققت الصورة الفيزيائية التي اشتقها في نهاية المطاف جميع أهدافه الرامية إلى فهم الميوعة الفائقة، وهي تبدو في غاية البساطة الآن بعد أن انجلت الحقائق، ومن فرط بساطتها يتعجب المرء كيف لم يفكر فيها أحد من قبل. غير أن هذه كانت إحدى سمات أعمال فاينمان. فقبل أعماله يبدو كل شيء غامضا وسط ضباب كثيف، ولكن بعد أن ينير لنا الطريق، يبدو كل شيء واضحا للغاية حتى إنه ليبدو من البديهيات.
بجانب افتتانه العام بالظواهر المثيرة في عالم الفيزياء، يمكن أن يتساءل المرء عن ماهية مشكلات الهيليوم السائل بصفة خاصة، وتطبيق ميكانيكا الكم على خصائص المادة بصفة عامة، التي جعلت فاينمان يحول اهتمامه نحو هذا المجال بالتحديد. أظن أنه، مرة أخرى، ربما كان الحافز نابعا من جهوده الأولى في فهم خصائص الجسيمات الأولية المتفاعلة معا بشدة التي اكتشفت حديثا؛ أي الميزونات. ففي الوقت الذي أدرك فيه أنه من غير المحتمل أن تساعد مخططات فاينمان في حل الموقف التجريبي شديد الإرباك المرتبط بالعدد الذي لا يحصى من الجسيمات المتفاعلة بشدة التي تظهر من جراء تشغيل المعجلات، فإنه مع ذلك كان مهتما بالطرق الفيزيائية الأخرى التي يمكن للمرء بواسطتها أن يفهم على نحو قابل للقياس كميا العمليات الفيزيائية ذات الصلة التي تحكم النظم الأخرى المتفاعلة معا بقوة.
واجهته خصائص الإلكترونات والذرات في المواد الكثيفة بمشكلة مشابهة تماما لتلك، لكنها مشكلة كان الموقف التجريبي فيها أكثر وضوحا بكثير، وكان المشهد النظري في ذلك الحين أقل ازدحاما بكثير. والحقيقة أنه قبل أن يبدأ فاينمان في معالجة المشكلة لم يكن أحد قبله قد حاول الاستعانة بميكانيكا الكم على المستوى المجهري بهدف الاشتقاق المباشر للخصائص العامة لعملية تحول الهيليوم السائل من حالته الطبيعية إلى حالة الميوعة الفائقة.
كان من الواضح منذ وقت مبكر أن ميكانيكا الكم تلعب دورا رئيسيا في الميوعة الفائقة. ففي الأساس، كانت النظم الوحيدة المعروفة في الطبيعة التي تسلك سلوكا مشابها، وبدون تشتيت للطاقة أو فقد لها، هي الذرات. ووفقا لقوانين الكهرومغناطيسية التقليدية، فإن الإلكترونات التي تدور في أفلاك دائرية حول البروتونات لا بد أن تفقد طاقة عن طريق الإشعاع، بحيث تسقط الإلكترونات سريعا نحو النواة. غير أن نيلز بور افترض، ثم بين إرفين شرودينجر في نهاية الأمر بمعادلة الموجة التي وضعها، أن الإلكترونات يمكن أن توجد في مستويات طاقة مستقرة حيث تظل خصائصها ثابتة مع مرور الزمن، دون تشتيت لطاقتها.
إن كان هذا جائزا لإلكترون أو ذرة وحيدة، فهل يمكن لمنظومة كبيرة كاملة مثل كمية مرئية من الهيليوم السائل أن توجد في حالة كمومية واحدة؟ وهنا كانت تكمن إشارة أخرى على أهمية ميكانيكا الكم. فعلى نحو كلاسيكي، يعرف الصفر المطلق بأنه درجة الحرارة التي تتوقف عندها كل أنواع الحركة. فلا توجد طاقة حرارية لكي تتذبذب الذرات أو يدفع بعضها بعضا، كما هو الحال في الغاز أو السائل العاديين، أو حتى المادة الصلبة. وعلاوة على ذلك، حتى مع افتراض أن ذرات الهيليوم المستقلة كان لديها شيء من الجاذبية القليلة المتبقية فيما بينها، وهو أمر مطلوب حتى لا ينفرط عقد المادة السائلة وتتحول إلى غاز تستقل فيه كل ذرة بنفسها، فإن معنى هذا أنه عند الصفر المطلق، أو بالقرب منه، فمن المفترض للهيليوم السائل بدلا من ذلك أن يتجمد ليتحول إلى مادة صلبة جامدة، حيث تتماسك الذرات في مواضعها بواسطة الجاذبية المتبادلة وغياب أي طاقة حرارية تحركها في الأنحاء.
إلا أن هذا ليس هو ما يحدث. فمهما خفضت درجة الحرارة حتى إلى ما هو أقل من درجة واحدة فوق الصفر المطلق، مثلما بين أونس، فإن الهيليوم لا يتجمد. ومرة أخرى، السبب في هذا هو ميكانيكا الكم. فحتى حالة أقل طاقة في أي منظومة كمومية لها دائما طاقة قيمتها غير صفرية، مرتبطة بالتذبذبات الكمومية. وهكذا فإنه حتى عند الصفر المطلق، تظل ذرات الهيليوم في حالة حركة اهتزازية. إن الهيليوم خفيف الوزن للغاية وفي الوقت نفسه فإن التجاذب بين ذرات الهيليوم ضعيف بما يكفي بحيث تكون طاقة أدنى حالة كمومية للذرات كافية لجعلها تتغلب على هذا التجاذب وتتحرك بحرية في صورة سائلة، بدلا من أن تتجمد مكونة شبكة من الذرات مثل المواد الصلبة. وكان من شأن ذرات الهيدروجين، وهي أخف وزنا من الهيليوم، أن تصنع نفس الظاهرة، لولا أن ذرات الهيدروجين ينجذب بعضها إلى بعض بقوة أكبر بكثير، وبذلك فإن طاقة الحالة القاعية عند درجات الحرارة المنخفضة لا تكون كافية لتحطيم الروابط التي تكون المادة الصلبة، ولذا فإن الهيدروجين يتجمد.
الهيليوم إذن فريد في صفة البقاء في حالة سائلة عند درجات الحرارة المنخفضة، ومصدر هذا التفرد هو ميكانيكا الكم في الأساس. وهكذا فمن المنطقي أن ميكانيكا الكم تتحكم أيضا في عملية تحول الهيليوم من حالة السائل العادي إلى حالة الميوعة الفائقة عند حوالي درجتين فوق الصفر المطلق.
في وقت مبكر، عام 1938، كان عالم الفيزياء فريتز لندن قد اقترح أن التحول إلى الميوعة الفائقة ربما يكون مثالا مكبرا على ظاهرة تنبأ بها كل من أينشتاين وعالم الفيزياء الهندي ساتيندرا بوز في غاز مثالي من البوزونات؛ بمعنى، جسيمات ذات قيم صحيحة للدوران المغزلي. وعلى عكس الفيرميونات، التي - كما أوضحت سابقا - تخضع لمبدأ باولي للاستبعاد، ولا يمكن أن تحتل نفس الحالة في نفس الزمان والمكان، فإن البوزونات تسلك سلوكا معاكسا تماما. وكما تنبأ بوز وأينشتاين، فإن غازا من البوزونات يمكنه - عند درجة حرارة منخفضة بشكل كاف - أن «يتكثف» ليصبح في حالة كم وحيدة مكبرة، حيث تكون جميع الجسيمات في نفس حالة الكم بالضبط، وعندئذ يسلك الشكل المكبر سلوك جسم ميكانيكي كمي لا سلوك جسم عادي. (ففي حالة الجسم العادي يكون لكل جسيم نطاقات احتمالات غير مرتبطة على الإطلاق بالجسيمات المجاورة له. ونتيجة لذلك، فإن أي تداخل كمي غريب بين الجسيمات، يحدث بسبب عمليات الإلغاء الدقيقة لنطاقات الاحتمالات المختلفة، ويتسبب في العديد من الجوانب الغريبة لعالم الكم، يختفي تماما.)
غير أن المشكلة هي أن «تكثف بوز-أينشتاين»، كما يطلق عليه، يحدث للغاز المثالي، وهو غاز لا تتفاعل فيه الجسيمات بعضها مع بعض. ولكن ذرات الهيليوم تتمتع بقوى تجاذب ضعيفة وهي بعيدة بعضها عن بعض، وقوى تنافر قوية عندما يقترب بعضها من بعض بشدة. فهل يحتمل أن منظومة كهذه تظل محتفظة بتحول أشبه بتكثف بوز-أينشتاين؟ كانت تلك واحدة من المشكلات التي جذبت انتباه فاينمان.
لم يكتف فاينمان بالاهتمام وحسب وإنما ابتكر أيضا الأداة التي أتاحت له التوصل إلى فهم حدسي للتأثيرات الميكانيكية. كان أسلوبه في إعادة صياغة ميكانيكا الكم في صورة حاصل جمع المسارات، حيث يوزن كل مسار بواسطة فعله، يوفر - حسب اعتقاده - إطارا مثاليا لتصوير الظواهر المجهرية التي تحكم الهيليوم السائل عند درجات الحرارة المنخفضة.
ومع شروع فاينمان في التفكير في حاصل جمع المسارات لكل جسيم في السائل الكمي، كان هناك عاملان أساسيان يوجهان عمله؛ أولا: لما كانت ذرات الهيليوم بوزونات، فإن النطاق الميكانيكي الكمي الذي يصف وضعها لا يتوقف على موضع كل بوزون؛ فهو يظل دون تغيير إذا تبادلت ذرتان من الهيليوم موقعيهما. ويعني هذا أن المسارات المهيمنة على تكامل المسار (أي تلك التي لها أقل فعل ممكن) الذي تعود فيه الجسيمات المنفردة إلى موقعها نفسه، ينبغي أن تعامل باعتبارها مطابقة للمسارات التي عندها تتشابه المواقع النهائية لجميع الجسيمات مع الوضع الأصلي، باستثناء أن بعض الجسيمات تبادلت مواضعها معا. ظاهريا، قد تبدو لنا هذه تفصيلة رياضية دقيقة غير ذات صلة بالمسألة، لكن يتبين لنا بعد ذلك تأثيرها العميق على الفيزياء.
وركز العامل الثاني على الفعل المرتبط بحركة أي ذرة منفردة من ذرات الهيليوم في خلفية جميع جاراتها الأخريات. لعلك تتذكر أن الحركة التقليدية المرتبطة بأي مسار تتضمن حساب حاصل جمع الفروق بين طاقة الحركة وطاقة الوضع عند جميع النقاط على المسار. وفكر فاينمان أنه أثناء حركة أي من ذرات الهيليوم عبر المسار بسرعة ما، فإن هذه الذرة يمكنها الوصول إلى أي نقطة أخرى دون أن تقترب من ذرة هيليوم أخرى بحيث تتعرض لطاقة تنافر كامنة كبيرة (وهو ما من شأنه أن يزيد من مقدار فعل المسار)، ما دامت ذرات الهيليوم المجاورة قد أعادت ترتيب نفسها ببساطة لإفساح مكان لذرة الهيليوم أثناء حركتها من مكان لآخر. فإذا كانت الذرة تتحرك ببطء، فسيكون على الذرات المجاورة أن تتحرك ببطء كي تفسح لها الطريق. وأثناء عملية إفساح الطريق، سوف تكتسب ذرات الهيليوم تلك طاقة حركية تسهم في الفعل، غير أن طاقتها الحركية سوف تكون متوقفة على سرعتها، ومن ثم تكون متوقفة على الطاقة الحركية لذرة الهيليوم الأولى.
كانت المحصلة النهائية المترتبة على كل هذا، كما زعم فاينمان، هي ببساطة أن نغير ما كنا في الأحوال العادية نظن أنه كتلة ذرة الهيليوم المعنية. وهذا لأن الذرة عندما تحركت، كان لا بد لأكثر من ذرة أخرى أن تتحرك أيضا لإفساح الطريق لها كي تقلل الفعل إلى أقصى حد ممكن. وكل ما عدا ذلك يبقى كما هو.
نتيجة لذلك، أوضح فاينمان أن المسارات الأكثر إسهاما في حاصل جمع المسارات - أي المسارات صاحبة أقل فعل ممكن - سوف تكون تلك المسارات التي يتحرك فيها كل جسيم متصرفا وكأنه جسيم حر، ولكن مع زيادة طفيفة في كتلته. ويمكن تفسير التفاعل الذري التنافري القوي في أحوال أخرى، الذي يحدث عند تقارب المسافات، بواسطة هذا التأثير ومن ثم تجاهله. ولكن إذا كانت الجسيمات تتصرف وكأنها جسيمات حرة، فإن صورة الغاز المثالي التي طرحها بوز وأينشتاين تكون صورة صحيحة إذن، ويصير تحول بوز-أينشتاين ممكنا بالفعل!
من الواضح أن تمكن فاينمان من توضيح أن الجسيمات المتفاعلة معا بقوة يمكنها مع ذلك أن تتصرف - من وجهة نظر حساب سلوكها الميكانيكي الكمي - كما لو كانت جسيمات حرة، مثل له أهمية تتجاوز مسألة الهيليوم السائل. وقد قال عن هذا في بحثه الأول حول هذا الموضوع: «من الجائز أن يكون لهذا المبدأ استخدامات في فروع أخرى من علم الفيزياء، مثل الفيزياء النووية. وهنا توجد حقيقة مدهشة هي أن النوكليونات المنفردة غالبا ما تسلك سلوك جسيمات مستقلة على الرغم من وجود تفاعلات قوية فيما بينها. ويمكن أن تنطبق الحجج التي ذكرناها في حالة الهيليوم على هذه الحالة أيضا.» كان من الواضح أن فاينمان متأثر بشدة بهذه الظاهرة. وسوف نرى مرارا وتكرارا بعد ذلك كيف كانت أبحاثه على مدار العشرين عاما التالية أو نحوها ترتبط بهذا الموقف تحديدا، حيث الأجسام التي تتفاعل بقوة بعضها مع بعض يمكن أن تتصرف في الوقت نفسه وكأنها لا تفعل ذلك.
تجاوز اهتمام فاينمان النوكليونات (أي البروتونات والنيوترونات) وحدها. ومرة أخرى، كان مهتما بمحاولة فهم الميزونات الجديدة المتفاعلة معا بقوة، التي بدت مخططات فاينمان غير كافية لشرحها. ولو أنه استطاع الاستعانة بحدسه الفيزيائي - مدعوما بالثروة التي يمتلكها من المعلومات التجريبية حول الهيليوم السائل - في اختبار وسائل جديدة لفهم النظم المتفاعلة بقوة، فلربما أمكنه إذن استخدام تلك الوسائل في دراسة الميزونات. ولقد ذكر شيئا بهذا المعنى تقريبا في بحثه التالي الذي كتبه عام 1954. لم يكن هذا البحث معنيا بالهيليوم تحديدا، وإنما استكشف فيه حركة الإلكترونات البطيئة في المواد التي تصير مستقطبة في وجودها، الذي استخدم فيه مرة أخرى النهج الزمكاني وأسلوب تكامل المسار لفك طلاسم العمليات الفيزيائية. ومرة أخرى حسب تعبيره: «بعيدا عن الأهمية الجوهرية لتلك المشكلة، سنجد أنها نظير مبسط للغاية للمشكلات التي تحدث في نظرية الميزون التقليدية عندما تكون نظرية الاضطراب غير كافية لحلها.» وفي ورقة بحثية أخرى كتبها بعد ما يقرب من عشر سنوات كتب: «إنها مثيرة كظاهرة في المواد الصلبة، غير أن لها أهمية أوسع لأنها واحدة من أبسط الأمثلة على التفاعل بين أحد الجسيمات ومجال ما. وهي مشابهة من أوجه عديدة لمشكلة النوكليون المتفاعل مع مجال الميزون ... وإن جانب الاقتران الشديد للمشكلة هو الذي أثار قدرا عظيما من الاهتمام.»
من الواضح أنه على الرغم من أن فاينمان وجد متعة بالغة في توحيد علم الفيزياء - بمعنى إمكانية استخدام فهم معين للظواهر التي تقع في أحد ميادين عالم الفيزياء في فهم ظواهر أخرى تقع في ميدان آخر بعيد عنه تماما - فإن إشاراته المتكررة على امتداد تلك السنوات إلى الميزونات والنوكليونات توحي بأنه كان دائما ما ينجذب إلى ألغاز عالم ما دون الذرة الآخذ في الازدهار المتمثل في الجسيمات الأولية وتفاعلاتها الجديدة العجيبة. وسرعان ما سيعود إلى ذلك العالم، لكنه لم يكن قد حل بعد المشكلة التي وضعها نصب عينيه بشكل كامل - وهي بالتحديد مشكلة تفسير الميوعة الفائقة، التي ربما أمكنه أن يصل من خلالها إلى الجائزة الكبرى المتمثلة في الموصلية الفائقة - ولم يكن من طبعه ترك مسألة بدأ في حلها إلا بعد أن يصل إلى الحلول التي أرادها. وبهذا، سيسهم في تغيير الطريقة التي نفهم بها السلوك الكمي للمواد.
الفصل الثاني عشر
إعادة ترتيب الكون
لا جدوى من المقاومة.
جنس البورج، مخاطبا كابتن بيكارد،
في مسلسل «ستار تريك: الجيل التالي»
شرح فاينمان كيف يمكن فهم عملية التحول التي أدت إلى إنتاج الهيليوم فائق الميوعة على أنها تكثف أشبه بتكثف بوز-أينشتاين؛ حيث تتكثف جميع الذرات في حالة كم واحدة مرئية بالعين المجردة. غير أن هذا لم يحل المشكلة. فالعالم لا يبدو لنا ميكانيكيا كميا لأن الارتباطات الميكانيكية الكمية الغامضة عند المستوى الذري التي تتسبب في جميع الظواهر الشاذة يمكن أن تتعرض للتدمير سريعا بواسطة التفاعلات مع البيئة. ومع زيادة حجم المنظومة أكثر وأكثر، يزداد عدد وتنوع تلك التفاعلات، التي صارت الآن تشمل التفاعلات الداخلية بين العديد من مكوناتها، وسرعان ما يفقد «تماسك الكم» على المقاييس الزمنية المجهرية بالغة الصغر. وهكذا فإن التكثف في حالة كمية مرئية بالعين المجردة مجرد جانب، ولكن لماذا لا يدمر أصغر الاضطرابات حجما هذه الحالة؟ ما الذي يجعل الهيليوم فائق الميوعة يظل فائق الميوعة؟
إلى أن بدأ فاينمان في العمل على هذا الموضوع، كانت الإجابات التي تقدم لتلك المسألة «فينومينولوجية» أو «ظواهرية» (أي مبنية على علم الظواهر). وبعبارة أخرى، لما كانت التجارب قد بينت بوضوح وجود ما يعرف بالميوعة الفائقة، فإن بإمكان المرء استخلاص السلوك العام للنظام من النتائج التجريبية ومن ثم استنباط الخصائص الفيزيائية المجهرية للنظام التي يجب أن يتصف بها حتى يحدث تلك النتائج. قد يبدو هذا أشبه بتفسير فيزيائي مكتمل، لكنه ليس كذلك. إن اشتقاق الخصائص الفيزيائية المجهرية من التجارب يختلف عن تفسير أسباب صنع الطبيعة لتلك الخصائص. وكان هذا هو الهدف الذي وضعه فاينمان لنفسه، ونجح إلى حد بعيد في تحقيقه.
كان ليف لانداو قد طرح النموذج الظواهري الصحيح. كان لانداو مهيمنا على مجال الفيزياء في الاتحاد السوفييتي بقوة شخصيته واتساع نطاق اهتماماته الذي كان يوازي اتساع نطاق اهتمامات فاينمان ، وكان فاينمان يكن له تقديرا عظيما. وفي الواقع، عندما دعت الأكاديمية السوفييتية للعلوم فاينمان عام 1955 لحضور أحد المؤتمرات، كان الالتقاء بلانداو أحد الأسباب التي جعلت فاينمان في البداية يرحب بكل سرور بتلك الفرصة. ولكن مع الأسف، تسببت توترات الحرب الباردة في أن نصحته وزارة الخارجية بعدم الذهاب، وأذعن فاينمان لهذا الطلب.
على عكس فاينمان - الذي كان «مركزه» الذهني يعود به دائما فيما يبدو إلى فيزياء الجسيمات - ظل لانداو عاكفا على فيزياء المواد، وهو المجال ذاته الذي كان فاينمان في ذلك الوقت يركز اهتمامه عليه. كان لانداو قد زعم أن استمرار حالة الميوعة الفائقة يقتضي ضمنا أنه لا توجد حالات طاقة منخفضة أخرى متاحة بالقرب من حالة تكثف بوز-أينشتاين المتماسكة عند درجة الحرارة المنخفضة بحيث يمكن للاضطرابات أن تدفع السائل الكمي إليها. إن السائل الطبيعي لديه مقاومة للانسياب (اللزوجة) لأن كل ذرة وجزيء تتحرك وتصطدم بما حولها من ذرات وجزيئات أخرى في السائل، أو بالشوائب، أو بجدران الوعاء. تلك التقلبات الداخلية تغير فقط حالة حركة الذرات المفردة، غير أنها تشتت الطاقة من السائل إلى الوعاء وتبطئ حركة انسياب السائل. ولكن، إذا لم تكن هناك حالات ميكانيكية كمية جديدة متاحة يمكن أن تدخلها الجسيمات المفردة، فإن تلك الجسيمات لا يمكنها تغيير حالة حركتها نتيجة لأي تصادمات. وهكذا يستمر السائل فائق الميوعة في الحركة المتناسقة، تماما مثلما يستمر الإلكترون في الدوران حول الذرة دون أن يبدد أي قدر من الطاقة.
ما كان فاينمان يأمل في إثباته على أساس المبادئ الأولى لميكانيكا الكم - مستخدما صورة تكامل المسارات التي ابتكرها - هو أن حدس لانداو كان صائبا. وهنا استخدم فاينمان الحقيقة الجوهرية التي شرحتها سابقا، وهي تحديدا، أن ذرات الهيليوم بوزونات، وهو ما يعني أن النطاق الميكانيكي الكمي الذي يصف حالة ذرات الهيليوم سيظل كما هو إذا بدلت أي مجموعات من الذرات مواضعها.
وكما ألمحت سابقا، كانت حجة فاينمان تبدو بسيطة على نحو خادع؛ أولا: زعم فاينمان أنه بسبب التنافر قصير المدى لذرات الهيليوم، فإن الحالة القاعية الأقل طاقة للسائل سوف تكون حالة كثافة متسقة تقريبا. لقد تصور أن كل ذرة محبوسة في «قفص» صنعته المواضع التي تتخذها جميع جاراتها، والتي تحدث كل واحدة منها قوة تنافر إذا اقتربت الذرات كثيرا بعضها من بعض. فإذا كانت كثافة السائل أعلى في موضع ما، فذلك يعني أن القفص المحيط بالذرة أصغر حجما، وبذلك يحبس الذرة المعنية في مساحة أصغر. ولكن مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج يقول إن تقييد الذرة في مساحة أصغر يرفع طاقتها. وهكذا فإن طاقة المنظومة سوف تكون في أدنى حالاتها عندما تكون كل الذرات في حالة أقصى تباعد ممكن عن جارتها، مع تمتعها بمتوسط كثافة متسق تقريبا.
من حالات الطاقة المنخفضة الموجودة دائما حالة «الموجات الصوتية» ذات الطول الموجي الكبير للغاية. الموجات الصوتية «موجات كثافة»، وهو ما يعني أن الكثافة تتباين ببطء عبر السائل، والقوى الذرية التي تقاوم الضغط تعمل وكأنها زنبركات صغيرة، متسببة في انتقال فائض الكثافة بسرعة معينة - هي سرعة الصوت - عبر السائل. وما دام الطول الموجي للموجات الصوتية كبيرا للغاية، بحيث يكون التباين في الكثافة متدرجا بشدة، فإن تلك الموجات الصوتية لا تتكلف إلا أقل القليل من الطاقة. وهي أيضا لا تغير من خصائص السائل، ولا تؤثر - وهذا هو الأهم - على انسيابه.
ولكن مرة أخرى، لماذا لا توجد حالات أخرى من الطاقة المنخفضة داخل السائل؟
لعلك تتذكر أن ميكانيكا الكم تقتضي ضمنا أن جميع الجسيمات يمكن اعتبارها موجات احتمالية؛ حيث يتناسب اتساع الموجة مع احتمال العثور على الجسيمات في أماكن مختلفة. لكنها لا تسمى دوالا موجية دون سبب وجيه. فإحدى السمات العامة للموجات في ميكانيكا الكم هي أن الطاقة المرتبطة بالموجة تتحدد بواسطة طولها الموجي. والدوال الموجية التي تتذبذب كثيرا في مساحات صغيرة تكون طاقتها أعلى من تلك التي لا تفعل.
يرتبط السبب في ذلك ارتباطا وثيقا، في حقيقة الأمر، بمبدأ عدم اليقين لهايزنبرج. فإذا تباينت دالة موجية من قيمة مرتفعة إلى قيمة منخفضة في نطاق مسافة بالغة الصغر، فبإمكان المرء حينئذ تحديد موضع الجسيم الذي تصفه الدالة الموجية ضمن نطاق بالغ الصغر. ولكن هذا يعني أن الزخم، ومن ثم عدم اليقين بشأن الطاقة المرتبط بالجسيم، يكون كبيرا.
المفتاح إذن للعثور على حالة كم ذات طاقة منخفضة هو وجود دالة موجية غير مصحوبة باهتزازات كثيرة بينها مساحات ضيقة. والآن، وكما أوضحت، فإن مجرد وجود موجات صوتية طويلة الموجة لا يدمر الميوعة الفائقة، لذا علينا أن ندرس احتمالات أخرى. قال فاينمان: دعونا نبدأ بحالة قاعية للطاقة، أيا كانت، بكثافة متسقة، ونتخيل كيف يمكننا خلق حالة مختلفة عنها، ولكن على امتداد مسافات كبيرة، بحيث لا تكون أي ذبذبات في الدالة الموجية على مسافات قريبة من بعضها. يمكننا أن نتخيل تحقيق هذا عن طريق تحريك ذرة مفردة، ولتكن «أ»، بعيدا لمسافة طويلة إلى موضع جديد، وليكن «ب». ولكن لو كان الوضع الجديد أيضا ذا كثافة متسقة، فإن على الذرات الأخرى أن تعيد ترتيب نفسها، وعلى ذرة أخرى أن تتحرك لتحل محل الأولى.
الآن، بعد أن حركنا الذرة مسافة طويلة، قد نظن أن هذه الحالة تختلف اختلافا كبيرا عن الأولى في حالة المسافات البعيدة فقط لأن الجسيم «أ» قد غير موضعه. ولكن، كما أوضح فاينمان، جميع ذرات الهيليوم جسيمات متطابقة، بالإضافة إلى أنها بوزونات. لذا، على الرغم من أن الإزاحات كانت لمسافات كبيرة، فإنه لما كانت المحصلة النهائية هي ببساطة تبادل مواقع لبوزونات متطابقة، فإن هذا لا يمثل وضعا كميا جديدا.
فكر لبرهة في هذا المثال، وستدرك أنه مهما كانت المسافة التي ابتعدها جسيم ما، فإن الدالة الموجية الجديدة للمنظومة الناتجة لا يمكنها أن تعكس إزاحات للجسيم تتفاوت بمقدار يزيد عن نحو نصف متوسط المسافة بين الجسيمات المتجاورة. وأي حركة تتم لمسافة أكبر يمكن أن تحل محلها مجموعة من التبادلات بين ذرات هيليوم أخرى متطابقة، وهذا لن يغير الدالة الموجية على الإطلاق.
يعني هذا أن أكبر ذبذبات إضافية يمكننا إدخالها في الدالة الموجية لوصف حالة جديدة للمنظومة لا يمكن أن تكون أكبر من متوسط المسافة الفاصلة بين الذرات وبعضها. غير أن ذبذبات بهذا القياس أو أصغر منه تقابلها طاقات مستثارة عالية نسبيا، ومن المؤكد أنها أعلى بكثير مما يمكن للذبذبات الحرارية العشوائية أن تنتجه عند درجات الحرارة المنخفضة التي تلاحظ عندها ظاهرة الميوعة الفائقة.
هكذا، أوضح فاينمان من خلال هذا التفكير المنطقي الفيزيائي الأنيق أن إحصائيات البوزونات تقتضي بصورة مباشرة أنه لا توجد حالات استثارة منخفضة المستوى تعلو الحالة القاعية للطاقة يمكن الوصول إليها بسهولة من خلال حركة الذرات بحيث تنتج مقاومة لسريان التيار. وستظل الحالة القاعية للطاقة فائقة الميوعة مستمرة ما دامت الطاقة الحرارية المتوفرة للمنظومة أصغر من الفجوة بين الحالة القاعية للطاقة وأقل الحالات المستثارة طاقة.
وبالطبع أنجز فاينمان ما هو أكثر من ذلك. فباستخدام صيغة تكامل المسارات التي ابتكرها، استطاع حساب طاقة الحالات المستثارة، التي سماها لانداو «روتونات»، بتنويع جميع التخمينات المعقولة لدوال الموجة وحساب حالة أدنى طاقة. كانت التقديرات فجة ولم تتوافق في بادئ الأمر مع البيانات المتوافرة بصورة مرضية، ولكن على مدار ذلك العقد، نقح فاينمان تحليله وتوصل لتنبؤات اتفقت مع البيانات.
قبل أن يبدأ فاينمان أبحاثه على الهيليوم السائل، كان لاسلو تيسا - الذي تعرفت عليه فيما بعد باعتباره أستاذا جامعيا متقاعدا مرحا، في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - قد اقترح ما سماه «نموذج المائعين» لوصف كيف يمكن أن يحدث التحول بين حالة الهيليوم السائل فائق الميوعة والسائل العادي. وبعدها وسع لانداو الفكرة. لقد تخيل أنه عند درجة حرارة الصفر المطلق، يكون الهيليوم السائل بأكمله في حالة ميوعة فائقة. وبعد ذلك ومع تسخين السائل، تخلق بعض الاستثارات فتتحرك في خلفية مشهد المائع الفائق، لكنها من الممكن أن تصطدم بالجدران وتشتت الطاقة، ومن ثم تعمل وكأنها مكون من السائل الطبيعي. ومع مزيد من التسخين للمنظومة، تخلق المزيد من الاستثارات إلى أن يملأ السائل الطبيعي السعة بأكملها.
مرة أخرى أعادت تقديرات فاينمان الكمية المعتمدة على المبادئ الأولى إنتاج الصورة الفيزيائية العامة، لكن الأمر استغرق منه اثنين وثلاثين عاما حتى تمكن من إجراء حسابات تفصيلية بشكل كاف لتحقيق توافق جيد مع البيانات. ففي عام 1985، وباستخدام جهاز كمبيوتر فائق في إجراء حسابات تكامل المسارات التفصيلية التي كان فاينمان قد أجراها على نحو تقريبي، استطاع الفيزيائيون التحقق من أن هذه الطريقة يمكنها تحقيق توافق ممتاز مع الطبيعة التفصيلية لانتقال الهيليوم السائل بين الطور المائع العادي والمائع الفائق.
لكن لعل أكثر الحيل الفيزيائية التي ابتكرها فاينمان إبهارا كانت تلك المتعلقة بحل المشكلة الآتية: ماذا سيحدث لدلو من الهيليوم فائق الميوعة لو أن شخصا ما أداره؟ كما هي الحال مع كثير من مشكلات الفيزياء، قد لا تبدو تلك مسألة ملحة، إلى أن تبدأ التفكير فيها. أوضح فاينمان أنه بسبب طبيعة الحالة القاعية للطاقة والطاقة المطلوبة لخلق حالات الاستثارة التي تعلوها، لا بد أن تكون حالة السائل فائق الميوعة «غير قابلة للتدوير»، وهو ما يعني أنه لا يمكن أن تتكون دوامات قد تعوق تدفق التيار. ولكن ما الذي يمكن أن يحدث لو أننا جعلنا السائل بأكمله يدور بأن أدرنا الوعاء الذي يحتويه؟ استنبط فاينمان ما يمكن أن يحدث، ولم تكن لديه أدنى فكرة في ذلك الوقت أن عالم الكيمياء الأمريكي المولود في النرويج لارس أونساجر، الفائز بجائزة نوبل، اقترح هو أيضا حلا مماثلا. ومرة أخرى، لعبت قواعد ميكانيكا الكم دورا رئيسيا في هذه المسألة.
تذكر أن نيلز بور نفسه كان هو البادئ بإشعال ثورة الكم عندما افترض أنه مع دوران الإلكترون حول الذرة، لا يكون متاحا له سوى مستويات طاقة معينة. وهكذا تكون الطاقات مكممة. ولكن المبدأ الذي حدد قاعدة التكميم مشتق بالفعل من الزخم الزاوي المداري للإلكترون حول الذرة. افترض بور أن هذا الزخم الزاوي مكمم من حيث مضاعفات أصغر وحدة (وهي نفس الوحدة التي وصفتها من قبل للإلكترونات، وفيها يساوي الزخم الزاوي المغزلي 1/ 2).
ولو أن المائع الفائق محكوم أيضا بميكانيكا الكم، فإن زخمه الزاوي المداري - لو أننا أرغمناه على الدوران - سيكون مكمما أيضا في ضوء نفس الوحدة الأساسية. وسوف يعني ذلك وجود قيمة دنيا للدوران.
أجهد فاينمان فكره طويلا بشأن كيفية تقليل الطاقة في سائل كهذا إلى الحد الأدنى، وتوصل في النهاية إلى صورة فيزيائية لا يدور فيها السائل ككل، وإنما تدور العديد من المناطق الصغيرة به - أصغر ما يمكن في حقيقة الأمر، بحيث لا يزيد عرضها على عدة ذرات - حول منطقتها المركزية. وتلك المناطق المركزية تصطف رأسيا لتشكل خطوطا دوامية دوارة، مثل الأقماع التي يصنعها الإعصار، أو المياه الدوارة حول فتحة صرف المياه (حسب تعبير فاينمان). تلك الخطوط الدوامية توزع نفسها في أرجاء الخلفية، المكونة من سائل لا يدور، بكثافة متسقة متساوية في جميع الأنحاء.
أتاح التفكير في الدوامات لفاينمان تقدير العديد من أوجه سلوك الهيليوم السائل، ومن بينها كيفية حدوث المقاومة أثناء إنتاج الاستثارات الدوامية. إن تلك الدوامات تلتف وتتشابك بعضها مع بعض أثناء انسياب السائل، وعند سرعة أصغر بمائة مرة من السرعة التي يمكن أن يتخيلها المرء، تتعرض الميوعة الفائقة للتدمير.
أنتج خيال فاينمان الخلاق في نهاية الأمر صورة فيزيائية بحتة لروتونات لانداو؛ تلك الاستثارات الموضعية ذات أدنى طاقة. وأدرك فاينمان أن الدوامة لا تصطف باستقامة بالضرورة من قمة الوعاء إلى قاعه، وإنما من الممكن أيضا أن تلتف على نفسها في شكل حلقي. لقد فكر في حلقات الدخان التي كان قد درسها وهو طالب بالمدرسة الثانوية، وأدرك أنه ربما كانت نسخة الكم لأصغر حلقة من تلك الحلقات من الذرات التي من الممكن أن توجد داخل السائل تصف الروتون، ومنها اشتق فاينمان خصائصها. وبينما كان يفكر في الرياضيات في رأسه ويحاول حل المعادلات ليعرف كيف يمكنه التوفيق بين الصورة البديهية لحلقة الدخان وبين رياضيات معادلة شرودينجر، توصل في النهاية إلى صورة أخرى فيزيائية تماما: صورة حلقة مستمرة من أطفال المدرسة ينزلقون واحدا تلو الآخر على زحلوقة، ثم يعودون مرة أخرى ببطء كي يرتقوا السلم ثم ينزلقوا لأسفل مرة أخرى. قد يكون الروتون منطقة موضعية يتحرك السائل فيها بسرعة مختلفة مقارنة بالسائل المحيط في الخلفية، ولكن كي تبقى خصائص الزخم الزاوي لميكانيكا الكم قائمة، يجب أن ينساب السائل عائدا مرة أخرى إلى مكان آخر، مثل الدوامة. وبالتفافها على نفسها على هيئة حلقة، سوف تنكمش الدوامة إلى أن تحمل أقل طاقة ممكنة، وهي طاقة الروتون.
كل تلك التأملات مسلية، ولكن الأمر بالغ الأهمية بشأنها هو أنها غيرت مرة أخرى الأسلوب الذي كان فيزيائيو هذا المجال يفكرون به في المسألة. أدت تخمينات فاينمان الحدسية بشأن «دوال الموجة الاختبارية» - التي تمكن من تنويعها ليستكشف أيها ذات أقل طاقة - إلى ترسيخ استخدام ما يسمى «الأسلوب التنويعي» في فيزياء المواد الكثيفة، وهو الأسلوب الذي استخدم لاحقا في تناول كافة المشكلات الرئيسية البارزة تقريبا في دراسة المادة خلال نصف القرن الأخير.
أفلتت حلول بعض هذه المشكلات من فاينمان، غير أن تأثير أفكاره كان جليا بشكل لا تخطئه العين. خذ على سبيل المثال «مشكلة أفلتت منه»، وهي مشكلة الموصلية الفائقة. فلم ينجح فاينمان مطلقا في التوصل إلى الاكتشاف الفيزيائي الذي توصل إليه علماء الفيزياء جون باردين وليون كوبر وروبرت شريفر لتفسير هذه الظاهرة - ويرجع ذلك بصورة كبيرة إلى أن فاينمان لم يحاول متابعة الأبحاث السابقة في هذا المجال متابعة كاملة، وهي سمة مزعجة في شخصيته جعلت عددا من الاكتشافات الأساسية يفوت عليه - غير أن منهجهم استعار الكثير من الأفكار التي طرحها فاينمان لدراسة خصائص المواد بصفة عامة، والأفكار التي ابتكرها لتفسير الميوعة الفائقة بصفة خاصة. كان أول بحث وضعه فاينمان وطبق فيه النهج الزمكاني الذي ابتكره لفهم خصائص الإلكترونات في المواد يشرح بالتفصيل أهمية تزاوج الإلكترونات للأنماط الاهتزازية داخل المادة. وتبين أن هذا التزاوج ذو أهمية بالغة لفهم التفاعلات التي تسمح لأزواج الإلكترونات بالارتباط معا والتكثف في موصل فائق. وفي الحقيقة، كان شريفر - قبل عام من توصله هو وزملاؤه أخيرا إلى حل للمشكلة، وهو الحل الذي تسبب في فوزهم بجائزة نوبل - حاضرا وسط جمهور يستمع إلى فاينمان وهو يتحدث عن الميوعة الفائقة والموصلية الفائقة، وانبهر بسماع فاينمان يتحدث بالتفصيل عن أفكاره الخاطئة بشأن الموصلية الفائقة. كان أسلوبهم في فهم الموصلية الفائقة هو أن يعرفوا بالضبط - تماما كما فعل فاينمان - كيف يمكن لتكثف شبيه بتكثف بوز-أينشتاين أن يتشكل في هذه الحالة لجسيمات مثل الإلكترونات، التي هي ليست بوزونات. وكان يأتي على نفس القدر من الأهمية إثبات أن ثمة فجوة في الطاقة بين الحالة القاعية للطاقة والحالات المستثارة - مثلما أثبت فاينمان - بحيث إنه عند الطاقات المنخفضة، لا يمكن حدوث التصادمات التي تصنع في الأحوال الأخرى الاستثارات التي تبدد الطاقة.
كانت أفكار فاينمان بشأن الكيفية التي يدخل بها الزخم الزاوي في سائل فائق الميوعة أرغم على الدوران - من خلال تكوين دوامات - تدل أيضا على بصيرة نافذة بشكل لافت للنظر. وتحدث ظاهرة مماثلة تماما في الموصلات الفائقة؛ إذ لا يسمح الموصل الفائق في الأحوال العادية لمجال مغناطيسي بالتواجد بداخله، تماما مثلما لا يميل السائل فائق الميوعة إلى الحركة في دوامات دائرية. ولكن، كما أوضح فاينمان، لو أن السائل أرغم على الدوران (مثلا بتعريضه لضغط مرتفع وتجميده، ثم تدويره وتركه ينصهر)، فإن الدوران سيحدث عن طريق صنع دوامات. ولاحقا أوضح أليكسي أبريكوسوف أنه بالإمكان إرغام خطوط مجال مغناطيسي على المرور عبر موصل فائق، غير أنها أيضا سوف تنفذ من خلال الموصل الفائق في صورة خطوط دوامية رفيعة. وقد فاز بجائزة نوبل عن أبحاثه وقال في خطاب تسلم الجائزة إنه وضع مقترحه الأصلي في درج لأن لانداو لم يهتم به كثيرا. ولم يجد أبريكوسوف في نفسه الشجاعة لنشر أفكاره حول الدوامات المغناطيسية إلا بعد تعرفه على أفكار فاينمان بشأن الدوامات الدوارة داخل السوائل فائقة الميوعة. وهكذا كان غزو فاينمان لفيزياء المواد الكثيفة مهما وملحوظا، ليس فقط بسبب الأسلوب الذي به أدى حدسه للتوصل إلى أفكار جوهرية متبصرة، ولكن أيضا بسبب الطريقة التي وضع بها بصمته في هذا المجال، من خلال عدد من الأبحاث يعد على أصابع اليد الواحدة.
خلال هذه الفترة، استمتع فاينمان بالتواصل مع مجتمع جديد من علماء الفيزياء، لكنه عانى أيضا مشاعر القلق التي تنتاب المرء عندما يقتحم مجالا خارج نطاق خبرته. ففي بعض الأحيان تتعرض لمن يحرجونك . فعلى سبيل المثال، بعد أن أدهش فاينمان تلامذة أونساجر بتنبؤاته حول الدوامات في مؤتمر دعي للتحدث فيه، واتته فرصة للقاء أونساجر في اجتماع لمناقشة فيزياء المواد الكثيفة. وعلى مائدة العشاء، وقبل أن يلقي فاينمان كلمته، سأله أونساجر: «إذن أنت تعتقد أن لديك نظرية عن الهيليوم السائل؟» فأجابه فاينمان: «نعم أعتقد هذا.» واكتفى أونساجر بالرد بأن زفر: «هممم.» على نحو جعل فاينمان يظن أن أونساجر لم يكن يتوقع منه الكثير.
غير أنه في اليوم التالي، عندما قال فاينمان إن هناك جانبا من التحول الطوري لم يفهمه، انطلق أونساجر متحدثا على الفور: «السيد فاينمان مستجد في مجالنا، ومن الواضح أن هناك شيئا لا يعلمه عنه، وعلينا أن نعلمه.» تسمر فاينمان مبهوتا، غير أن أونساجر واصل الحديث قائلا إن الشيء الذي لم يفهمه فاينمان بشأن الهيليوم هو شيء غير مفهوم بشأن أي مادة أخرى، وأردف قائلا: «ومن ثم فإن حقيقة عدم استطاعته فهمه فيما يتعلق بالهيليوم لا تعكس مطلقا قيمة إسهامه في فهم بقية الظواهر.»
بهت فاينمان بهذا الدفء الذي أظهره أونساجر حتى إنه واصل الالتقاء به ومناقشة الأمور معه، على الرغم من أن فاينمان كان هو المتحدث في أغلب الأوقات؛ فأونساجر لم يكن متحدثا مفوها مثل شباب المزارعين ذوي الأصول النرويجية القادمين من ولاية مينسوتا الذين كان جاريسون كيلور يستضيفهم في برنامجه الإذاعي، ولكنه كان ينحدر من الأصول النرويجية نفسها، ولم يكن يتكلم إلا نادرا، وعندما يشعر أن لديه ما يقوله حقا.
ومع أن فاينمان ربما فاتته بعض الجوائز الإضافية، فإن جائزته الكبرى كانت تتمثل دائما في فهم الفيزياء. ولو أنه شعر يوما بالغيرة أو بالندم على جائزة فقدها، أو تقدير أخطأه ولم يكن في محله، فإنه لم يكن يظهر ذلك. وهناك العديد من الأمثلة على بحثه في أمر ما من أجل إرضاء نفسه، دون أن يشعر باحتياج إلى كتابة بحث فيه، ثم يجذب شخص آخر الانتباه إليه وينال التقدير عن نفس الفكرة التي كان هو سباقا إليها. وفوق ذلك، عندما كان يكتشف أن شخصا آخر لديه فكرة مشابهة لفكرته، كان في أغلب الأحيان يحيل إلى عمل هذا الشخص وليس إلى عمله هو. فعلى سبيل المثال، وربما كرد فعل لحفاوة أونساجر الفكرية في أول لقاء لهما، كان دائما ما ينسب الفضل لأونساجر عن فكرة الدوامات، على الرغم من أنه لم يعرف شيئا عن أبحاث أونساجر إلا بعد أن توصل لنتائجه بفترة طويلة.
ولعل أحد أبرز الأمثلة على إنكار فاينمان لذاته في هذا الصدد هو ما حدث بعد عشرين عاما من بدئه لأول مرة في التفكير في الهيليوم السائل والدوامات. فعندما كان يفكر في الأنظمة ثنائية الأبعاد مثل الغلالات الرقيقة من الهيليوم السائل أدرك فاينمان أن الظهور المحتمل للدوامات من الممكن أن يحدث تغييرا جذريا في خصائصها، ينتج عنه نوع من التحول الطوري يخرق بوضوح نظرية رياضية شهيرة عن سلوك تلك الأنظمة ثنائية الأبعاد. بل لقد كتب بحثا عن هذا الموضوع. إلا أنه اكتشف أن اثنين من شباب الفيزيائيين وكانا بعد لا يزالان مغمورين، وهما جون كوسترليتز وديفيد ثوليس، وضعا لتوهما بحثا مشابها حول نفس الفكرة. وبدلا من أن يتجاهلهما أو يسبقهما في النشر، قرر فاينمان ألا ينشر بحثه، مكتفيا وقانعا بكونه تمكن من حل المسألة بنفسه. وصار التحول الطوري الشهير بعد ذلك يعرف باسم تحول «كوسترليتز-ثوليس».
ولكن بقدر ما استمتع فاينمان بتلك الإجازة من ميدان فيزياء الجسيمات التجريبي والنظري غير المستقر، ظل يتوق لاكتشاف قانون جديد للطبيعة، وكانت الفيزياء الأساسية الأكثر تطورا هي أفضل الاحتمالات المتاحة أمامه. وهكذا، حتى وهو يعمل في بحث الهيليوم السائل، كان يحاول في الوقت نفسه ملاحقة ما يجري على الساحة في ميدانه الأصلي. كان ديراك قد توصل إلى معادلته. أما فاينمان فلم يكن قد توصل إلى معادلته بعد.
الفصل الثالث عشر
الاختباء داخل المرآة
كانت تلك لحظة أدركت فيها كيف تعمل الطبيعة.
ريتشارد فاينمان
الميزونات نفسها التي بدأت غزو عالم ريتشارد فاينمان عام 1950 هي التي قلبت عالم جميع علماء فيزياء الجسيمات رأسا على عقب عام 1956. ظلت اكتشافات الجسيمات الجديدة تتوالى تباعا، وكل جسيم جديد كان أكثر غرابة من سابقه. كانت الجسيمات تنتج بقوة في الأشعة الكونية، ولكن نفس قوانين الفيزياء التي أنتجتها كان لا بد أيضا أن تجعلها تنحل سريعا. ولكن مدة بقائها كانت تطول إلى جزء من مليون جزء من الثانية، وهو زمن لا يبدو طويلا جدا، غير أنه أطول ملايين المرات مما يمكن للمرء أن يتوقعه على أساس المبادئ الفيزيائية الأولى.
وبحلول عام 1956، أصبحت شهرة فاينمان في أوساط علماء الفيزياء راسخة. فقد صارت مخططات فاينمان جزءا من صندوق الأدوات الأساسية لمجتمع الفيزياء، وكان كل من يزور كالتك يبذل قصارى جهده كي يعلن تقديره له. كان الجميع يرغبون في التحدث إلى فاينمان لأنهم كانوا راغبين في مناقشته في مشكلات الفيزياء التي تواجههم. وكانت السمة ذاتها التي جعلته معبودا للنساء هي التي فعلت الأعاجيب كذلك مع طائفة العلماء. وكانت تلك سمة اشترك فيها مع الفيزيائي الإيطالي الكبير إنريكو فيرمي، الحاصل على جائزة نوبل الذي أسهم في توجيه مشروع مانهاتن لبناء أول مفاعل نووي متحكم به بجامعة شيكاجو، وآخر عالم فيزياء نووية وفيزياء جسيمات يبرع في التنظير كبراعته في التجريب. كان فيرمي قد فاز بجائزة نوبل عن وضع نظرية بسيطة تصف العملية النووية المصاحبة لانحلال النيوترون إلى بروتون (وإلكترون وأخيرا إلى جسيم جديد سماه فيرمي «نيوترينو»، وهو اسم يعني في اللغة الإيطالية «نيوترونا صغيرا»)، التي تسمى «انحلال بيتا»، وهي واحدة من العمليات الأساسية التي شكلت جزءا من التفاعلات التي أدت إلى إنتاج القنبلة الذرية، والأسلحة النووية الحرارية فيما بعد.
لما كان النيوترون يعيش قرابة عشر دقائق قبل أن ينحل، وهو عمر ممتد كالدهر إذا ما قورن بأعمار الميزونات غير المستقرة المتفاعلة بقوة التي اكتشفت في الخمسينيات، فقد أدرك العلماء أن القوى التي تتحكم في انحلاله لا بد أنها شديدة الضعف. ومن ثم أطلق على التفاعل الذي ابتكر له فيرمي نموذجا في انحلال بيتا اسم «التفاعل الضعيف». وبحلول منتصف الخمسينيات كان قد صار واضحا أن التفاعل الضعيف قوة مستقلة كليا موجودة في الطبيعة، منفصلة عن التفاعلات القوية التي كانت تنتج جميع الجسيمات الجديدة التي شوهدت في المعجلات، وأن القوة الضعيفة من المرجح أن تكون مسئولة عن انحلال جميع الجسيمات ذات الأعمار الطويلة الشاذة. لكن مع أن نموذج فيرمي لانحلال بيتا كان بسيطا، لم تكن هناك نظرية أساسية تربط جميع التفاعلات التي كانت ترصد وتعزى إلى هذه القوة الجديدة.
كان فيرمي قد حول مجموعة علماء الفيزياء النظرية بجامعة شيكاجو إلى مركز دولي. كان الجميع يرغبون في أن يكونوا وسط تلك المجموعة، لا لكي يشاركوا فيما يقدمه علم الفيزياء فقط من إثارة ولكن أيضا في إثارة العمل مع فيرمي. كان فيرمي يتمتع بسمات شخصية غير عادية إلى حد بعيد؛ سمات كان يشاركه فيها فاينمان: فعندما كانا ينصتان، كانا «ينصتان» بحق! كان الاثنان يركزان كل انتباههما على ما يقال، ويحاولان فهم الأفكار المطروحة، وإن أمكن يحاولان المساعدة في تطوير تلك الأفكار وتحسينها.
مع الأسف، توفي فيرمي عام 1954 بعد صراع مع السرطان، لعل السبب في إصابته به كان هو إهماله في التعامل مع المواد المشعة في وقت لم تكن الأخطار المحيطة بالتعامل مع تلك المواد مفهومة بعد. كانت وفاته ضربة قاصمة لكل من علم الفيزياء ولجامعة شيكاجو، حيث كان يساعد في تدريب صغار علماء الفيزياء النظرية والفيزياء التجريبية الذين كانوا سيهيمنون فيما بعد على مجال الفيزياء بأكمله طوال سنوات الجيل التالي.
بعد وفاة فيرمي، بدأ شباب علماء الفيزياء النظرية ينجذبون نحو سحر شخصية فاينمان. ولكن على عكس فيرمي، لم يكن فاينمان يتحلى بالصبر والمثابرة للمساعدة بدأب في تدريب العلماء. غير أنه لم يكن ما يشعرهم بالإطراء أكثر من أن يركز فاينمان كل اهتمامه على أفكارهم وينصت لهم. فبمجرد أن كان فاينمان يهتم بمشكلة ما، فإنه ما كان يهدأ حتى يحلها أو يقرر أنها غير قابلة للحل. وكثيرا ما كان شباب الفيزيائيين يسيئون فهم اهتمامه بمشكلاتهم متصورين أنه اهتمام بهم شخصيا. وكانت النتيجة دائما مغوية إلى أقصى حد.
كان أحد هؤلاء الذين انجذبوا من شيكاجو إلى أضواء فاينمان شاب عبقري في الخامسة والعشرين من العمر اسمه موراي جيلمان. ولو قلنا إن فاينمان هيمن على فيزياء الجسيمات خلال حقبة ما بعد الحرب مباشرة، فإن جيلمان فعل الشيء نفسه خلال العقد التالي. وعلى حد وصف فاينمان لاحقا، في واحدة من نوباته المميزة في الثناء على أعمال الآخرين: «لا تضم معرفتنا بالفيزياء الأساسية أي فكرة مثمرة لا تحمل اسم موراي جيلمان.»
لا تحمل هذه العبارة الكثير من المبالغة. فلقد توافقت مواهب جيلمان على نحو مثالي مع مشكلات ذلك الوقت، وقد ترك أثرا لا يمحى على ذلك المجال، ليس فقط من خلال مصطلحات غريبة مثل «الشذوذ» و«الكواركات»، ولكن أيضا من خلال أفكاره التي ظلت - مثل أفكار فاينمان - تصبغ المناقشات الدائرة عند الجبهة الأمامية لعلم الفيزياء حتى يومنا هذا.
غير أن جيلمان كان على نقيض فاينمان في عدة وجوه؛ فقد كان - مثل جوليان شفينجر - طفلا معجزة. تخرج من المدرسة الثانوية في سن الخامسة عشرة، وتلقى أفضل عروضه من جامعة ييل، وهو عرض كان محبطا له، لكنه قبله على أي حال. وفي سن التاسعة عشرة تخرج وانتقل إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث نال درجة الدكتوراه في سن الحادية والعشرين. وقد أخبرني ذات مرة أنه كان يستطيع نيل الدكتوراه في عام واحد لو أنه لم يضيع وقته في محاولة جعل موضوع رسالته مثاليا.
لم يتقن جيلمان في سن الحادية والعشرين علم الفيزياء فحسب، وإنما أتقن «كل شيء». وكان من أبرز الأشياء افتتانه باللغات، ودراسة أصول الكلمات، والنطق، والعلاقات. ومن الصعب أن تجد شخصا عرف موراي دون أن يصحح له هذا الأخير طريقة نطق اسمه!
غير أن جيلمان كان يختلف اختلافا مميزا عن شفينجر أدى إلى انجذابه إلى فاينمان. فلم يكن يطيق أولئك الذين يزينون جهودهم التي تكون تافهة غالبا بصبغة رسمية مزخرفة. كان جيلمان قادرا على الرؤية عبر حجب الخداع والتحايل، وقلة من الفيزيائيين هم من كان يمكنهم رفض أعمال الآخرين كما كان يفعل هو. غير أن جيلمان علم من خلال أبحاث فاينمان، ومن خلال الاستماع إلى أحاديثه، أنه عندما كان يعمل في الفيزياء، لم يكن هناك أي هراء، أو ادعاء، أو تحايل، ولا أي شيء سوى الفيزياء. وعلاوة على ذلك، كانت حلول فاينمان بالغة الأهمية بحق. وعلى حد تعبير جيلمان: «ما كان يعجبني دائما في أسلوب ريتشارد هو تخليه عن التنميق في عروضه. لقد سئمت علماء الفيزياء النظرية الذين يزخرفون أعمالهم بلغة رياضية منمقة أو يبتكرون أطرا رنانة زائفة لإسهاماتهم التي كانت في بعض الأحيان غاية في التواضع. أما أفكار ريتشارد، التي كانت في الغالب فعالة ومؤثرة وتتسم بالعبقرية والأصالة، فكانت مقدمة بأسلوب مباشر كنت أجده ممتعا ومجددا.»
كان هناك وجه آخر من أوجه شخصية فاينمان لم يرق لجيلمان على الإطلاق، وهو حب الاستعراض. وعلى حد وصفه لاحقا: «كان [فاينمان] يقضي وقتا طويلا ويبذل جهدا مضنيا في اختلاق حكايات عن نفسه.» ولكن في حين أن تلك السمة أزعجته فيما بعد وأثارت أعصابه، ففي أعقاب وفاة فيرمي عام 1954، وبينما كان يفكر في المكان الذي قد يرغب في العمل فيه إذا رحل عن جامعة شيكاجو، ومع من يرغب في العمل، بدا الخيار واضحا له.
كان جيلمان، بالاشتراك مع عالم الفيزياء النظرية فرانسيس لو، قد أجرى عملية حسابية مبكرة مميزة عام 1954 مستعينا بأساليب فاينمان في التعامل مع الديناميكا الكهربائية الكمية في محاولة لمعرفة ما يمكن أن يحدث بالضبط للنظرية عندما يستكشف المرء مقاييس أصغر وأصغر، وبالتحديد المنظومة غير القابلة للرصد في الأحوال العادية التي تضمنت وصفة فاينمان للتخلص من قيم ما لانهاية فيها تعديل النظرية على نحو مصطنع متكلف. وكانت النتيجة مدهشة، وعلى الرغم من أنها كانت فنية ومن الصعب متابعتها وفهمها في ذلك الحين، فقد وضعت في نهاية الأمر الأساس لكثير من التطورات التي تحققت في فيزياء الجسيمات خلال سبعينيات القرن العشرين.
اكتشف جيلمان ولو أنه نتيجة لتأثيرات الأزواج الافتراضية من الجسيمات والجسيمات المضادة التي يجب إدخالها في المسألة عند دراسة تأثيرات ميكانيكا الكم على الديناميكا الكهربائية الكمية، تعتمد الكميات القابلة للقياس فيزيائيا، مثل الشحنة الكهربية للإلكترون، على النطاق الذي تقاس عنده. وفي الواقع، في حالة الديناميكا الكهربائية الكمية، كانت الشحنة الفعالة التي يحملها الإلكترون، ومن ثم قوة التفاعل الكهرومغناطيسي، تبدو وكأنها تزداد أثناء اختراق سحابة الأزواج الافتراضية المكونة من إلكترونات وبوزيترونات التي تحيط بكل جسيم.
على الرغم من ذلك، كان فاينمان الذي اشتهر بتجاهل أبحاث الآخرين وهو يحاول بصفة مستقلة اشتقاق جميع نتائج الفيزياء - أو إعادة اشتقاقها في كثير من الأحيان - شديد الانبهار بالبحث الذي أجراه جيلمان ولو، وأخبر جيلمان بذلك عندما زار كالتك لأول مرة. في الحقيقة، قال فاينمان إنها العملية الحسابية الوحيدة في الديناميكا الكهربائية الكمية التي علم بها ولم يشتقها هو نفسه مستقلا عن الآخرين. وعندما نتأمل هذا الآن، نجد أنه كان مدهشا بعض الشيء لأن أثر نهج جيلمان ولو كان من شأنه أن يؤدي إلى تأويل مختلف تماما لعملية التخلص من قيم ما لانهاية في نظرية مجال الكم عن التأويل الذي ظل فاينمان يؤكد عليه لفترة من الوقت. إنه يعني - كما سترون لاحقا - أن أسلوب فاينمان لإعادة التطبيع - الذي ظل يعتقد دوما أنه ليس سوى وسيلة بدائية مصطنعة لا بد أن يحل محلها ذات يوم فهم جوهري حقيقي للديناميكا الكهربائية الكمية - يعكس في حقيقة الأمر حقيقة فيزيائية أساسية ذات أهمية جوهرية في أسلوب عمل الطبيعة عند أصغر مقاييسها.
عند وصول جيلمان إلى كالتك، كان من الواضح له، ولكثير من أفراد مجتمع الفيزياء، أنه ربما صار أعظم عقلين في مجال الفيزياء في جيل واحد موجودين معا في معهد واحد. واستعد الجميع لنتائج التفاعل بين هذين العقلين.
وعلى الرغم من أنه من عدم الإنصاف حتما أن نختار سمة واحدة لنصف بها عمل عقل عميق ومبدع كعقل جيلمان، فإنه كان بالفعل قد بدأ يضع بصمته على علم الفيزياء، واستمر في فعل ذلك، عن طريق الكشف عن تناظرات جديدة في الطبيعة عند أصغر مقاييسها. إن التناظر أمر جوهري لفهمنا الحالي للطبيعة، غير أن أهميته يساء فهمها على نطاق واسع في الوعي العام، وربما كان ذلك يرجع جزئيا إلى أن الأشياء التي تتسم بقدر كبير من التناظر في الفيزياء تعتبر أقل إثارة من المنظور الفني. ففي المعتاد، كلما كانت التناظرات في العمل الفني أكثر زخرفة، حظي بالمزيد من التقدير. وهكذا نعتبر الثريا الجميلة التي تضم الكثير من القطع المنحنية المتطابقة تحفة فنية نفيسة. والعمل الفني الذي أبدعه إم سي إشر، وفيه العديد من نسخ الأسماك أو غيرها من الحيوانات مطمورة داخل الصورة، مثال آخر على هذا. ولكن في الفيزياء، التناظرات التي تحظى بأعلى تقدير هي تلك التي تجعل الطبيعة أقل تنميقا وزخرفا. فالشكل الكروي الممل، على سبيل المثال، أكثر تناظرا بكثير من الهرم رباعي الأسطح.
السبب في هذا هو أن التناظرات في الفيزياء تعني أن الأشياء أو النظم لا تتغير عندما نغير نحن منظورنا. فمثلا، عندما ندير هرما رباعي الأسطح بزاوية 60 درجة على محور أي سطح من أسطحه، سيبدو متطابقا. ولكن الكرة أكثر تناظرا لأننا لو أدرنا الكرة بأي زاوية كانت، صغيرة أم كبيرة، فإنها تبدو كما هي دون تغيير. إن إدراكنا لحقيقة أن التناظرات تعني ضمنيا أن الشيء لا يتغير عندما نغير منظورنا له يجعل أهمية التناظرات في علم الفيزياء - بالتأمل اللاحق للمسألة - تكاد تبدو بديهية. غير أنها لم تكن كذلك حتى جاءت عالمة الرياضيات الألمانية الشابة إيمي نويثر لتميط اللثام عما صار الآن يسمى «نظرية نويثر» عام 1918 لتظهر بوضوح المعاني الضمنية الرياضية الأساسية للتناظرات في علم الفيزياء.
ما أوضحته نويثر، التي لم تستطع نيل أي منصب جامعي لكونها امرأة، أنه مقابل كل تناظر موجود في الطبيعة، لا بد أيضا من وجود كمية «محفوظة»؛ أي لا تتغير مع مرور الزمن. وأشهر أمثلة ذلك مبدأ حفظ الطاقة وحفظ الزخم. كثيرا ما يتعلم الطلاب في المدارس أن تلك الكميات محفوظة لا تتغير، ولكنهم يلقنون هذا وكأنه معتقد إيماني. إلا أن نظرية نويثر تخبرنا أن حفظ الطاقة يحدث لأن قوانين الفيزياء لا تتغير مع مرور الزمن - فهي اليوم كما كانت بالأمس - وحفظ الزخم ناشئ عن عدم تغير قوانين الطبيعة من نقطة إلى أخرى؛ فالقوانين واحدة سواء أجرينا التجارب في لندن أو في نيويورك.
صارت محاولة استخدام تناظرات الطبيعة في تقييد القوانين الأساسية لعلم الفيزياء أو التحكم فيها أكثر شيوعا في بداية الخمسينيات مع ظهور عدد ضخم من الجسيمات الأولية الجديدة في المعجلات أرغم الفيزيائيين على البحث عن نظام ما وسط تلك الفوضى الظاهرية. تركزت الجهود في البحث عن كميات لا يبدو أنها تتغير عندما ينحل أحد الجسيمات ويتحول إلى جسيمات أخرى. وكان الأمل معقودا على أن تسمح مثل هذه الكميات المحفوظة للفيزيائيين بالعمل في اتجاه عكسي لاكتشاف التناظرات الكامنة في الطبيعة، وأن تتحكم تلك التناظرات عندئذ في الشكل الرياضي للمعادلات التي ستصف قوانين الفيزياء ذات الصلة. وقد تحقق هذا الأمل.
حقق جيلمان الشهرة في البداية حين اقترح عام 1952 أن الميزونات الجديدة - التي كان إنتاجها بالغ القوة غير أن انحلالها كان بالغ الضعف - تسلك هذا السلوك لأن كمية ما مرتبطة بالجسيمات الجديدة تبقى محفوظة في التفاعل القوي. وقد أطلق على هذه الكمية الغريبة الجديدة - ربما على نحو غير ملائم - اسم «الشذوذ». غير أن محرري دورية فيزيكال ريفيو المحافظين، وهي الدورية التي نشر فيها أفكاره أول مرة، اعتقدوا أن هذا الاسم الجديد غير ملائم لمطبوعة متخصصة في الفيزياء، ورفضوا استخدامه في عنوان بحثه حول الموضوع.
كانت حجة جيلمان على النحو الآتي: لما كان الشذوذ كمية محفوظة، فلا بد أن تنتج الجسيمات الجديدة في صورة أزواج - جسيمات وجسيمات مضادة - ذات قيم متساوية ومتضادة من هذا «العدد الكمي» الجديد. حينئذ ستكون الجسيمات ذاتها مستقرة بصورة مطلقة؛ لأن الانحلال إلى جسيمات «غير غريبة» من شأنه أن ينتهك قانون الكمية المحفوظة هذا - مغيرا «رقم الشذوذ» بمقدار واحد صحيح - إذا كانت القوة النووية القوية هي الوحيدة التي تعمل. ولكن إذا لم تذعن القوة الضعيفة - وهي القوة المسئولة عن انحلال النيوترونات والتفاعلات التي تمد الشمس بالطاقة - لقانون الكمية المحفوظة هذا، فإن القوة الضعيفة يمكنها أن تحث انحلال تلك الجسيمات الجديدة . ولكن لأن القوة ضعيفة، فإن الجسيمات ستعيش عمرا طويلا قبل أن تنحل.
بقدر ما كانت هذه الفكرة جذابة، فإن النجاح في الفيزياء لا يقوم على الاستنتاج فقط. فما الذي يمكن للفكرة التنبؤ به بحيث يسمح باختبارها؟ في الواقع، كان هذا هو رد الفعل المباشر في أوساط العديد من زملاء جيلمان. وعلى حد تعبير ريتشارد جاروين، وهو عالم فيزياء تجريبية عبقري لعب دورا أساسيا في ابتكار القنبلة الهيدروجينية: «لست أفهم في أي شيء يمكن أن تفيد هذه الفكرة.»
وحدثت الطفرة عندما أدرك جيلمان أن هذا العدد الكمي للشذوذ يمكن استخدامه في تصنيف مجموعات من الجسيمات الموجودة، حتى إنه توصل لتنبؤ أغرب. فقد تنبأ بأن جسيما متعادلا يسمى «كيه-صفر» لا بد أن يكون له جسيم مضاد، هو «كيه-صفر المضاد»، يختلف عنه. ولما كانت معظم الجسيمات المتعادلة الأخرى، مثل الفوتون، مكافئة لجسيماتها المضادة، فإن هذا الطرح كان غير اعتيادي، على أقل تقدير. ولكن ثبتت صحته في نهاية المطاف، وصارت منظومة كيه-صفر-كيه-صفر المضاد وسيلة اختبار رائعة لاستكشاف علم فيزياء جديد، مرسخة سمعة جيلمان بين جيل علماء فيزياء الجسيمات الصاعد في ذلك الحين.
بعد تقديمه لمفهوم «الشذوذ»، ووفاة فيرمي، بدأ جيلمان يتلقى عروضا للعمل خارج شيكاجو. كان راغبا في الانتقال إلى كالتك للعمل مع فاينمان، وشجعته كالتك على اتخاذ القرار بمضاهاة العروض المتنافسة بالإضافة إلى جعله، وهو بعد في السادسة والعشرين من عمره، أصغر أستاذ كامل الأستاذية في تاريخها. وكان الأمل يحدوها ألا يكون هذا هو آخر حدث تاريخي يصنعه جيلمان، مع فاينمان، للجامعة.
جمعت بين فاينمان وجيلمان علاقة شراكة رائعة قامت على التبادل الفكري. كان الرجلان لا يكفان عن المجادلة في مكتبيهما، وهو نوع من الجدل الودي، سماه جيلمان فيما بعد: «استفزاز الكون»، وهما يحاولان الكشف عن أحدث الألغاز في طليعة علم فيزياء الجسيمات. وكان لتلك المجادلات أثرها على طلابهما وكذلك على الباحثين الحاصلين على درجة الدكتوراه. إنني أتذكر حين كنت باحثا شابا في هارفارد، حيث عملت مع شيلدون جلاشو، أحد تلامذة شفينجر وأحد الفائزين بجائزة نوبل، وكانت لقاءاتنا يتخللها مزيج من الحجج والمناقشات والضحكات. كان جلاشو باحثا حاصلا على درجة الدكتوراه في كالتك مع جيلمان، وأظن أنه تأثر بشدة بأسلوب المناقشة الذي شهده هناك، والذي أصبحت أنا أحد المستفيدين الإضافيين اللاحقين منه، وآمل أن يكون هذا هو حال طلابي أيضا. كانت الشراكة بين فاينمان وجيلمان أيضا اقترانا مضطربا بين ضدين. كان جيلمان نموذجا مثاليا للعالم المثقف، ولم يكن فاينمان كذلك. وكان جيلمان، بطبيعته، ميالا لنقد الناس ونقد أفكارهم، ودائم الانشغال بالأولوية الفكرية. أما فاينمان فلم يكن يحتمل الهراء أو التنميق المتباهي في الفيزياء وكان يقدر الموهبة، ولكن عندما كان يسبقه أحد في التوصل لفكرة ما - كما ذكرت من قبل - فقد كان أكثر ما يعنيه هو هل كان مصيبا أم مخطئا، وليس من الذي نال التقدير في النهاية. لقد كانت شراكة مثيرة بحق، ولكن كان مقدرا لها - بسبب الاختلاف في شخصيتهما وأسلوبهما - أن تواجه المتاعب في النهاية، لكن ليس على الفور.
غير أن ذلك كان وقتا اقترب فيه كلا العالمين من ذروة إبداعهما. كان جيلمان قد بدأ لتوه في إحداث ثورة في عالم الجسيمات الأولية، وكان فاينمان قد أكمل لتوه ثورته في ميكانيكا الكم. وعندما بدآ العمل معا، كانت مشكلة فيزيائية مزعجة أخرى قد ظهرت بالفعل، وكانت مرتبطة أيضا إلى حد ما بالجسيمات الغريبة الجديدة التي كان جيلمان عاكفا على تصنيفها. كانت تلك المشكلة أكثر غموضا بكثير من مشكلة الأعمار بالغة الطول التي فسرتها نظرية جيلمان. لقد كانت تتعلق بواحد من أكثر تناظرات الطبيعة التي تميز العالم المادي شيوعا وبدهية.
في مرحلة ما من طفولتنا نتعلم جميعا التفريق بين اليمين واليسار. الأمر ليس سهلا، وقد اعتاد فاينمان أن يقول لطلابه إنه كان في بعض الأحيان يضطر للنظر إلى الشامة الموجودة على يده اليسرى ليتأكد. هذا لأن الفارق بين اليسار واليمين أمر تقديري . فلو أطلقنا على كل شيء كنا نسميه يسارا يمينا، وعلى كل شيء كنا نسميه يمينا يسارا، فما الذي سيتغير فيما عدا المسميات؟
أو دعونا نفكر في الأمر بصورة أخرى، بالأسلوب الذي وصفه فاينمان ذات مرة. لو أننا كنا على اتصال بسكان كوكب آخر، فكيف يمكننا أن نخبرهم بالفارق بين اليمين واليسار؟ حسنا، إذا كان لكوكبهم مجال مغناطيسي مثل مجال كوكب الأرض وكان يدور حول نجمه في نفس الاتجاه الذي يدور به كوكب الأرض لأمكننا أن نجعلهم يأخذون قضيبا مغناطيسيا ويضبطون قطبه الشمالي ليشير نحو الشمال، وحينئذ يمكننا تعريف اليسار بأنه الاتجاه الذي تغرب فيه الشمس. لكنهم حينها سيقولون: «نعم لدينا قضيب مغناطيسي، ولكن أي طرفيه هو الشمالي؟»
يمكننا الاستمرار على هذا المنوال إلى ما لا نهاية وأن نقنع أنفسنا بأن مصطلحات مثل «اليسار» و«الشمال» هي اصطلاحات اعتباطية ابتكرناها واتفقنا عليها، لكن ليس لها معنى مطلق في الطبيعة، أم أنها لها؟ تخبرنا نظرية نويثر أنه إذا لم تتغير الطبيعة إذا عكسنا اليمين مكان اليسار واليسار مكان اليمين، فلا بد أن تكون هناك كمية محفوظة - نسميها «كمية التماثل» - لا تغيير أيا كانت العمليات الفيزيائية التي تحدث.
لكن هذا لا يعني أن جميع الأشياء متناظرة من حيث اليسار واليمين. انظر إلى نفسك في المرآة. إن شعرك ربما كان مفروقا في أحد الاتجاهين، أو كانت ساقك اليسرى أطول قليلا من اليمنى. إلا أن صورتك في المرآة جعلت فرق شعرك في الاتجاه الآخر، وجعلت ساقك اليمنى هي الأطول. أما الأشياء التي تظل كما هي دون تغيير، كالكرة على سبيل المثال، عندما نقلبها جهة اليمين وجهة اليسار فيقال إن لها تماثلا «زوجيا»، وتلك الأشياء التي تتغير يقال إن لها تماثلا «فرديا». وما تقوله لنا نظرية نويثر هو أن كلا من الأجسام ذات التماثل الزوجي والفردي ستطيع مع ذلك قوانين الفيزياء في عالم المرآة. وقانون حفظ الكمية المرتبط بها يقول إن الأجسام ذات التماثل الزوجي لا تتحول تلقائيا إلى أجسام ذات تماثل فردي. وإذا فعلت ذلك ، فإننا نستطيع استخدام هذا التحول التلقائي في تحديد اليسار المطلق أو اليمين المطلق.
يمكن تصنيف الجسيمات الأولية حسب خصائصها التناظرية، التي ترتبط عادة بالأسلوب الذي تتفاعل به مع غيرها من الجسيمات الأخرى. فلدى بعضها تفاعلات ذات تماثل زوجي ولدى البعض الآخر تفاعلات ذات تماثل مفرد. وتخبرنا نظرية نويثر بأن الجسيم المنفرد ذا التماثل الزوجي لا يمكنه الانحلال إلى جسيم ذي تماثل فردي وآخر ذي تماثل زوجي. إلا أنه يمكنه الانحلال إلى جسيمين لهما تماثل فردي لأنه إذا توجه أحد الجسيمين إلى اليسار وتوجه الآخر إلى اليمين، في حال تبادل الجسيمان أيضا هويتهما في ظل هذا التحول التناظري في الوقت نفسه الذي يتبدل فيه اتجاها الجسيمين نتيجة للتبادل بين اليسار واليمين، فإن الوضع الناتج سوف يبدو متطابقا بعد ذلك؛ بمعنى أنه سيكون ذا تماثل زوجي، مثلما كان حال الجسيم الأصلي.
حتى الآن كل شيء على ما يرام. غير أن الفيزيائيين اكتشفوا أن انحلال ميزونات غريبة تسمى «ميزونات-كيه»، التي كان موراي قد فسر أعمارها الطويلة من خلال مفهوم «الشذوذ»، لا تذعن للقواعد. رصد انحلال «الكاونات»، وهو اسم آخر يطلق عليها، إلى جسيمات أخف وزنا تسمى «بايونات»، ولكنها في بعض الأحيان تنحل إلى بايونين اثنين وفي أحيان أخرى إلى ثلاثة بايونات. ولما كانت البايونات ذات تماثل فردي، فإن حالة البايونين تحمل خصائص انعكاس مختلفة عن حالة البايونات الثلاثة. ولكن حينئذ سيكون من المستحيل على جسيم أحادي النوع أن ينحل إلى وضعين مختلفين؛ لأن هذا سيكون معناه أن الجسيم الأصلي سيكون له تماثل زوجي في بعض الأحيان وتماثل فردي في أحيان أخرى!
كان الحل البسيط لتلك المعضلة أنه ينبغي أن يكون هناك نوعان مختلفان من الكاونات، أحدهما ذو تماثل زوجي وينحل إلى بايونين، والآخر ذو تماثل فردي ينحل إلى ثلاثة بايونات. وكانت المشكلة أن هذين النوعين من الكاونات، اللذين أطلق عليهما الفيزيائيون اسمي «تاو» و«ثيتا»، بدوا متطابقين تمام التطابق في جميع النواحي الأخرى؛ فلديهما نفس الكتلة ونفس العمر. فلماذا تنتج الطبيعة جسيمين متطابقين لكنهما مختلفان كهذين؟ ربما أمكن ابتكار تناظرات جديدة عديدة غريبة من شأنها أن تمنحهما نفس الكتلة ، وكان جيلمان وآخرون يدرسون تلك الاحتمالات، ولكن إنتاج جسيمات لها أيضا نفس العمر بدا أمرا مستحيلا؛ لأن احتمالية الكم العامة أن ينحل جسيم إلى ثلاثة جسيمات أقل كثيرا من احتمالية انحلاله إلى جسيمين، عند ثبات جميع العوامل الأخرى.
كانت تلك هي الحال في ربيع عام 1956 عندما بدأ فاينمان وجيلمان العمل معا في كالتك، وحضرا معا المؤتمر الرئيسي حول فيزياء الجسيمات في ذلك الوقت، الذي كان يسمى «مؤتمر روتشيستر»، والذي كان لا يزال حينئذ يعقد في روتشيستر بنيويورك. وهناك سمعا عن بيانات جديدة مهمة جعلت التاو والثيتا من جديد يبدوان أشبه بتوءمين متماثلين.
صار من الصعوبة بمكان تفسير الوضع حتى إن بعض الفيزيائيين بدءوا يتساءلون في أنفسهم هل تاو وثيتا مختلفان بالفعل. خلال فترة انعقاد المؤتمر، كان فاينمان يشترك في السكن مع فيزيائي تجريبي شاب هو مارتن بلوك. وتشير المحاضر المسجلة للمؤتمر أنه خلال جلسة يوم السبت قرب نهاية الاجتماع، نهض فاينمان وطرح سؤالا على الخبراء نسبه إلى بلوك، ومفاده أنه ربما كان الجسيمان بالفعل متطابقين، وأن التفاعلات الضعيفة ربما كانت لا تبالي بمسألة التماثل؛ أي إن الطبيعة ربما كانت - عند مستوى معين - قادرة على التمييز بين اليمين واليسار!
قيل فيما بعد إن موراي جيلمان عاير فاينمان وسخر منه بقسوة لاحقا؛ لأنه لم تكن لديه شجاعة طرح السؤال باعتباره سؤاله هو، لذا اتصلت بصديقي القديم مارتي بلوك وسألته عما حدث بالفعل. وأكد لي أنه سأل فاينمان لماذا لا يمكن خرق التماثل بواسطة التفاعل الضعيف. شعر فاينمان في البداية برغبة في أن يدعوه أحمق إلى أن أدرك أنه لا يستطيع إجابة سؤاله، وناقش هو ومارتي المسألة كل ليلة طيلة فترة المؤتمر إلى أن اقترح فاينمان أن يطرح مارتي هذا الاحتمال خلال الاجتماع. ورد مارتي بأن أحدا لن ينصت إليه، وطلب من فاينمان أن يطرح المسألة نيابة عنه. وعرض فاينمان الفكرة على جيلمان ليرى إن كان يعلم أي أسباب واضحة تجعل هذا الاحتمال مستبعدا، فلم يجد لديه مثل هذه الأسباب. لذا فقد كان فاينمان، بأسلوبه المعهود، ينسب الفضل لمن يستحقه، ولم يكن يتجنب السخرية التي قد تنشأ عن طرح احتمال قد يكون مستبعدا ولعله خاطئ على نحو واضح لم ينتبه إليه.
لقي سؤال فاينمان ردا من عالم فيزياء نظرية شاب هو تشين نينج (فرانك) يانج، الذي أجاب، طبقا للتقرير الرسمي، بأنه وزميله تسونج-داو لي كانا يبحثان تلك المسألة لكنهما لم يصلا لأي نتائج. (وقد أخبرني بلوك أن التقرير الرسمي كان غير صحيح، وأنه يتذكر أن يانج أجاب بأنه لا يوجد دليل على وجود مثل هذا الخرق.)
وعندما ناقش فاينمان وجيلمان سؤال بلوك أثناء الاجتماع، أدركا أنهما لا يمكنهما التوصل إلى سبب عملي مقنع لاستحالة خرق اتساق التناظر في حالات انحلال الكاونات الضعيفة. وإذا كان التفاعل الضعيف يخرق التناظر، فأين المواضع الأخرى التي قد يظهر فيها في فيزياء الجسيمات؟ إن التفاعل الضعيف نفسه لم يكن مفهوما على نحو جيد. وكما ذكرت من قبل، فإن فيرمي كان قد وضع من قبل نموذجا مبسطا للانحلال الضعيف في صورته الأولية، وهو انحلال النيوترون إلى بروتون، ويسمى «انحلال بيتا»، لكن لم تكن ظهرت بعد صورة موحدة لحالات الانحلال الضعيف المختلفة المعروفة.
وحتى أثناء احتدام النقاش بين عملاقي الفيزياء النظرية فاينمان وجيلمان حول ذلك الاحتمال الغريب، وانشغال فيزيائيين آخرين من الحاضرين بالمؤتمر بالمسألة إلى حد عقد المراهنات، أبدى الفيزيائيان الأحدث سنا، لي ويانج - وكلاهما زميل سابق لجيلمان في شيكاجو - شجاعة وتهورا فكريا جعلاهما يعودان إلى سكنهما ويفحصان بجدية جميع البيانات التي توافرت حينئذ ليريا هل يمكن استبعاد خرق التناظر في التفاعل الضعيف أم لا. واكتشفا أنه لا توجد تجارب يمكنها الإجابة عن ذلك السؤال بصورة قاطعة. والأهم من ذلك أنهما اقترحا إجراء تجربة تتضمن انحلال بيتا ذاته. فلو كان التناظر يخرق، وكانت النيوترونات تستقطب بحيث تدور دورانا مغزليا في اتجاه معين، فإن خرق التناظر حينئذ سوف يكون معناه ضمنا أن الإلكترونات ، وهي أحد نواتج ذلك الانحلال، سوف تكون أقرب لأن تنتج في أحد نصفي الكرة مقارنة بالآخر. وكتب العالمان بحثا جميلا حول فرضيتهما تلك نشر في يونيو 1956.
بدا هذا الاحتمال أقرب إلى الجنون، غير أنه كان جديرا بالتجربة. وأقنع الاثنان زميلتهما بجامعة كولومبيا، شيين-شيونج وو، وهي خبيرة في مجال انحلال بيتا، بالعودة وقطع عطلتها التي كانت تقضيها في أوروبا بصحبة زوجها لتجري تجربة حول انحلال النيوترونات في نظير الكوبالت 60. كانت تلك الحقبة مختلفة عن أيامنا هذه، حيث قد تمتد الفترة الزمنية التي تمضي بين المقترحات النظرية في فيزياء الجسيمات وبين التحقق منها بالتجارب العملية في عصرنا هذا إلى عقود. وفي خلال ستة أشهر فحسب، كانت وو قد حصلت على دليل تجريبي، ليس فقط على أن الإلكترونات كانت تخرج من جهازها على نحو غير متناظر، وإنما أيضا على أن عدم التناظر بدا تقريبا بأكبر حجم ممكن فيزيائيا.
كان هذا كفيلا بإقناع فيزيائي تجريبي آخر من جامعة كولومبيا هو ليون ليدرمان - الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل، والذي كان لي يحاول إقناعه بإجراء تجربة مماثلة على انحلال البايونات - بإجراء التجربة. ومرة أخرى، بسرعة يتعذر فهمها للفيزيائيين الذين نشئوا بعد جيل من ذلك الوقت، أعاد ليدرمان وزميله ريتشارد جاروين تهيئة جهازهما في أحد أيام الجمعة، بعد غداء عمل عقد لهيئة التدريس لمناقشة هذا الاحتمال، وبحلول يوم الاثنين كانا قد حصلا على النتيجة، بعد يوم واحد من إتمام شيين-شيونج وو لتجربتها. كان التماثل يتعرض للخرق بالفعل لأقصى حد ممكن. لم يكن الرب - إذا شئنا استعارة التعبير المستخدم في لعبة البيسبول الذي استخدمه عالم الفيزياء النظرية المتشكك فولفجانج باولي - «لاعبا أعسر ضعيفا»، وإنما كان قويا!
أحدثت تلك النتيجة ضجة. فحقيقة أن هذا التناظر بالغ التقديس الذي يتصف به العالم من حولنا يخرق ولا يكترث به عند مستوى أساسي من قبل واحدة من قوى الطبيعة الأربعة المعروفة، صنعت موجات دهشة عارمة اجتاحت عالم الفيزياء، ووصلت أصداؤها إلى جميع وسائل الإعلام. (من الواضح أن لي ويانج عقدا واحدا من أوائل المؤتمرات الصحفية المعاصرة في علم الفيزياء في جامعة كولومبيا للإعلان عن التأكيد التجريبي لصحة اقتراحهما.) وفي واحد من أسرع تطورات الأحداث في تاريخ الفيزياء، تقاسم لي ويانج جائزة نوبل عام 1957 عن اقتراحهما، الذي تقدما به منذ عام واحد فقط. •••
لماذا لم يتابع فاينمان البحث عن إجابة للسؤال الذي طرحه في اجتماع روتشيستر؟ مرة أخرى وجد فاينمان نفسه قريبا من حل مسألة مهمة في علم الفيزياء، لكنه لم يهتم بمتابعة الأمر حتى الوصول إلى نتيجة. وربما كان هذا التوجه يعكس سمة في شخصيته ظلت ملازمة له: فهو لم يرغب قط في السير على خطى فيزيائيين آخرين. فإذا رأى أن مجتمع الفيزياء كله يركز على مشكلة ما، فإنه يبتعد عنها ويتجنبها ويبقي على ذهنه متفتحا حتى يتمكن من معالجة الألغاز بالطريقة التي يحبها؛ من البداية حتى النهاية. وعلاوة على ذلك، كان يكره قراءة أدبيات الفيزياء، وهو أمر كان ضروريا لتحقيق الإنجاز الذي حققه لي ويانج.
غير أنه ربما كان السبب أيضا أن فاينمان كان لديه صيد أثمن يطارده، أو هكذا كان يظن. فإدراك أن التفاعلات الضعيفة تخرق التناظر شيء جيد، لكنه لا يعادل وضع نظرية جديدة عن الطبيعة. وكان هذا شيئا تاق فاينمان إليه بشدة. فلطالما شعر أن عمله في مجال الديناميكا الكهربائية الكمية عملا بدائيا يؤدي الغرض بالكاد، وليس عملا أصيلا جوهريا؛ ليس مثل المعادلة التي وضعها بطله المفضل ديراك!
كان ما جذب فاينمان أكثر هو احتمال التوصل إلى نظرية توحد بين جميع الظواهر المختلفة المرصودة للتفاعل الضعيف - بما فيها عمليات انحلال أنواع مختلفة جدا من الجسيمات، كالنيوترونات، والبايونات، والكاونات - في صورة واحدة. كان فيرمي قد وضع نموذجا تقريبيا لكنه جميل لانحلال بيتا، وإن كان مقصورا على جانب محدد، غير أن البيانات المتوافرة حول حالات الانحلال الضعيف للجسيمات المختلفة كانت غير حاسمة ومستعصية على التوحيد. وصار السؤالان المحوريان هما: هل ثمة تفاعل ضعيف موحد يصف كل هذه العمليات؟ وإن كان الأمر كذلك، فما شكله؟
وبخته شقيقته، التي كانت فيزيائية هي الأخرى، لتراخيه وإحجامه فيما يتعلق بعدم حفظ التناظر. لقد كانت تعلم أن قليلا من العمل فحسب - مصحوبا بالمثابرة لكتابته - كان كفيلا بإتمام الأمر. فحثته على ألا يتبع مبدأ الحرية الذهنية المطلقة فيما يتعلق بأفكاره بشأن التفاعل الضعيف.
في عصرنا الحاضر، يسهل عرض صورة خرق تناظر الانعكاس في التفاعل الضعيف باستخدام عبارة بسيطة: الجسيمات الغريبة المسماة ب «النيوترينوات»، وهي نواتج انحلال بيتا التي سماها فيرمي بهذا الاسم، والوحيدة المعروفة التي تتفاعل فقط بالتفاعل الضعيف، هي جسيمات «عسراء». فكما أوضحت من قبل، فإن معظم الجسيمات الأولية تحمل زخما زاويا وتتصرف وكأنها تتحرك حركة مغزلية. والأجسام التي تتحرك حركة مغزلية في اتجاه معين ترصد وكأنها تدور في الاتجاه المعاكس إذا نظرنا إليها في مرآة. وجميع الجسيمات الأخرى المعروفة يمكن قياسها وهي تسلك سلوكا يجعلها تبدو وكأنها تتحرك مغزليا إما في اتجاه عقارب الساعة وإما في عكس اتجاه عقارب الساعة، حسب التجربة التي يتم إجراؤها. غير أن النيوترينوات - تلك الجسيمات المراوغة المتفاعلة تفاعلا ضعيفا - تخرق تناظر المرآة إلى أقصى حد ممكن، على حد علمنا على الأقل. فهي تدور في اتجاه واحد فحسب!
كان تسونج-داو لي يلمح في واقع الأمر إلى هذا المعنى عندما كان يصف عمله مع يانج أثناء مؤتمر روتشيستر عام 1957، وجذب هذا انتباه فاينمان. في الأيام الخالية، عندما كان فاينمان يحاول جاهدا تكرار معادلة ديراك لأول مرة وهو طالب بالجامعة مع تيد ويلتون، لم يتمكن من عمل ذلك على نحو كامل، وانتهى إلى معادلة أبسط لم تتضمن الحركة المغزلية للإلكترون على نحو صحيح. كانت معادلة ديراك تضم أربعة مكونات مختلفة، لوصف الوضعين المختلفين للحركة المغزلية للإلكترونات وللجسيمات المضادة لها، وهي البوزيترونات.
والآن أدرك فاينمان أنه عن طريق استخدام صيغة تكامل المسار التي ابتكرها، يمكنه بطبيعة الحال التوصل إلى معادلة تبدو شبيهة بمعادلة ديراك غير أنها أكثر بساطة. كانت تحتوي على مكونين اثنين فقط. وكان هذا مثيرا له. لقد أدرك أنه لو كان التاريخ قد غير مساره، لكانت معادلته اكتشفت أولا، ولاشتق ديراك معادلته منها لاحقا. وبالطبع، انتهت معادلته إلى تحقيق نفس نتائج معادلة ديراك - فمعادلته كانت تصف حالة لف مغزلي واحدة للإلكترون وواحدة لجسيمه المضاد، وكان هناك معادلة أخرى مشابهة تصف الحالتين الأخريين - لذا لم تكن معادلته جديدة حقا. لكنها قدمت بالفعل احتمالا جديدا. وبالنسبة للنيوترينوات، التي يبدو أنها تدور في اتجاه واحد فقط، كانت معادلته، حسبما كان يشعر، ستكون طبيعية أكثر.
إلا أنه كانت هناك مشكلة واحدة. فإذا حاول المرء دمج هذا النوع من المعادلات بصيغة رياضية بغرض وصف التفاعل الضعيف الذي أدى إلى انحلال بيتا وإنتاج النيوترينوات، فإنه سيحصل على نتائج مختلفة عن النتائج التي بدا أن علماء الفيزياء التجريبية يكتشفونها من خلال تجاربهم. غير أن الغريب في الأمر هو أن نتائج تلك التجارب لم تكن حاسمة، ولا تتفق مع وجود قوة واحدة تعمل. ولو أن المرء صنف كل تلك الصيغ الرياضية المختلفة التي يمكنه كتابتها لتفاعلات النيوترون والبروتون والإلكترون والنيوترينو (والثلاثة الأخيرة هي نواتج انحلال الأول)، فسيجد أن لديه خمسة احتمالات مختلفة: «المدرج» (ورمزه
S )، و«المدرج الزائف» (ورمزه
)، و«المتجه» (ورمزه
V )، و«المتجه المحوري» (ورمزه
A )، و«الموتر» (ورمزه
T ). ويصف مخطط التصنيف الرياضي هذا خصائص التفاعلات أثناء عمليات الدوران وعكس التناظر. ولكل تفاعل خصائص مختلفة. وكانت حقيقة أن التفاعل الضعيف يخرق التناظر تعني أنه لا بد أن يضم نوعين مختلفين من التفاعلات على الأقل، كل منهما له خصائص تناظر مختلفة. وكانت المشكلة هي أن تجارب انحلال بيتا تقترح أن يكون مزيج التفاعلات مكونا من بين المدرج
S
والموتر
T
أو بين المتجه
V
والموتر
T ، في حين كانت صورة المكونين التي اقترحها فاينمان تتطلب مزيجا مكونا من المتجه
V
والمتجه المحوري
A .
لم يكن فاينمان هو الوحيد الذي يفكر في تلك المسائل. فقد كان جيلمان، الذي فكر أيضا في قضايا التناظر لبعض الوقت، حريصا على توحيد حالات الانحلال الضعيف المختلفة، بعد أن سبقه لي ويانج وبعد أن أزعجه هذا أكثر مما أزعج فاينمان بكثير. وفي الوقت الذي عاد فيه فاينمان للبرازيل مرة أخرى لقضاء إجازة صيف مرحة، بقي جيلمان يعمل في كاليفورنيا.
لكن كان هناك آخرون أيضا، منهم الفيزيائي إي سي جي سودارشان، وهو فيزيائي هندي شاب جاء إلى جامعة روتشيستر عام 1955 للعمل مع الفيزيائي روبرت مارشاك، وقد تعرض سودارشان لاحقا لموقف مأساوي. كان مارشاك قد اقترح عام 1947 أن هناك نوعين مختلفين من الميزونات رصدا في التجارب، أحدهما هو البايون، الذي يمثل الجسيم المتفاعل بقوة الذي توقع الفيزيائيون وجوده، وجسيم مختلف هو «الميون»، الذي صار معروفا الآن بأنه نسخة ثقيلة الوزن من الإلكترون. وكان مارشاك مشتهرا أيضا في أوساط علماء الفيزياء باعتباره مؤسس مؤتمر روتشيستر، وهو المؤتمر الذي تبحث فيه باستفاضة المشكلات الأساسية الحالية في فيزياء الجسيمات، مثل مشكلة «تاو-ثيتا»، ومشكلة خرق التناظر.
كان سودارشان باعتباره طالبا بالدراسات العليا قد اكتسب معرفة واسعة بعلم الفيزياء النووية، وبصفة خاصة انحلال بيتا للنيوترون، وبعد اكتشاف مسألة خرق التناظر، بحث هو ومارشاك البيانات التجريبية المتوافرة في ذلك الوقت، وتوصلا إلى أن المزيج التقليدي المكون من المدرج
S
والموتر
T
لانحلال بيتا النووي لا بد أنه خاطئ. لقد أدركا أن جميع الانحلالات الضعيفة، بما فيها انحلال الميونات، لا يمكن توحيدها إلا إذا كان التفاعل يحدث في صورة مزيج من المتجه
V
والمتجه المحوري
A .
وعلى نحو استثنائي، كان سودارشان مستعدا لعرض نتائجه في مؤتمر روتشيستر السابع عام 1957، حيث كان مارشاك هو رئيس المؤتمر. غير أن مارشاك قرر أن سودارشان - باعتباره لا يزال طالبا بالدراسات العليا - ليس مخولا حضور المؤتمر، ولما كان مارشاك سيلقي كلمة عن موضوع آخر، فقد شعر أنه لا يستطيع التحدث عن هذا الموضوع، وهكذا ضاعت فرصة ذهبية لإعلان مقترحهما على مجتمع الفيزياء من خلال المؤتمر. فلما كانت البيانات المتعلقة بانحلال الميونات إلى بايونات - التي تنحل لاحقا بدورها انحلالا ضعيفا لتتحول إلى إلكترونات ونيوترينوات - غير مؤكدة تماما بعد، فلعل مارشاك كان مترددا في عرض أي مزاعم مؤكدة في ذلك الوقت.
بدلا من ذلك، أتم مارشاك وسودارشان طوال فترة الصيف تحليلا منهجيا للبيانات المتوافرة حتى حينه، وأعدا بحثا يقترح صيغة موحدة للتفاعل الضعيف هي مزيج المتجه
V
والمتجه المحوري
A ، وكان من المزمع أن يعرضه مارشاك في خريف نفس العام في «بادوا» بإيطاليا. كان هذا زعما جريئا، إذ كان يقتضي أن تكون أربع نتائج تجريبية على الأقل خاطئة! خلال تلك الفترة كان مارشاك وسودارشان في كاليفورنيا، بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، فذهبا لزيارة جيلمان والتحدث معه، الذي كان قد رتب لهما بدوره اجتماعا مع عالم الفيزياء التجريبي بكالتك فيليكس بويم. شرحا لجيلمان - الذي كان يفكر أيضا في أمر صورة المتجه
V
والمتجه المحوري
A
غير أنه تخلى عن الفكرة لأنها تعارضت مع بعض البيانات - أنهما شعرا أن تلك التجارب قد تكون خاطئة. وطمأنهما بويم بأن أوضح لهما أن نتائجه التجريبية صارت الآن متفقة مع صورة
V-A .
أخبر جيلمان - الذي كان قد أدرك بدوره أن صورة
V-A
هي الصيغة الوحيدة المعقولة لتفاعل ضعيف جامع موحد، لو كان هناك بالفعل تفاعل كهذا - الثنائي القلق مارشاك وسودارشان أنه لم يكن يعتزم كتابة بحث حول الموضوع، لكنه ربما يذكر هذا الاحتمال في إحدى فقرات مراجعة نقدية طويلة كان يكتبها حول التفاعل الضعيف. وبعدها توجه لقضاء عطلة، وعاد مارشاك وسودارشان إلى موطنيهما.
في هذه الأثناء، كان فاينمان مستغرقا في التفكير في التفاعل الضعيف الموحد، الذي ربما كان أمله الأخير في اكتشاف قانون أساسي في الفيزياء. إلا أن حالة الارتباك الناجمة عن التجارب المختلفة ظلت عقبة في طريقه. وعند عودته إلى باسادينا خلال الفترة التي كان جيلمان يقضي فيها عطلته، علم أن بويم وجيلمان تحدثا معا عن احتمال تجاوز صورة
V-A
للعقبات التجريبية أخيرا.
كانت هذه هي اللحظة التي انتظرها فاينمان. فلو كان هذا صحيحا، فإن فكرته عن وصف النيوترينوات بواسطة مكونين اثنين في صيغة رياضية بسيطة يمكنها استيعاب انحلال بيتا صحيحة إذن! وقد حكى الموقف لاحقا بقوله: «قفزت من مقعدي في تلك اللحظة وقلت: «إذن فإنني أفهم كل شيء. أفهم كل شيء وسوف أشرحه لكم صباح الغد» ... لقد ظنوا عندما قلت هذا أنني أمزح ... لكنني لم أكن مازحا. لقد كان التحرر من طغيان الاعتقاد بأن المزيج مكون من
S
و
T
هو كل ما أحتاج إليه، لأنه كانت لدي نظرية تقول إنه إذا كان مزيج
V
و
A
محتملا، فسوف يكون صحيحا حتما، لأن الأمر سيكون هكذا مرتبا وجميلا.» كان فاينمان في غاية الإثارة حتى إنه أقنع نفسه بأنه الشخص الوحيد في العالم الذي فهم أن مزيج
V-A
سينتج صورة عامة موحدة للتفاعل الضعيف. وفي الواقع، كانت لديه أسبابه الخاصة حتى يعتقد هذا الاعتقاد، وهي ترجع - كالمعتاد - إلى صيغته الفريدة. وبسرعة غير معتادة منه، راح يكتب مسودة بحث ظن أنه أمله العظيم في وضع نظرية جديدة عن الطبيعة.
في هذه الأثناء، عاد جيلمان إلى كالتك فعلم أن فاينمان عاكف على كتابة أطروحته، في حين كانت لدى جيلمان أسبابه الخاصة للتفكير في مزيج
V-A ، وعلاقته بتناظر «التيارات»، أو جريان الشحنات المرتبطة بالجسيمات الداخلة في التفاعل والناتجة عنه. وقرر - على الرغم من التعهد الذي أعطاه لمارشاك - أن عليه أن يكتب بحثه الخاص.
وفي واحدة من اللحظات الصعبة على أي رئيس قسم (وهي لحظات ألفتها شخصيا خلال اثنتي عشرة سنة قضيتها في هذا المنصب)، قرر رئيس قسم الفيزياء بكالتك أنه لا ينبغي لنجميه الساطعين أن يمارسا لعبة التنافس بالأبحاث، وأبلغهما أن يشكلا فريقا ويكتبا بحثا واحدا. وعلى نحو يثير الدهشة، وافق فاينمان وجيلمان على ذلك.
كان بحث فاينمان وجيلمان المشترك مزيجا مثيرا من الأساليب، ومع ذلك كان تحفة فنية أصيلة. لقد أخرج أفضل ما لديهما؛ صيغة فاينمان ذات المكونين للنيوترينو (التي صارت مفيدة لاحقا، مع أنها بدت ملفقة في حينها)، وأفكار جيلمان العبقرية عن الكميات والتناظرات المحفوظة المرتبطة بالتيارات الضعيفة (التي ثبتت جدواها لسنوات تالية فيما يتجاوز كثيرا مسألة فهم انحلال بيتا).
ومن نافلة القول أن نبأ البحث المشترك لفاينمان وجيلمان سرعان ما ذاع، وكان على سودارشان المسكين أن يتحمل حديثا تلو حديث يستمع فيه إلى نسب فكرة مزيج
V-A
إلى هذين النجمين الساطعين. صحيح أن جيلمان أصر على كتابة شكر وتقدير أشار فيه لمناقشاته مع مارشاك وسودارشان، وأن فاينمان أقر بعدها لسودارشان بأنه منذ ذلك الحين يسمع أن سودارشان سبق الجميع إلى فكرة مزيج
V-A ، وأقر لاحقا بهذا الأمر على الملأ، إلا أن بحث فاينمان وجيلمان ظل سنوات طوالا يعتبر المرجع التقليدي والوحيد الذي يستشهد به الناس عند مناقشة الفكرة.
لعل هذه كانت المرة الوحيدة في حياة فاينمان المهنية التي شعر فيها بالإثارة والانقياد لفكرة حتى إنه أراد نشرها باعتبارها فكرته. لقد شعر أنها ربما كانت أعظم لحظات الفخار في حياته، أو كما عبر هو عن الأمر: «كانت تلك لحظة أدركت فيها كيف تعمل الطبيعة. إن لها أناقة وجمالا. لقد كانت متألقة.» وكان البحث عملا جميلا أيضا، مثلما يمكن للمرء أن يتوقع من أكثر عقلين مبدعين في فيزياء الجسيمات في عصرهما. وعلى الرغم من أن البحث لم يكن صادما، ولا حتى يمثل مفاجأة كاملة، وبالتأكيد لم يكن نظرية مكتملة عن أي شيء (فالنظرية الكاملة عن التفاعل الضعيف استغرق وضعها عقدا آخر من الزمان، ثم احتاجت إلى عقد آخر كي تحظى بالقبول)، وعلى الرغم من تقييم فاينمان الشخصي، فإنه بالنسبة للعالم بدا دليلا على أن الشراكة التي بدأت عام 1954 عندما انتقل جيلمان إلى كالتك ليكون بالقرب من فاينمان قد وصلت إلى مرحلة الإثمار الذي يبشر بإنجازات عظيمة قادمة. وقد صورت مجلة «تايم» العالمين باعتبارهما من بين كبار النجوم الساطعة في العلوم في الولايات المتحدة قائلة: «عندما يقفان أمام السبورة تندفع الأفكار وكأنها شرارات تتطاير من حجر المسن، وتلطم تبسيطات كل منهما جبهة الآخر على نحو تبادلي، فيبدي انبهاره بالدقائق الرائعة في معادلات الآخر التي تمتد بطول حائط، فتشحن بطاريات إبداعهما.»
لكن لم تكن هذه بداية شراكة جميلة، وإنما كانت أقرب إلى النهاية. فبمجرد أن صار تعاونهما أشبه بزواج إجباري، أخذ العالمان العبقريان أبحاثهما المستقبلية في مسارين متوازيين لا يلتقيان، مع أن أحدهما لم يفقد أبدا احترامه لقدرات الآخر وأفكاره. بالطبع ظل كل منهما يستشير الآخر طالبا منه النصح وظلا يناقشان الأفكار ويتجادلان بين الحين والآخر، لكنهما لم يتعاونا مطلقا بعد ذلك على «استفزاز الكون». كان جيلمان على وشك أن يصنع أعظم إسهاماته في علم الفيزياء، وكان فاينمان بصدد التركيز على أمور أخرى طوال ما يقرب من عقد من الزمن، قبل أن يعود مرة أخرى إلى فيزياء الجسيمات ويسهم، وياللمفارقة، في إقناع العالم بأن اكتشاف جيلمان الرياضي، المسمى «الكواركات»، ربما كان حقيقيا في واقع الأمر.
الفصل الرابع عشر
صنوف من الإلهاءات ومباهج الحياة
الجائزة الحقيقية هي متعة المعرفة.
ريتشارد فاينمان
أخيرا تمكن فاينمان من كتابة فكرة عبقرية في الوقت المناسب وكان راضيا - على نحو غير صحيح كما تبين فيما بعد - لأنه أخيرا كان أول من يكشف للعالم عن قانون جديد للطبيعة. صار في استطاعته الآن أن ينعم ببهجة تقاسم الشهرة مع جيلمان وأن يكون محط أنظار عالم الفيزياء.
بوجود جيلمان وفاينمان معا في كالتك، صار ذلك هو المكان الذي يتجه إليه الفيزيائيون لتلقي العلم، وللتعاون، أو ببساطة لطرح أفكارهم على العبقرية التي اجتمعت في أعظم عقلين فيزيائيين ظهرا في جيلهما. وكان يتعاقب شباب علماء الفيزياء النظرية الواعدون للدراسة هناك ومن ثم ينتقلون للبحث عن عوالم جديدة تماما. فاينمان ذاته لم يتخرج على يديه أي طالب تقريبا، غير أن جاذبية فاينمان وجيلمان مجتمعين كانت كافية لاجتذاب كل من الطلاب والباحثين الحاصلين على الدكتوراه إلى المعهد، الذين كلل العديد منهم بعد ذلك بجوائز نوبل.
بعضهم انتابه الذهول من الاهتمام الذي لقيه هناك. قدم باري باريش، وكان حينها شابا من العلماء التجريبيين لا يزال في بداية طريقه قادما من بيركلي ثم صار بعدها زميلا لفاينمان في كالتك، حلقة دراسية هناك وانبهر لرؤية فاينمان بين الحضور ثم بملاحقته له بالأسئلة. وحكى لي باريش مؤخرا عن شعوره بالرضا عن ذاته وبأهميته في تلك اللحظة. بمعنى أنه كان يظن نفسه مميزا إلى أن أخبره الآخرون بأن فاينمان حضر جميع ندواتهم وكان يطرح الكثير من الأسئلة دائما؛ فلم يكن هناك شيء مميز في زيارته تلك لباريش.
في الوقت نفسه كان المكان يبدو مخيفا أحيانا. فقد كان جيلمان قاسيا في نقده، وعادة ما كان يوجه هذا النقد في جلسات خاصة. وفي الأحيان النادرة التي لم ير فيها فاينمان قيمة كبيرة لعمل شخص ما، كان يزدريه صراحة وربما يفعل ما هو أسوأ. ولم يكن ما يغضبه يبدو واضحا دائما. من المؤكد أنه لم يكن يطيق صبرا على الهراء، لكن من الواضح أيضا أن رد فعله كان سلبيا تجاه مناهج صحيحة بل ربما كانت تنم عن عبقرية، غير أنها كانت تعكس نمطا لا يروق له. ومن الأمثلة على ذلك استقباله لأحد شباب علماء الفيزياء النظرية، وهو ستيفن واينبرج، عندما ذهب إلى كالتك لتقديم ندوة علمية حول أفكاره. كان واينبرج، الذي صار فيما بعد واحدا من أكثر علماء الفيزياء في العالم تمتعا بالاحترام والتقدير (وتقاسم فيما بعد جائزة نوبل مع آخرين لتوصله لنظرية مكتملة حول التفاعل الضعيف، موحدا إياه مع الكهرومغناطيسية)، يسعى للتوصل إلى حلول تفصيلية رسمية، متجها ببحثه من العام إلى الخاص؛ عكس اتجاه عمل فاينمان في الغالب. وجه فاينمان وجيلمان لهذا الفيزيائي الذي كان من الواضح أنه يحمل قيمة علمية فذة سيلا من الأسئلة القاسية حتى إنه لم يستطع إنهاء حديثه تقريبا.
كان غضب فاينمان في الغالب مقصورا على أولئك الذين كان يشعر أنهم يسيئون استغلال الفيزياء بطرحهم مزاعم لا تقوم على أساس، وعادة ما تكون مبنية على أدلة غير كافية. فمن وجهة نظر فاينمان، كانت الفيزياء تأتي في المقام الأول، ولم يكن يهتم بالأشخاص. ولعل أشهر مثال أعرفه أنا شخصيا على هذا واقعة جمعته وفريد راينز، الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل عام 1995 عن تجربة أجراها عام 1956 وأثبتت لأول مرة وجود النيوترينوات. استمر راينز في أبحاثه حول النيوترينوات الآتية من المفاعلات النووية، وبعدها بزمن طويل في عام 1975 زعم أنه يمتلك الدليل على أن النيوترينوات، التي لها أنواع عديدة، تتذبذب من نوع إلى آخر أثناء خروجها من المفاعل. ولو كان هذا صحيحا، فإن النتيجة سوف تكون بالغة التأثير (وتبين بالفعل أن النيوترينوات تتذبذب، ولكن ليس بالطريقة التي افترضها راينز). فحص فاينمان البيانات وشرح أن التأثير المزعوم ليس قائما على أساس مؤكد وواجه راينز علنا بنتائجه، وفي نهاية المطاف أجهض الزعم الخاطئ. ولعل هذا الموقف المحرج هو ما أدى إلى تأخير حصول راينز على جائزة نوبل لفترة تقترب من أربعين عاما منذ اكتشافه الأول.
على أي حال، في عام 1957، أزاح عمل فاينمان مع جيلمان في موضوع التفاعل الضعيف عن كاهل الأول عبئا ثقيلا حمله معه على مر السنين مع مواصلة تألقه وشهرته في مجتمع الفيزياء حتى بعد أن ظل على المستوى الشخصي متشككا في أهمية عمله في مجال الديناميكا الكهربائية الكمية. ومع أنه لم يفقد أبدا اهتمامه بفيزياء الجسيمات، فإنه بدا أكثر حرية في التجوال في ميادين أخرى وتجربة مواهبه فيها.
في الوقت نفسه، كان عقله في حالة تجوال أيضا في ميادين أخرى. كانت علاقاته الشخصية تعود للفوضى من جديد. في عام 1958، حين كان في جنيف لتقديم استعراض عام لفيزياء التفاعل الضعيف في واحد من أوائل مؤتمرات روتشيستر التي تعقد بالخارج، كان قد خطط للسفر بصحبة زوجة واحد من معاونيه في البحوث بكالتك، التي كان فيما يبدو على علاقة غرامية بها. وكان هذا يحدث على الرغم من اقتراب علاقة أخرى من نهاية قاسية، وكانت مع امرأة متزوجة أيضا، وكان زوج تلك المرأة يستعد لمقاضاتها طالبا الحصول على تعويض. وفي نهاية المطاف خبا كل هذا الصخب، وأخيرا أعادت العشيقة المهجورة لفاينمان ميدالية ذهبية نالها كجزء من جائزة أينشتاين عام 1954 وبعض اللوحات التي رسمتها آرلين.
في جنيف، وجد فاينمان نفسه وحيدا، إذ إن عشيقته قررت تجنب سويسرا والالتقاء به لاحقا في إنجلترا. وعلى الشاطئ التقى بشابة إنجليزية تبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما، اسمها جوينيث هاوارث، كانت تجوب العالم وفق نظام التبادل الطلابي، وفي ذلك الوقت كانت على علاقة مع ما لا يقل عن صديقين آخرين غيره، وبهذا كانا متعادلين في هذا المضمار. ليس من المستغرب أنه اصطحبها إلى أحد النوادي الليلية في تلك الليلة، لكن الغريب حقا، أنه قبل أن يغادر جنيف دعاها للالتحاق بالعمل لديه مدبرة منزل في الولايات المتحدة، وعرض عليها معاونتها في كافة إجراءات الهجرة المطلوبة. (ولم يعرف إن كان استمر في الالتقاء بعشيقته الأخرى في لندن أم لا.) حدثت بالطبع تأجيلات لا مفر منها، وبينما استمر فاينمان في التعامل مع عواقب علاقته بعشيقته المهجورة الأخرى، التي فكر في الزواج منها فعلا، دخلت جوينيث في عدة علاقات عاطفية وظلت متأرجحة في قرارها بين المجيء وعدمه. وهكذا، وعلى الرغم من أنه كان من الواضح أن شرارة الحب اشتعلت بينهما، فمن الصعب أن نعلم على وجه الدقة ما كان يدور في ذهن فاينمان، أو جوينيث من كل هذا.
علم فاينمان أنه في ظل الظروف السائدة قد يبدو من غير الملائم على أفضل تقدير، أو من غير القانوني على أسوأ تقدير، لرجل في الأربعين من عمره أن يساعد على أن تنتقل هذه المرأة التي لا يتجاوز عمرها أربعة وعشرين عاما كي تعيش معه تحت سقف واحد، وهكذا تطوع زميل له، وهو فيزيائي مرح يعشق حياة الانطلاق من العلماء التجريبيين واسمه ماثيو ساندز، بترتيب الإجراءات وجعل المستندات باسمه هو. وأخيرا، وبعد أن مرت فترة جاوزت العام من التأجيلات، وصلت جوينيث إلى باسادينا في صيف عام 1959، وساعدت على تحويل المنزل الذي كان مظهره ينبئ بوضوح عن أن ساكنه عزب وحيد إلى ما يمكن أن يطلق عليه اسم منزل. ومع أنها كانت تواعد رجالا آخرين - وإن كان يصعب الجزم إن كان هذا مجرد ادعاء أم لا - فإن هذا السلوك تراجع أيضا، وصارت تصاحب فاينمان في نهاية الأمر في المناسبات الاجتماعية، وكثيرا ما كانا يغادران الحفل كل بمفرده للمحافظة على المظاهر. وبعد ما يربو على عام بقليل من وصولها، عرض فاينمان عليها الزواج.
كانت تلك القصة تصلح لأحد أفلام الدرجة الثانية، لا الحياة الواقعية، وكانت جميع الأسباب متوافرة لتنبئ بأن سلوك فاينمان المتهور سوف يفضي - مثلما حدث في العديد والعديد من مغامراته العاطفية السابقة - إلى كارثة. غير أن هذا لم يحدث. فبعدها بعامين صار لديهما ابن، يدعى كارل، وكلب. وانتقلت أم ريتشارد للسكن بالقرب منهما، واشترى هو منزلا قريبا من منزل زميله ومعاونه جيلمان وعروسه البريطانية الجديدة. وصار فاينمان رب أسرة. وتبنى مع جوينيث فيما بعد طفلة أخرى، وهي ابنتهما ميشيل، وظلا يعيشان حياة زوجية سعيدة حتى وفاته.
أخيرا عرفت حياة فاينمان الشخصية طريق الاستقرار - وعلى أي حال كان من المستحيل أن تصل إلى درجة من عدم الاستقرار تفوق ما وصلت إليه بالفعل - غير أن ذهنه ظل يعمل دون كلل أو ملل. فكر في الانتقال إلى ميدان علمي آخر فتلهى قليلا بعلم الوراثة، وكان مشجعه في ذلك صديقه، عالم الفيزياء الذي تحول إلى عالم أحياء والذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل، ماكس ديلبروك. غير أن هذا الأمر لم يستمر طويلا.
واصل فاينمان العمل مع جيلمان في موضوع التفاعل الضعيف وواصل إزعاجه في الندوات (إلا أن المناوشات ربما صارت محددة أكثر مع مرور الوقت)، غير أنه لم يبد مستريحا في هذا العمل. كانت لدى الاثنين فكرة وهي أنه ربما كان هناك نوعان مختلفان من النيوترينوات وبهذا يمكن تفسير النتائج التجريبية المحيرة، غير أن فاينمان فقد اهتمامه بها ورفض كتابة الفكرة. ولاحقا فاز ليون ليدرمان، وميلفن شفارتز، وجاك شتاينبرجر بجائزة نوبل بعد أن تمكنوا من إثبات هذه الحقيقة من خلال التجارب. وفي بحث آخر، بالاشتراك مع جيلمان وعدة زملاء آخرين، وافق فاينمان على التعاون، وبعدها وعقب إرسال نسخة مسودة الطباعة، توسل إليهم - وقبل توسله - أن يحذفوا اسمه قبل النشر.
في عام 1961، سنحت لفاينمان فرصة غير عادية فتحت طاقته الإبداعية بأسلوب جديد تماما وساعدت على وضعه في مرتبة جديدة في مجتمع الفيزياء وغيره من المجتمعات. لم تكن تلك الفرصة مرتبطة باكتشاف قانون جديد للطبيعة، وإنما باكتشاف طرق جديدة لتدريس الفيزياء.
كان الطلاب الجامعيون في كالتك مطالبين باجتياز عامين من مناهج التعريف بعلم الفيزياء، ومثل معظم المناهج من هذا النوع كانت تلك تمثل إحباطا لهم، لا سيما لألمع الطلاب وأكثرهم ذكاء الذين كان علم الفيزياء مشوقا لهم خلال دراستهم له في المدرسة الثانوية، وكانوا يرغبون في تحصيل المعرفة عن نظرية النسبية والعجائب الحديثة، ولم يكونوا راغبين في العودة لتكرار استذكار دروس الكرات التي تتدحرج فوق الأسطح المائلة. وبتحفيز من ماثيو ساندز، الذي كان يناقش الفكرة مع فاينمان لبعض الوقت، قرر قسم الفيزياء - وفي نهاية المطاف، رئيس القسم، روبرت باشر، وهو نفسه الذي فرض عملية الاقتران القسري بين فاينمان وجيلمان - إعادة صياغة المنهج التعليمي. ومن جديد، واستجابة لاقتراح من ساندز، اتفق على أن يعهد إلى فاينمان بفصل دراسي تمهيدي يدرسه طيلة فترة المنهج الافتتاحي بأكمله. وعلى الرغم من أن فاينمان لم يكن يحظى بسمعة كبيرة في مجال التدريس للطلبة، فإن التقارير التي صدرت عنه من حيث قدراته التدريسية في كورنيل كانت طيبة للغاية، وكان يحظى بشهرة كبيرة في المجتمع باعتباره عارضا موهوبا وفريدا من نوعه للأفكار عندما يركز في هذا الأمر. كان نشاطه الملحوظ، وأسلوبه الارتجالي، وحدسه الفيزيائي الرفيع، ولكنة أهل لونج أيلاند التي ينطق بها، وعبقريته الفطرية، كل هذا منحه هالة من الجاذبية تشع كلما وقف على أي منصة.
قبل فاينمان التحدي وزاد عليه. كان فيما مضى قد كرس حياته كلها بلا هوادة لإعادة بناء صرح قانون الفيزياء بأكمله داخل ذهنه. وكانت مغامرة الفهم على المستوى الشخصي هي التي تدفعه وتوجهه منذ سنوات طفولته. والآن سنحت له الفرصة كي يخرج تلك الصورة من ذهنه لتصبح متاحة للآخرين. (اكتشفت أثناء تصفحي لمذكرات ماثيو ساندز أنه استعان تقريبا بنفس هذه اللغة في إقناع فاينمان بتدريس هذا المنهج!) كان قادرا على وضع بصمته، ليس فقط في علم الفيزياء عند أرقى مستوياته، وإنما أيضا في الأفكار الأساسية من جذورها الأولى التي تمثل جوهر فهمنا لهذا العلم. وعلى امتداد العامين التاليين، كرس فاينمان المزيد من النشاط والإبداع الأشد كثافة في تطوير محاضراته أكثر مما فعل في أي شيء آخر خلال الفترة التي أعقبت الحرب.
كان التوقيت نموذجيا. كانت هذه المسألة ممكنة في ذلك الحين ويرجع ذلك جزئيا إلى أن مغامراته الماجنة بدأت تخمد. فمع استقرار زواجه وحياته الأسرية، صار قادرا على تقليص اهتمامه باحتياجاته ونزواته الشخصية، وقلت دوافعه نحو البحث عن مغامرات كان مدفوعا لها كي يغطي شعوره بالوحدة، ولكن الأهم من ذلك أنه كان في استطاعته الاستقرار في مكان واحد وتخصيص الوقت اللازم لرسم مخطط لمنهج جديد تماما في مقدمة أساسيات علم الفيزياء. كان في استطاعته أن يبين للآخرين ليس فقط كيف يفهم هو العالم، ولكن أيضا ما جعله متشوقا كي يسعى لمعرفة العالم. كان قادرا على خلق ارتباطات جديدة، هي جوهر العلم برمته، أثناء كشف ألغاز عالم الطبيعة. كان يرغب في اصطحاب الطلاب سريعا نحو الألغاز المهمة المثيرة التي تعج بها أحدث تطورات العلم، ولكن في الوقت نفسه يبين لهم أن فهمها ليس مقصورا فحسب على فئة كبار العلماء، وأن الكثير منها مرتبط بظواهر طبيعية مباشرة نراها بأعيننا مثل غليان وجبة شوفان، أو التنبؤ بالأحوال الجوية، أو سلوك الماء عندما ينساب داخل أنبوب.
كان يصل إلى قاعة المحاضرات كل يوم قبل وصول الطلبة، مبتسما ومتأهبا لإمتاعهم بعرض أصيل وجديد تماما لكل شيء بدءا من الميكانيكا الكلاسيكية، وحتى الكهرومغناطيسية، والجاذبية، والموائع، والغازات، والكيمياء، وحتى ميكانيكا الكم في نهاية المطاف. كان يذرع القاعة جيئة وذهابا خلف منضدة شرح كبيرة وأمام سبورة عملاقة، صارخا وعابسا حينا، ومتلطفا وملقيا النكات حينا آخر. ومع حلول نهاية المحاضرة كان يحرص ليس فقط على امتلاء السبورة بالكامل، ولكن على أن يكمل دائرة الأفكار التي حددها في بداية المحاضرة كمواضيع للمناقشة. وكان يرغب في أن يبين للطلبة أن افتقارهم للمعرفة لا يعني بالضرورة الانتقاص من قدرتهم على الفهم، وأنه مع العمل الجاد يمكن حتى لطالب السنة الأولى أن يتعامل، وبأدق التفاصيل، مع الظواهر المعاصرة.
وأهم شيء أنه كان يرغب في تقديم دليل للفهم، أو كما كان يطلق عليه في الغالب «دليل الحائرين» (لعله استعار المصطلح من عنوان مخطوطة شهيرة لفيلسوف القرن الحادي عشر «موسى بن ميمون»). يقول فاينمان:
فكرت أن أوجهها [المحاضرات] إلى أذكى الطلاب في الفرقة الدراسية وأن أحرص - إن أمكن - على أن يعجز حتى أذكى الطلاب عن الإلمام التام بكل ما قلته في المحاضرة، وذلك بوضع اقتراحات لتطبيقات الأفكار والمفاهيم النظرية في مختلف الاتجاهات خارج الإطار الرئيسي للموضوع. لكن لهذا السبب، حاولت جاهدا أن أجعل جميع العبارات التي أنطق بها دقيقة قدر الإمكان، وأن أحدد في كل حالة الموضع الملائم للمعادلات والأفكار داخل علم الفيزياء ككل، وكيف يمكن تعديل الأمور، كلما زادت معرفتهم. شعرت أيضا أنه بالنسبة لأولئك الطلاب من المهم الإشارة إلى ما يجب عليهم - لو أنهم بارعون بالقدر الكافي - أن يكونوا قادرين على فهمه من خلال الاستنتاج مما قيل سابقا، وما الذي يضاف باعتباره شيئا جديدا.
وفي غمرة ما كان يشعر به من حماس أراد أيضا ربط علم الفيزياء بباقي العلوم، وأن يوضح أنه ليس بجزيرة منعزلة عن بقية العالم. فأدخل في المنهج فسيولوجيا إبصار اللون وتطبيقات الهندسة الميكانيكية التي أثارت هي ذاتها اهتمامه عندما كان طالبا، وبطبيعة الحال شرح اكتشافاته الشخصية أيضا.
أدرك القسم أن شيئا مميزا يحدث، ومنح فاينمان مؤازرة وتشجيعا عظيمين. كان يلتقي أسبوعيا بآخرين من أعضاء هيئة التدريس المكلفين - تحت إشراف ماثيو ساندز وروبرت ليتون - بتصميم جلسات لحل المسائل وتحديد مراجع إضافية لمساعدة الطلبة. ولما كان فاينمان لا يدرس من أي مرجع، فقد كان من الضروري عقد تلك الاجتماعات، وكان على هؤلاء المحاضرين والمساعدين العمل بدوام كامل، سواء لمتابعة ما يحدث أو لتطوير المواد التعليمية الملائمة لإكمال المنهج الدراسي.
سرعان ما ذاع خبر ما يحدث في قاعة المحاضرات الكبرى بكالتك، وبدأ الخريجون وأعضاء هيئة التدريس يتوافدون عليها للاستماع للمحاضرات، حتى بعد أن عزف الطلاب الجامعيون عن الحضور بعد أن أصابهم الذعر والارتباك. وفي سابقة ربما لم تكن لتحدث إلا في معهد مثل كالتك، ألح عليه القسم أن يدرس عاما ثانيا، على الرغم من أن كثيرا من الطلبة لم يتمكنوا من اجتياز الاختبارات التي وضعها.
كانت المحاضرات تسجل أيضا بحيث يمكن لساندز وباقي الزملاء، وعلى رأسهم ليتون، نسخها وتحريرها. وفي النهاية ظهرت في المكتبات في جميع أنحاء العالم مجموعة من ثلاثة مجلدات من «الكتب الحمراء». لم يسبق من قبل في العصور الحديثة أن أعاد شخص ما إنشاء قاعدة المعرفة بأكملها من العدم وأعاد تنظيمها بهذا القدر من الشمولية وبهذا القدر من المسئولية الشخصية بالإضافة إلى عرض المبادئ الأساسية لعلم الفيزياء. وانعكس ذلك على الاسم الذي أطلق على هذه المجموعة: «محاضرات فاينمان في الفيزياء».
هذا أمر مهم. فقد منح العنوان مكانة فريدة لعالم واحد، ولا أعلم شخصا آخر، في مجال الفيزياء على الأقل، نظر من قبل في أمر تسمية عمل كهذا باسمه. كان فاينمان في سبيله ليتحول إلى رمز من رموز علم الفيزياء، وكان عنوان ذلك المرجع الدراسي شهادة ليس فقط على طبيعة المادة المقدمة فيه وإنما أيضا على الموقع المتميز الذي كان فاينمان بصدد شغله في عالم الفيزياء.
في نهاية العام حقق المنهج الدراسي الفعلي نجاحا متفاوتا. فقلة من الطلاب، حتى طلاب كالتك، هم من تمكنوا من متابعة المادة العلمية بأكملها. غير أنه بمرور الوقت صار لتلك القلة المحظوظة التي حضرت المنهج ذكريات لا تنسى. لقد أخذ الكثير من الطلاب السابقين يتذكرون تلك التجربة باعتبارها تجربة عمرهم، مرددين كلمات العالم دوجلاس أوشيروف، الحاصل على جائزة نوبل، الذي قال فيما بعد: «كان المنهج الذي استمر عامين جزءا بالغ الأهمية من رحلتي التعليمية. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع القول إنني فهمت كل شيء خلالهما، فإنني أعتقد أنها كانت أهم إسهام شكل حدسي الفيزيائي.»
لكن على الرغم من المعاناة التي ربما أحس بها فئران التجارب من طلبة كالتك (مع أن ساندز أنكر هذه الفكرة وزعم أن معظم الطلبة تمكنوا من متابعة المنهج الدراسي بمستوى ما)، فإن «محاضرات فاينمان» صارت ركيزة أساسية لأي شخص يخطط لأن يصبح فيزيائيا. وأتذكر أنني اشتريت نسختي عندما كنت في سنوات الدراسة الجامعية، وكنت أطالع منها مقتطفات بين الحين والآخر، متسائلا هل ألممت حقا بالمادة كلها أم لا، آملا أن يستعين واحد من أساتذتي بالكتاب. ولعله من حسن حظي أن أحدا منهم لم يفعل. فمعظم من حاولوا ذلك، اكتشفوا أن التجربة مخيبة للآمال. لقد كانت المادة أصعب مما ينبغي لفرقة دراسية عادية في الفيزياء، وأكثر ثورية مما ينبغي.
مع ذلك لا يزال الكتاب يصدر إلى الآن، وقد ظهرت مجموعة منقحة حديثا في عام 2005، وفي كل عام تشتريها دفعة جديدة من الطلبة، وتفتحها وتبدأ في خوض تجربة تعيش فيها مع عالم جديد تماما.
ومن سوء حظ فاينمان وساندز وليتون أن جميع حقوق الملكية تذهب إلى كالتك (على الرغم من أن أسرة فاينمان قاضت كالتك لاحقا للحصول على حق نشر واحدة من المحاضرات التي نشرتها كالتك في صورة كتاب مصحوب بشريط صوتي). وفيما بعد، رثى فاينمان حاله لأحد أصدقائه، وهو الفيزيائي والكاتب فيليب موريسون، بعد أن أطلق عليه لقب عملاق الفيزياء، قائلا: «هل نحن عمالقة في الفيزياء، وأقزام في دنيا الأعمال؟»
تزامنت تجربة تدريس هذا المنهج مع توسع كبير في نشاط فاينمان العام، الذي كان أسلوبه الجذاب المؤثر قد بدأ يصنع أمواجا تتجاوز كثيرا نطاق مجتمع الفيزياء. ففي عام 1958 كان قد وافق بالفعل على أن يكون مستشارا لأحد البرامج التليفزيونية التي تنتجها مؤسسة وارنر براذرز، وفي خطاب يتعلق بهذا البرنامج أشار إلى تجربته في التواصل مع الجماهير وفلسفته الخاصة: «إن فكرة أن العاملين في إنتاج الأفلام يعرفون كيف يقدمون هذه النوعية من المواد، لأنها مواد تتعلق بالترفيه والعلماء بعيدون عن هذا المجال هي فكرة خاطئة. فهم لا يملكون خبرة في شرح الأفكار، وتشهد جميع الأفلام على ذلك، وأنا أمتلك تلك الخبرة. إنني محاضر ناجح في علم الفيزياء لعموم الجمهور غير المتخصص. إن الترفيه الحقيقي يقوم على الإثارة، والدراما، وغموض الموضوع. والناس يحبون تعلم شيء ما، ويتمتعون بترفيه هائل لو أنك أتحت لهم فهم النزر اليسير من شيء لم يكونوا يفهمونه من قبل.»
في ذلك الوقت تقريبا شارك فاينمان أيضا فيما أعتقد أنه كان أول حوار تليفزيوني يجريه، الذي أذيع على الهواء قبل وقت قصير من وصول جوينيث إلى الولايات المتحدة. كان من الواضح أنه يشعر بالإثارة لأنه سيظهر على شاشة التليفزيون، فكتب يقول لها: «لو جئت مبكرة عن موعدك بأسبوعين فإني على يقين من أنه سيكون لدي الكثير الذي أحتاج منك عمله؛ فسوف أظهر على شاشة التليفزيون، في حوار مع معلق تليفزيوني في السابع من يونيو وقد يكون أمامي الكثير من الخطابات التي علي أن أرد عليها.» وكان الحوار تحفة فنية، وتجاوز بكثير في جودته وعمقه الفكري الحوارات التي تجرى في أيامنا هذه، ولكن لأنه احتوى على مناقشة صريحة لأمور الدين، فقد قررت شبكة التليفزيون إذاعته في توقيت مختلف عن التوقيت الذي كان معلنا من قبل، ولهذا كان جمهور المشاهدين أقل عددا.
وأخيرا أذيع البرنامج التليفزيوني الذي ظهر فيه مستشارا، وكان عنوانه «حان الوقت»، على شاشة شبكة إن بي سي عام 1962. وقد أثار ردود أفعال هائلة بين المشاهدين وبدأ في ترسيخ شهادات اعتماد فاينمان لدى الجماهير أكثر من ذي قبل. أدت مقدرته الفائقة كمحاضر أمام جمهور العامة إلى توجيه الدعوة له لإلقاء «محاضرات مسنجر» المرموقة بكورنيل. اكتسبت تلك المجموعة المكونة من ست محاضرات شهرة واسعة وجمعت في كتاب رائع بعنوان «خصائص قوانين الفيزياء». (كان هذا هو ذات الكتاب الذي نصحني معلم الفيزياء في المدرسة الصيفية بقراءته كي يجعلني أكثر تشوقا لدراسة علم الفيزياء.) سجلت المحاضرات أيضا في فيلم، ومؤخرا اشترى بيل جيتس حقوق ملكيتها لتكون متاحة على شبكة الإنترنت. (قال جيتس إنه لو عثر عليها عندما كان طالبا، قبل أن يترك الدراسة بجامعة هارفارد، لكان مسار حياته تغير.) وتلك المحاضرات تصور فاينمان الحقيقي، أكثر من أي صورة مسجلة أو وثيقة؛ فاينمان اللاهي، العبقري، المفعم بالإثارة، صاحب الكاريزما، المتدفق بالطاقة، العملي الذي لا يطيق الهراء.
وأخيرا، في 21 أكتوبر عام 1965، وصل فاينمان إلى المجد، مرسخا مكانته إلى الأبد بين جمهور العلماء وعامة الناس على السواء. تقاسم فاينمان، مع سين-إتيرو وجوليان شفينجر، جائزة نوبل عام 1965 عن «بحثهم الجوهري في الديناميكا الكهربائية الكمية الذي كانت له نتائج عميقة الأثر على فيزياء الجسيمات الأولية». ومثل غيره ممن فازوا بجائزة نوبل، تغيرت حياة فاينمان إلى الأبد، وصار قلقا من هذا التأثير. وعلى الرغم من أنه استمتع بالشهرة لا ريب، فإنه لم يكن من هواة العجب والتباهي، وبدافع من سلوك اكتسبه من والده وهو طفل صغير، كان يرتاب بحق في الألقاب الشرفية. وكانت أفعاله متسقة مع أفكاره. كان قد قرر وهو شاب تخرج للتو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن الدرجات الشرفية شيء سخيف - وأن أولئك الذين يكرمون بدرجات فخرية لم يبذلوا نفس القدر من الجهد الذي بذله هو لكي يحصل على درجته - لذا رفض قبول أي درجة فخرية عرضت عليه. وفي الخمسينيات انتخب عضوا بالأكاديمية الوطنية للعلوم ذات المكانة المرموقة، وهي عضوية تمثل لكثير من العلماء أعلى تقدير يمكنهم الحصول عليه من زملائهم. وبدأ فاينمان منذ عام 1960 عملية مطولة ومعقدة لتقديم استقالته من الأكاديمية الوطنية لأنه اعتبر أن هدفها الأساسي هو أن تحدد من يمكنه «دخولها» ومن لا «يستحق». (في دورة شهيرة بعدها بسنوات، رفضت عضوية كارل ساجان، ويعتقد كثيرون أن السبب، جزئيا على الأقل، هو جهوده في محاولة كسب الشعبية.) وتوقف فاينمان عن إدراج تلك العضوية ضمن قائمة التكريمات التي نالها (فقد طلب من مسئولي تليفزيون إن بي سي، مثلا، حذفها من سيرته الذاتية في واحد من البرامج التليفزيونية التي عرضت عام 1962)، غير أن موافقة مسئولي الأكاديمية الرسمية على الاستقالة استغرقت عشر سنوات.
من الصعب معرفة مقدار الجدية التي كان عليها فاينمان، ولكنه كتب في وقت لاحق أنه في اللحظة التي فكر فيها في رفض جائزة نوبل لنفس الأسباب؛ فمن ذا الذي يبالي إن كان أحدهم في الأكاديمية السويدية قرر أن عمله «نبيل» بما يكفي أم لا. وعلى حد قوله الشهير: «الجائزة الحقيقية هي متعة معرفة الأشياء.» غير أنه سرعان ما أدرك أن هذا سيجلب له شهرة أكبر مما سيجلبه قبول الجائزة، وقد يؤدي إلى انطباع بأنه يظن أنه «أعلى قيمة» من الجائزة. وقد قال إن ما كان يجب على لجنة نوبل عمله بدلا من ذلك هو أن تبلغ الفائزين بالجائزة بهدوء بقرارها مسبقا، وتمنحهم الوقت الكافي للانسحاب في هدوء ودون ضجيج. ووفقا لما قاله، فإنه لم يكن الوحيد الذي خطرت بباله هذه الفكرة؛ فمثله الأعلى ديراك كان يرى نفس الرأي.
وعلى الرغم من هواجسه تلك، فمن الواضح أن فاينمان شعر بشيء من الرضا والتقدير لنيل الجائزة، وعلى حد قول تلميذه السابق ألبرت هيبس، لعله كان سيشعر بشعور أسوأ لو أنه لم ينلها. إلى جانب أن الشهرة التي منحتها إياه تلك الجائزة وغيرها من جوائز التقدير استهوته، ومن أبرز أسباب ذلك أنها منحته المزيد من الحرية كي يتصرف كما يحلو له.
وعلى أي الأحوال، على الرغم من عصبيته الشديدة خوفا من أن يفسد الأمور أثناء الاحتفال الرسمي، وقلقه من الانحناء وارتداء الحلة الرسمية، ومن السير إلى الخلف في حضرة ملك السويد، تمالك فاينمان أعصابه وحضر الاحتفال وأعد خطابا جميلا ليلقيه في حفل نوبل مسلطا فيه الضوء على تاريخه الشخصي بصدق، وعارضا رحلته نحو اكتشاف أسلوب ترويض قيم ما لانهاية في الديناميكا الكهربائية الكمية. وحتى في عام 1965، ظل فاينمان يشعر بأن برنامج إعادة التطبيع الذي ابتكره لم يكن سوى وسيلة لإخفاء مشكلات القيم اللانهائية، وليس لحلها حلا جذريا.
صاحب تقديم جوائز نوبل هذه المرة السؤال الذي يطرح نفسه كثيرا بسبب تعسف السيد نوبل في وصيته، حيث أوصى بألا يتقاسم الجائزة في أي من ميادينها أكثر من ثلاثة أشخاص. وكان من الواضح في هذه الحالة أن جوليان شفينجر، وفريمان دايسون، وسين-إتيرو توموناجا جميعهم يستحقون تقاسم الجائزة مع فاينمان، ولكن لماذا لم يحصل عليها دايسون؟ لقد بين ببراعة فائقة التكافؤ بين الأساليب التي تبدو في الظاهر تامة الاختلاف في اشتقاق شكل معقول للديناميكا الكهربائية الكمية، وأتبع ذلك بتقديم دليل أساسي لتعليم باقي مجتمع الفيزياء كيفية إجراء الحسابات الصحيحة. ولعلك تتذكر أن دايسون في الأساس كان هو أيضا الشخص الذي صنعت أبحاثه الدعاية للنتائج التي توصل إليها فاينمان قبل أن يكتب ذلك الأخير أبحاثه أصلا، وهو من ساعد في النهاية في أن يشرح للعالم أن وسائل فاينمان لم تكن ارتجالية، وإنما كانت قائمة على أساس راسخ وأكثر اعتمادا بكثير على الحدس الفيزيائي وأبسط من الناحية الحسابية من باقي الوسائل الأخرى. وهكذا كان دايسون هو من ساعد بقية العالم على فهم الديناميكا الكهربائية الكمية، وقدم لأساليب فاينمان باعتبارها الأساليب التي ستترسخ وتنمو في نهاية الأمر.
ولو أن دايسون شعر بالغبن لعدم نيله الجائزة، فإنه لم يصرح بمشاعره قط. بل العكس تماما هو الصحيح في حقيقة الأمر. فقد قال لاحقا: «فاينمان هو من توصل للاكتشافات الكبرى، وكنت أنا بحق مجرد مروج لها. ولقد نلت مكافأتي على دوري في المسألة؛ حصلت على وظيفة رائعة هنا في المعهد طوال حياتي، لذا ليس لدي ما أشكو منه! كلا، أعتقد أن الأمر كان صائبا وسليما تماما. وأقول إن فاينمان كان واحدا من أكثر من استحقوا الفوز بجائزة نوبل على مر تاريخها.»
الفصل الخامس عشر
استفزاز الكون
أظن أنه قد خطرت لي الفكرة الصحيحة، كي آتي بأفعال مجنونة ...
ريتشارد فاينمان
شكلت السنوات من 1957 إلى 1965 فترة انتقالية في حياة ريتشارد فاينمان. على المستوى الشخصي، تحول من زير نساء إلى رب أسرة، ومن متجول وحيد إلى زوج مستأنس وأب (مع أنه لم يتوقف قط عن السعي وراء المغامرات، لكنها صارت الآن مع أسرته). وعلى المستوى المهني، تحول من شخص يعمل بصورة ملحة - من أجل تحقيق متعة فورية خاصة له في الأساس - عند قمة علم الفيزياء إلى شخص بدأ يعيد للعالم الحكمة التي اكتسبها من سنوات تفكيره في أمور الطبيعة (مع أنه على الأرجح لم يزعم مطلقا أن ما لديه يعد حكمة).
في هذه الأثناء كان قد صار واحدا من أشهر شارحي ومدرسي الفيزياء وأكثرهم تألقا، وإلى حد ما، ضمير علم الفيزياء. لقد ظل واعيا، وحريصا على التأكيد في كل مناسبة على ضرورة أن يميز زملاؤه وعامة الناس بين العلم الحقيقي وبين ما لا يعد علما، وأن يدركوا الإثارة التي يمكن أن يستمدوها من دراسة العلم، وأن يميزوا الهراء الذي يمكن أن ينتج عن المبالغة في تفسير إشارات العلم، أو عن المزاعم التي لا أساس لها، أو ببساطة من جراء فقد الاتصال به تماما. كان لديه شعور قوي بأن العلم يحتاج إلى أمانة فكرية معينة، وأن العالم سيصير مكانا أفضل مما هو عليه لو شاع هذا المعتقد أكثر ورسخ في الأذهان وطبق عمليا.
ليس معنى هذا أن فاينمان تغير على المستوى الشخصي تغيرا جذريا من أي نوع. فقد ظل شغوفا بشدة بجميع ميادين الفيزياء. وكما ذكرت منذ قليل، فقد واصل بحثه الدءوب عن المغامرات، ولكن مغامرات من نوع مختلف. فعلاوة على رحلاته العجيبة بصحبة زوجته، شرع في نشاطين يمكن أن نطلق عليهما اسم «التسامي»؛ أحدهما كان يعكف فيه على إجراء عملياته الحسابية كل يوم تقريبا عند وصلة شريط باسادينا، حيث كان يستطيع مشاهدة الفتيات كلما سارت حساباته على نحو خاطئ، وتعلق الآخر بالجمع بين اهتمامه الدائم بالرسم واهتمامه الدائم بالنساء العاريات اللاتي يستطيع رسمهن. وقد صار بالفعل بارعا إلى حد كبير في هذا، وهو ما يبدو متناقضا إذ إنه حين كان شابا كان يسخر من الموسيقى والرسم، إلا أنه وهو في منتصف العمر صار شغوفا بالاثنين. والأمر الذي لا يقل تناقضا عن ذلك افتتانه الحديث في الستينيات بزيارة مختلف منشآت ما يطلق عليه «العصر الحديث» مثل «إسالن»، حيث كان يستمتع بالمناظر وبالفرصة السانحة له كي يزيل عن المشاركين معتقداتهم في الروايات الخيالية أو «الخرافات»، حسبما كان يسميها. وربما فاقت جاذبية حمامات العراة، وسحر التعامل مع نوعية مختلفة من البشر، عدم احتماله لأولئك الذين كانوا يسيئون استغلال مفاهيم علم الفيزياء، مثل ميكانيكا الكم، لتبرير تفكيرهم بطريقة «كل شيء جائز».
وفي حياته المهنية، مع تزايد شهرته، تحول فاينمان بشراسة نحو حماية وقته. كان يرغب في أن يضمن ألا يتحول إلى «رجل مهم» بالمفهوم التقليدي، مثقلا بالمسئوليات الإدارية، التي كان يتهرب منها متى أمكنه ذلك. بل إنه راهن فيكتور فايسكوبف، عندما زار المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية «سيرن» في جنيف عقب حصوله على جائزة نوبل، على أنه في خلال عشر سنوات لن يتولى «منصبا مهما»؛ أي منصب «بطبيعته يرغم من يتولاه على إصدار تعليمات لأشخاص آخرين كي ينفذوا إجراءات معينة، على الرغم من أن متوليه لا يفهم أي شيء عما يلقيه من تعليمات للأشخاص السابق ذكرهم». ومن نافلة القول إنه فاز بالرهان.
شجعته شهرته المتزايدة على أن يسلك اتجاها آخر آتى ثماره في الماضي، مع أنه على المدى البعيد كلفه ما كان يمكن أن يمثل له نجاحا أكبر بكثير في مواصلة ريادة الاكتشافات الحديثة في الفيزياء. صار أكثر اقتناعا بأنه لكي يكون رائدا متألقا في مسارات جديدة، فإنه بحاجة إلى تجاهل الكثير مما كان يفعله الآخرون، وبالتحديد عدم التركيز على «المشكلات الحالية».
إن الفيزياء، على أي حال، نشاط اجتماعي إنساني، وفي أي وقت من الزمن، يكون هناك في أغلب الأحوال إجماع على المشكلات «الساخنة»، وعلى الاتجاهات التي يرجح أن تقودنا نحو رؤى مستنيرة جديدة. ويعتبر البعض هذا الهوس بالبحث عن الجديد مشكلة، ومثال ذلك، افتتان قسم كبير من المجتمع على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية بنظرية الأوتار، وهي مجموعة أفكار خلابة من الناحية الرياضية لا يفوقها في افتقارها للاتصال المباشر بالعالم العملي سوى الالتباس المتزايد بشأن ما يمكن أن تتنبأ به عن الطبيعة. (لكن مع هذا، فإن رياضيات نظرية الأوتار أدت إلى ظهور عدد من الأفكار المستنيرة المشوقة حول كيفية إجراء الحسابات وتفسير نتائج الفيزياء الأكثر تقليدية.)
من المحتم أن مجموعات الناس ذوي الاهتمامات المتشابهة تثيرهم عادة أمور متشابهة. وفي نهاية المطاف، لا تعد الموضة في العلوم أمرا مهما، وذلك يرجع أولا إلى أن جميع الأنشطة تكشف حتما عن العيوب مثلما تكشف عن الروائع مبهرة الجمال بأسرع ما يمكن، وثانيا لأنه بمجرد أن تشير الطبيعة نحو الاتجاه الصحيح، فإن العلماء يقفزون من السفينة الغارقة أسرع مما تقفز الفئران من سفينة في قلب عاصفة.
وحتى يكون العلم صحيحا وسليما، من المهم ألا يسير «كل» العلماء في نفس الاتجاه، وكانت هذه هي النقطة التي ركز عليها فاينمان، حتى وصلت إلى ما يشبه الهاجس له. لقد بلغت به الموهبة والتنوع أنه كان قادرا، عند الضرورة، على إعادة ابتكار الغالبية العظمى من الابتكارات وكان عادة ما يطورها ويدخل عليها التحسينات من خلال ذلك. ولكن على نفس النهج، فإن إعادة اختراع العجلة يستغرق وقتا ونادرا ما يكون جديرا بالجهد المبذول.
لم يكن الأمر أنه قادر على أن يسلك هذا الطريق فحسب، وإنما كثيرا ما شعر أن من واجبه أن يفعل ذلك. كانت تلك نقطة قوة ونقطة ضعف في الوقت نفسه. لم يكن حقا يثق بأي فكرة ما لم يبحثها بنفسه من مبادئها الأولى بأساليبه الخاصة. وكان معنى ذلك أنه كان يفهم ما لا يعد ولا يحصى من المفاهيم بصورة أعمق وأدق من معظم الآخرين، وأنه كان يمتلك جرابا رائعا من الحيل يخرج منه الحلول السحرية لكثير من المشكلات المتنوعة. غير أنه كان يعني أيضا أنه لم يكن على علم بالتطورات العبقرية التي توصل إليها آخرون والتي كان من الممكن أن تضيء الطريق أمام أبحاثه بطرق جديدة، فتوصله لأبعد مما كان يستطيع الوصول إليه وحده.
عبر سيدني كولمان - وهو فيزيائي لامع من هارفارد ويحظى باحترام ومكانة رفيعة وكان من تلاميذ جيلمان في كالتك في الخمسينيات وتعامل من قبل مع فاينمان طيلة مساره المهني والعلمي - عن ذلك بقوله: «إنني على يقين من أن ديك اعتبر هذا ميزة، وشيئا نبيلا. وأنا لا أعتقد أنه كذلك. أعتقد أنه خداع للذات. فالآخرون ليسوا جميعا مجموعة من الدمى التي لا قيمة لها ... إنني أعرف أناسا هم في الحقيقة شديدو الأصالة وليسوا معاتيه غير أنهم لم يحققوا شيئا يوازي ما كان يمكنهم تحقيقه في الفيزياء لأنهم عند نقطة ما كانوا أكثر اهتماما بالأصالة من اهتمامهم بأن يكونوا على صواب. وقد أمكن لديك تحقيق الكثير لأنه كان بارع الذكاء بحق.»
حقق فاينمان الكثير بالفعل. ولكن هل كان باستطاعته إنجاز ما يفوق هذا بكثير لو أنه وافق بين الحين والآخر على بناء أبحاثه على أساس مسارات طرقت كثيرا من قبل وجربت بدلا من البحث عن مسارات جديدة؟ لن نعرف إجابة هذا السؤال أبدا. ومع ذلك فإن التقييم الأمين لإسهاماته العلمية اعتبارا من عام 1960 أو نحوه فصاعدا يوضح عدة اتجاهات استمرت في تكرار نفسها. فقد استكشف مجالا جديدا، مبتكرا مجموعة من التقنيات الرياضية المبتكرة، وكذا توصل لأفكار مستنيرة في علم الفيزياء. وكان من شأن تلك الإسهامات أن أدت في نهاية الأمر إلى المساعدة في تطورات محورية قام بها آخرون، وهو ما أدى بعد ذلك إلى مجموعة من الاكتشافات الرئيسية ووجه الغالبية العظمى من مجالات الفيزياء المعاصرة على الصعيدين النظري والتجريبي معا. وتباين هذا الجهد من العمل في مجال فيزياء المادة الكثيفة مرورا بمفاهيمنا حول التفاعلات الضعيفة والقوية، وحتى أساس العمل الذي يجري حاليا في مجال جاذبية الكم وحسابات الكم. لكنه هو نفسه لم يتوصل للاكتشافات أو ينل الجوائز. ومن هذا المنظور، واصل فاينمان دفع عجلة الفيزياء للأمام كما لم يفعل إلا القليل من العلماء المعاصرين، ليفتح بذلك مجالات جديدة للدراسة، ويولد رؤى جوهرية جديدة، ويخلق الاهتمام بأشياء لم يهتم بها أحد من قبل، غير أنه كان يميل دوما لقيادة الدفة من المؤخرة، أو من أحد الجانبين على أفضل تقدير.
ليس واضحا هل كان هذا الأمر يزعجه أم لا. فعلى الرغم من ميله الفطري إلى الاستعراض، كما ذكرت من قبل، فإنه كان في نهاية المطاف أكثر اهتماما بأن يكون على صواب من أن يكون المبتكر صاحب الفكرة الأصلية، ولو أن عمله أدى إلى أن كشف آخرون عن حقائق جديدة، كان من الممكن أن يظل متشككا في النتائج وقتا طويلا، لكن في نهاية الأمر كان الرضا الذي يستمده من كونه أنار طريقا مظلما يمنحه متعة عظيمة. وعن طريق التركيز على مشكلات عويصة لم يتطرق إليها التيار العلمي السائد، كان يزيد من فرص هذا التنوير. •••
تعلقت أولى غزوات فاينمان البعيدة عن المسار المطروق برغبته، التي بدأت حوالي عام 1960، في فهم كيف يمكن للمرء صياغة نظرية كم للجاذبية. كانت هناك أسباب قوية لاهتمامه هذا؛ أولا: في حين راوغت هذه النظرية جميع من فكروا فيها من قبل، حقق هو بالفعل نجاحا في ابتكار نظرية كم متماسكة الأركان خاصة بالكهرومغناطيسية في حين عجز الآخرون عن ذلك، وكان يعتقد أن خبرته بالديناميكا الكهربائية الكمية ربما أدت إلى شيء نافع. وثانيا: لطالما اعتبرت نظرية النسبية العامة لأينشتاين أعظم ابتكار علمي منذ زمن نيوتن. فهي على كل حال نظرية جديدة عن الجاذبية. غير أنه عندما يفكر المرء في سلوكها عند المقاييس الصغيرة، تبدو معيبة. وأول شخص يتمكن من تقويم تلك النظرية ما من شك أنه سينظر إليه باعتباره الوريث الشرعي لأينشتاين. غير أنه ربما كان أعظم شيء جذب فاينمان لذلك الموضوع أنه ما من شخص آخر، شخص ذي حيثية على الأقل، كان يفكر في هذه المسألة. وعلى حد قوله، في خطاب أرسله إلى زوجته من مؤتمر حول الجاذبية حضره في وارسو عام 1962: «هذا الميدان (بسبب عدم وجود تجارب فيه) ليس ميدانا نشطا، لذا فإن قلة من خيرة العلماء هم من يجرون أبحاثهم فيه.»
كانت تلك مبالغة منه إلى حد ما، غير أن الحقيقة هي أن دراسة النسبية العامة صارت ميدانا مستقلا بذاته منذ اكتشاف أينشتاين العظيم المتمثل في معادلات المجال الكلاسيكية عام 1915. ولما كانت النسبية العامة تعني ضمنا أن المادة والطاقة تؤثران في طبيعة الفضاء ذاته، مما يسمح له بالانحناء والتمدد والانكماش، وأن هذه الخاصية للفضاء تؤثر بعد ذلك على التطور اللاحق للمادة والطاقة، الذي يؤثر بدوره على الفضاء، وهكذا، فإن النظرية أكثر تعقيدا بكثير من الناحيتين الرياضية والفيزيائية من نظرية نيوتن للجاذبية.
أنجز قدر عظيم من العمل على إيجاد حلول رياضية لتلك المعادلات بهدف تفسير ظواهر متباينة من ديناميكا الكون وحتى سلوك اللحظات الأخيرة للنجوم أثناء نفاد وقودها النووي. كانت المعادلات معقدة بما يكفي، وكان تفسيرها الفيزيائي محيرا للغاية أيضا، فكان الأمر يتطلب عبقرية فذة وبراعة رياضية غير عادية، وظهر قطاع صغير من الخبراء لبحث تقنيات جديدة للتعامل مع تلك القضايا.
ولكي ندرك إلى أي مدى كان الأمر معقدا، فلا بد أن نعلم أن الأمر استغرق عشرين عاما كاملة والكثير من المنعطفات والطرق المسدودة والأخطاء، من بينها بعض الأخطاء الشهيرة التي ارتكبها أينشتاين نفسه، إلى أن أدرك العلماء أن النسبية العامة لا تتفق مع كون ثابت خالد، وهي الصورة العلمية المفضلة للكون في ذلك الحين. ولكي يكون الكون كذلك، حيث تحاط مجرتنا فيه بفضاء ثابت خاو، أضاف أينشتاين ثابته الكوني الشهير (الذي سماه فيما بعد أكبر أخطائه).
كان الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان أول من كتب معادلات الكون المتمدد عام 1924، ولكن لسبب ما تعرضت تلك المعادلات لتجاهل واضح من مجتمع علماء الفيزياء. وأعاد القس والفيزيائي البلجيكي جورج لوميتر بصورة مستقلة اكتشاف المعادلات ونشرها في دورية علمية مغمورة عام 1927. ومع أن عمل لوميتر لم يحظ باهتمام عام، فما من شك أن أينشتاين علم به، فكتب إلى لوميتر يقول: «حساباتك صحيحة، لكن فيزياءك رديئة.»
لم يترجم عمل لوميتر إلى الإنجليزية كما لم يبدأ في نيل القبول العام، بما فيه قبول أينشتاين نفسه، إلا في الثلاثينيات، بعد مشاهدة إدوين هابل للكون المتمدد من خلال حركة المجرات البعيدة. في عام 1931 نشر لوميتر مقاله الشهير في مجلة «نيتشر» ليحدد فيه الخطوط العريضة لنموذجه المعروف باسم «الذرة البدائية»، الذي صار يعرف بعدها باسم نظرية «الانفجار العظيم». وأخيرا، في عام 1935، أثبت هاوارد روبرتسون وآرثر ووكر بصورة قاطعة أن الفضاء الوحيد الذي يتصف بالتناسق ووحدانية الخصائص (في ذلك الوقت كان العلماء قد أدركوا أن مجرتنا ليست المجرة الوحيدة في هذا الكون، وأن الفضاء متناسق إلى حد بعيد في جميع الاتجاهات وأن المجرات موجودة في كل مكان، وقدر عددها ب 400 مليار مجرة في كوننا القابل للرصد) هو ذلك الانفجار العظيم المتمدد الذي وصفه كل من فريدمان ولوميتر. وبعدها صارت نظرية الانفجار العظيم النموذج النظري المفضل في علم الكونيات، على الرغم من أن الأمر استغرق بالفعل ثلاثين عاما أخرى - بعد بدء فاينمان عمله - حتى استكشفت بجدية الآثار الفيزيائية الفعلية الناتجة عن الانفجار العظيم، ووضعها اكتشاف إشعاع الخلفية الميكروني الكوني على الخريطة التجريبية على نحو حاسم.
على الرغم من أن الأمر استغرق عقدين من الزمان لفهم الآثار الكونية للنسبية العامة، فإن أكثر المواقف المرتبطة بالجاذبية ألفة لنا، وهو الانهيار الذي يحدث بسبب الجاذبية للغلاف الكروي للمادة، ظل محيرا فترة أطول كثيرا، ولا يزال مستعصيا على الفهم بصورة كاملة.
في غضون أشهر قليلة من وضع أينشتاين لنظرية النسبية العامة، كتب الفيزيائي الألماني كارل شفارتزشيلد الحل الدقيق والصحيح الذي يصف طبيعة الفضاء ومجال الجاذبية الناتج خارج التوزيع الكروي للكتلة. غير أن المعادلات أخرجت نتائج ذات قيم لانهائية عند نصف القطر المحدد من مركز التوزيع. ويطلق على نصف القطر هذا الآن اسم «نصف قطر شفارتزشيلد». في ذلك التوقيت، لم يكن معنى قيمة ما لانهاية هذا مفهوما بعد، هل كانت مجرد خطأ في الحسابات الرياضية أم أنها انعكاس لظاهرة فيزيائية جديدة تحدث عند هذا المقياس.
أعمل العالم الهندي الشهير (الذي فاز في النهاية بجائزة نوبل) سوبرامانيان تشاندراسيخار الفكر في انهيار أجسام حقيقية مثل النجوم وزعم أنه في حالة النجوم التي يفوق حجمها 1,44 ضعف كتلة شمسنا، لا توجد قوة معلومة يمكنها إيقاف انهيارها وانكماشها حتى تصل إلى هذا النصف قطر أو أصغر منه. غير أن الفلكي والفيزيائي الشهير آرثر إدنجتون، الذي قدمت مشاهداته للكسوف الكلي عام 1919 أول برهان عملي على صحة نظرية النسبية العامة (ورفعت بذلك أينشتاين إلى مصاف أفذاذ مشاهير العلماء على مستوى العالم)، أعلن اعتراضه بشدة على تلك النتيجة وهزأ منها.
وفي نهاية المطاف شرح روبرت أوبنهايمر أن النتيجة التي توصل إليها تشاندراسيخار صحيحة بعد إجراء تنقيح طفيف لها (حوالي 3 أضعاف كتلة الشمس أو أكثر). لكن التساؤل ظل كما هو، ما الذي يحدث عندما تنهار النجوم على نفسها وتتقلص لتصبح أنصاف أقطارها مساوية لنصف قطر شفارتزشيلد؟ كان من أقوى التبعات الظاهرة للنظرية أنه من وجهة نظر مشاهد من الخارج، أثناء انهيار الأجسام هائلة الحجم، يبدو أن الزمن يتباطأ كلما اقتربنا من نصف قطر شفارتزشيلد، وبهذا قد تبدو الأجسام وكأنها «في حالة تجمد» عند هذه النقطة قبل مواصلتها الانهيار، مما يؤدي إلى مصطلح أطلق على تلك الأجسام وهو «النجوم المتجمدة».
لهذه الأسباب وغيرها ، آمن معظم العلماء بأن الانهيار داخل نصف قطر شفارتزشيلد مستحيل فيزيائيا، وبأن قوانين الفيزياء بشكل أو بآخر سوف تعمل بصورة طبيعية على إيقاف الانهيار قبل الوصول إلى نصف قطر شفارتزشيلد. إلا أنه بحلول عام 1958 فهم العلماء أن القيم الظاهرية اللانهائية المرتبطة بنصف قطر شفارتزشيلد كانت أخطاء رياضية في منظومة الإحداثيات المستخدمة في وصف هذا الحل، وأنه لن يحدث شيء مناف لقواعد الفيزياء أثناء اجتياز الأجسام لذلك النصف قطر، الذي صار يسمى الآن «أفق الحدث» لأنه بمجرد دخولها فيه، لا يعود للأجسام أي اتصال بالعالم الخارجي.
وعلى الرغم من أنه من غير المحتمل أن يحدث شيء غير موات عند أفق الحدث، فإن روجر بنروز شرح عام 1963 أن أي شيء يتجاوز أفق الحدث محكوم عليه بالانهيار متحولا إلى «نقطة تفرد» كثيفة لانهائية في مركز المنظومة. ومن جديد، بدأت قيم ما لانهاية المخيفة تطل برأسها، ولكن هذه المرة ليس في حسابات التفاعلات بين الجسيمات وبعضها فحسب، وإنما في طبيعة الفضاء ذاته. تنبأ العلماء - على الرغم من أنه أمر لم يقم عليه دليل، كما اقترحت مؤخرا بالفعل عدة نماذج مضادة رقمية مؤقتة - بأن جميع نقاط التفرد التي على هذا النحو محجوبة عن الراصدين الموجودين خارجها بواسطة أفق الحدث ومن ثم لا يمكن مشاهدتها مباشرة. لو كان هذا صحيحا، فسيكون له تأثير أشبه بإخفاء المشكلة التي تحدث داخل جسم كهذا لغض الطرف عن التعامل معها، لكنه لن يقدم حلا واضحا للسؤال الفيزيائي الرئيسي عما إذا كانت نقاط التفرد تلك موجودة أم لا.
في عام 1967 أقر جون ويلر، المشرف السابق على رسالة فاينمان، الذي ناصر من قبل القول إن الانهيار داخل نصف قطر شفارتزشيلد مستحيل حدوثه داخل كون يمكن إدراكه بالحواس، باحتمال حدوث هذا وسمى تلك الأجسام المنهارة اسما جذابا وهو «الثقوب السوداء». وسواء أكان اسمها هو الذي حرك هذا الاهتمام بها أم لا، فإن الثقوب السوداء لا تزال محورا لجميع المناقشات والجدل المعاصر المتعلق بفهمنا للجاذبية على نطاقات صغيرة وفي مجالات قوية.
كانت تلك المسائل المحيطة بتفسير الحلول التقليدية لمعادلات أينشتاين وطبيعة انهيار الجاذبية محور نشاط دار داخل مجتمع علماء الفيزياء النظرية الدارسين لمسألة الجاذبية عندما بدأ فاينمان يحول انتباهه نحو ذلك الميدان. ولعل الأمر الذي مثل مفاجأة كبرى هو تطور دراسة الجاذبية حتى صارت تقريبا ميدانا مستقلا ومنعزلا من ميادين علم الفيزياء. وعلى كل حال، كان أينشتاين قد بين أن الجاذبية قوة مختلفة اختلافا تاما عن سائر قوى الطبيعة الأخرى. فهي تنشأ من انحناء الفضاء ذاته، في حين أن القوى الأخرى يبدو أنها تعمل بصورة مختلفة تماما؛ تقوم على تبادل الجسيمات الأولية التي تتحرك في الفضاء، على سبيل المثال. وحتى المراجع كانت تميل للتعامل مع النسبية العامة باعتبارها ميدانا مستقلا بذاته يمكن فهمه بصرف النظر عن الغالبية العظمى من باقي ميادين علم الفيزياء.
إلا أن فاينمان اعتقد محقا أن هذا الفصل مصطنع. فعلى نطاق المقاييس الصغرى، كانت ميكانيكا الكم هي القوة الحاكمة، وفي النهاية لو أن المرء يحاول فهم الجاذبية عند المقاييس الصغرى، فسيكون في حاجة لاستخدام الأدوات التي ابتكرها فاينمان وغيره من أجل فهم الأسلوب الذي يمكن به جعل نظريات كلاسيكية مثل نظرية الكهرومغناطيسية - التي تبدو على السطح مشابهة، لكونها قوة طويلة المدى تتحقق بدءا من مربع المسافة وحتى ما لانهاية - تتفق مع مبادئ ميكانيكا الكم. وعن طريق فهم الجاذبية، مثلما توصل هو وآخرون لفهم الديناميكا الكهربائية الكمية، ربما يتمكنون من كسب رؤى مستنيرة جديدة وقيمة.
بدأ فاينمان التفكير في تلك القضايا بجدية في منتصف الخمسينيات، بعد فترة قصيرة من إتمام عمله في الديناميكا الكهربائية الكمية، كما تناقش فيها مع جيلمان خلال عطلة عيد الميلاد عام 1954، وفي ذلك الوقت كان قد أحرز بالفعل تقدما عظيما. إلا أنه لم يتم صياغة أفكاره إلا في العام الدراسي 1962-1963، أثناء منهج دراسي امتد بطول عام كامل درسه لطلبة السنة النهائية بكالتك. وتحولت محاضراته حول الموضوع إلى كتاب بعد ذلك بمدة طويلة، وطبعت للجمهور عام 1995 ولا يدهشنا أنها سميت «محاضرات فاينمان في الجاذبية». وكان هذا العنوان ملائما تماما لأنه درس هذا المنهج المخصص لطلاب السنة النهائية في نفس الوقت الذي كان يطور فيه ويدرس مقرره التقديمي الشهير للعام الثاني والذي أسست بناء عليه «محاضرات فاينمان» الشهيرة. لا عجب إذن أنه صار منهكا في نهاية تلك الفترة!
شرح فاينمان الدافع الذي حفزه للتوصل لأسلوبه في بحث علمي كتبه عام 1963 لخص فيه نتائجه، واعتذر عن التفكير في الجوانب الكمية من مسألة الجاذبية، التي كانت حينئذ، مثلما هي الآن، بعيدة تماما عن أي إمكانية للتحقق منها عن طريق التجارب: «اهتمامي بها [نظرية الكم للجاذبية] ينصب في المقام الأول على علاقة أحد أجزاء الطبيعة بجزء آخر ... إنني أمنع نفسي من مناقشة مسائل هندسة الكم ... فأنا لا أحاول مناقشة أي مشكلات خاصة بميادين أخرى ما دمنا لا نواجهها بالفعل في نظرية مجال الكم الحالية.»
من الصعب في المناخ الحالي، حيث تحقق مثل هذا الاهتمام العظيم بتوحيد قوى الطبيعة المختلفة، أن ندرك حجم ثورية أسلوب فاينمان في ذلك الوقت. كانت فكرة أن الجاذبية من الممكن ألا تكون مجالا شديد الخصوصية أو مستقلة بذاتها، أمرا أشبه بالهرطقة، لا سيما في المجتمع المنغلق للعلماء الذين كانوا يتعاملون معها باعتبارها جوهرة متميزة، ولا يمكن التعامل معها إلا بأدوات متخصصة غير متاحة للعلماء العاديين. وكما يمكن أن نتوقع، لم يكن فاينمان يطيق مثل هذا الرأي العقيم؛ فلقد كان يتناقض مع جميع معتقداته حول العلم. وأثناء حضوره المؤتمر الثاني حول الجاذبية في وارسو (وكان المؤتمر الأول في تشابل هيل عام 1957 ممتعا أكثر)، كتب رسالة لجوينيث يقول فيها:
إنني لا أحقق شيئا من هذا الاجتماع ... يوجد هنا ضيوف (126) من الأغبياء - وهذا ليس جيدا لضغط الدم عندي - مع تلك الترهات التي تقال ثم تناقش بجدية، وأدخل في مجادلات خارج الجلسات الرسمية ... وكلما طرح علي أحدهم سؤالا أو بدأ في إخباري بشيء عن «عمله»، دائما ما يكون: (1) غير مفهوم على الإطلاق، أو (2) مبهما وغير محدد ، أو (3) شيئا صحيحا وبديهيا وثابتا توصل إليه محدثي بعد بذل جهد جهيد في تحليل عويص ومسهب ثم قدمه لي على أنه اكتشاف مهم، أو (4) زعما، من شخص غبي، بأن شيئا بديهيا وصحيحا ومقبولا ومؤكدا على مر السنين هو في الحقيقة خاطئ (وهؤلاء هم أسوأ فئة؛ فما من حجة يمكن أن تقنع الحمقى)، أو (5) محاولة للقيام بشيء مستحيل على الأرجح، ومن المؤكد أنه لا نفع من ورائه، ويتبين في نهاية الأمر فشله، أو (6) خطأ صريحا واضحا. هناك قدر هائل من «النشاط في الميدان» هذه الأيام، غير أن هذا النشاط يتركز في الأساس على إظهار أن «النشاط» السابق لشخص آخر نتج عنه خطأ أو لم يؤد إلى شيء نافع أو واعد ... ذكريني ألا أحضر أي مؤتمرات عن الجاذبية بعد ذلك.
بدأ فاينمان بالزعم أن الجاذبية أضعف حتى من الكهرومغناطيسية، ومن ثم - تماما مثلما يمكن للمرء أن يسعى لفهم النظرية الكمية للكهرومغناطيسية بأن يفكر أولا في النظرية الكلاسيكية، ومن ثم يضيف تصويبات كمومية رتبة وراء رتبة - فإن نفس الإجراء لا بد أن ينجح مع الجاذبية. ومن هنا، كان الأمر جديرا ببحث هل القيم اللانهائية التي نتجت عندما تجاوز المرء التقريب لأدنى رتبة في الكهرومغناطيسية ستظهر في حالة الجاذبية أيضا أم لا، وأيضا هل يمكن محو تلك القيم بنفس الطريقة التي محيت بها في حالة الديناميكا الكهربائية الكمية أم لا، أو هل يمكن أن تظهر مضاعفات جديدة تؤدي إلى معرفة أكثر تبصرا بطبيعة الجاذبية ذاتها أم لا.
في الكهرومغناطيسية، تنشأ القوى نتيجة تفاعل بين الجسيمات المشحونة والمجالات الكهرومغناطيسية، التي يطلق على كمومها اسم «فوتونات». والجدير بالملاحظة، على حد علمي، أن فاينمان كان أول من طرح فكرة إمكانية معالجة جاذبية الكم تماما مثلما تعالج أي نظرية كم أخرى، وبالتحديد مثلما تعالج النظرية الكمية للكهرومغناطيسية، والتي في ظاهرها تحمل أوجه شبه كبيرة بالجاذبية. وكي يقوم بذلك بحث فاينمان فكرة مميزة: لنفترض أن أينشتاين لم يضع نظرية النسبية العامة. هل كان باستطاعة شخص ما بدلا من ذلك أن يشتق معادلات أينشتاين بمجرد التفكير في الحد التقليدي لجسيمات الكم المتفاعلة مع مجالات الكم؟ ومع أن فاينمان لم يكن أول من بحث احتمالا كهذا أو استنبط استنتاجا إيجابيا في هذا الصدد - في واقع الأمر، أجرى ستيفن واينبرج من قبل أعم وأقوى عملية تقص واستكشاف لهذه المسألة عام 1964، وشرحها بالتفصيل في مرجعه الجميل حول الجاذبية وعلم الكونيات عام 1972، ومرة أخرى في بحثه اللاحق الذي أجراه عام 1979 - فإن تحليل فاينمان الأصلي خلق عقلية معاصرة يمكن في إطارها إجراء عمليات إعادة تقييم أكثر حداثة لتلك النظرية.
كان الفرض النظري جديرا بالإعجاب: انس كل شيء عن الهندسة والأفكار الخلابة عن المكان والزمان التي تبدو الأساس الذي قامت عليه النسبية العامة. فلو أن أحدهم فكر في تبادل جسيم لا كتلة له (تماما مثلما أن الفوتون جسيم له كتلة تساوي صفرا ينقل قوة كهرومغناطيسية)، فإنه إذا كان للجسيم المعني عديم الكتلة لفا مغزليا قدره 2 بدلا من 1 كما الحال مع الفوتون، فإن النظرية الوحيدة التي تنتج وتكون متسقة مع ذاتها، وذلك في إطار الحدود الكلاسيكية، ستكون هي في الأساس نظرية النسبية العامة لأينشتاين.
هذا فرض مذهل بحق لأنه يشير إلى أن النسبية العامة ليست بهذا القدر من الاختلاف عن النظريات التي تصف قوى الطبيعة الأخرى. إذ يمكن شرحها من خلال عملية تبادل الجسيمات الأساسية تماما مثل باقي النظريات. ثم نستنبط بعد ذلك كل القوانين الهندسية بعد توصلنا للحقيقة، دون عناء. وفي الحقيقة، هناك أمور خفية ودقيقة تأتي في طي المنطوق الصحيح الفعلي لهذا الفرض، ويثيرها المعنى المقصود بعبارة «متسقة مع ذاتها»، لكنها لا تزيد عن كونها أمورا فرعية دقيقة في الواقع. وكان واينبرج، كما أشرت من قبل، قادرا على إثبات صحة نسخة أكثر عمومية من هذا الفرض، معتمدا ببساطة على خصائص تفاعلات الجسيم ذي اللف المغزلي 2 الذي لا كتلة له وتناظرات المكان التي تنشأ في النسبية الخاصة.
لكن إذا نحينا تلك الأمور الفرعية جانبا، فسنجد أن هذه الصورة الجديدة للجاذبية والنسبية العامة قد خلقت جسرا مبتكرا تماما لم يكن موجودا من قبل بين النسبية العامة وبقية ميادين علم الفيزياء. فقد اقترحت، كما كان فاينمان يأمل، أنه في استطاعة المرء أن يستخدم أدوات نظرية مجال الكم ليس فحسب لكي يفهم النسبية العامة وإنما أيضا كي يوحد بينها وبين باقي القوى الأخرى في الطبيعة.
أولا: ما هي تلك الجسيمات ذات اللف المغزلي 2 التي لا كتلة لها وما الذي يقابلها في الطبيعة؟ حسنا، تذكر أن الفوتونات، وهي كموم المجال الكهرومغناطيسي، ليست سوى نسخ مكممة من الموجات الكهرومغناطيسية التقليدية، وهي موجات المجالين الكهربائي والمغناطيسي التي كان جيمس كلارك ماكسويل أول من بين أنها تنشأ عن اهتزاز شحنة كهربية، هي مصدر المجال الكهرومغناطيسي. تلك المجالات إما أن نشاهدها بأعيننا مثل الضوء، أو تحس بها جلودنا مثل الحرارة الصادرة من الشمس، ومثل موجات الراديو التي تنبعث من المذياع، أو الموجات متناهية الصغر (الميكروويف) الصادرة من هواتفنا المحمولة.
كان أينشتاين قد أوضح، بعد فترة قصيرة من توصله لنظرية النسبية العامة، أن الكتلة - وهي مصدر الجاذبية - يمكنها إحداث تأثير مماثل. فإذا تحركت الكتلة في الاتجاه الصحيح وحسب، فإن نمطا جديدا من الموجات سوف ينبعث، وهي التي تعرف باسم موجات الجاذبية، وهي حرفيا موجات ينضغط فيها الفضاء ويتمدد على طول الموجة، وتتحرك بسرعة الضوء، تماما مثل الفوتونات. وفي عام 1957، عندما ناقش فاينمان لأول مرة أفكاره في مؤتمر للفيزياء، كان كثير من الحاضرين يرتابون في مجرد وجود موجات الجاذبية من الأساس. (والحقيقة أن أينشتاين نفسه أثني في وقت مبكر على يد إتش بي روبنسون عن نشر بحث ينكر فيه وجودها.) إلا أنه في عام 1993، نال جوزيف تايلور وتلميذه السابق، راسل هالس، جائزة نوبل لشرحهما بصورة مقنعة أن زوجا من النجوم النيوترونية الدوارة يفقد الطاقة بنفس المعدل بالضبط الذي تنبأت به نظرية النسبية العامة من انبعاث موجات جاذبية من هذه المنظومة. ومع أنه لا يزال يجب على العلماء أن يكتشفوا موجات الجاذبية على نحو مباشر، لأن الجاذبية بالغة الوهن، فقد صممت تجارب كبرى تجرى في باطن الأرض من أجل هذا الهدف، ويجري حاليا إعداد خطط لبناء مسبار بالغ الحساسية في الفضاء.
لا تنبعث موجات الجاذبية إلا من أجسام يتغير داخلها توزيع الكتلة بطريقة تناظرية غير كروية. ويسمي علماء الفيزياء نوع الإشعاع المنبعث بسبب ذلك التوزيع إشعاعا «رباعي الاستقطاب». فإذا أراد أحدهم تشفير هذا النوع من التفاوت المتأثر بالاتجاهات بربط الجسيمات بالموجات المنبعثة، فإن تلك «الكموم» الأولية لا بد أن يكون لها لف مغزلي قدره 2، وهذا بالتحديد هو السبب الذي جعل فاينمان يدرس هذا الخيار في البداية. ويطلق على «كم» موجات الجاذبية اسم «الجرافيتون»، قياسا على الفوتون.
بعد أن أوضح فاينمان أن الجاذبية من الممكن أن تنشأ ببساطة نتيجة لتبادل الجرافيتونات بين الكتل المختلفة، تماما مثلما تنشأ القوى الكهربية والمغناطيسية من تبادل الفوتونات بين الشحنات، مضى قدما في استخدام نفس النوع من التحليل الذي أفاده من قبل مع الديناميكا الكهربائية الكمية، فاستغله في حساب تصويبات الكم التي أجراها على العمليات الجذبوية. لكن المهمة لم تكن بهذه البساطة. فالنسبية العامة نظرية تفوق في تعقيدها بكثير الديناميكا الكهربائية الكمية لأن الفوتونات تتفاعل مع الشحنات في الديناميكا الكهربائية الكمية، ولا تتفاعل فيما بينها تفاعلا مباشرا. ولكن لأن الجرافيتونات تتفاعل مع أي توزيع للكتلة أو الطاقة، ولما كانت الجرافيتونات تحمل طاقة، فإنها تتفاعل مع غيرها من الجرافيتونات أيضا. ويعمل هذا التعقيد الإضافي على تغيير كل شيء تقريبا، أو على الأقل، يجعل كل شيء تقريبا أكثر صعوبة في حسابه.
ومن نافلة القول أن فاينمان لم يجد أنه من الممكن اشتقاق نظرية كم متماسكة للجاذبية المتفاعلة مع المادة، بدون أي قيم لانهائية بغيضة، بالاكتفاء ببساطة بمعالجة نظرية النسبية العامة مثلما فعل مع الديناميكا الكهربائية الكمية. ولا توجد حتى الآن نظرية حاسمة كهذه، على الرغم من طرح بعض النظريات المرشحة لهذا، ومن بينها نظرية الأوتار. ومع ذلك فإن كل تطور كبير حدث خلال النيف والخمسين عاما التي مضت منذ بدأ فاينمان عمله في هذا الميدان، وشارك فيه مجموعة كبيرة من العلماء بداية من فاينمان حتى واينبرج وستيفن هوكينج ومن جاء بعدهم، بني على أسلوب فاينمان وعلى الأدوات التي ابتكرها طوال مسيرته.
وإليكم بعض الأمثلة على ذلك: (1)
الثقوب السوداء وإشعاع هوكينج:
لعل الثقوب السوداء ظلت تمثل أكبر تحد نظري واجه علماء الفيزياء خلال محاولتهم فهم طبيعة الجاذبية، وقد ظهرت من ورائها أعظم المفاجآت. ومع أن أدلة موحية تراكمت من خلال المشاهدات خلال الأربعين عاما الماضية على وجود أجسام سوداء هائلة أشبه بالثقوب في الكون، تتراوح من كوازارات نشطة وحتى أجرام تصل كتلتها إلى ملايين ومليارات قدر كتلة الشمس في مراكز المجرات، ومن بينها مجرتنا، فإن الطبيعة التفصيلية لعمليات الكم التي تعمل في المراحل النهائية من انهيار الثقب الأسود أحدثت مفاجآت وجدلا محتدما. وجاءت أعظم المفاجآت عام 1972، عندما نقب ستيفن هوكينج عن عمليات ميكانيكا الكم التفصيلية التي قد تحدث بالقرب من أفق حدث الثقب الأسود، فاكتشف أن تلك العمليات ربما هي التي تدفع الثقب الأسود نحو بث طاقة على هيئة جميع أنواع الجسيمات الأولية، ومن بينها الجرافيتونات، كما لو كان الثقب الأسود ساخنا، ودرجة حرارته متناسبة عكسيا مع كتلته. ولا بد أن شكل هذا الإشعاع الحراري متوقف بالضرورة على هوية الشيء الذي انهار أيا ما كان كي يصنع ما يعرف بالثقب الأسود، ولا بد أنه يجعل الثقب الأسود يفقد كتلته وربما يتبخر تماما في نهاية المطاف! جاءت تلك النتيجة، التي بنيت على نمط التقريب الذي استخدمه فاينمان في البداية لاستكشاف ميكانيكا كم الجاذبية - وهو تحديدا، تقريب الفضاء الخارجي واعتباره كأنه ثابت ومسطح تقريبا، واعتبار مجالات الكم، ومن بينها الجرافيتونات، مجالات تنتشر في الفضاء - بمنزلة قنبلة انفجرت في وجه التفكير البديهي التقليدي، لكنها في الوقت ذاته قدمت تحديات كبرى لفهمنا لميكانيكا الكم في وجود الجاذبية. ما مصدر درجة الحرارة المحددة تلك؟ وما الذي يحدث للمعلومات التي تسقط في الثقب الأسود لو أن هذا الثقب في نهاية المطاف ينحل في صورة إشعاعات؟ وماذا عن نقطة التفرد الواقعة في قلب الثقب الأسود، حيث تنهار نظرية مجال الكم التقليدية؟ تلك المشكلات النظرية والرياضية هي التي وجهت أبحاث أعظم العقول النظرية في الفيزياء على مدى الأربعين عاما الماضية. (2)
نظرية الأوتار وما بعدها:
خلال محاولاتهم الحثيثة لترويض القيم اللانهائية التي تظهر في معادلات جاذبية الكم، اكتشف العلماء في الستينيات أنه لو فكر المرء في ميكانيكا كم حلقة مصنوعة من وتر يهتز، فسيكون هناك بصورة طبيعية نوع من الاهتزازات التي تلائم وصف حالة استثارة اللف المغزلي 2 عديم الكتلة. وأدى ذلك - باستخدام نفس النتائج التي شرحها فاينمان من قبل - إلى إدراك أن النسبية العامة لأينشتاين ربما تنشأ بصورة طبيعية في نظرية الكم الأساسية التي ضمت هذه الاستثارات الشبيهة بالوتر. وكان هذا الإدراك يعني بدوره احتمال أن تكون تلك النظرية هي نظرية الكم الحقيقية للجاذبية، التي يمكن فيها ترويض جميع القيم اللانهائية التي كشف عنها فاينمان من قبل خلال تنقيبه في مسألة الجاذبية باعتبارها نظرية لمجال الكم. وفي عام 1984 طرحت العديد من نظريات الوتر على الساحة وفيها جميعا صار من الممكن أن تتلاشى كل تلك القيم اللانهائية، مما يصل بنا إلى أكبر انفجار في عالم الاستثارة النظري شهده علم الفيزياء ربما منذ ظهور ميدان ميكانيكا الكم ذاته.
غير أنه مع كل هذا القدر من الإثارة الذي صنعه ذلك الاحتمال، كان هناك أيضا تعقيد بسيط. فمن أجل السماح بالاحتمالية الرياضية لوجود نظرية كم متسقة ذاتيا للجاذبية، وبدون قيم لانهائية، لا يمكن للاستثارات الأساسية الشبيهة بالوتر أن توجد في أربعة أبعاد فقط. فلا بد أن «تتذبذب» فيما لا يقل عن عشرة أبعاد أو أحد عشر بعدا مختلفا! فكيف يمكن لنظرية مثل تلك أن تتفق مع العالم رباعي الأبعاد الذي نعيش فيه؟ وما الذي يمكن أن يحدث للأبعاد الستة أو السبعة الإضافية؟ وكيف يمكن للمرء ابتكار تقنيات رياضية لمعالجتها بطريقة متسقة في الوقت نفسه الذي يستكشف فيه ظواهر العالم الذي نعيش فيه؟ وكيف يمكن للمرء صياغة آليات فيزيائية تخفي الأبعاد الزائدة؟ وأخيرا، ولعلها أهم نقطة، إذا كانت الجاذبية نشأت بصورة طبيعية وفق تلك النظريات، بمنطق فاينمان، فهل يمكن للجسيمات والقوى الأخرى التي نحس بها أن تنشأ هي الأخرى بصورة طبيعية داخل نفس الإطار؟
صارت تلك القضايا هي القضايا النظرية المحورية التي اكتشفت ودرست خلال الخمس والعشرين عاما الماضية، وكانت النتائج متضاربة في أفضل الأحوال. إن النظريات الرياضية الخلابة التي ابتكرت قدمت أفكارا جديدة مثيرة ومستنيرة نحو فهم نظريات الكم التي تبدو متباينة باعتبارها تعبر عن نفس القوانين الفيزيائية الأساسية - وهو أمر يندرج بالضبط تحت ما وصفه فاينمان باعتباره الهدف المحوري للعلم - والنتائج الرياضية المثيرة التي تم التوصل إليها ربما تقدم رؤى تدلنا على الأسلوب الذي تشع به الثقوب السوداء الحرارة، بما يبدو معه أنها تفقد معلومات، ومع ذلك لا تخرق الأعمدة الرئيسية التي قامت عليها نظرية الكم. وأخيرا، سمحت نظرية الأوتار - التي تقوم على نمط جديد من مخططات فاينمان لحساب العمليات التي تتضمن سلوك الأوتار - لعلماء الفيزياء النظرية باكتشاف طرق جديدة لتصنيف أشكال فاينمان الخاصة بمجالات الكم الطبيعية، وسمحت لعلماء الفيزياء باشتقاق نتائج تحليلية في صيغة مغلقة للعمليات التي لولا ذلك لتضمنت ضرورة تلخيص رقم فلكي من مخططات فاينمان لو كانت الحسابات أجريت بطريقة مباشرة.
لكن الورود لا تأتي بلا أشواك. فمع تطور فهمنا لنظرية الأوتار، صار من الواضح أنها أكثر تعقيدا بكثير مما تخيلنا من قبل، وأن الأوتار نفسها ربما لا تكون هي الأشياء المحورية في النظرية، وإنما هناك أشياء ذات أبعاد أعلى اسمها «الأغشية»، مما يجعل النطاق المحتمل للافتراضات التي يمكن اشتقاقها من النظرية أكثر تعقيدا بكثير. وعلاوة على ذلك، فعلى الرغم من الآمال المبكرة التي علقناها على احتمال التوصل لنظرية أوتار وحيدة أساسية يمكنها أن تخرج بافتراضات فريدة وغير مبهمة لتطوع جميع قوانين الفيزياء الأساسية التي تقاس بالمختبرات في وقتنا الحالي، فإن العكس بالضبط هو ما حدث؛ فالغالبية العظمى من العوالم رباعية الأبعاد، مع أي مجموعة من قوانين الفيزياء، يمكن أن تنشأ في تلك النظريات. فإذا ظل هذا الأمر صحيحا، فإنه بدلا من التوصل إلى «نظريات لكل شيء»، يمكن التوصل إلى «نظريات لأي شيء»، وهو ما يعني في منطق فاينمان عدم التوصل لأي نظريات على الإطلاق.
والحقيقة أن فاينمان عاش عمرا يكفي لكي يشهد خلال حياته ثورة كبرى في نظرية الأوتار خلال عقد الثمانينيات وما صاحبها من ضجة إعلامية. إلا أن تشككه الفطري في المزاعم الضخمة لم يتزحزح قيد أنملة. وعلى حد تعبيره في ذلك الوقت: «كان شعوري - وقد أكون مخطئا - أن هناك أكثر من طريقة. ولا أعتقد أن هناك طريقة واحدة للتخلص من قيم ما لانهاية. ومسألة أن نظرية ما يمكنها التخلص من كافة أشكال القيم اللانهائية لا تعد في نظري مبررا كافيا للاعتقاد في تفردها.» وقد فهم أيضا، حسبما عبر بوضوح في بداية بحثه عام 1963 حول هذا الموضوع، أن أي جهد يبذل في محاولة فهم جاذبية الكم كان يواجه بمعوقات حتى إن أي تكهنات - حتى تلك التي تأتي في إطار نظرية نخرج منها بافتراضات واضحة - ربما تتجاوز بكثير نطاق التجريب. وكان الافتقار إلى القدرة على التنبؤ، جنبا إلى جنب مع الغطرسة الواضحة من جانب علماء نظرية الأوتار، على الرغم من افتقارهم الواضح إلى الأدلة العملية القائمة على التجريب، دافعا كافيا له ليقول بنبرة غاضبة: «علماء نظرية الأوتار لا يتكهنون، إنهم يختلقون المبررات!» وقد عبر عن خيبة أمله في العثور على ذلك العامل الجوهري الآخر الذي كان بالنسبة له يمثل تعريفا محددا لنظرية علمية ناجحة بقوله:
لا يعجبني أنهم لا يحسبون أي شيء. ولا يعجبني أنهم لا يفحصون أفكارهم أو يراجعونها. ولا يروقني أنهم كلما وجدوا شيئا لا يتفق مع تجربة ما، اختلقوا تفسيرا ما على عجل، أو اختلقوا طريقة ليقولوا: «حسنا، ربما كان صحيحا.» فمثلا، النظرية تقتضي وجود عشرة أبعاد. حسنا، ربما كانت هناك طريقة ما للتوصل إلى ستة أبعاد إضافية. نعم، هذا كله ممكن رياضيا، ولكن لم لا تكون سبعة أبعاد؟ وعندما يكتبون معادلتهم، يجب أن تقرر تلك المعادلة عدد تلك الأشياء التي يتعين التوصل إليها، لا أن تسيطر عليها الرغبة في توفيق النظرية مع التجارب بأي صورة. وبعبارة أخرى، لا يوجد في نظرية الأوتار الفائقة أي سبب يمنع دمج ثمانية أبعاد من العشرة بحيث يتبقى بعدان وحسب، وهو ما سيكون مختلفا تماما مع نتائج التجارب. لذا فإن حقيقة أنها قد تختلف مع التجارب تجعلها شديدة الهشاشة، فهي لا تنتج لنا شيئا، ويجب اختلاق الأعذار لها طوال الوقت. إنها لا تبدو صحيحة.
القضايا ذاتها التي أثارت مخاوف فاينمان، والتي عبر عنها منذ ما يربو على عشرين عاما مضت، تضخمت منذ ذلك الحين. وبطبيعة الحال كان فاينمان متشككا في كل المقترحات الجديدة، بما فيها بعض مما تبين بعد ذلك صحته. الزمن وحده، مع بذل المزيد من الجهد في البحوث النظرية، أو بعض النتائج التي تخرج بها التجارب الحديثة، هو الكفيل بتحديد هل كان حدسه في هذا الأمر صحيحا أم لا. (3)
تكاملات المسارات في الجاذبية الكمية و«علم الكونيات الكمي»:
تعاني الصورة التقليدية لميكانيكا الكم، حسبما شرحت من قبل، مشكلة معاملتها للمكان بطريقة مختلفة عن معاملتها للزمان. فهي تحدد الدالة الموجية لمنظومة ما في لحظة زمنية معينة ثم تقدم قواعد لتطور الدالة الموجية مع مرور الزمن.
إلا أن أحد المبادئ الأساسية للنسبية العامة يفيد بأن فصلا كهذا بين المكان والزمان، بطريقة أو بأخرى، هو فصل اعتباطي. إذ يمكن للمرء اختيار أنظمة إحداثيات مختلفة، يكون فيها مكان أحد الأشخاص هو زمان شخص آخر، ويجب أن تكون النتائج الفيزيائية التي سيشتقها المرء مستقلة عن هذا الفصل الاعتباطي. وتكتسب هذه المسألة أهمية خاصة في الحالات التي يكون الفضاء فيها منحنيا بشدة؛ أي حيث يكون مجال الجذب قويا. ولما كانت الجاذبية من الضعف بحيث يمكن للمرء تقريب الفضاء ليجعله مستويا، فمن الممكن حينئذ اتباع وصفة فاينمان التي ابتكرها من أجل معاملة الجاذبية باعتبارها اضطرابا طفيفا، والآثار الجذبوية باعتبارها تحدث في الأساس نتيجة لتبادل جرافيتونات فردية تتحرك في خلفية مكانية ثابتة. ولكن في حال كانت الجاذبية قوية، فإن المكان والزمان يتحولان إلى متغيرين كميين متحدين، ويصبح الفصل الصارم بينهما - إلى خلفية مكانية زمانية يمكن للظواهر أن تتطور داخلها - عسيرا، على أقل تقدير.
أما صياغة تكامل المسارات لميكانيكا الكم فإنها لا تحتاج إلى مثل هذا الفصل. فالمرء يجري عملية جمع حسابي لكل الاحتمالات لجميع الكميات الفيزيائية ذات الصلة، وكذا مجموع المسارات دون اشتراط الفصل بين المكان والزمان. علاوة على ذلك، في حالة الجاذبية، حيث تتضمن الكمية المرتبطة بها هندسة المكان، فإن على المرء عندئذ إيجاد حاصل جمع كافة الاحتمالات الهندسية الممكنة. إن أسلوب فاينمان يقدم وصفة للقيام بهذا، غير أنه ليس واضحا على الإطلاق إن كانت الصورة الباقية من الممكن التعامل معها بالصياغة التقليدية لميكانيكا الكم أم لا.
طبق بالفعل أسلوب تكامل المسارات، وكان أشد المتحمسين له ستيفن هوكينج (وجاء بعده سيدني كولمان وآخرون)، لصياغة ميكانيكا كم تصلح للكون بأكمله، حيث يوجد المرء - في أسلوب تكامل المسارات - حاصل جمع مختلف الأكوان الوسيطة المحتملة التي تكون بها هندسات لاكمية جديدة وغريبة ومحتملة، بما فيها الأكوان الوليدة والثقوب الدودية. هذا الأسلوب في معاملة كون بأكمله بطريقة ميكانيكية كمية يطلق عليه اسم «علم الكونيات الكمي»، وهو يتضمن طائفة من المسائل الحديثة والعويصة، من بينها كيف يمكن تفسير منظومة كم لا يوجد لها راصدون من خارجها، وهل يمكن لديناميكا المنظومة أن تحدد ظروفها الابتدائية الخاصة بها أم لا، بدلا من تركها تفرض عليها من مجرب خارجي.
من الواضح أن هذا المجال لا يزال في مرحلة طفولته المبكرة، لا سيما أنه بلا فهم مجدد لجاذبية الكم. ولكن حسبما أعرب موراي جيلمان بحب في مقال كتبه بعد وفاة فاينمان - وهو يعلم برغبة فاينمان العظيمة في اكتشاف قوانين جديدة وليس فقط إعادة صياغة قوانين موجودة بالفعل، إذا كان يخشى أن هذا هو ما فعلته طريقته في تناول الديناميكا الكهربائية الكمية - فإنه من الممكن أن تكون صياغة فاينمان المعروفة بتكامل المسارات ليست مجرد أسلوب مختلف وإن كان مكافئا لصياغة ميكانيكا الكم، وإنما الأسلوب الأصلي الوحيد الصحيح. وعلى حد تعبير جيلمان: «بهذا، كان ريتشارد سيسعد لو علم أنه توجد الآن بعض الإشارات الدالة على أن رسالة الدكتوراه التي قدمها ربما كانت تتضمن تطورا رئيسيا بحق في الفيزياء النظرية وليس مجرد تطور شكلي. فربما كانت صيغة تكامل المسار لميكانيكا الكم أكثر قيمة وأهمية من الصيغة التقليدية، من حيث إن هناك مجالا حاسما يمكن تطبيقها عليه في حين أن الصيغة التقليدية قد تخفق في ذلك. وهذا الميدان هو علم الكونيات الكمي ... فمن أجل ريتشارد (ومن أجل ديراك أيضا)، كم أود لو تبين أن أسلوب تكامل المسار يشكل الأساس الحقيقي لميكانيكا الكم، ومن ثم لعلم الفيزياء النظرية.» (4)
علم الكونيات، والتسطح، وموجات الجاذبية:
ادخرت للنهاية أقوى أثر لعمل فاينمان، ولعله الأقل عمقا من الناحية الفلسفية، لأنه يسمح باحتمال وجود حسابات يمكن مقارنتها مباشرة بالبيانات التجريبية، التي كان يرى أن الجهود النظرية بدونها تظل عاجزة.
على نحو مدهش، أدى فاينمان عمله في وقت لم تكن فيه كل الأشياء التي يعرفها العلماء الآن عن الكون بأكبر مقاييسه معلومة. غير أنه تبين أن حدسه في عدد من المجالات الجوهرية كان صائبا، باستثناء واحد، إلى جانب أن التجارب التي أجريت على أحدث مشاهدات علم الكونيات سرعان ما قدمت أول دليل مباشر على أن تصوره الخاص بالجرافيتونات باعتبارها الكموم الأساسية في مجال الجاذبية كان صحيحا.
أدرك فاينمان مبكرا وجود احتمال أن يكون إجمالي طاقة منظومة ما من الجسيمات هو صفر بالضبط. وعلى الرغم من الغرابة التي قد يبدو عليها هذا الأمر، فإنه ممكن لأنه مع أن الأمر يحتاج إلى طاقة موجبة من أجل تخليق جسيمات من العدم، فإن قوة جذبها الصافية تشي بأن لديها «طاقة وضع جذبوية» سالبة؛ فبسبب وجوب بذل شغل للتغلب على انجذابها بعضها لبعض، فإن صافي الطاقة المفقودة بعد خلقها ثم تجاذبها معا ربما يعوض بالضبط الطاقة الموجبة التي كانت مطلوبة لتخليقها. وعلى حد تعبير فاينمان في محاضراته حول الجاذبية: «من المثير أن نفكر في أن تخليق جسيم جديد لا يكلف شيئا.»
ولعلها خطوة بسيطة بعد ذلك أن نطرح فكرة أن إجمالي طاقة الكون برمته ربما كان صفرا. ومثل هذا الكون الذي إجمالي طاقته يساوي صفرا أمر جذاب؛ لأنه يسمح بالقول إن الكون بدأ من عدم. فكل المادة والطاقة التي نراها ربما تكون نشأت من تذبذب ميكانيكي كمي (بما في ذلك تذبذب ميكانيكي كمي جذبوي في الفضاء ذاته). ومع أن فاينمان طرح هذا الاحتمال، فإن أفضل نموذج حالي لتطور الكون، ويسمى «التضخم»، قائم على هذه الفكرة تحديدا. وقد قال مبتكر فكرة التضخم، آلان جوث، إنه في هذه الحالة، يكون الكون هو أكبر مثال على فكرة «المكافأة المجانية»!
والطريف، أن كونا ذا إجمالي طاقة جذبوية يساوي صفرا لا بد أن يكون مسطحا من الناحية المكانية؛ أي إنه عند المقاييس الهائلة يسلك سلوك الفضاء «الإقليدي» الطبيعي الذي يسير الضوء فيه في خطوط مستقيمة. وقد ظهرت الآن أدلة بالغة القوة على أن الكون مسطح من خلال القياسات المباشرة لهندسته بالمقاييس الكبرى، وهذا أحد أكثر التطورات إثارة في علم الكونيات في الآونة الأخيرة. بيد أنه في تاريخ مبكر عن ذلك يعود إلى عام 1963، طرح فاينمان هذه الفكرة باعتبارها احتمالا لأن وجود المجرات والعناقيد المجرية المترابطة عن طريق الجاذبية - وهي أكبر أجسام متحدة توجد في الكون، ويبلغ قطر الواحدة منها عشرات الملايين من السنوات الضوئية - يعني ضمنيا أن الطاقة الحركية الموجبة لتمدد الكون متوازنة تقريبا مع طاقة وضع جذبوية سالبة موجودة في تلك النظم. وكان على حق.
غير أنه كان هناك أحد تطبيقات حجج نظرية مجال الكم التي قال بها، والمتعلق بالجاذبية، بدا فيه مبتعدا عن حدسه الفيزيائي الطبيعي الرشيد. ففي بحثه في الديناميكا الكهربائية الكمية، أوضح هو وآخرون أن الجسيمات الافتراضية ليست موجودة بالفعل فحسب وإنما هي ضرورية كذلك من أجل فهم خصائص الذرات. ومن هنا فإن الفضاء الخاوي ليس خاويا وإنما هو مزيج فائر من الجسيمات الافتراضية. إن قوانين ميكانيكا الكم تقول لنا إنه كلما صغر المقياس الذي نقيس عنده الأشياء، ارتفعت الطاقة التي يمكن للجسيمات الافتراضية التي تتواجد لفترة وجيزة أن تمتلكها. وأشار فاينمان لهذه المقولة عندما ذكر أنه في الفراغ الصغير بداخل قبضة اليد المطبقة توجد جسيمات افتراضية ذات طاقة كافية لحضارتنا بالكامل. وللأسف استخدم مؤيدو هذا الرأي وأناس غريبو الأطوار هذه العبارة في التعبير عن رغبتهم في ابتكار أجهزة تستغل طاقة الفراغ في القيام بهذا الأمر تحديدا، وحل مشكلاتنا مع الطاقة.
وما نسيه فاينمان بطريقة ما، وهو ما أوضحه الفيزيائي الروسي ياكوف زيلدوفيتش عام 1967، أن كل أشكال الطاقة تتأثر بالجاذبية، حتى طاقة الفضاء الخاوي. فلو كان للفضاء الخاوي طاقة بالقدر الذي زعمه فاينمان، لكانت قوى التجاذب من الضخامة بحيث تفجر كوكب الأرض؛ لأنه وفقا للنسبية العامة، عندما توضع طاقة ما داخل فضاء خاو، فإن قوى التجاذب الناتجة تكون «تنافرية» وليست تجاذبية! ومن ثم فإن طاقة الفراغ الخاوي لا يمكن، في المتوسط، أن تكون قوتها أكبر من طاقة سائر المادة، وإلا فإن القوة التنافرية الناشئة عنها سوف تكون من الضخامة بحيث ما كان من الممكن للمجرات أن تتكون!
غير أن فاينمان لم يكن مخطئا تماما. فقد كان أكثر الاكتشافات التي أصابت العالم بالذهول خلال الخمسين عاما الماضية، إن لم يكن أكثر، ذلك الاكتشاف أن الفضاء الخاوي يحتوي بالفعل على طاقة، وهي طاقة أقل بكثير مما تخيل فاينمان، ولكنها كافية بحيث تهيمن على تمدد الكون، وتجعله يتسارع! وليس لدينا في الوقت الراهن أي فهم للسبب وراء ذلك، ولماذا يمتلك الفضاء الخاوي طاقة من الأساس ولماذا يكافئ مقدار هذه الطاقة إجمالي الطاقة التي تحويها جميع المجرات بالإضافة إلى مادة الكون. لعله أعظم ألغاز علم الفيزياء، بل ربما يكون أعظم الألغاز العلمية على الإطلاق.
وبتنحية خطأ فاينمان جانبا، لو أن فكرة التضخم - ويقصد بها فترة مبكرة من التمدد الأسي الذي أدى اليوم إلى كون مسطح وربما نتجت عنه كل التكوينات التي نرصدها الآن - صحيحة، فإن هناك مغزى مثيرا من ورائها يعود إلى حسابات فاينمان الأصلية. فإذا كانت الجرافيتونات جسيمات أولية مثل الفوتونات، فبإمكان المرء إجراء عملية حسابية تصل به إلى أن نفس العمليات الميكانيكية الكمية التي عملت أثناء التضخم ستنتج في نهاية المطاف تذبذبات كثافة المادة التي تكثفت مكونة كل المجرات والعناقيد المجرية التي نراها الآن، والتي من شأنها أن تولد أيضا خلفية من الجرافيتونات في الكون في مراحله الأولى، والتي كان سيصبح في الإمكان مشاهدتها اليوم كخلفية من موجات الجاذبية. وهذه بالفعل واحدة من التنبؤات الجوهرية للتضخم، وأحد مجالات الفيزياء التي بحثت فيها شخصيا. والشيء الأكثر إثارة في هذا الأمر هو أننا ربما نكون قادرين في القريب العاجل على اكتشاف تلك الخلفية بالأقمار الصناعية التي أرسلت كي تسبر غور البنية الكونية واسعة النطاق. فإذا رصدت تلك الخلفية، فسوف يكون معنى ذلك أن الحسابات التي أجراها فاينمان عندما قرر دراسة الجاذبية مثلها مثل أي ميدان نظري آخر تسمح بالخروج بتنبؤ يمكن مقارنته بالمشاهدات، ما يعني على أقل تقدير أنه لم يكن مضطرا للاعتذار الذي قدمه لأنه فكر في ظواهر شديدة الوعورة لا يفقهها سوى المتخصصين وغير قابلة للاكتشاف في مجال جاذبية الكم. •••
من الملائم أن نختتم هذا الفصل الذي تناول افتتان فاينمان بموضوع الجاذبية بالعودة من جديد إلى الاعتذار الذي بدأ به أول أبحاثه حول هذا الموضوع. كان فاينمان منجذبا إلى جاذبية الكم لأنها كانت خارج المسار الذي سبق طرقه من قبل. وبالمثل أدرك فاينمان أن الأمر كان كذلك لأن الحسابات الوحيدة التي يمكن للمرء إجراؤها من شأنها أن تؤدي إلى تنبؤات بآثار من المحتمل أن تظل مستعصية على القياس إلى الأبد؛ لأن الجاذبية قوة بالغة الضعف. وهكذا، بينما كان يستهل مناقشته الرسمية لآثار الكم الجذبوية، تراجع القهقرى وقال: «من الواضح إذن أن المشكلة التي نبحثها ليست هي المشكلة المقصودة؛ فالمشكلة المقصودة هي ما الذي يحدد حجم الجاذبية؟»
لم يكن ممكنا التصريح بعبارة أكثر دقة من تلك العبارة الأخيرة. فالغموض الحقيقي الذي كان يوجه علماء فيزياء الجسيمات النظرية هو لماذا كانت الجاذبية أضعف أربعين مرة من حيث حجمها من قوة الكهرومغناطيسية. الغالبية العظمى من الجهود الحالية نحو توحيد القوى، ومن بينها نظرية الأوتار، تهدف إلى الإجابة عن هذا السؤال المحير والأساسي عن الكون. ومن المحتمل ألا يتمكن العلماء من التوصل لفهم تام ومكتمل سواء للجاذبية أو لغيرها من القوى الأخرى إلى أن يأتي الوقت الذي يتمكنون فيه من إجابة هذا السؤال.
لعل هذا أروع سمات تراث فاينمان الخالد. فحتى عندما كان يفشل في إيجاد إجابات للعديد من ألغاز الطبيعة الأساسية، كان مع ذلك يلقي الضوء بكل دقة على القضايا التي ظلت تشغل بال القمم العلمية إلى يومنا هذا.
الفصل السادس عشر
من القمة إلى القاع
اللعبة التي أمارسها لعبة مثيرة للغاية؛ إنها لعبة الخيال، لكنه الخيال المقيد.
ريتشارد فاينمان
في شهر ديسمبر من عام 1959 ألقى فاينمان محاضرة في الاجتماع السنوي الذي تعقده الجمعية الفيزيائية الأمريكية، وكان الاجتماع يعقد ذلك العام في كالتك. ومن جديد، كانت الرغبة في طرق اتجاهات جديدة غير مأهولة تسيطر على عقله بشكل واضح، حيث بدأ محاضرته باقتباس عبارة استخدمتها في موضع سابق قال فيها: «أتخيل أن علماء الفيزياء التجريبية لا بد أنهم كثيرا ما ينظرون بعين الحسد إلى رجال من أمثال كامرلينج أونس، الذي اكتشف ميدانا مثل ميدان درجات الحرارة المنخفضة، الذي يبدو عميقا لا قرار له ويمكن للمرء أن يغوص فيه أكثر وأكثر. إن أمثال هذا الرجل رواد ويملكون احتكارا مؤقتا لمغامرة علمية.» كان عنوان المحاضرة التي نشرت في العام التالي بمجلة «الهندسة والعلوم» التي تصدرها كالتك «هناك مساحة فسيحة في القاع». كانت مناقشة جميلة ومليئة بالخيال لعالم جديد تماما من الاحتمالات التي لا علاقة لها بفيزياء الجسيمات أو الجاذبية، لكنها كانت قائمة على أساس متين من الظواهر ذات التطبيقات المباشرة.
وعلى الرغم من اختيار فاينمان التركيز بشدة على تخصص ميدان فيزياء الجسيمات في السابق، فإنه لم يفقد أبدا اهتمامه أو افتتانه بفيزياء العالم المادي؛ الذي يمكننا رؤيته وملامسته. وهكذا جاءت هذه المحاضرة لتمثل لفاينمان فرصة لإطلاق العنان لخياله كي يجول في ميدان كان دوما يخلب لبه، بحثا عن موضوع جديد لمغامرته العلمية القادمة؛ حيث يمكنه العثور على مجال احتكار. وكانت تمثل أيضا افتتانه الخاص بالاحتمالات الملاحظة في الفيزياء في مجالين سيطرا على مخيلته منذ نعومة أظفاره، وحتى وصل إلى لوس ألاموس: الآلات الميكانيكية والحوسبة.
كانت المحاضرة بمنزلة علامة بارزة على الطريق ، وأعيد طبعها بعد ذلك كثيرا؛ لأنها كانت تحدد بشكل أساسي الخطوط العريضة لميدان جديد تماما في التكنولوجيا والعلوم، أو هو بالأحرى عدة ميادين مجتمعة، تتصل بما صار الآن يعرف باسم «تكنولوجيا النانو» غير أنها لا تقتصر على ذلك المضمار وحسب. كانت النقطة المحورية التي طرحها فاينمان أنه في عام 1959 عندما كان معظم الناس يفكرون في الميل إلى تصغير الأحجام، وكانوا يطرحون هذا الأمر في وجل؛ كان هناك بون شاسع بين حجم الآلات التي يستعملها البشر وبين أحجام الذرات. وعن طريق استغلال هذا الفارق، تخيل فاينمان أن بإمكاننا ليس فقط تغيير التكنولوجيا وإنما أن نفتح كذلك ميادين جديدة تماما من البحث العلمي كانت في ذلك الوقت بعيدة عن متناول أيدي العلماء. ولم تكن تلك الميادين مثل جاذبية الكم، وإنما كانت ميادين يمكن استغلالها في زمانها لو فكر الناس بجدية في ذلك الكون الرائع الذي يوجد أمامهم مباشرة. وعلى حد تعبيره: «إنه عالم صغير إلى حد مذهل ذلك الذي يوجد أسفل منا. وعندما يأتي عام 2000، عندما يستعيدون ذكريات عصرنا هذا، سوف يتساءلون في عجب عن السبب الذي جعلنا ننتظر حتى عام 1960 كي نشرع بجدية في التحرك في هذا الاتجاه.»
بدأ فاينمان محاضرته بقوله إن بعض الناس انبهروا لرؤيتهم ماكينة يمكنها كتابة صلاة الرب فوق رأس دبوس. وكان هذا لا يعد شيئا يذكر. لقد تخيل هو كتابة «الموسوعة البريطانية» بأكملها فوق رأس دبوس. غير أن هذا على حد زعمه لم يكن شيئا يذكر أيضا، لأنه يمكن للمرء بسهولة القيام بذلك باستخدام الطباعة العادية ببساطة بتصغير مساحة كل نقطة مستخدمة إلى 1 إلى 25000 من حجمها الأصلي. وعلى حد قوله فإنه حتى في هذه الحالة فإن كل نقطة سوف تحتوي على ما يقرب من 1000 ذرة. وحسبما تخيل، فتلك ليست مشكلة تستعصي على الحل.
غير أنه حتى ذلك الأمر كان على حد قوله نوعا من التواضع الجبان. فماذا عن كتابة جميع المعلومات الواردة في جميع كتب العالم؟ لقد أجرى عمليات تقدير حسابية للقيام بذلك، كانت مشابهة بشكل طريف لتلك التي قمت بها عندما حاولت في كتاب «فيزياء ستار تريك» حساب حجم المعلومات المطلوبة لتخزين نسخة رقمية واحدة من شخص ما بغرض نقلها. وزعم أنه قد يكون من الميسور تخزين بت واحد من المعلومات (أي في صيغة 1 أو صفر) باستخدام مكعب كل وجه من أوجهه مكون من خمس ذرات مثلا، أو ما يزيد قليلا على 100 ذرة. وكان تقديره أيضا أنه توجد حوالي 10
15
معلومة في جميع كتب العالم في ذلك الوقت، وقدرها حينئذ بما يقرب من 24 مليون مجلد. وفي هذه الحالة، ولكي نخزن جميع المعلومات الواردة في جميع كتب العالم سوف نحتاج فقط إلى مكعب من المادة تقل مساحة كل وجه من أوجهه عن واحد على مائة من البوصة، وهو ما يعادل في صغر حجمه حجم ذرة غبار لا تكاد ترى بالعين المجردة! حسنا، الآن اتضحت الصورة.
أراد فاينمان استكشاف جميع احتمالات استخدام المادة عند مستوى الذرة، وهو نطاق، على حد وصفه، يقترب من كونه يستعصي على الإدراك. علاوة على ذلك، وفي موقف يعبر عن إخلاصه لحبه الأول (حسب وصفه في خطابه بحفل جائزة نوبل)، كان أكثر ما أثاره أنه بمجرد أن يبدأ العلماء في التفكير الهندسي عند هذا المستوى، لا بد أن يواجهوا مباشرة بواقع ميكانيكا الكم. وبدلا من بناء الماكينات التقليدية، سيكون عليهم البدء في التفكير في آلات تعمل بتكنولوجيا الكم! وهذا سبيل لدمج عالم الكم بعالم التجارب الإنسانية. فما الذي يمكن أن يكون أكثر إثارة من هذا؟
لقد اعتراني الذهول وأنا أعيد قراءة خطابه، بسبب سبقه المثير للإعجاب لعلماء عصره. فكثير من الاحتمالات التي وصفها تحققت الآن وصارت أحداثا مررنا بها، حتى وإن لم تكن مطابقة تماما لتخيله، وعادة ما كان عدم التطابق يأتي نتيجة لعدم امتلاكه للبيانات الضرورية في ذلك الحين كي يكون تخيله صحيحا. ومرة أخرى، ومع أنه ربما لم يحل جميع المشكلات بصورة مباشرة وشخصية، فإنه كان يطرح تساؤلات صحيحة ويفصل التطورات التي صارت قمة التكنولوجيا بعدها بنصف قرن، وتخيل أيضا المبادئ التي ربما كانت تشكل أساس التكنولوجيا خلال الخمسين عاما المقبلة. وهذه بعض الأمثلة: (1)
كتابة جميع الكتب الموجودة على سطح كوكب الأرض فوق ذرة غبار:
إلى أي مدى وصلنا في تحقيق هدف تخزين جميع كتب العالم فوق ذرة غبار؟ عندما كنت أدرس في جامعة ييل عام 1988، اشتريت ما كان يعد وقتها أكبر «قرص صلب» في قسم الفيزياء. كانت سعته 1 جيجا بايت، وكان سعره وقتها 15 ألف دولار. واليوم أمتلك شريحة ذاكرة بحجم دبوس مشبك الأوراق أحتفظ بها في سلسلة مفاتيحي. إن سعتها 16 جيجا وثمنها 49 دولارا لا غير. وأمتلك قرصا صلبا خارجيا متنقلا سعة تخزينه 2 تيرا بايت (أي ألفي جيجا بايت) لاستخدامه مع جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي وثمنه 150 دولارا، وبهذا يمكنني الآن شراء سعة تخزين توازي ألفي ضعف سعة التخزين التي كانت لدي وبسعر يبلغ واحد من مائة من سعرها فيما مضى. ويعادل تقدير فاينمان لل 10
15
بت التي تستوعب جميع كتب العالم وقتها حوالي 100 تيرابايت، أو ما يقرب من خمسين قرصا صلبا متنقلا مثل الذي لدي. وبطبيعة الحال، فإن معظم المساحة المتاحة على تلك الأقراص ليست مخصصة للتخزين وحسب، وإنما لآلية القراءة أيضا، ولواجهات التعامل مع الكمبيوتر، ولوحدات الإمداد بالطاقة. وعلاوة على ذلك، لم يبذل أي شخص أي جهد في تصغير حجم التخزين أكثر من الحجم الذي يلائم جهاز كمبيوتر محمول. فنحن لسنا قادرين بعد على تخزين كميات كبيرة من المعلومات عند نطاق يعادل حجم الذرة، لكننا الآن بعيدون عن ذلك بمعامل يقدر فقط بنحو ألف.
في عام 1965 طرح جوردون مور، وهو أحد مؤسسي شركة إنتل للمعالجات، «قانونا» ينص على أن السعة المتاحة للتخزين وسرعة الحاسبات تتضاعف تقريبا مرة كل اثني عشر شهرا أو نحوها. وعلى امتداد الأربعين عاما الماضية تحقق هذا الهدف أو تم تجاوزه مع مواصلة التكنولوجيا ملاحقة الطلب. وهكذا، إذا علمنا أن 1000 = 2
10 ، فبإمكاننا القول إننا نبعد عشرة أعوام عن تحقيق هدف فاينمان، ليس فقط بكتابة جميع كتب العالم على رأس دبوس وإنما أيضا بقراءتها. (2)
علم الأحياء على المستوى الذري:
حسب تعبير فاينمان عام 1959:
ما أبرز وأهم المشكلات الأساسية التي تواجهنا في علم الأحياء اليوم؟ إنها تساؤلات مثل: ما تسلسل القواعد في جزيء الدي إن إيه؟ ماذا يحدث عندما تصاب بطفرة وراثية؟ ما ترتيب القواعد في الدي إن إيه المرتبط بترتيب الأحماض الأمينية في البروتين؟ ما تركيب جزيء آر إن إيه؛ هل هو سلسلة مفردة أم مزدوجة، وما مدى ارتباطه بترتيب القواعد في الدي إن إيه؟ وما تنظيم الميكروسومات؟ وكيف تصنع البروتينات؟ وإلى أين يتجه آر إن إيه؟ وكيف يستقر؟ وأين تقبع البروتينات؟ وإلى أين تتجه الأحماض الأمينية؟ وفي التمثيل الضوئي؛ أين يوجد الكلوروفيل؟ وكيف يجري ترتيبه؟ وأين توجد الكاروتينويدات التي تدخل في هذا الشيء؟ وما المنظومة المختصة بتحويل الضوء إلى طاقة كيميائية؟ من السهل للغاية إجابة كثير من تلك التساؤلات الأساسية المهمة؛ بمجرد أن تنظر إلى الشيء!
هل كان بمقدوره أن يعدد بشكل أوضح وأدق من ذلك جبهات علم الأحياء المعاصر؟ إن ما لا يقل عن ثلاثة من الفائزين بجائزة نوبل فازوا بها عن أبحاث أتاحت لنا معرفة تسلسل أزواج القواعد الجزيئية في الدي إن إيه بحيث يمكن قراءتها على المستوى الذري. لقد كان التوصل إلى تسلسل الجينوم البشري انتصارا رائعا لعلم الأحياء، وكانت القدرة على تحديد التسلسل الجيني في تحسن مستمر بمعدل فاق بكثير سرعة قانون «مور» في علم الكمبيوتر. وما كان يتكلف إنجازه أكثر من مليار دولار في المرة الأولى، منذ أقل من عشرة أعوام، صار الآن يتم مقابل بضعة آلاف من الدولارات، ويتوقع أن يتمكن الناس خلال العقد المقبل من معرفة تسلسل الجينوم الوراثي لهم مقابل سعر أقل من تكلفة وجبة عشاء طيبة في أحد المطاعم.
إن قراءة الجزيئات أمر مهم، غير أن الأساس الحقيقي للتطورات التي حدثت في علم الأحياء هو تحديد التركيبات الجزيئية ثلاثية الأبعاد عند النطاق الذري. إن تركيب البروتين يحدد الوظيفة، وتحديد الأسلوب الذي تنطوي به المكونات الذرية للبروتينات لتشكل آلية مؤدية لوظيفتها يعد في الوقت الراهن واحدا من أكثر الموضوعات سخونة في علم الأحياء الجزيئي.
غير أن القدرة على سبر غور المنظومات الحيوية عند المستوى الذري ليست مجرد مغامرة سلبية، كما توقع فاينمان أيضا. فعند نفس المستوى، إذا تمكن العلماء من قراءة البيانات، فإن باستطاعتهم كتابتها أيضا؛ أي إن بإمكانهم بناء الجزيئات الحيوية من لا شيء تقريبا. وإذا تمكنوا من بناء جزيئات حيوية، فسيكون باستطاعتهم في نهاية المطاف صنع أجهزة حيوية - أي حياة - من لا شيء تقريبا! وإذا تمكنا من صنع تلك الأجهزة من لا شيء تقريبا وفهمنا ما يجعلها تؤدي وظائفها على النحو الذي تؤديها به، فسوف نكون قادرين حينئذ على تصميم أشكال من الحياة لا توجد حاليا على وجه الأرض، وقد تكون أشكالا من الحياة قادرة على استخلاص ثاني أكسيد الكربون من الجو وتصنيع البلاستيك، أو طحالب تنتج البنزين. ولو بدا لك هذا الأمر بعيد المنال، فاعلم أنه ليس كذلك. فهناك علماء أحياء مثل جورج تشيرش بجامعة هارفارد، ومعه كريج فينتر، ساعدت شركتهما الخاصة في حل شفرة الجينوم البشري لأول مرة، وهم يبحثون في تلك التحديات في الوقت الحالي، وقد تلقت شركة فينتر حديثا 600 مليون دولار من مؤسسة «إكسون» مخصصة لمشروع إنتاج البنزين من الطحالب. (3)
رصد الذرات المفردة والتعامل معها:
عام 1959، أعرب فاينمان عن أسفه للحالة المثيرة للشفقة لميدان الميكروسكوبات الإلكترونية، الذي كان هو ذاته ميدانا حديثا نسبيا. فلما كانت الإلكترونات ثقيلة (مقارنة بالضوء الذي لا كتلة له)، فإن الطول الموجي الميكانيكي الكمي للإلكترونات بالغ الصغر. ومعنى ذلك أنه في حين تكون الميكروسكوبات الضوئية محدودة القدرة بسبب الطول الموجي للضوء المرئي، والذي يتراوح بين 100 إلى 1000 ضعف حجم الذرات، فإنه يمكن للمجالات المغناطيسية استخدام الإلكترونات في تكبير وإنتاج صور للأجسام الصغيرة للغاية التي تنبعث هذه الإلكترونات منها. غير أنه في عام 1959، بدا احتمال تصوير كل ذرة على حدة بعيد المنال؛ لأن الطاقات المطلوبة لذلك من شأنها إحداث اضطراب في المنظومات حتى يمكن رصدها.
كم تغيرت الأمور الآن؛ فعن طريق استخدام ذات الخصائص التي تتسم بها المنظومات الميكانيكية الكمية، مرة أخرى حسبما توقع فاينمان، تمكننا الميكروسكوبات الجديدة المسماة «الميكروسكوبات النفقية الماسحة» وميكروسكوبات القوة الذرية من تصوير الذرات فرادى داخل الجزيئات التي تحويها. علاوة على ذلك، تنبأ فاينمان قائلا: «إن مبادئ الفيزياء، حسبما أعرف، لا تمنع إمكانية التلاعب في الأشياء ذرة بذرة. إنها ليست محاولة لخرق أي قانون؛ بل شيء يمكن تحقيقه من حيث المبدأ، غير أنه من الناحية العملية لم يتم لأننا شديدو الضخامة.» وما يؤكد ذلك أنه قد ابتكرت الآن «ملاقيط ذرية» باستخدام تقنيات مماثلة لتلك المستخدمة في الميكروسكوبات الحديثة، وأنتجت أشعة ليزر من الشدة بحيث أتاحت للباحثين التلاعب بالذرات المفردة وتحريكها. ومرة أخرى، منحت ثلاث جوائز نوبل مختلفة عن هذا العمل.
لا يستطيع العلماء الآن تحديد الذرات الفردية مكانيا فقط وإنما باستطاعتهم ذلك زمنيا أيضا. فقد سمحت تقنية الليزر بإنتاج نبضات ليزر تدوم بضعة فيمتو ثانية (الفيمتو ثانية 10 −15
من الثانية). وهذا يكافئ المقاييس الزمنية التي تتم خلالها التفاعلات الكيميائية بين الجزيئات. وعن طريق إضاءة الجزيئات بواسطة نبضات قصيرة مثل تلك، يأمل العلماء في مشاهدة تسلسل الأحداث الذي تتم به تلك التفاعلات عند المستوى الذري. (4)
هندسة الكم:
كان أكثر ما أثار فاينمان بشأن الآلات ذرية القياس وتقنياتها إدراكه أنه بمجرد أن يتمكن المرء من العمل عند تلك المقاييس، فإن الخصائص الغريبة التي تتصف بها ميكانيكا الكم تصير ظاهرة للعيان. ومن الممكن حينئذ لكل من يفهم تلك الحقيقة أن يأمل في تصميم مواد ذات خصائص ميكانيكية كمية معينة، تكون عجيبة في بعض الأحيان. ومرة أخرى نقتبس من بحثه تلك العبارات:
ما الذي يمكن أن تكون عليه خصائص المواد لو أننا تمكنا بالفعل من ترتيب الذرات بالطريقة التي نريدها؟ سوف يكون من المثير للغاية أن نبحث الأمر من الناحية النظرية. ولست أعرف بالضبط ما الذي سيحدث، غير أنني لا أشك لحظة في أننا - عندما نمتلك شيئا من السيطرة على ترتيب الأشياء عند مقياس صغير - سوف نحصل على نطاق أعظم بكثير من الخصائص المحتملة التي يمكن أن تتمتع بها المواد، ومن الأشياء المختلفة التي يمكننا القيام بها. وعندما نصل إلى العالم بالغ الصغر - وليكن مثلا دوائر كهربية مكونة من سبع ذرات - فإننا نملك حينئذ الكثير من الأشياء الجديدة التي يمكن أن تحدث والتي تمثل فرصا جديدة تماما للتصميم. إن الذرات عند نطاق صغير تسلك سلوكا مختلفا تماما عن سلوكها عند المقاييس الكبرى؛ إذ إنها عندئذ تطيع قوانين ميكانيكا الكم. وهكذا فإننا كلما هبطنا إلى أسفل وعزفنا على أوتار الذرات الموجودة هناك، تعاملنا حينئذ مع قوانين مختلفة. يمكننا حينئذ أن نصنع الأشياء بطرق مختلفة. يمكننا أن نستخدم، ليس الدوائر فحسب، وإنما منظومة تتضمن مستويات كمية من الطاقة، أو تفاعلات دوائر مغزلية محددة الكم ... إلخ.
تضم الجمعية الفيزيائية الأمريكية حاليا أكثر من خمسة وعشرين ألف عضو. ومن بين هؤلاء الفيزيائيين المتخصصين والطلبة، يعمل أكثر من نصفهم في مجال يطلق عليه اسم فيزياء المادة الكثيفة، وفيه يخصص قدر كبير من جهدهم ليس فقط لفهم الخصائص الإلكترونية والميكانيكية للمواد وفق قوانين ميكانيكا الكم، وإنما أيضا لتخليق مواد غريبة تؤدي بالضبط ما تنبأ به فاينمان. ونتيجة لذلك صار من الممكن التوصل لطائفة من التطورات، تتباين من موصلات فائقة لدرجات الحرارة المرتفعة، إلى أنابيب النانو الكربونية، إلى ظواهر أكثر غرابة مثل المقاومة محددة الكم واللدائن الموصلة، وقد منح ما لا يقل عن عشر جوائز نوبل في الفيزياء عن أبحاث التجارب وما صاحبها من بحوث نظرية في خصائص الكم العجيبة لتلك المواد التي صنعها الإنسان. وتماما مثلما غير الترانزستور - وهو الجهاز الذي يعتمد على قوانين ميكانيكا الكم في أدائه لوظائفه وهو الأساس وراء الغالبية العظمى من جميع الأجهزة الإلكترونية التي نستخدمها الآن - شكل العالم كليا، فإن تقنيات عالم القرن الحادي والعشرين وما بعده ستعتمد بلا أدنى شك على هندسة الكم التي تمارس الآن في معامل الأبحاث في جميع أنحاء العالم. •••
لما رأى فاينمان أن الإثارة الذهنية التي تحققها تلك الاحتمالات التي عرض خطوطها العريضة في السطور السابقة غير كبيرة بالقدر الكافي، قرر عام 1960 أن يمول بشكل شخصي جائزتين باسم «جائزة فاينمان » بقيمة 1000 دولار أمريكي. واشترط أن يكون أول فائز بها «أول رجل يتمكن من وضع المعلومات الواردة في صفحة من كتاب على مساحة تبلغ 1 / 25000 بمقياس الرسم الخطي بحيث يمكن قراءتها بالميكروسكوب الإلكتروني». أما الثانية فمخصصة «لأول رجل يصنع محركا كهربائيا؛ محركا كهربائيا دوارا يمكن التحكم فيه من الخارج، ولا يزيد حجمه عن 1 / 64 من البوصة المكعبة، بدون الوصلات والأسلاك.» (للأسف، كان فاينمان ابن عصره، وعلى الرغم من أن شقيقته كانت فيزيائية، فإن جميع الفيزيائيين والمهندسين كانوا في نظره ذكورا.)
لكن على الرغم من بعد نظر فاينمان، فإنه كان إلى حد ما متأخرا زمنيا. فلدهشته الكبرى (وخيبة أمله أيضا لأن الابتكار في حقيقة الأمر لم يتضمن أي تقنية جديدة)، في خلال عام من نشر حديثه، ظهر رجل مهذب اسمه ويليام ماكليلان على عتبة باب منزله ومعه صندوق خشبي وميكروسكوب لمشاهدة محركه الصغير، مطالبا بالجائزة الثانية. ومع أن فاينمان لم يكن قد أعد هيكل شروط الجائزة بصيغة رسمية فقد أعطاه الألف دولار عن طيب خاطر. إلا أنه في خطاب بعث به لماكليلان، أضاف قائلا: «لا أنوي تقديم الجائزة الأخرى كعمل خيري. فبعد أن كتبت المقال تزوجت واشتريت منزلا!» لم يكن هناك داع للقلق. فلقد استغرق الأمر خمسا وعشرين عاما حتى تمكن شخص - وفي حالتنا هذه، كان طالبا (ذكرا) بالدراسات العليا بجامعة ستانفورد - من اتباع وصفة فاينمان بنجاح وطالب بجائزته. وبحلول ذلك الوقت لم تعد جائزة الألف دولار تمثل مبلغا ذا قيمة كبيرة. •••
على الرغم من تلك الجوائز، وعلى الرغم من افتتانه بالآلات العملية (إذ واصل فاينمان تقديم مشوراته بصفة منتظمة لشركات متعددة مثل شركة «هيوز أيركرافت» لصناعة الطائرات طيلة حياته المهنية، حتى في الأوقات التي كان يخصص فيها جل وقت جهوده البحثية لأشياء مثل الجسيمات الغريبة والجاذبية)، كانت الفكرة التي أسرت لب فاينمان في محاضرته التي ألقاها عام 1959، والتي ذكرها بصفة أساسية باعتبارها الدافع الذي دعاه للتفكير أصلا في تلك المشكلات، والوحيدة التي تتبعها بحق فيما بعد على الصعيد المهني، هي احتمال صنع نوع مختلف تماما من أجهزة الكمبيوتر أكثر سرعة، وأصغر حجما.
لطالما افتتن فاينمان بالآلات الحاسبة والحوسبة عموما (حكى مارفن مينسكي، عالم الحاسبات بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ذات مرة أمرا يصعب تصديقه، وهو أن فاينمان أخبره أنه كان دوما مفتونا بالحوسبة أكثر من افتتانه بالفيزياء)، إلى حد بلغ ذروة مبكرة ربما خلال السنوات التي قضاها في لوس ألاموس، حيث كانت تلك الأنشطة حيوية من أجل نجاح برنامج القنبلة الذرية. فابتكر خوارزميات جديدة تماما من أجل إجراء التقديرات الذهنية سريعا لكميات عادة ما تعد بالغة التعقيد ولحل معادلات التفاضل المعقدة. وتقديرا لقدراته الفذة، مع أنه كان قد تخرج للتو من كليته، جعله هانز بيته قائد المجموعة الحسابية، التي تجري الحسابات بالورقة والقلم أولا، ثم تجريها باستخدام آلات يدوية بدائية يطلق عليها اسم حاسبات مارشانت، ثم أخيرا باستخدام آلات حاسبة إلكترونية حديثة (وهي التي - لعلك تتذكر - أخرجها فاينمان وفريقه من صناديقها وجمعوها قبل أن يصل خبراء شركة آي بي إم لأداء تلك المهمة). حسبت المجموعة كل شيء من انتشار النيوترونات داخل قنبلة، وهي العملية الحسابية اللازمة لتحديد مقدار المادة المطلوب للوصول للكتلة الحرجة، وحتى محاكاة الانهيار الداخلي، وهي عملية جوهرية لنجاح قنبلة البلوتونيوم. لم يكن هناك وجه من الوجوه إلا وبرع فيه بصورة مذهلة، مما دفع بيته - الذي كان يدخل معه في مسابقات حسابية يتبارزان خلالها ذهنيا - للقول إنه يفضل أن يخسر أي اثنين آخرين من علماء الفيزياء ولا يخسر فاينمان.
قبل وصول الكمبيوتر الإلكتروني بوقت طويل، أسهم فاينمان في إنشاء ما يمكن أن نطلق عليه اسم أول كمبيوتر بشري يجري عمليات المعالجة بالتوازي، فكان مثل إرهاصة تبشر بمقدم معالجات كبيرة الحجم تجري العمليات بالتوازي. كان قد نظم بالفعل مجموعة الانتشار التابعة له لتشكل فريقا دقيق التنسيق، بحيث عندما دخل عليهم بيته ذات يوم وطلب من المجموعة أن تحسب تكامل كمية ما تكاملا رقميا، هتف فيهم فاينمان قائلا : «حسنا، أقلام رصاص، احسبوا!» فقذفوا جميعا أقلامهم الرصاص في الهواء ثم التقطوها معا في آن واحد (وكانت حركة علمهم إياها). كان الأمر أكثر من مجرد لهو. إبان الحقبة التي سبقت عصر الحاسب الإلكتروني، كان لا بد من تقسيم الحسابات المعقدة إلى أجزاء حتى يمكن إجراؤها سريعا. وكانت كل عملية حسابية بالغة التعقيد بحيث لا يمكن لشخص واحد أو حاسبة مارشانت واحدة إجراؤها. غير أنه نظم مجموعة كبيرة، مشكلة في الغالب من زوجات العلماء، كل منهن تتعامل مع جزء بسيط من عملية حسابية معقدة ثم تمررها إلى التالية لها في الصف وهكذا.
من خلال خبراته، صار فاينمان معتادا ومتآلفا بشدة مع التفاصيل الدقيقة لعمل الكمبيوتر، وكيفية تحليل المشكلات إلى أجزاء صغيرة بحيث يتمكن من حلها (على نحو يحول الكمبيوتر إلى «كاتب ملفات» كفء، حسبما أطلق عليه)، والأكثر طرافة من ذلك أنه كان يحدد المشكلات التي يمكن حلها في وقت معقول وتلك التي لا يمكن حلها. وعادت كل تلك الأمور عليه بالفائدة من جديد عندما شرع في التفكير في عملية التصغير التي أراد القيام بها. إلى أي مدى يمكن تصغير أجهزة الكمبيوتر؟ ما التحديات التي ستواجهه، وما المكاسب التي ستعود عليه، سواء في استهلاك الطاقة أو في القدرة على الحساب، لو أمكن استخدام أجهزة أصغر حجما وأكثر تعقيدا وذات عناصر أكثر؟ وعلى حد قوله عام 1959، مقارنا بين عقله وأجهزة الكمبيوتر الموجودة آنذاك:
عدد العناصر داخل هذا الصندوق العظمي الذي لدي المسمى بالمخ يفوق كثيرا جدا عدد العناصر الموجودة بحاسباتنا «الرائعة». غير أن حاسباتنا الميكانيكية هائلة الحجم، أما العناصر التي في هذا الصندوق فإنها مجهرية الحجم. وأنا أريد أن أصنع شيئا دون مجهري ... ولو أردنا أن نصنع جهاز كمبيوتر له كل تلك القدرات النوعية الإضافية الرائعة، فإننا قد نحتاج لتصنيعه ليكون بحجم مبنى البنتاجون مثلا. ولهذا الأمر عدة عيوب؛ أولها: أنه يحتاج حينئذ إلى قدر هائل جدا من المواد، وقد لا تتوافر بالعالم كمية كافية من عنصر «الجرمانيوم» لصنع كل الترانزستورات التي يجب وضعها بداخل هذا الشيء الهائل. وهناك أيضا مشكلة توليد الحرارة واستهلاك الطاقة ... غير أنه توجد صعوبة عملية أكبر حجما من كل ما سبق وهي أن هذا الحاسب سوف يكون محدودا بسرعة معينة. ونظرا لضخامة حجمه، فلا بد أن يكون هناك وقت محدد مطلوب لنقل المعلومات من مكان إلى آخر. ولن تتمكن تلك المعلومات من الحركة بسرعة أكبر من سرعة الضوء؛ لذا، في نهاية المطاف، عندما تصبح حاسباتنا أسرع وأكثر إتقانا، سوف نتمكن من تصغيرها أكثر.
وعلى الرغم من أن فاينمان حدد في محاضرة عام 1959 التحديات والفرص السانحة التي أدت إلى الكثير والكثير من التطورات بعد ذلك، فإن هذه المسألة الأخيرة كانت الوحيدة التي عاد إليها بجدية بالتفصيل، وفي اتجاهات مدهشة جمعت عددا من الاحتمالات المتنوعة التي ذكرها في حديثه. ومع ذلك استغرق الأمر منه أكثر من عشرين عاما للقيام به. وكان من أسباب تحفزه للعودة إلى ذلك الموضوع اهتمامه بابنه، كارل. ففي أواخر السبعينيات التحق كارل بالكلية، الكلية التي تخرج منها فاينمان، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وكم كانت سعادة فاينمان عندما حول الابن مساره الدراسي من الفلسفة إلى علوم الكمبيوتر. واهتم فاينمان بإعمال المزيد من الفكر في الميدان الذي صار مجال عمل ولده. ثم قدم كارل إلى مارفن مينسكي، الأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي كان سبق أن التقاه في كاليفورنيا، فعرف مينسكي كارل إلى واحد من طلاب السنة النهائية الذي كان يقطن ببدروم منزله واسمه داني هيليس. كانت لدى هيليس فكرة مجنونة وهي إنشاء شركة تقوم ببناء جهاز كمبيوتر عملاق به مليون وحدة معالجة مستقلة تحسب على التوازي ويتصل بعضها ببعض من خلال منظومة توصيل معقدة. وعرف كارل أبيه بهيليس، والحقيقة أنه أشار على هيليس بزيارة والده عندما كان، أي هيليس، في رحلة إلى كاليفورنيا. ولدهشة هيليس العظيمة، قاد فاينمان سيارته في طريق استغرق ساعتين للوصول إلى المطار ليكون في استقباله كي يعرف المزيد من المعلومات عن المشروع، الذي سماه على الفور «كووكي»، وهو ما كان يعني أنه سوف يدرس احتمالاته وإمكانياته العملية. وكانت هذه الآلة، مع كل، هي النسخة الإلكترونية الحديثة من الكمبيوتر الموازي للعقل البشري التي صنعها في لوس ألاموس. كان هذا، بالإضافة إلى كون ابنه معنيا بالأمر، كفيلا بجعلها فرصة لا تقاوم.
وفي الحقيقة، عندما بدأ هيليس بالفعل في إنشاء شركة «الآلات المفكرة»، تطوع فاينمان بقضاء صيف عام 1983 في العمل في بوسطن (مع كارل)، غير أنه رفض تقديم «نصائح» عامة مبهمة مبنية على خبرته العلمية، وأطلق على هذا الأمر مصطلح «حزمة من الهراء»، وطالب بأن يقوم بما سماه «عملا حقيقيا». واشتق في نهاية المطاف حلا حسابيا لعدد الرقائق التي سيحتاجها كل موجه اتصال من أجل الاتصال به حتى يسمح بإجراء حسابات متوازية بنجاح. والمذهل في هذا الحل أنه لم تجر صياغته باستخدام أي من التقنيات التقليدية لعلوم الكمبيوتر، وإنما باستخدام أفكار مستقاة من علم الفيزياء، ومن بينها الديناميكا الحرارية والميكانيكا الإحصائية. والأهم من ذلك - على الرغم من أنه لم يوافق على الحسابات التقديرية التي قام بها مهندسو الكمبيوتر الآخرون بالشركة - أنه تبين صحة حساباته هو (في الوقت نفسه بين لهم كيف يمكن تحقيق استفادة طيبة من حاسبهم في حل مشكلات الفيزياء التي تتحدى الآلات الأخرى رقميا، ومن بينها المشكلات المتعلقة بمحاكاة أشكال نظم فيزياء الجسيمات الأولية).
في ذلك الوقت تقريبا، في عام 1981، شرع فاينمان أيضا في إعمال مزيد من الفكر العميق في الأسس النظرية للحساب الآلي ذاته، واشترك مع زملائه بكالتك، جون هوبفيلد وكارفر ميد في تقديم دورة دراسية تغطي مسائل متباينة من التعرف على النمط وحتى القابلية الحسابية ذاتها. كانت المسألة الأولى شيئا خلب لبه دوما، ومن أجله أنشأ بعض المقترحات الغريبة التي كانت تعد في زمانها غير ممكنة التطبيق لأجهزة الكمبيوتر. ولا يزال «التعرف على النمط» أبعد من قدرات وإمكانيات معظم أجهزة الكمبيوتر حتى الآن، ولهذا السبب فإنك عندما تحاول التسجيل في بعض مواقع الإنترنت، ولكي يتمكن الموقع من التمييز بين المستخدمين من البشر العاديين وبين فيروسات الكمبيوتر الآلية أو القراصنة، يعرض لك صورة بها بعض الحروف المكتوبة بطريقة مشوهة ويطلب منك كتابة ما تراه قبل أن يسمح لك بمواصلة التسجيل.
كان هذا هو المجال الذي استحوذ على اهتمام فاينمان، ونقصد به فيزياء الحوسبة، والقضية المتعلقة به؛ حوسبة الفيزياء. وأنتج فاينمان سلسلة من الأبحاث العلمية وكتابا يجمع ملاحظات المحاضرات، نشرت بشكلها النهائي (بعد شيء من التنازع القضائي بشأن ملكيته لها)، من الدورة الدراسية التي قدمها حول هذا الموضوع والتي بدأت عام 1983.
لفترة من الوقت كان مفتونا بفكرة الآليات الخلوية، التي ناقشها بإسهاب مع طالب شاب نابغة في كالتك، هو ستيفن وولفرام، الذي واصل طريقه بعد ذلك ليشتهر باعتباره مبتكر حزمة برامج رياضيات الكمبيوتر المعروفة باسم «ماثيماتيكا»، التي أحدثت ثورة كبرى في الأسلوب الذي يجري به الناس الآن حساباتهم الرقمية والتحليلية. إن الآليات الخلوية في الأساس مجموعة من الأجسام المنفصلة غير المترابطة داخل مصفوفة يمكن برمجتها بحيث تتبع قواعد بسيطة في كل خطوة زمنية من خطوات عملية يجريها الكمبيوتر، بناء على حالة أقرب جيرانها. حتى القواعد شديدة البساطة يمكنها إنتاج أنماط معقدة إلى حد لا يصدقه عقل. وما من شك أن فاينمان كان معنيا بما إذا كان عالم الواقع يمكنه العمل بهذه الطريقة أم لا، مع وجود قواعد أساسية للغاية وموضعية لكل نقطة زمكانية في أساسها، وفي نهاية المطاف تنتج تعقيدا يشاهد عند المقاييس الأكبر.
لكن ليس من المدهش أن تحول اهتمامه الأساسي نحو مسائل الحوسبة وميكانيكا الكم. سأل فاينمان نفسه عن حاجة المرء لتغيير الخوارزميات لجعل الكمبيوتر يحاكي منظومة ميكانيكية كمية لا منظومة تقليدية. فعلى أي حال، كانت القواعد الفيزيائية الأساسية مختلفة. وسوف يكون النظام المعني في حاجة لمعالجته من خلال الاحتمالات، وحسبما بين هو في إعادة صياغته لعالم الكم، من أجل أن يتتبع بطريقة ملائمة تطوره الزمني يحتاج المرء لحساب نطاقات الاحتمالات (وليس الاحتمالات ذاتها!) للعديد من المسارات البديلة المختلفة في الوقت نفسه. ومرة أخرى، كانت ميكانيكا الكم، حسبما صاغها، تتطلب بطبيعة الحال وجود جهاز كمبيوتر يمكنه إجراء حسابات مختلفة على التوازي، ليتم جمع النتائج بعدها في نهاية العملية الحسابية.
أدى تأمله الخلاب لهذا الموضوع، الذي احتوته سلسلة من الأبحاث التي كتبها بين عامي 1981 و1985، إلى طرق اتجاه جديد يعود إلى أطروحته التي قدمها عام 1959. فبدلا من استخدام جهاز كمبيوتر تقليدي في محاكاة العمل الميكانيكي الكمي، هل يمكن للمرء تصميم كمبيوتر ذي عناصر من الصغر بحيث يمكن التحكم فيها هي ذاتها بواسطة قواعد ميكانيكا الكم، وإن أمكن ذلك، فكيف يمكن لهذا الأمر أن يغير الأسلوب الذي يجري به الكمبيوتر حساباته؟
من الواضح أن اهتمام فاينمان بهذه المسألة نبع من اهتمامه المستمر بفهم ميكانيكا الكم. وربما اعتقد المرء أنه كان يفهم أسلوب عمل ميكانيكا الكم أكثر من أي شخص، غير أنه في محاضرة ألقاها عام 1981 وبحث ناقش فيه هذا الأمر لأول مرة، أدلى باعتراف يكشف عن المنطق الذي يتبعه في انتقاء المشكلات التي يفكر فيها - وهي في حالتنا هذه حاسبات الكم - أكثر مما يكشف عن عدم ارتياحه لميكانيكا الكم:
هل يمكن أن أقول على الفور، حتى تعلموا مقصدي الحقيقي، إننا كنا نواجه دوما ... (سر، سر، أغلقوا الأبواب!) ... كنا نواجه دوما قدرا هائلا من الصعوبة في فهم صورة العالم الذي تعبر عنه ميكانيكا الكم. على الأقل أنا أواجه هذه الصعوبة، لأني بلغت من العمر أرذله ولم أصل للنقطة التي يبدو عندها هذا الأمر بديهيا. حسنا، ما زلت أشعر بالعصبية تجاهه. لذا فإن بعض الطلبة الشبان ... أنتم تعلمون كيف هو الأمر دوما، كل فكرة جديدة تستغرق جيلا أو اثنين حتى يصير واضحا أنه لا توجد مشكلة حقيقية بها. ولهذا السبب أهوى تقصي حقائق الأشياء. هل يمكنني أن أتعلم أي شيء من خلال طرح هذا السؤال عن أجهزة الكمبيوتر؛ عن هذا الشيء الذي قد يكون وقد لا يكون لغزا بشأن صورة العالم من منظور ميكانيكا الكم؟
ولكي يتحرى تلك المسألة تحديدا، بحث فاينمان إمكانية إجراء محاكاة دقيقة للسلوك الميكانيكي الكمي باستخدام منظومة حوسبة كلاسيكية تعمل بالاحتمالات التقليدية وحسب. كان لا بد أن تكون الإجابة بعدم إمكانية ذلك. فلو كانت تلك الإمكانية متاحة، لكان هذا يعني القول إن عالم ميكانيكا الكم الحقيقي مكافئ من الناحية الحسابية لعالم تقليدي بعض الكميات به لا يمكن قياسها. وفي عالم كهذا ربما لا يتمكن المرء إلا من تحديد النتائج الاحتمالية للمتغيرات التي يمكنه قياسها لأنه لن يعلم قيمة «المتغيرات الخفية». وفي هذه الحالة سوف تتوقف احتمالية أي حدث قابل للرصد على شيء مجهول، وهي قيمة الكمية غير المرصودة. وعلى الرغم من أن هذا العالم التخيلي يبدو على نحو يثير الشك أشبه بعالم ميكانيكا الكم (وكان هو العالم الذي أعرب ألبرت أينشتاين عن أمله في أن يكون هو عالمنا الذي نعيش فيه؛ أي عالم تقليدي ندركه بعقولنا تكون فيه الطبيعة الاحتمالية لميكانيكا الكم ليست سوى نتيجة لجهلنا بالمتغيرات الإحصائية الفيزيائية الأساسية الموجودة بالطبيعة)، لكن عالم الكم أكثر غرابة بكثير من هذا، حسبما شرح جون بيل عام 1964 في بحث مميز. وسواء أعجبك الأمر أم لم يعجبك، فإن عالم الكم والعالم التقليدي الكلاسيكي لا يمكن أبدا أن يكونا متكافئين.
استخلص فاينمان مثالا فيزيائيا جميلا من بحث بيل عندما أوضح أنه لو حاول أحدهم تقليد جهاز كمبيوتر كلاسيكي قادر على إنتاج نفس الاحتمالات التي كانت منظومة «كم» ستنتجها لبعض الكميات القابلة للرصد أثناء تطور المنظومة، فمن الضروري أن تكون قيمة احتمال كمية أخرى مرصودة سالبة القيمة. الواقع المؤكد تماما أن عالم احتمالات الكم أكبر من أي شيء ممكن دمجه في عالم تقليدي محض.
خلال تقديم فاينمان شرحا فيزيائيا لطيفا للسبب الذي يجعل جميع النظريات التي تحتوي على متغيرات خفية محكوم عليها بالفشل، طرح في بحثه هذا أيضا تساؤلا أكثر تشويقا: هل يمكن ابتكار جهاز كمبيوتر ذي طبيعة ميكانيكية كمية؟ وتحديدا، لو أن بتات الكمبيوتر الأساسية كانت أجساما كمية، كدورة مغزلية للإلكترون مثلا، فهل يمكن للمرء عندئذ إجراء محاكاة رقمية تحاكي بدقة متناهية سلوك أي منظومة ميكانيكية كمية، ومن ثم تتعامل مع أي عمليات محاكاة ميكانيكية كمية لا يستطيع أي كمبيوتر تقليدي أن يتعامل معها بكفاءة؟
كانت إجابته المبدئية المدوية في بحث عام 1982 هي: «محتمل». إلا أنه استمر يفكر في هذه المسألة، يحفزه في ذلك بحث أجراه تشارلز بينيت، وهو فيزيائي يعمل بمعامل آي بي إم بين أن كثيرا من المعلومات المتعارف عليها في فيزياء الحوسبة غير صحيحة. وبالتحديد، كان الافتراض أنه في كل مرة يجري فيها الكمبيوتر عملية حسابية، يتعين عليه بث طاقة على هيئة حرارة (على أي حال، أي شخص لديه جهاز كمبيوتر محمول يعرف إلى أي مدى يمكن أن تصل سخونته). لكن بينيت أوضح أنه يمكن، من حيث المبدأ، إجراء عملية حوسبة بالكمبيوتر «بطريقة عكسية». أو بعبارة أخرى، يمكن من الناحية النظرية إجراء تلك العملية الحسابية ثم إجراء العمليات العكسية فننتهي من حيث بدأنا، دون أي فقدان للطاقة في صورة حرارة.
وبرز السؤال: هل سيعمل عالم ميكانيكا الكم بجميع تذبذباته الكمية على إفساد هذه النتيجة؟ في بحث قدم عام 1985، أوضح فاينمان أن الإجابة هي لا. ولكن من أجل القيام بهذا، كان عليه أن يتوصل إلى نموذج نظري لكمبيوتر كمي عام؛ أي، منظومة ميكانيكية كمية بحتة يمكن التحكم في تطورها بحيث تنتج العناصر المنطقية الضرورية التي تمثل جزءا من منظومة حوسبة عامة (أي: «و»، «ليس»، «أو» ... إلخ). وصمم فاينمان نموذجا لكمبيوتر كهذا وشرح كيفية تشغيله ومن ثم توصل إلى هذا الاستنتاج: «عند أي معدل، يبدو أن قوانين الفيزياء لا تضع أي عوائق أمام تقليص حجم أجهزة الكمبيوتر إلى أن تصبح البتات بحجم الذرات، ويصبح سلوك الكم الحاكم المهيمن على الأمور.»
على الرغم من أن القضية الفيزيائية العامة التي كان يتناولها كانت أكاديمية إلى حد بعيد، فقد أدرك أن إمكانية صنع كمبيوتر يبلغ حجمه من الصغر حدا تصبح معه قوانين ميكانيكا الكم هي التي تحكم سلوك عناصره أمر قد تكون له فائدة عملية حقيقية. وفي أعقاب تصريحه بأن كمبيوتر الكم الذي وضع له مخططا نظريا صمم ليحاكي الحاسبات التقليدية في كل عملية منطقية تجري بشكل متتابع، أضاف قائلا: «إن ما يمكن عمله، في أنظمة الكم القابلة للعكس هذه ، للحصول على السرعة المتاحة بواسطة العمليات المتزامنة، أمر لم ندرسه هنا.» إن الاحتمال المشار إليه في هذا السطر وحده يمكنه بسهولة تغيير وجه العالم. ومرة أخرى، طرح فاينمان فكرة كان من شأنها أن تهيمن على التطورات البحثية في ميدان علمي بأسره لجيل كامل، على الرغم من أنه لم يحقق هو بنفسه النتائج الأساسية النهائية.
صار مجال الحوسبة الكمية واحدا من أكثر المجالات النظرية والتجريبية إثارة، وبالتحديد بسبب طرح فاينمان الذي قال فيه إن الحاسبات التقليدية لا يمكنها أبدا محاكاة أنظمة الكم. فأنظمة الكم أكثر ثراء بكثير، ومن ثم يمكن أن يجري «كمبيوتر كمي» أنماطا جديدة من الخوارزميات الحسابية التي تتيح له إتمام عملية حسابية بكفاءة وواقعية كانت ستستغرق من أكبر أجهزة الكمبيوتر التقليدية المتاحة اليوم وقتا أطول من عمر الكون بأكمله!
الفكرة الأساسية هي حقا تلك السمة البسيطة التي استغلها فاينمان بكل وضوح في لوس ألاموس، والتي تعرضها بوضوح صياغة فاينمان لميكانيكا الكم المعروفة بتكامل المسار. فمنظومات الكم بطبيعتها سوف تستكشف عددا لانهائيا من المسارات المختلفة في آن واحد. فلو أمكن جعل كل مسار يمثل عملية حسابية محددة، يمكن لمنظومة كم أن تصبح معالجا موازيا مثاليا من صنع الطبيعة!
تأمل المنظومة التي ناقشها فاينمان في البداية، جسيم ميكانيكي كمي مبسط له حالتان من اللف المغزلي، يمكننا تسميتهما اللف «العلوي» و«السفلي». فإذا رمزنا لحالة اللف العلوي بالعدد «1» والسفلي بالعدد «صفر»، فإن منظومة اللف المغزلي بذلك تصف معلومة حسابية واحدة نمطية. غير أن السمة المهمة لمنظومة ميكانيكية كمية مثل تلك هي أنه إلى أن نقيسها لنعرف إن كانت في حالة علوية أم سفلية، تقول لنا ميكانيكا الكم إن هناك احتمالا محددا أن تكون في أي من الحالتين، وهو ما يعدل القول إنها في حقيقة الأمر في كلتا الحالتين في الوقت نفسه! وهذا يجعل بت الكم، أو «الكيوبيت» حسبما صار يعرف الآن، مختلفا اختلافا كبيرا عن البت التقليدي. فإذا تمكنا من العثور على سبل لتشغيل الكمبيوتر بكيوبيت كهذا دون قياسه فعليا، ومن ثم إرغامه على أن يكون في حالة محددة، فإن هناك احتمالا قائما أن نوجد معالجا كميا يجري أكثر من عملية حسابية في آن واحد.
في عام 1994، أوضح بيتر شور، وهو عالم رياضيات تطبيقية بمعامل بيل، القدرة المرتقبة لمنظومة مثل تلك، وانتبه العالم لهذا النبأ. بين شور أن الكمبيوتر الميكانيكي الكمي يمكنه بكفاءة حل مسألة رياضية معينة ثبت عجز أجهزة الكمبيوتر التقليدية عن حلها في زمن محدود قابل للقياس. وقد عرض المسألة ببساطة: يمكن كتابة كل عدد بصورة فريدة باعتباره حاصل ضرب أعداد أولية في بعضها. فمثلا، العدد 15 هو حاصل ضرب 3 × 5، والعدد 99 هو حاصل ضرب 11 × 3 × 3، والعدد 54 هو حاصل ضرب 2 × 3 × 3 × 3، وهكذا. ومع كبر الأعداد أكثر وأكثر، تتضاعف صعوبة تحديد هذا التحليل المتفرد للعدد. وما أثبته شور أنه يمكن ابتكار طريقة حساب لكمبيوتر كمي لاستكشاف فضاء رحب من العوامل الأولية لأي عدد وتحليله إلى عناصره الأولية الصحيحة.
لماذا نهتم بتلك النتيجة شديدة الغموض؟ حسنا، بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون بعض المال في البنوك، أو يستخدمون بطاقات ائتمانية في تعاملاتهم، أو ينشغل بالهم بشأن أمان الشفرات المستخدمة لحفظ الأسرار الوطنية، هذا الأمر يهمهم كثيرا. فجميع المعلومات المصرفية والوطنية السرية تحفظ باستخدام شفرة بسيطة يستحيل على أي جهاز كمبيوتر تقليدي حلها. وتجرى عملية التشفير باستخدام «مفتاح» يقوم على معرفة العوامل الأولية لرقم كبير للغاية. وما لم نعلم تلك العوامل مسبقا، فلن يكون باستطاعتنا فك الشفرة باستخدام جهاز كمبيوتر عادي لأن هذا الأمر سيستغرق زمنا أطول من عمر الكون نفسه. غير أن جهاز كمبيوتر كمي «كبير» بدرجة كافية يمكنه القيام بتلك المهمة في وقت معقول. ويتوقف المقصود بكلمة «كبير» هنا على درجة تعقيد المشكلة، غير أن المنظومات التي تحوي بضعة مئات أو آلاف من الكيوبيتات سوف تتمكن من أداء المهمة بسهولة ويسر.
فهل ينبغي علينا أن نندفع نحو البنوك لسحب أموالنا منها وإخفائها تحت البلاطة، أو نهرع نحو مخابئنا وننتظر غزوا يجري الإعداد له في أعقاب فك شفرات أمننا القومي؟ كلا بالطبع. ففي المقام الأول، على الرغم من الموارد الهائلة التي يجري تخصيصها للجهود التجريبية المتواصلة، لم يتمكن أي شخص من تصنيع جهاز كمبيوتر كمي مكون مما يزيد على بضعة كيوبيتات. والسبب بسيط. فلكي يسلك الكمبيوتر السلوك الميكانيكي الكمي، يجب عزل الكيوبيتات بعناية عن جميع التفاعلات الخارجية، وهو ما يؤدي بنجاح إلى مسح جميع المعلومات الميكانيكية الكمية المختزنة داخل النظام، وهو نفس السبب الذي يجعلنا نتصرف بطريقة تقليدية وليست ميكانيكية كمية. في معظم الأنظمة شيء يطلق عليه عادة اسم «تماسك الكم» - أي الحفاظ على الوضع الميكانيكي الكمي للمكونات المستقلة داخل النظام - وهو يتعرض للتدمير خلال جزء بالغ الصغر من الثانية. ويعد الحفاظ على حاسبات الكم «شبيهة بالكم» تحديا صعبا يواجهه العلماء، ولا يعلم أحد إن كان هذا الأمر سوف يصبح ممكنا عمليا بالمفهوم التشغيلي في نهاية المطاف أم لا.
والأهم من هذا الاعتبار العملي هو حقيقة أن نفس مبادئ ميكانيكا الكم التي تسمح لجهاز كمبيوتر كمي بتخطي الحدود التقليدية عند حل مشكلات مثل مشكلة إيجاد العوامل الأولية للأعداد الكبيرة تجعل من الممكن أيضا، من حيث المبدأ، ابتكار خوارزميات «نقل كمي» جديدة تسمح بنقل آمن تماما للمعلومات من نقطة إلى أخرى. وأعني بذلك أننا من الممكن أن نصبح قادرين على أن نكتشف، وبقدر مطلق من اليقين، إن كان طرف ثالث متلصص تمكن من اعتراض الرسالة أم لا.
كان انفجار الأفكار الذي دفع ميدان الحوسبة الكمية الجديد من مجرد لمعة ومضت في عيني فاينمان عام 1960 ليعتلي قمة العلم والتكنولوجيا المعاصرين انفجارا هائلا بحق؛ هائلا إلى حد أننا لا نستطيع هنا أن نفيه حقه من الوصف. وقد تؤدي تلك الأفكار في النهاية إلى إحداث تغيرات في أسلوب تنظيمنا لمجتمعاتنا الصناعية المعاصرة. من زاوية التطبيق العملي، ربما كانت تلك التطورات البحثية تمثل بعضا من أهم ما تركه فاينمان من تراث فكري، حتى وإن لم يعش هو عمرا يكفيه لكي يقدر بشكل تام أهمية مقترحاته. إن الدهشة تأبى أن تفارقني وأنا أفكر كيف يمكن لتكهنات تستعصي على الفهم أبدعها عقل جريء ومبدع أن تغير وجه العالم.
الفصل السابع عشر
الحق والجمال والحرية
لا أشعر بالخوف من عدم معرفة الأشياء، أو من الضياع في كون غامض بلا هدف، وتلك هي حقيقة الأمور في الواقع، على حد علمي. على أي حال، هذا لا يخيفني.
ريتشارد فاينمان
في الثامن من أكتوبر عام 1967، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تحقيقا بعنوان «رجلان في رحلة البحث عن الكوارك». كتب مؤلف المقال لي إدسون: «الرجلان المسئولان بقدر كبير عن إيفاد العلماء في تلك المطاردة الشرسة للكوارك هما عالما فيزياء من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا واسمهما موراي جيلمان وريتشارد فاينمان ... اللذان يطلق عليهما واحد من علماء كاليفورنيا لقب «أغلى ممتلكات علم الفيزياء النظرية في الوقت الحاضر».»
في ذلك الحين، كان لتلك العبارة الأخيرة ما يبررها. أما العبارة الأولى فلا. فعلى مر السنوات الست أو السبع السابقة، في أعقاب عملهما المشترك في موضوع التفاعل الضعيف، ابتعد فاينمان بثبات عن الاندفاع المحموم نحو إزالة الارتباك الناشئ في فيزياء الجسيمات، مع نمو عالم الجسيمات المتفاعلة بقوة الخارجة من المعجلات الذي بدا وكأنه مصمم لسحر ألباب كل من انجذبوا - مثل بحارة الأوديسا - لنداء حورية البحر، لترتطم سفينتهم بالصخور. أما جيلمان - من ناحية أخرى - فقد اقتحم الموقف مباشرة، بكل ما أتيح له ولزملائه من أدوات، وبعد عدد من المعارك والبدايات الخاطئة، جلب لنا أخيرا قبسا من الأمل في وضوح الرؤية في هذا الميدان.
لخص فاينمان الوضع في كلمة ألقاها في الاحتفال بعيد الميلاد الستين لهانز بيته بكورنيل، مرددا في البداية عبارات ذكرها في أول أبحاثه عن الهيليوم السائل في أوائل الخمسينيات: «من بين الأسباب التي جعلتني لا أنجز الكثير في موضوع الجسيمات المتفاعلة بقوة أنني اعتقدت أنه لا توجد معلومات كافية للتوصل إلى فكرة جيدة. وزميلي العزيز، بروفسور جيلمان، لا يفتأ يبرهن لي أنني كنت مخطئا ... إذ ها نحن فجأة نسمع ضوضاء تكسير الجوز.»
لكي ندرك الحيرة التي سادت ميدان فيزياء الجسيمات خلال النصف الأول من ذلك العقد، لسنا بحاجة إلا لأن نتأمل أفضل أسلوب في الوقت الراهن لفهم جاذبية الكم و«نظرية كل شيء» المحتملة المرتبطة بها. هناك العديد من الأفكار ولكن لا يوجد سوى القليل من البيانات التي توجه علماء الفيزياء، وكلما مضينا أكثر في اتباع الأطروحات النظرية، بدا الموقف أكثر حيرة وارتباكا. في الستينيات، لا ريب أن الآلات كانت تنتج بيانات أكثر بكثير، ومع ذلك لم يكن أحد يعلم إلى أين تقوده. ولو أن أحدا عام 1965 قال إنه في غضون عقد من الزمان سوف نتوصل إلى أساس نظري شبه مكتمل لفهم القوة الضعيفة بالإضافة إلى القوة القوية أيضا، ما صدقه معظم الفيزيائيين.
كسر جيلمان بالفعل ثمرة الجوز ببصيرة مدهشة. ففي وقت كان كثير من الفيزيائيين يفكرون في صرف النظر حتى عن احتمال التوصل لفهم فيزياء الجسيمات باستخدام الأساليب التي عملت بفعالية كبيرة مع الديناميكا الكهربائية الكمية، اكتشف جيلمان في عام 1961 أهمية نظرية مجموعة التناظر، التي منحته أداة رياضية لتصنيف عدد لا يحصى ولا يعد من الجسيمات الأولية الجديدة حسب سمات تناظرها. والمدهش أن جميع الجسيمات على اختلافها بدا أنها تنتمي إلى «مجموعات جسيمات» متنوعة، حسبما أطلق عليها، يمكن لكل جسيم فيها أن يتحول إلى جسيم آخر عن طريق تطبيق تحويل تناظر مرتبط بالمجموعة. تلك التناظرات تشبه عمليات الدوران التي شرحتها في موضع سابق، التي يمكنها أن تنتج أشكالا معينة، كالمثلثات والدوائر، تبدو على نفس الصورة. في مخطط جيلمان (حسبما اكتشف بعد ذلك العديد من العلماء الآخرين من جميع أنحاء العالم كل بطريقته)، كانت الجسيمات المختلفة تنتمي إلى مجموعات تمثيلية يمكن التعبير عن خصائصها (الشحنة على سبيل المثال) بيانيا بحيث تشكل قمة مجسم متعدد الأسطح، وجميع الجسيمات التي تنتمي لكل مجسم يمكن حينئذ تحويل بعضها إلى بعض عن طريق التناظرات، التي يمكنها أن تدير المجسم في اتجاهات مختلفة.
سميت المجموعة التي اكتشف جيلمان أن بإمكانها تصنيف الجسيمات المتفاعلة بقوة باسم
SU(3) . كان بها بالأساس ثماني دورانات داخلية مختلفة يمكنها ربط الجسيمات في مجموعات مختلفة أشبه بالمجسمات متعددة الأسطح ذات الأحجام المتباينة، إلا أن أوضح تعبير عنها به ثمانية أعضاء. وبهذه الطريقة استطاع تصنيف كل الجسيمات المعروفة المتفاعلة بقوة أو معظمها. وابتهاجا بنجاحه في التوصل لهذا المخطط التصنيفي (على الرغم من أنه وباقي أعضاء مجتمع الفيزياء كانوا أبعد ما يكونون عن الاقتناع بصحته، بناء على الأدلة التي كانت متوافرة حينها) سماه «الطريق ذا الثماني طبقات»، ليس فقط بسبب الخاصية الرقمية لمجموعة
SU(3) ، ولكن أيضا، على النحو المعهود من جيلمان، بسبب مقولة شهيرة لبوذا عن الطرق الثمانية لتحقيق السعادة (أو «النيرفانا»): «والآن أيها الرهبان، إليكم حقيقة نبيلة تفضي إلى توقف الآلام؛ إنها الطريق النبيل ذو الثماني طبقات، وهي: الآراء السديدة، والنية السليمة، والكلام الصادق، والعمل المتقن، والحياة الكريمة، والجهد المخلص، والاهتمام الصادق، والتركيز التام.»
عندما صنف جيلمان، والفيزيائي الإسرائيلي يوفال نعيمان، الجسيمات بهذه الطريقة، لم يمكن تصنيف مجموعة من تسعة جسيمات على هذا النحو. غير أنه كان معلوما أن هناك تمثيلا مكونا من عشرة أعضاء لمجموعة التناظر
SU(3) - يسمى مجموعة العشرة - أشار كلاهما بصورة مستقلة عن الآخر إلى أنه قد يكون خيارا ملائما، مما أوحى بضرورة وجود جسيم آخر، لكنه لم يكتشف بعد. وسرعان ما أعلن جيلمان أن جسيما جديدا كهذا لا بد أنه موجود، وأطلق عليه اسم «أوميجا-سالب»، وحدد، مستخدما حجج التناظر، الخصائص المتوقعة له حتى يبحث علماء الفيزياء التجريبية عنه.
من نافلة القول أنه في خضم عملية بحث احتوت على كل أنواع الدراما السنيمائية، وعندما أوشك جميع المجربين على رفع الراية البيضاء، اكتشفوا فجأة جسيم جيلمان، وكان يحمل بالضبط الخصائص التي تنبأ بها، بما فيها شذوذه، وكتلة في نطاق خطأ لا يزيد عن 1 بالمائة مما تنبأ به جيلمان! وهكذا لم تثبت صحة الطريق ذي الثماني طبقات فحسب، بل إنه ازدهر أيضا!
في اليوم التالي لاكتشاف أوميجا-سالب على يد التجريبيين في نهاية شهر يناير عام 1964، ظهر بحث كتبه جيلمان بدورية الفيزياء العلمية الأوروبية «فيزيكس ليترز». كان قد قرر أن تنبؤه العجيب لن ينجح في المرور لو عرض على المحكمين المتشددين بدورية «فيزيكال ريفيو» الأمريكية.
ولم يغب عن فطنة جيلمان، وآخرين غيره كذلك، أن الرقم 3 في اسم المجموعة
SU(3)
ربما كانت له أهمية فيزيائية. كان من الممكن فعليا تكوين مجموعات الجسيمات ذات العناصر الثمانية في المجموعة
SU(3)
من خلال توليفات ملائمة لثلاث نسخ من تمثيل أصغر لمجموعة التناظر؛ يسمى التمثيل الأساسي، الذي يحتوي على ثلاثة عناصر. فهل كان من الممكن أن تكون تلك العناصر الثلاثة مقابلة بشكل أو بآخر للجسيمات الأولية؟
كانت المشكلة أنه لو كانت جسيمات متفاعلة بقوة مثل البروتونات مصنوعة من ثلاثة مكونات فرعية، فإن تلك المكونات الفرعية لا بد أن يكون لها بصفة عامة، بالنسبة والتناسب، شحنة كهربية جزئية. ولكن إحدى السمات المميزة لعلم الفيزياء أن جميع الجسيمات المرصودة لها شحنات كهربية هي المجموع التكاملي لشحنة الإلكترون والبروتون (ولهما شحنتان متساويتان ومتضادتان). ولم يكن أحد يعلم سبب ذلك، وما زلنا لا نعلم السبب حتى الآن إلى حد ما. ولكن هذا كان من الثوابت التي يبدو أن الطبيعة تفرضها فرضا.
مع ذلك، وبعد عام أو نحوه من النقاش والريبة، زاد من حدتهما اكتشاف سطر رائع في رواية جيمس جويس «صحوة فينيجان»، يقول: «ثلاثة كواركات لماستر مارك»، كتب جيلمان بحثا قصيرا من صفحتين اثنتين يقترح فيه أن الطريق ذي الثماني طبقات باعتباره تصنيفا جذريا لجميع الجسيمات المتفاعلة بقوة يتصف بمنطق رياضي لو أن المكونات الأساسية لهذا المخطط كانت ثلاثة أجسام مختلفة يحمل كل منها شحنة كهربية جزئية، وهي الأجسام التي أطلق عليها اسم «الكواركات».
كان جيلمان متحفظا في طرح فكرة وجود مجموعة جديدة تماما من الجسيمات الغريبة، التي من المحتمل أن تكون مضحكة، فبحلول ذلك الوقت كانت المعرفة التقليدية في أوساط مجتمع الفيزياء قد مالت نحو فكرة أن الجسيمات الأساسية ذاتها ربما كانت غير مدركة بشكل سليم، وأن جميع الجسيمات الأولية ربما كانت مصنوعة من توليفات من جسيمات أولية أخرى، فيما أطلق عليه نوع من «الديمقراطية النووية». ولهذا كان جيلمان حريصا على الزعم بأن تلك الأجسام، التي أطلق عليها أسماء كواركات «علوية» و«سفلية» و«غريبة»، ربما تكون بمنزلة عمليات تحديد رياضي منمقة تتيح لنا إجراء الحسابات بكفاءة.
جدير بالذكر أن أحد طلبة السنة النهائية السابقين بكالتك وكان تلميذا لفاينمان، واسمه جورج سويج، وصار في ذلك الوقت باحثا بعد الدكتوراه في سيرن، وهو معمل المعجل الأوروبي، أتم طرحا مشابها تماما، قدم بتفصيل أعمق كثيرا، وفي نفس الوقت تقريبا. ليس هذا فحسب بل إن سويج كان أكثر استعدادا بكثير لأن يقول إن تلك الأجسام الجديدة التي تحمل نسبة من الشحنة، والتي أطلق هو عليها اسم «الآسات»، حقيقية. وعندما شاهد بحث جيلمان القصير منشورا، سعى مسرعا لنشر بحثه المكون من ثمانين صفحة في دورية «فيزيكال ريفيو». غير أن جيلمان كان أكثر منه حكمة، ولم يتمكن سويج مطلقا من نشر عمله في تلك الدورية المحافظة.
ومن نافلة القول أنه بفضل السلسلة الخارقة من تسميات جيلمان، بداية من
V-A ، وحتى أوميجا-سالب، كان من المحتم أن يتفوق اسم «الكواركات» على اسم «الآسات». لكن هذا لا يعني أن مجتمع الفيزياء تفاعل مع اقتراح جيلمان بحماس، وإنما استقبله بفتور من ينبأ بحمل غير مرغوب فيه. فعلى أي حال، أين كانت تلك الجسيمات التي تحمل شحنة جزئية من قبل؟ فعمليات البحث الدءوب في كل شيء من بيانات المعجلات وحتى باطن أصداف المحار لم تسفر عن شيء. ومن ثم، فإنه حتى بعد أن مجدت صحيفة «نيويورك تايمز» الكواركات في مقال نشر عام 1967، نقل عن جيلمان قوله إنه من المحتمل أن يتبين أن الكوارك ليس سوى محض «تلفيق رياضي مفيد».
وهكذا جاء عام 1967، عندما قرر فاينمان أخيرا العودة إلى حبه الأول، فيزياء الجسيمات، حتى يرى ما يمكنه التعامل معه من مشكلات مثيرة. وعلى الرغم من أنه كتب كلمات مجاملة لجيلمان في مقال نشرته صحيفة «تايمز»، فإنه لم يظهر حماسا كبيرا تجاه البحث الذي قام به جيلمان طيلة السنوات الخمس السابقة من أجل دفع ميدانه للأمام. كان شديد الانتقاد لاكتشاف أوميجا-سالب، وبدت الكواركات غير مثيرة، حتى إنه عندما طرح تلميذه السابق سويج فكرة الآسات، لم يظهر فاينمان أي حماس للفكرة أيضا. لقد اعتبر أن جهود العلماء النظريين لالتماس الراحة في التحدث بلغة نظرية المجموعة أشبه بعكاز للاستعاضة عن الفهم الحقيقي. وكان وصفه لأسلوب الفيزيائيين لتكرار أنفسهم مستخدمين لغة الرياضيات بأنه أشبه «بحديث الأطفال، عندما يقولون بوو-بوو».
ومع أنه يجوز لنا أن نرتاب في أن ردود أفعال فاينمان كانت مشوبة بالحسد، فإن الاحتمال الأرجح أن ريبته الفطرية كانت مجتمعة مع عدم اهتمامه الأساسي بما كان علماء الفيزياء النظرية الآخرون يفكرون فيه. لهذا كان يعتنق بشدة فكرة أن بيانات التفاعل القوي كانت محيرة للغاية بحيث لا يمكنها أن تسمح بتفسير نظري نخرج منه بشيء، وكان قد عزم على تحاشي جميع الصراعات النظرية الفاشلة التي سادت فترة الستينيات، ومن بينها فكرة الديمقراطية النووية وتعارضها مع الجسيمات الأساسية. كان يجد متعته في حل المسائل بنفسه. وعلى حد قوله في ذلك الوقت، متبعا مبدأ «التجاهل» الذي اعتنقه بعد فوزه بجائزة نوبل: «ليس علي إلا أن أفسر الظواهر المنتظمة للطبيعة، ولست ملزما بتفسير أساليب أصدقائي.» ومع ذلك فقد بدأ من جديد في تدريس منهج في فيزياء الجسيمات، وكان هذا يعني عودته إلى ذلك الميدان. ومن منظور فاينمان، يعني هذا العودة إلى دقائق البيانات التجريبية.
تبين أن هذا كان هو الوقت المناسب للقيام بذلك. فقد ظهر معجل جسيمات جديد في شمال كاليفورنيا، بالقرب من ستانفورد، وهكذا لم يكن بعيدا جدا عن كالتك. كان هذا المعجل الجديد مبنيا بتقنية مختلفة لاستكشاف الجسيمات المتفاعلة بقوة. فبدلا من ضرب تلك الجسيمات بعضها ببعض ومتابعة ما يحدث جراء ذلك، كانت ماكينة «سلاك»، حسبما أطلق عليها بعد ذلك، تعجل الإلكترونات على مسار طوله ميلان وتجعلها تصطدم بالأنوية. ولما كانت الإلكترونات لا تشعر بالقوة القوية، فقد أمكن للعلماء قراءة عمليات اصطدامها بسهولة أكبر، دون أن تعوقهم ألغاز التفاعل القوي. وبهذه الطريقة كانوا يأملون في سبر غور النواة مثلما فعل إرنست رذرفورد قبل ذلك بخمس وسبعين عاما عندما اكتشف وجود النواة عن طريق تصويب الإلكترونات نحو الذرات. وفي صيف عام 1968، قرر فاينمان زيارة معجل «سلاك» أثناء رحلة لزيارة شقيقته ومعرفة ما يحدث هناك بنفسه.
كان فاينمان يفكر بالفعل في كيفية التوصل لمنطق يفسر البيانات التجريبية بشأن الجسيمات المتفاعلة بقوة، وأرى أنه كان متأثرا بعمله في مجال الهيليوم السائل. ولعلك تتذكر أنه كان قد حاول فهم أسلوب تصرف المنظومة الكثيفة من الذرات والإلكترونات داخل سائل ما عند درجات الحرارة المنخفضة وكأن الذرات ليست في حالة تفاعل بعضها مع بعض.
ثمة سلوك مشابه إلى حد ما أشارت إليه نتائج التجارب المبكرة التي تضمنت تبعثرا معقدا للجسيمات المتفاعلة بقوة عند اصطدام بعضها ببعض. وعلى الرغم من تردده في تفسير البيانات باستخدام نظرية أساسية ما، أو ربما بسبب ذلك التردد، أدرك فاينمان أن باستطاعته تفسير بعض السمات العامة دون الرجوع لأي نموذج نظري تفصيلي معين. وكان من بين آثار نتائج التجارب أن عمليات التصادم حدثت في الغالب داخل نطاق الجسيمات التي اشتركت فيها، كالبروتونات، وليس عند نطاقات أصغر من ذلك. وقد استنتج أنه لو كانت البروتونات بها مكونات داخلية، لما أمكن لتلك المكونات أن تتفاعل بقوة بعضها مع بعض عند مقاييس أصغر، وإلا لظهر ذلك واضحا في بيانات النتائج. لذا، يمكن للمرء أن يختار تخيل الجسيمات المتفاعلة بقوة، أو «الهادرونات»، حسب الاسم الذي أطلق عليها، باستخدام نموذج للعبة أطفال بسيطة: صندوق مليء بالمكونات، أطلق عليها اسم «بارتونات»، لا تتفاعل فيما بينها بقوة عند نطاقات صغرى لكنها بشكل أو بآخر مقيدة بأن تبقى في نطاق الهادرونات.
كانت الفكرة هي ما نسميه «التفسير الظاهري للأشياء»؛ بالتحديد، كانت مجرد وسيلة لفهم البيانات، لمعرفة هل بإمكان المرء سبر غور ركام الجسيمات بحثا عن عناصر انسجام، من أجل التوصل لبعض الأدلة التي تفتح لنا طريقا نحو قوانين فيزيائية أساسية، مثلما فعلت من قبل الصورة التي قدمها فاينمان للهيليوم السائل. وبطبيعة الحال، كان فاينمان يعلم بأمر كواركات جيلمان وآسات سويج، لكنه لم يكن يسعى لإنتاج فهم أساسي عظيم إلى حد ما للهادرونات؛ لقد أراد ببساطة فهم كيف يمكن استخلاص بعض المعلومات المفيدة من التجارب. وهكذا، لم يبذل فاينمان أي جهد لربط صورة البارتون التي قدمها بجسيماتهما.
أدرك فاينمان عيوب الصورة التي قدمها، واختلافها عن البناء الطبيعي للنموذج. وعلى حد قوله في أول أبحاثه عن هذا الموضوع: «نشأت تلك المقترحات في الدراسات النظرية من عدة اتجاهات وهي لا تمثل نتيجة للتفكير في أي نموذج بعينه. إنها استخلاص للسمات التي توحي بها النسبية وميكانيكا الكم وبعض الحقائق العملية، بصورة تكاد تكون مستقلة عن أي نموذج.»
على أي حال، أتاحت له الصورة التي ابتكرها التفكير في عملية تجنبها أغلب علماء الفيزياء، الذين كانوا يحاولون تفسير البيانات باستخدام نموذج أساسي. هؤلاء العلماء ركزوا على أبسط الاحتمالات جميعا، وفيها يدخل جسيمان في تصادم ويخرج جسيمان من المنطقة. إلا أن فاينمان أدرك أن هذه الصورة المبسطة من الممكن أن تسمح له بالتنقيب عن عمليات أكثر تعقيدا من ذلك. وفي تلك العمليات، لو أجرى المجربون عملية تصادم مباشرة بين الهادرونات بعضها وبعض باستخدام قدر كاف من الطاقة بحيث ينتج عن هذا كمية كبيرة من الجسيمات، فإن بإمكانهم حينئذ أن يأملوا في قياس طاقة وزخم بعض الجسيمات الخارجة على الأقل. وقد يعتقد المرء أنهم في تلك الحالة لن يحصلوا على الكثير من المعلومات المفيدة. غير أن فاينمان زعم، وقد حفزته صورة البارتونات التي ابتكرها، أن تلك العمليات، التي سماها «العمليات الضمنية»، قد تكون جديرة بالفعل بالتفكير فيها ووضعها في الاعتبار.
لقد أدرك أنه عند الطاقات العالية جدا، يمكن لتأثير النسبية أن يجعل كل جسيم، في إطار الجسيم الآخر، يبدو وكأنه «فطيرة»؛ لأن الأطوال تتقلص على امتداد اتجاه الحركة. علاوة على ذلك، فإن تأثيرات تمدد الزمن سيكون معناها أن تبدو الحركات الجانبية لكل بارتون على حدة حول تلك الفطيرة وكأنها تتباطأ إلى حد الثبات في مكانها. وهكذا من الممكن أن يبدو كل هادرون، بالنسبة للهادرونات الأخرى، وكأنه مجموعة من الجسيمات الأشبه بالنقطة الموجودة في حالة سكون داخل الفطيرة. إذن، بافتراض أن التصادم اللاحق سوف يشترك فيه أحد البارتونات من كل فطيرة في حالة تصادم، وتمر باقي الهادرونات ببساطة بعضها من خلال البعض الآخر، يمكن للفيزيائيين فهم العمليات الضمنية التي يقاس فيها جسيم واحد فقط خارج من التصادم قياسا تفصيليا، وتتطاير بقية الجسيمات ولا تسجل لتوزيعها سوى سمات عامة فقط. وطرح فاينمان فكرة أنه لو كانت هذه الصورة للتصادم صحيحة، فإن كميات معينة خاضعة للقياس، مثل زخم الجسيم الخارج المقاس في اتجاه الشعاع الحادث، لا بد أن يكون لها توزيع بسيط.
يشتهر لوي باستير بمقولته: «الحظ الطيب منحة لا يتلقاها إلا صاحب العقل المتأهب.» وكان عقل فاينمان متأهبا تماما عندما زار «سلاك» عام 1968. كان العلماء التجريبيون هناك عاكفين على تحليل البيانات التي بين أيديهم، وكانت أولى البيانات التي تخرج عن الإلكترونات عالية الطاقة التي تتبعثر عند اصطدامها بأهداف من البروتونات، محدثة رذاذا هائلا من الجسيمات الخارجة، وفق أطروحة لعالم نظري شاب كان يعمل هناك اسمه جيمس بيوركن، ومعروف عالميا باسم «بي جيه». كان بيوركن عالما نظريا عبقريا صاحب عزيمة لطيف المعشر كثيرا ما يتحدث بلغة غير مألوفة، لكن استنتاجاته كانت جديرة بالإنصات إليها. وكان في سلاك في ذلك الوقت.
بين بيوركن عام 1967، مستعينا بأفكار تفصيلية من نظرية المجال، وكثير منها نشأ أصلا من فكر جيلمان، أنه لو اكتفى المجربون فقط بقياس خصائص الإلكترونات الخارجة من تلك التصادمات، لوجدوا عناصر انتظام في توزيعها ستكون مختلفة تماما لو كان البروتون مكونا من مكونين أشبه بالنقطة عما لو لم يكن الحال كذلك. وأطلق على عناصر الانتظام تلك اسم «خصائص القياس».
وعلى الرغم من أن العلماء التجريبيين المشتركين في تجارب سلاك لم يفهموا بحق التبرير النظري التفصيلي لفرضية بيوركن للقياس، فإن مقترحاته زودتهم بالفعل بأسلوب نافع في تحليل بياناتهم، وهكذا بدءوا في التحليل. والعجيب أن البيانات توافقت مع تنبؤاته. إلا أن هذا الاتفاق لم يضمن صحة افتراضات بيوركن المبهمة إلى حد ما. فلعل آليات أخرى يمكنها إحداث نفس التأثيرات.
عندما زار فاينمان سلاك كان بيوركن خارج المدينة، فتحدث مع العلماء التجريبيين مباشرة، الذين أعطوه بالطبع فهما أفضل للنتائج من حيث سبب وكيفية اشتقاق بيوركن لها. ولما كان قد فكر من قبل بالفعل في التصادمات الأكثر تعقيدا للهادرونات بعضها ببعض، أدرك فاينمان أن تصادمات الإلكترون بالبروتون ربما كانت أيسر في تحليلها، وأن القياس المرصود ربما كان له تفسير فيزيائي بسيط من زاوية البروتونات.
في ذلك المساء، كانت النشوة تملؤه بعد ذهابه إلى حانة تعر (لا يزال هناك بعض الجدل حول هذا الأمر)، وعندما عاد إلى غرفته بالفندق، تمكن من إيضاح أن سلوك القياس كان تفسيره في واقع الأمر بسيطا: في الإطار المرجعي الذي بدا فيه البروتون أشبه بفطيرة في أعين الإلكترونات الوافدة، لو أن الإلكترونات ارتدت من كل بارتون على حدة، وكان كل منها مستقلا عن البقية بصفة أساسية، فإن دالة القياس التي اشتقها بي جيه يمكن فهمها على أنها ببساطة احتمالية العثور على بارتون ذي زخم معلوم داخل البروتون، وزنه يساوي مربع الشحنة الكهربية الموجودة على ذلك البارتون!
كان هذا تفسيرا أمكن للتجريبيين فهمه، وعندما عاد بي جيه من رحلة تسلق الجبال إلى سلاك، كان فاينمان لا يزال هناك فسعى للالتقاء ببي جيه كي يطرح عليه مجموعة من الأسئلة حول ما كان يعلمه وما لم يكن يعلمه. ويتذكر بي جيه جيدا اللغة التي استخدمها فاينمان، وكيف كانت مختلفة عن الأسلوب الذي كان يفكر هو به في الأمور. وقد قال عن ذلك لاحقا: «لقد كانت لغة سهلة، مغوية، يمكن للجميع أن يفهموها. ولم يستغرق الأمر وقتا على الإطلاق حتى بدأت عربة نموذج البارتون في التحرك.»
من نافلة القول أن فاينمان كان راضيا ومنفعلا في آن واحد لشعوره بقدرة صورته البسيطة على تفسير البيانات الجديدة. أدرك هو وبي جيه أيضا أنه من الممكن استخدام أدوات استكشاف أخرى للبروتونات للحصول على معلومات مكملة عن تركيب البروتونات باستخدام الجسيمات التي تتفاعل ليس بطريقة كهرومغناطيسية مع البارتونات، وإنما عن طريق التفاعل الضعيف، وهي النيوترينوات. وعاد فاينمان من جديد إلى قلب نشاط الميدان، وفي ذلك الوقت نشر أول أبحاثه حول الفكرة، بعد توصله إليها بعدة أعوام، وكان تحليل «التشتت العميق غير المرن»، وهو الاسم الذي صار يطلق عليه، هو محور تركيز النشاط بأسره.
بطبيعة الحال، صارت الأسئلة المحورية عندئذ هي: هل البارتونات حقيقة واقعة؟ وإذا كانت كذلك، فهل البارتونات هي الكواركات؟ وأدرك فاينمان أن الإجابة عن السؤال الأول إجابة كاملة عسيرة، مع العلم بالبساطة المتناهية لنموذجه واحتمال أن تكون الظواهر الفيزيائية الفعلية أكثر تعقيدا من ذلك. وبعدها بسنوات، وفي كتاب نشره حول ذلك الموضوع، ذكر مخاوفه صراحة قائلا: «جدير بالذكر أنه حتى إذا كان ما في جعبتنا من أوراق سيكتب له البقاء وستثبت صحته، فإننا مع ذلك لم نبرهن بعد على وجود البارتونات ... سوف تكون البارتونات دليلا نفسيا مفيدا من حيث العلاقات التي علينا أن نتوقعها، وإذا استمرت تؤدي ذلك الدور في إنتاج توقعات أخرى صائبة فلسوف تبدأ بالطبع في التحول إلى شيء واقعي، وربما كان واقعيا بنفس قدر أي بنيان نظري آخر ابتكر لوصف الطبيعة.»
أما السؤال الثاني، فكانت صعوبته مضاعفة؛ أولا: استغرق الأمر بعض الوقت، وسط ذلك المناخ الذي كان فيه الانحياز النظري العام معارضا للجسيمات الأساسية، قبل أن يبدأ الناس إظهار استعدادهم لمناقشته بجدية. وثانيا: حتى إذا كانت البارتونات تمثل الكواركات، فلم لم تفصح عن نفسها بوضوح، كي يراها الجميع، وتنطلق من التصادمات عالية الطاقة؟
إلا أنه مع ذلك وبمرور الوقت تمكن الفيزيائيون مستعينين بالصياغة التي ابتكرها فاينمان من استخلاص خصائص البارتونات من واقع البيانات، ويا للعجب، صارت الشحنات النسبية على تلك الأجسام واضحة للعيان. وبحلول أولى سنوات السبعينيات صار فاينمان مقتنعا بأن البارتونات تحمل جميع خصائص كواركات جيلمان الافتراضية (وآسات سويج)، ومع ذلك استمر يتحدث بلغة البارتون (ربما كي يثير ضيق جيلمان). أما جيلمان فمن ناحيته حول نقده، الذي كان يقول فيه إنه ليس مستعدا لأن يصدق بواقعية الكواركات، إلى السخرية من صورة فاينمان المبسطة. وفي نهاية المطاف، ولأن الكواركات جاءت من نموذج أساسي، تحول عالم الفيزياء خلال سنوات السبعينيات من صورة البارتون للبروتونات إلى صورة الكوارك.
لكن أين كان يمكن العثور على الكواركات؟ ولماذا كانت مختبئة داخل البروتونات، ولم يعثر عليها متوارية في أي مكان آخر؟ ولماذا كانت تسلك سلوك الجسيمات الحرة داخل البروتونات عندما كان التفاعل القوي الذي يحكم التصادمات بين البروتونات بعضها وبعض، ومن ثم بين الكواركات بعضها وبعض، هو أقوى قوة معروفة في الطبيعة؟
الجدير بالملاحظة أنه في غضون فترة خمس سنوات، لم يكتف العلماء بالإجابة عن تلك التساؤلات حول القوة القوية بشكل أساسي وحسب، وإنما تمكن علماء الفيزياء النظرية كذلك من التوصل لفهم أساسي لطبيعة القوة الضعيفة أيضا! وبعد مرور عقد من الزمان على بدء ذلك الارتباك، فهمت بصورة أساسية ثلاث من القوى الأربع المعلومة في الطبيعة. ولعل أهم ما في الموضوع، وهو أمر لا يزال على الأرجح من أقل الأمور التي تطرح على الملأ، أن ثورات نظرية في تاريخ فهمنا الأساسي للطبيعة قد اكتملت إلى حد بعيد. وفاز علماء الفيزياء التجريبيون في معجل «سلاك»، الذين سبق أن اكتشفوا مسألة «التدريج»، ومن ثم اكتشفوا الكواركات، بجائزة نوبل عام 1990، وفاز العلماء النظريون الذين ابتكروا «النموذج القياسي» الحالي للقوى الضعيفة والقوية بجوائز نوبل أعوام 1979 و1997 و2004. •••
لا بد لنا أن ننوه بإعجاب إلى أن أبحاث فاينمان، سواء خلال تلك الفترة أو خلال فترة السنوات الخمس التي سبقتها، ساعدت بقدر كبير ومباشر على جعل هذه الثورة أمرا ممكنا. فخلال تلك المسيرة، ودون قصد منه، وربما حتى دون تقدير تام على الإطلاق للنتائج، أسهمت أعمال فاينمان في التوصل لفهم جديد لطبيعة الحقيقة العلمية. وكان معنى ذلك من ثم أن عمله الخاص في مجال الديناميكا الكهربائية الكمية لم يكن محض حدس فطري وإنما قدم فهما فيزيائيا حديثا وجوهريا في الوقت نفسه للسبب الذي جعل النظريات المعقولة عن الطبيعة عند المقاييس القابلة للقياس تعطي نتائج ذات قيم محددة.
تبدأ قصة كيفية حدوث كل ذلك، بالمصادفة، بعمل أنجزه جيلمان مع زميله فرانسيس لو بإلينوي عامي 1953-1954. استنتج بحثهما، الذي أبهر فاينمان عند زيارة جيلمان لكالتك لأول مرة، أن المقدار الفعال للشحنة الكهربية الموجودة على الإلكترونات يتباين تبعا للحجم، فهو يزداد مع اقتراب المرء من سحابة أزواج الإلكترونات- البوزيترونات الافتراضية التي تصنع درعا واقيا للشحنة، واختراقها.
وفي موقع يقع إلى الشرق قليلا من ذلك المكان، وفي صيف عام 1954، نشر فرانك يانج وزميله بالمكتب روبرت ميلز بمختبر بروكهافن بلونج أيلاند - وقد حفزهما نجاح الديناميكا الكهربائية الكمية في تفسير الطبيعة - بحثا افترضا فيه تعميما محتملا للنظرية اعتقدا أنه من الممكن أن يكون ملائما لفهم القوى النووية القوية.
في الديناميكا الكهربائية الكمية، تنتشر القوة الكهرومغناطيسية عن طريق تبادل جسيمات لا كتلة لها، وهي الفوتونات. ويكون شكل معادلات التفاعل الكهرومغناطيسي مقيدا بشدة بتناظر يطلق عليه التناظر المعياري، الذي يضمن بصفة أساسية أن يكون الفوتون بلا كتلة، ومن ثم يكون التفاعل طويل المدى، كما أوضحت من قبل. لاحظ أنه في الكهرومغناطيسية، تقترن الفوتونات بالشحنات الكهربية، في حين أن الفوتونات نفسها تكون متعادلة كهربيا.
اقترح يانج وميلز نسخة أكثر تعقيدا من الثبات المعياري وفيه يمكن تبادل أنواع مختلفة عديدة من «الفوتونات» بين أنواع عديدة من «الشحنات»، بل إن بعض الفوتونات نفسها يمكن شحنها، وهو ما يعني أنه من الممكن أن تتفاعل مع نفسها ومع الفوتونات الأخرى. كانت تناظرات معادلات يانج-ميلز الجديدة، حسبما صار يطلق عليها، تجمع بين كونها خلابة وموحية في آن واحد. لم يبد مثلا أن القوة القوية تميز بين البروتونات والنيوترونات، ولهذا كان ابتكار تناظر ما بينها، علاوة على جسيم مشحون أشبه بالفوتون يمكنه إلى حد ما أن يجتمع مع آخر أو يتحول إليه، أمرا له شيء من المنطق الفيزيائي. علاوة على ذلك، اعتمد النجاح في التخلص من قيم ما لانهاية في الديناميكا الكهربائية الكمية بصفة أساسية على التناظر المعياري لتلك النظرية، وبهذا كان استخدامه كأساس لنظرية جديدة أمرا يبدو منطقيا.
كانت المشكلة أن التناظر المعياري للمعادلات الجديدة يتطلب بصفة عامة أن تكون الفوتونات الجديدة بلا كتلة، ولكن لأن التفاعلات القوية قصيرة المدى، ولا تعمل إلا على نطاقات نووية فحسب، فإنها من الناحية التطبيقية لا بد أن تكون ذات كتلة. ولم يكن لديهما أدنى فكرة عن كيفية حدوث ذلك، لهذا لم يكن بحثهما في حقيقة الأمر نموذجا وإنما كان أقرب إلى الفكرة.
وعلى الرغم من تلك المشكلات، فقد استمر مؤيدو هذه الفكرة، من أمثال جوليان شفينجر وموراي جيلمان، في العودة إلى فكرة نظريات يانج-ميلز خلال عقدي الخمسينيات والستينيات لأنهم شعروا أن بنيانها الرياضي ربما كان يقدم لهم أساسا لفهم القوة الضعيفة أو القوية، أو كليهما معا. ومن المثير أنه يمكن التعبير عن تناظرات المجموعة ليانج-ميلز باستخدام نفس النوع من لغة نظرية المجموعة التي استخدمها جيلمان لاحقا كطريقة لتصنيف الجسيمات المتفاعلة بقوة.
كلف شفينجر طالب الدراسات العليا الذي يعمل تحت إشرافه، شيلدون جلاشو، بمهمة التفكير في نوع بنيان المجموعة وأي نوع من نظريات يانج-ميلز يمكنه وصف التناظرات المرتبطة بالتفاعل الضعيف. وفي عام 1961، لم يكتف جلاشو بالعثور على التناظر المرشح لذلك، وإنما أوضح أيضا بصورة تستحق الإعجاب أنه يمكن الجمع بينه وبين التناظر المعياري في الديناميكا الكهربائية الكمية لإنتاج نموذج نتج فيه كل من التفاعل الضعيف والتفاعل الكهرومغناطيسي من نفس مجموعة التناظرات المعيارية، وأنه في هذا النموذج يكون فوتون الديناميكا الكهربائية الكمية مصحوبا بثلاثة بوزونات معيار أخرى، حسبما صار يطلق على ذلك النوع الجديد من الفوتونات. كانت المشكلة أن التفاعل الضعيف، مرة أخرى، ذو مدى قصير، في حين كانت الكهرومغناطيسية ذات مدى طويل، ولم يشرح جلاشو كيف يمكن استيعاب هذا الفارق. وفي اللحظة التي يمنح المرء فيها كتلا للجسيمات الجديدة، يختفي التناظر المعياري، ويختفي معه جمال النموذج وتماسكه الرياضي المحتمل.
كان جزء من المشكلة أنه لم يكن هناك أحد يعلم على وجه اليقين كيفية تحويل نظريات يانج-ميلز إلى نظريات مجال كم تامة الاتساق مثلما هو الحال مع الديناميكا الكهربائية الكمية. كانت الرياضيات أكثر صعوبة، ولم يكن هناك حافز للاضطلاع بتلك المهمة. ثم ظهر ريتشارد فاينمان. عندما شرع لأول مرة في العمل في موضوع الجاذبية باعتبارها نظرية كم، كانت المسائل الرياضية شديدة الوعورة حتى إنه توجه إلى جيلمان طلبا للمشورة. اقترح جيلمان أن يبدأ أولا بحل مسألة أبسط. فأخبر فاينمان عن نظريات يانج-ميلز وزعم أن التناظرات المتأصلة في تلك النظريات مشابهة تماما لتلك المرتبطة بنظرية النسبية العامة، وإن كانت أقل إثارة للفزع.
اتبع فاينمان نصيحة جيلمان وحلل الخصائص الكمية لنظريات يانج-ميلز وتوصل إلى عدد من الاكتشافات الرئيسية، التي لم يدونها بالتفصيل إلا بعد ذلك بسنوات. وتحديدا، اكتشف مثلا أنه لكي نحصل على قواعد فاينمان متماسكة لنظرية الكم، ينبغي إضافة جسيم تخيلي للحلقات الداخلية كي نجعل الاحتمالات تعمل بطريقة صحيحة. وبعدها بعامين أعاد عالما الفيزياء الروسيان لودفيج فاديف وفيكتور بوبوف اكتشاف هذا الأمر، وصارت الجسيمات الآن تعرف باسم «بوزونات فاديف-بوبوف الشبحية». علاوة على ذلك، اكتشف فاينمان أيضا نظرية عامة جديدة عن مخططات فاينمان في نظريات مجال الكم؛ إذ ربط بين المخططات ذات حلقات الجسيمات الافتراضية الداخلية وبين تلك التي لا حلقات لها.
تبين أن طرق فاينمان لفهم نظريات يانج-ميلز المكممة كانت ذات أهمية محورية في التطورات الرئيسية التي وقعت في علم الفيزياء في نهاية العقد؛ فأولا، أعاد ستيفن واينبرج اكتشاف نموذج جلاشو للتوحيد الكهربي الضعيف، حسبما أطلق عليه، في سياق نظرية معينة وأكثر واقعية من نظريات يانج-ميلز، حيث أمكن للبوزونات الضعيفة، من حيث المبدأ، أن تبدأ بكتلة مقدارها صفر - فتحافظ على التناظر المعياري - ثم تنشأ كتلتها لاحقا، تلقائيا، نتيجة لديناميكا النظرية.
كان هذا حلا جميلا محتملا لمشكلة إيجاد نظرية للتفاعل الضعيف. غير أنه بقيت مشكلة. هل النظرية «قابلة لإعادة التطبيع»؟ أو تحديدا، هل يمكن لشخص ما أن يبين، مثلما فعل فاينمان أو شفينجر أو توموناجا في الديناميكا الكهربائية الكمية، أن جميع القيم اللانهائية يمكن التخلص منها بكفاءة عند التنبؤ بالكميات الفيزيائية؟ في عام 1972، قدم طالب هولندي اسمه جيرارت هوفت في الدراسات العليا مع المشرف على رسالته مارتينوس فيلتمان، معتمدين على وسائل فاينمان للحساب الكمي لتلك النظريات، الإجابة، وكانت: نعم. فجأة صارت نظرية جلاشو-واينبرج مثيرة للاهتمام! وخلال السنوات الخمس التالية بدأت التجارب تزود العلماء بأدلة على صحة النظرية، بما فيها الحاجة إلى ثلاثة بوزونات جديدة من المعيار الثقيل، وفي عام 1984، في مؤتمر سيرن اكتشفت تلك البوزونات الثقيلة. وكان من نتاج كل تلك التطورات التي حدثت في ميدان الفيزياء أن منحت جوائز نوبل لكوكبة من العلماء: جلاشو وواينبرج وعبد السلام؛ الذي أجرى أبحاثا مشابهة لأبحاثهما، وهوفت وفيلتمان، ولعلماء الفيزياء التجريبيين الذين اكتشفوا البوزونات الضعيفة.
صار لدى علماء الفيزياء النظرية الآن نظريات رائعة وأصيلة للتفاعلات الضعيفة والكهرومغناطيسية ولكن ظل التفاعل القوي محيرا. وبدت نظرية أكثر تعقيدا ليانج-ميلز - ارتبطت بنفس مجموعة التناظر التي استخدمها جيلمان في تصنيف الكواركات، وهي مجموعة
SU(3) - واعدة. وفي هذه الحالة لم يعد الرقم «3» مناظرا ل «نكهات» الكواركات المختلفة - أي الكواركات العلوية والسفلية والغريبة - وإنما صار يناظر رقما كموميا داخليا جديدا يسمى «اللون». وبدا أن هذه النظرية قادرة على وصف السمات الظواهرية للأسلوب الذي ربما تجتمع به الكواركات معا كي تشكل الهادرونات. وفي تشبيه بميدان الديناميكا الكهربائية الكمية، سمي هذا الميدان «الديناميكا اللونية الكمية». غير أنه من جديد كان التفاعل القوي قصير المدى، على نحو يبدو معه أنه بحاجة إلى بوزونات ضخمة.
لكن الأهم، كيف يمكن لقوة جديدة قوية أن تفسر حقيقة أن الأجسام داخل البروتونات، سواء سماها المرء بارتونات أو كواركات، تتصرف كما لو كانت لا تتفاعل معا؟ وجاءت الإجابة في غضون عام واحد، وكانت تعود إلى نتائج توصل إليها جيلمان ولو خاصة بتقوية القيمة الفعالة للشحنة الكهربية للإلكترونات على المقاييس الصغيرة.
في عام 1973، وفي وقت بدا فيه سهم نظرية مجال الكم آخذا في الارتفاع، في أعقاب التقدم الذي حدث في النظرية الكهروضعيفة، قرر عالم نظري شاب من برينستون - كان فيما مضى قد فطم في بيركلي على نماذج الديمقراطية النووية، التي تزعم أن الجسيمات والمجالات تمثل الطريق الخاطئ نحو فهم التفاعلات القوية - الإجهاز على النظرية الوحيدة المتبقية التي لا تزال تمثل الأمل في تفسير التفاعل القوي. قرر ديفيد جروس وتلميذه النابغة فرانك ويلكزيك فحص سلوك المسافة القصيرة لنظريات يانج-ميلز، والديناميكا اللونية الكمية تحديدا، بهدف بيان أن المقدار الفعال من «شحنات اللون» في الديناميكا اللونية الكمية سوف يزداد حجما فيما يبدو، مثلما هو الحال في الديناميكا الكهربائية الكمية، عند المسافات القصيرة، نتيجة لعملية مسح من قبل جسيمات افتراضية عند المسافات الأطول. ولو صح ذلك، فلن يكون هناك أي أمل في التوصل لنظرية الديناميكا اللونية الكمية كهذه كي تفسر نتائج قياس معجل سلاك التي عرضها فاينمان وبي جيه. وبدوافع مختلفة، كان أحد طلاب الدراسات العليا بهارفارد، وهو من تلامذة سيدني كولمان واسمه ديفيد بوليتزر، يبحث مستقلا هو أيضا في خصائص «التدريج» للديناميكا اللونية الكمية.
ولدهشة العلماء الثلاثة جميعا، رصد سلوك مناقض تماما لما كان متوقعا في المعادلات الناتجة (بمجرد مراجعة وتصحيح أخطاء متنوعة في علامات جبرية محورية)، ولكن هذا تم فقط في نظريات ليانج-ميلز مثل الديناميكا اللونية الكمية. ف «الشحنة اللونية» الفعالة للكواركات لا تصبح أكبر مقدارا عند المسافات القصيرة، وإنما أصغر! وأطلق علماء النظرية على تلك الخاصية العجيبة غير المتوقعة اسم «الحرية المتقاربة». في البداية أتبع جروس وويلكزيك ومن بعدهما بوليتزر هذا الاكتشاف بسلسلة من الأبحاث تبنوا فيها بدقة الصياغة التي ابتكرها فاينمان لعقد مقارنات مع نتائج تجارب التدريج في معجل سلاك. واكتشفوا أن الديناميكا اللونية الكمية ليس في استطاعتها وحسب تفسير التدريج، وإنما يمكن أيضا - بسبب حقيقة أن التفاعلات بين الكواركات لم تكن قيمتها صفرا ولكنها كانت مع ذلك أضعف مما كان يمكن أن تكون عليه بدون الحرية المتقاربة - حساب تصويبات سلوك التدريج، الذي يجب أن يكون قابلا للرصد.
في هذه الأثناء، ظل فاينمان متشككا حيال كل الإثارة المحيطة بالنتائج الجديدة. لقد شاهد علماء نظريين من قبل في مرات كثيرة يتحمسون لأفكار عظيمة. والأمر المثير للاهتمام حقا هو أن تشككه استمر بالرغم من أن تلك النتائج الجديدة نشأت نتيجة استخدام نفس الأساليب التي كان فاينمان رائدا لها، سواء أفي فهم تجارب التدريج أم في التعامل مع نظريات يانج-ميلز.
وأخيرا، وبحلول منتصف السبعينيات، كان فاينمان قد صار مقتنعا بأن تلك الأفكار تحمل قدرا كافيا من المزايا حتى إنه بدأ في متابعتها بالتفصيل، وبقدر عظيم من التلذذ والنشاط. وبالاشتراك مع باحث بعد الدكتوراه اسمه ريك فيلد، حسب فاينمان طائفة من الظواهر الفيزيائية المحتملة القابلة للرصد في الديناميكا اللونية الكمية، وساعد بذلك في استشراف حقبة جديدة ومثيرة من الاتصال المتبادل الوثيق بين التجربة والنظرية. كان عملا شاقا لأن مقياس الطاقة الذي صارت تفاعلات الديناميكا اللونية الكمية عنده من الضعف بحيث يمكن الاعتماد على الحسابات التي يجريها علماء النظرية كان أعلى بعض الشيء مما استطاع التجريبيون تحقيقه. لذا، على الرغم من بدء توافد تأكيدات مؤقتة للتنبؤات بالحرية المتقاربة، فإن الأمر استغرق ما لا يقل عن عقد آخر، حتى منتصف الثمانينيات؛ أي قرب وفاة فاينمان، حتى تأكدت النظرية تماما. كما استغرق الأمر عشرين عاما أخرى حتى منح جروس وويلكزيك وبوليتزر جائزة نوبل عن عملهم في الحرية المتقاربة.
خلال السنوات الأخيرة من عمره، وبقدر ما ظل فاينمان مفتونا بالديناميكا الكهربائية الكمية، استمر جزء منه يقاوم الإيمان التام بالنظرية؛ إذ على الرغم من أن النظرية بدت تبلي بلاء رائعا في تفسير تدريج سلاك، وبالرغم من رصد انحرافات التدريج التالية المتوقعة أيضا، وفي الواقع أظهرت جميع قياسات قوة تفاعل الديناميكا اللونية الكمية أنها تزداد ضعفا عند المسافات القصيرة والطاقات المرتفعة، فإنه على مقياس المسافة الكبيرة المضاد صارت النظرية من القوة بحيث استحال تطويعها. وقد حال هذا دون إجراء أي اختبار نظري لما كان سيعد في نظر فاينمان معيار الذهب، وهو: تفسير لعدم مشاهدتنا لأي كواركات حرة في الطبيعة.
تقول المعرفة التقليدية إن الديناميكا اللونية الكمية تصبح في غاية القوة على المسافات الكبيرة حتى إن القوة بين الكواركات تظل ثابتة مهما كانت المسافة، ومن ثم فإن الأمر يتطلب، من حيث المبدأ، قدرا لانهائيا من الطاقة حتى يمكن فصل كواركين أحدهما عن الآخر تماما. وكان ما يؤيد هذا التوقع حسابات معقدة أجريت على الكمبيوتر؛ حسابات من النوع الذي كان فاينمان يقوده عندما كان يعمل على جهاز التوصيل لمصلحة هيليس في بوسطن.
لكن نتيجة الكمبيوتر كانت في رأي فاينمان مجرد دعوة لفهم الفيزياء. فحسبما تعلم من قبل وهو تلميذ لبيته منذ سنوات عديدة مضت، فإنه ما لم يمتلك فهما تحليليا لسبب حدوث شيء ما بحيث يمكنه إخراج أرقام مقاربة للبيانات التجريبية، فإنه لا يثق في المعادلات. وهو لم يكن يمتلك ذلك الفهم. وإلى أن يمتلكه، لم يكن مستعدا للتسليم بأي شيء.
في ذلك الوقت التقيت ريتشارد فاينمان لأول مرة، حسبما وصفت في بداية هذا الكتاب. لقد جاء إلى فانكوفر وألقى محاضرة وهو في حالة من الانفعال الشديد حول فكرة كان يعتقد أنها تبرهن على أن الديناميكا اللونية الكمية من الممكن أن تكون «مقيدة»، حسب التسمية التي أطلقت على مشكلة «عدم رصد» كواركات حرة منعزلة. كانت المشكلة بالغة الصعوبة بحيث لا يمكن معالجتها في ثلاثة أبعاد، غير أنه كان متيقنا للغاية أنه يستطيع باستخدام بعدين التوصل لأسلوب تحليلي يمكنه تحقيق تسوية نهائية للأمر بأسلوب يرضيه. •••
واصل فاينمان معركته مع مرض السرطان، الذي عولج منه في البداية عام 1979 ثم عاود الظهور عام 1987، كما عانى من ارتفاع مستوى تشتته الذهني المرتبط بتعاظم شهرته، بداية من الأنشطة المحيطة بكتب السيرة الذاتية التي كتبها وحققت أعلى المبيعات إلى المهمة التي أوكلت إليه بشأن مكوك الفضاء «تشالنجر» (حيث ساعد بنفسه، لعلك تتذكر، في إماطة اللثام عن السبب وراء الانفجار المأساوي لمكوك الفضاء)، غير أنه لم يعش لليوم الذي يرى فيه هدفه يتحقق. وحتى يومنا هذا، وعلى الرغم من تحسن حسابات الكمبيوتر بصورة هائلة، بحيث زادت أكثر وأكثر من دعمها لفكرة التقييد، وعلى الرغم من أن طائفة من التقنيات النظرية الحديثة أتاحت إيجاد أساليب جديدة بالغة التعقيد للتعامل مع نظريات يانج-ميلز، فلم يتوصل أي شخص لبرهان بسيط وأنيق على أن النظرية لا بد أن تقيد الكواركات. ولا أحد يشك في أن هذا الأمر صحيح، غير أن «اختبار فاينمان» - لو جاز لنا أن نطلق عليه هذا الاسم - لم يتم تجاوزه بعد.
غير أن تراث فاينمان لا يزال حيا بيننا في كل يوم. إن الأساليب الوحيدة المثمرة التي تتسم بالكفاءة بحق للتعامل مع كل من نظريات معيار يانج-ميلز والجاذبية تتضمن صيغة فاينمان المعروفة باسم تكامل المسار. وليست هناك أي صيغة أخرى لنظرية مجال الكم يستخدمها الفيزيائيون المعاصرون. لكن الأهم من ذلك أن نتائج تكاملات المسارات، والحرية المتقاربة، والقابلية لإعادة تطبيع التفاعلات القوية والضعيفة وجهت الفيزيائيين نحو وجهة جديدة، مانحة فهما جديدا للحقيقة العلمية بطريقة لا بد أنها جعلت فاينمان يشعر أخيرا بالفخر للعمل الذي أنجزه في ميدان الديناميكا الكهربائية الكمية، بدلا من الشعور بأن دوره اقتصر فقط على تقديم طريقة أنيقة لإخفاء المشكلات وليس لحلها.
لقد أتاح منهج فاينمان العلمي المعروف باسم تكامل المسار للفيزيائيين إجراء فحص منهجي لكيفية تغير تنبؤات النظرية مع تغيير المرء لمقياس المسافة الذي يختار عنده تعديل النظرية كي يزيل آثار الجسيمات الافتراضية ذات الطاقة الأعلى حتى يعيد تطبيع النظرية. ولما كانت نظريات الكم تصاغ، حسب لغته، عن طريق فحص المسارات الزمكانية بصورة صريحة، يستطيع المرء أن يجري «حساب تكامل» (أي جمع للمتوسطات) لأقل ذبذبات تحدث في المسارات الملائمة لتلك المقاييس، ومن ثم يحصر تفكيره فقط في المسارات التي لم تعد تلك الذبذبات موجودة بها.
أوضح الفيزيائي كينيث ويلسون، الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل، أن هذا التكامل معناه أن النظرية الناتجة، أي النظرية المحددة، ليست حقا سوى «نظرية فعالة»، وهي النظرية الملائمة لوصف الطبيعة عند مقاييس أكبر من مقياس القطع الذي حسب تكامل الذبذبات الصغرى في المسارات عنده.
لم تكن طريقة فاينمان للتخلص من قيم ما لانهاية إذن مجرد تلفيق بارع، وإنما كانت بالأحرى ضرورة فيزيائية. هذا لأننا صرنا الآن ندرك أنه لا يجب علينا بعد ذلك أن نتوقع صمود النظرية، دون أن يطرأ عليها تغيير، عند جميع مقاييس الطاقة والمسافات. ولا يتوقع أحد أن تظل الديناميكا الكهربائية الكمية، وهي أفضل نظرية خضعت للاختبار وأحبها الجميع في دنيا الفيزياء، الوصف الملائم للطبيعة مهما صغرت المقاييس. وفي حقيقة الأمر ، وحسبما بين جلاشو وواينبرج وعبد السلام، فإنه عند مقياس طاقة مرتفع بدرجة كافية، تندمج الديناميكا الكهربائية الكمية مع التفاعل الضعيف ليصنعا نظرية موحدة جديدة.
إننا نفهم الآن أن «جميع» النظريات الفيزيائية هي مجرد نظريات فعالة تصف الطبيعة عند نطاق معين من المقاييس. فلا يوجد حتى الآن شيء يسمى حقيقة علمية مطلقة، إن كنا نعني بذلك نظرية تصلح لجميع المقاييس ولكل الأزمنة. وهكذا فإن الحاجة الفيزيائية لإعادة التطبيع بسيطة: النظرية المطلقة - أي، النظرية التي نستنبطها من واقع المشاهدات بصورة اعتباطية نزولا حتى مقاييس الأبعاد الصغيرة - ليست هي النظرية الصحيحة، والقيم اللانهائية هي العلامة الدالة على هذا. فإذا اخترنا أن نستنتج النظرية على هذا النحو، فإننا نقوم بذلك بصورة تتجاوز مجال صلاحيتها. وعند اقتطاع النظرية عند مقياس صغير الحجم، فإننا نتجاهل ببساطة الفيزياء الحديثة المجهولة التي لا مناص من أن تدخل تغييرات على النظرية عند تلك المقاييس الصغيرة. إن الإجابات المحددة التي نحصل عليها يكون لها معنى بالتحديد لأننا إذا رغبنا في سبر غور الظواهر عند مقاييس كبيرة الأبعاد، فإنه «يمكننا» تجاهل هذه الفيزياء الحديثة المجهولة عند المقاييس بالغة الصغر. والنظريات المنطقية القابلة لإعادة التطبيع مثل الديناميكا الكهربائية الكمية تفقد حساسيتها تجاه الفيزياء الحديثة عند مقاييس مسافات أقل كثيرا من المقاييس التي نجري عندها التجارب بهدف اختبار النظريات.
كان الأمل الذي يحدو فاينمان إذن في أن يتمكن بشكل أو بآخر من حل مشكلة القيم اللانهائية في الديناميكا الكهربائية الكمية بدون إعادة تطبيع، أملا في غير محله. فنحن نعلم الآن أن صورته، التي تسمح لنا أن نرى على نحو منهجي كيفية تجاهل الأمور التي لا نفهمها، هي أقصى ما يمكننا الوصول إليه. وباختصار، لقد قام فاينمان بأقصى ما كان ممكنا، ولم يقصد حله الرياضي إخفاء مشكلات نظرية المجال، بل كان يفوق هذا بكثير. لقد بين بحق المبادئ الفيزيائية الحديثة التي كان يأمل دوما أن يكون مسئولا يوما ما عن اكتشافها.
لا بد أن هذا الفهم الجديد كان من شأنه أن يبهج فاينمان، ليس فقط لأنه يمنح أهمية جديدة لعمله الذي أنجزه في مرحلة مبكرة من عمره، لكن لأنه يجدد أيضا شباب ألغاز الفيزياء . ولا توجد في الوقت الراهن نظرية معلومة تقدم الحل النهائي. ولا بد أنه كان سيحب ذلك. وكما قال ذات مرة: «يقول لي الناس: «هل تبحث عن القوانين النهائية لعلم الفيزياء؟» كلا إنني لا أفعل ذلك. فكل ما أبحث عنه المزيد من المعرفة عن هذا العالم. فإذا تبين وجود قانون بسيط نهائي يشرح كل شيء، فليكن، فلا بد أن هذا الأمر سوف يكون غاية في الروعة لو اكتشف. أما لو تبين أنه أشبه بالبصلة ذات ملايين الطبقات، وقد مللنا النظر إلى تلك الطبقات، إذن فليكن. ولكن أيا كان ما سيتبين، فإنها الطبيعة، وسوف تظهر لنا على الحال التي هي عليه.»
في الوقت نفسه، تسببت التطورات الرائعة التي حدثت خلال السبعينيات، والتي صارت ممكنة بفضل أبحاث فاينمان، في توجيه الكثير من الفيزيائيين نحو وجهة أخرى. وبعد نجاح توحيد القوة الكهروضعيفة والحرية المتقاربة، ظهرت إمكانية جديدة. فعلى كل حال، كما بين جيلمان ولو، تصبح الديناميكا الكهربائية الكمية أكثر قوة عند المقاييس الصغرى. وكما بين جروس وويلكزيك وبوليتزر، فإن الديناميكا اللونية الكمية تصبح أضعف عند المقاييس الصغيرة. ربما إذا اتجهنا إلى مقياس بالغ الصغر، الذي وفق تقديرنا ربما كان حجمه في حدود 1 على 16 من حجم البروتون، ونحو 1 على 12 من الحجم الذي تستطيع أفضل المعجلات المتاحة لنا في الوقت الراهن اكتشافه، فإن جميع القوى المعلومة قد تصير موحدة في نظرية واحدة. وهذا الاحتمال، الذي أطلق عليه جلاشو اسم «التوحيد العظيم»، صار هو القوة المحركة لفيزياء الجسيمات خلال معظم عقد الثمانينيات، وصنف ضمن هدف أعظم وأكبر عندما اكتشف أن نظرية الأوتار تسمح بتوحيد ممكن للقوى الثلاث غير الجذبوية مع قوة الجاذبية.
غير أن فاينمان مع ذلك ظل متشككا. فقد ظل طيلة حياته يناضل ضد الإفراط في قراءة البيانات، ولقد شهد طائفة من النظريات العبقرية الأنيقة تتهاوى وتنهار. وبالإضافة إلى ذلك فقد علم أنه ما لم يكن علماء الفيزياء النظرية مستعدين وقادرين على مواصلة اختبار أفكارهم في عالم التجارب القاسي، فإن احتمال خداع النفس بالأوهام يظل كبيرا . وقد علم - مثلما كان يقول كثيرا - أن أسهل شخص يمكنك خداعه هو نفسك.
عندما وقف فاينمان في مواجهة أدعياء العلم، و«خبراء» اختطاف البشر من قبل سكان الفضاء، والمنجمين، والدجالين، حاول أن يذكرنا بأننا فيما يبدو مجبولون على الاعتقاد بأن ما يحدث لنا بصورة طبيعية يبدو كما لو كان يكتسب أهمية ومعنى مميزا، حتى ولو كان حادثا وقع بالمصادفة. فعلينا أن نحترس من هذا الأمر، والسبيل الوحيد لذلك لا يأتي إلا من خلال التمسك بالقيد المتمثل في الواقع العملي التجريبي. لذا، عندما نواجه بادعاءات تقول إن نهاية علم الفيزياء قد أوشكت وأن القوانين النهائية لعلم الفيزياء في متناول أيدينا، ساعتها يكتفي فاينمان بالقول بحكمة: «لقد قضيت عمرا كاملا في ذلك ... عمرا كاملا ألتقي فيه بأناس مؤمنين بأن الحل يقع في متناول أيدينا.»
لو كان لنا أن نتعلم درسا من الحياة المهنية الرائعة لواحد من أكثر علماء القرن العشرين تميزا، فهو أن الإثارة والغطرسة، اللذين من الطبيعي أن يعقبا الوصول إلى المكانة النادرة التي يحظى بها من يكشف ولو عن جزء صغير من ألغاز الطبيعة، لابد لهما من عنصر ملطف ألا وهو إدراك أنه مهما كان مقدار ما نعرفه، فإن الحياة تخبئ لنا المزيد من المفاجآت، لو كنا على استعداد لمواصلة البحث. وكان هذا البحث هو محرك حياة العالم المغامر والعبقري الجسور ريتشارد فاينمان.
خاتمة
الشخصية قدر
أعتقد أن ما نفعله هو أننا نستكشف؛ إننا نسعى نحو اكتشاف أقصى ما يمكننا اكتشافه عن العالم من حولنا ... واهتمامي بالعلم يكمن ببساطة في اكتشاف المزيد عن هذا العالم، وكلما اكتشفت المزيد، كان العالم أفضل.
ريتشارد فاينمان
توفي ريتشارد فاينمان قبل وقت قصير من منتصف ليل الخامس عشر من فبراير عام 1988، وهو في سن التاسعة والستين. خلال عمره القصير تمكن فاينمان من تغيير العالم - أو على أقل تقدير أسلوب فهمنا له - وكذلك تغيير حياة جميع من التقى بهم. تأثر به كل من حظي بشرف التعرف عليه. كانت به خاصية فريدة جعلت من المستحيل النظر إليه مثلما ينظر المرء إلى غيره من الناس. ولو كان صحيحا أن شخصية المرء هي قدره، فيبدو إذن أن قدر فاينمان أنه ولد ليكتشف أشياء عظيمة، وإن كانت اكتشافاته نتاج عمل شاق لا يصدقه عقل، وطاقة بلا حدود، ونزاهة صارمة اجتمعت مع عقل عبقري.
ربما يكون صحيحا أيضا أنه على الرغم من كل ما حققه من إنجازات، كان في استطاعته مع ذلك أن ينجز ما هو أكثر بكثير لو أنه كان أكثر استعدادا للإنصات والتعلم ممن حوله، ولو أنه كان أقل إصرارا أن يكتشف كل شيء بنفسه. غير أن الإنجاز في حد ذاته لم يكن هدفه ومبتغاه! لقد كان هدفه هو معرفة العالم. لقد كان يجد متعته في اكتشاف شيء ما، لنفسه هو، حتى لو كان جميع الناس سواه في هذا العالم يعرفون هذا الشيء بالفعل. ومرة تلو أخرى، عندما كان يكتشف أن شخصا آخر سبقه في التوصل لاكتشاف ما، كان رد فعله أبعد ما يكون عن الإحباط أو اليأس وإنما كان يقول بلسان الحال: «حسنا، أليس من الرائع أننا عرفنا الصواب؟»
لعلنا نستطيع أن نعرف أكبر قدر من المعلومات عن شخص ما من خلال ردود أفعال أولئك الذين أحاطوا به، ولكي نكمل صورة ريتشارد فاينمان، قررت أن أضيف بعض ردود الأفعال التي لم أوردها في الصفحات السابقة من هذا الكتاب، لكنها مع ذلك قد تنير لنا بصورة أوضح وأكثر اكتمالا تلك التجربة الرائعة المتمثلة في معرفة شخصية الرجل، بالإضافة إلى قصة أو اثنتين أظن أنهما تلقيان الضوء على جوهر شخصيته.
أولا: لنتأمل تجربة طالب شاب هو ريتشارد شيرمان، الذي حالفه الحظ أن أمضى ظهيرة أحد الأيام في مكتب فاينمان:
أذكر واقعة أراها مبهرة بحق. في منتصف العام الدراسي الأول، كنت أجري بحثا عن الموصلية الفائقة، وذات مساء توجهت إليه في مكتبه لمناقشة ما توصلت إليه من نتائج ... بدأت أكتب المعادلات على السبورة، فبدأ هو يحللها بسرعة كبيرة. ثم قطع حديثنا رنين الهاتف ... وتحول فاينمان على الفور من موضوع الموصلية الفائقة إلى مشكلة ما في فيزياء الجسيمات عالية الطاقة في خضم عملية حسابية بالغة التعقيد كان شخص آخر يجريها ... تحدث مع هذا الشخص ربما لخمس أو عشر دقائق. وبعد أن انتهى من مكالمته، وضع السماعة واستمر يناقشني في حساباتي التي أجريتها، عند نفس النقطة بالضبط التي توقفنا عندها ... ثم رن جرس الهاتف من جديد. وكان محدثه هذه المرة شخصا يعمل في مجال فيزياء الحالة الصلبة النظرية، وهو موضوع ليست له علاقة البتة بأي شيء كنا نتحدث فيه. لكنه مع ذلك كان جاهزا ليقول: «كلا، كلا، ليست هذه هي الطريقة الصحيحة للقيام بذلك ... عليك أن تجريها على النحو التالي ...» ... واستمر الحال كذلك مدة تقارب ثلاث ساعات؛ نوعيات مختلفة من المكالمات الهاتفية ذات الطبيعة الفنية، وفي كل مرة يكون موضوع المكالمة ميدانا مختلفا تماما، وتتضمن نوعيات مختلفة من الحسابات ... لقد كان الأمر مذهلا تماما. ولم أشاهد شيئا كهذا بعد ذلك أبدا.
أو تجربة لا تختلف كثيرا عن السابقة عاشها داني هيليس، بعد أن بدأ فاينمان في وظيفته الصيفية في شركة «الآلات المفكرة»:
كثيرا ما كان فاينمان عندما يطلب أحدنا نصحه يرفض بفظاظة قائلا: «هذا ليس القسم الذي أعمل به.» ولم أستطع مطلقا أن أتبين بالتحديد ما الذي يعنيه بالقسم الذي يعمل به، غير أن هذا لا يهم على أي حال؛ لأنه أمضى معظم أوقاته يبحث عن حلول للمشكلات التي تواجه «قسما غير قسمه» ... وكثيرا ما كان يعود بعد أيام قلائل من رفضه ويعلق قائلا: «ظللت أفكر فيما سألتني فيه ذلك اليوم وبدا لي أن ...» ... غير أن ما كان فاينمان يمقته، أو على الأقل يتظاهر بأنه يمقته، أن يطلب منه تقديم النصح. فلماذا إذن كان الناس دوما يطلبون منه النصح؟ لأنه حتى عندما كان يعجز عن فهم شيء ما، كان دائما يبدو كما لو كان أفضل فهما من الآخرين. وأيا كان ما فهمه ، كان قادرا على جعل الآخرين يفهمونه كذلك. كان فاينمان يجعل الناس يشعرون بشعور الأطفال عندما يعاملهم الكبار لأول مرة باعتبارهم كبارا راشدين. ولم يكن يخشى في الحق لومة لائم.
لم يكن حل المشكلات مجرد خيار من وجهة نظر فاينمان، وإنما كان ضرورة، وقد أدرك ذلك مبكرا صديقه ورفيق دراسته بالكلية تيد ويلتون. لم يكن باستطاعة فاينمان التوقف عن ذلك حتى لو أراد، لكنه لم يشأ ذلك مطلقا لأنه كان بارعا بحق في حل المشكلات. حتى المرض المهلك لم يتمكن من إيقافه. وهذه رواية على لسان زميله في كالتك ديفيد جودشتاين حكاها للمنتج السنيمائي كريستوفر سايكس:
ذات يوم اتصلت بي سكرتيرة فاينمان، هيلين تاك، لتخبرني في هدوء أن «ديك» مصاب بالسرطان وأنه سوف يدخل المستشفى لإجراء عملية يوم الجمعة القادم ... وفي يوم الجمعة ذلك، أي قبل إجراء العملية بأسبوع واحد ... أخبرته أن شخصا ما اكتشف خطأ واضحا في عملية حسابية كنا أجريناها من قبل ... ولم أكن أعرف ما الخطأ. وسألته إن كان لديه استعداد لقضاء بعض الوقت معي في البحث عنه، فأجابني قائلا: «بالتأكيد.» والتقينا صباح يوم الاثنين في مكتبي فجلس وبدأ العمل ... كنت معظم الوقت مكتفيا بالجلوس أنظر إليه، وأحدث نفسي قائلا: «انظر هذا الرجل. إنه مقبل على هاوية لا قرار لها، ولا يعلم إن كان سيعيش حتى نهاية الأسبوع أم لا، وها هو يعمل على حل تلك المشكلة التي لا قيمة حقيقية لها في نظرية المرونة ذات البعدين.» لكنه كان مستغرقا في المشكلة، وظل عاكفا على بحثها طيلة اليوم ... وأخيرا وفي الساعة السادسة مساء، قرر أن المشكلة مستعصية على الحل ... لذا استسلمنا وذهب كل منا إلى منزله ... وبعدها بساعتين، اتصل بي هاتفيا في منزلي ليقول لي إنه تمكن من حل المشكلة. لم يتمكن من الكف عن بحث حل المسألة، وأخيرا اكتشف حل تلك المشكلة شديدة الغموض ... وكان جذلا وكأنه يحلق في الفضاء ... كان ذلك قبل موعد إجراء العملية الجراحية بأربعة أيام. وأعتقد أن هذه القصة تحكي القليل عما كان يحفزه على تحقيق كل ما أنجزه.
كانت عملية حل المشكلات نفسها هي ما يهواه فاينمان. لقد كانت تمثل له التحرر من ملل الحياة. كان ستيفن وولفرام، مبتكر برنامج «ماثيماتيكا»، تلميذ فاينمان طوال سنوات عديدة أثناء دراسته في كالتك، وقد وصف شيئا مشابها بقوله:
كان ذلك عام 1982 على الأرجح. كنت في زيارة لفاينمان في منزله، وتطور حديثنا إلى موقف مزعج كان قائما. كنت على وشك مغادرة المنزل، واستوقفني قائلا: «أتعلم، أنا وأنت محظوظان للغاية؛ فمهما كان ما يحدث، فالفيزياء دائما تجمعنا.» ... كان فاينمان يعشق الفيزياء. وأعتقد أن أكثر ما أحبه فيها هو العمليات الفيزيائية، والعمليات الحسابية، ومعرفة الحقائق ... لم يكن يهتم كثيرا بأن تكون النتائج التي يتوصل إليها عظيمة أو مهمة. أو غريبة أو شاذة. كان ما يعنيه حقا هو عملية التوصل إليها ... فبعض العلماء (ولعلي من بينهم) يدفعهم طموح بناء صروح فكرية عظيمة. وأعتقد أن أكثر ما كان يحفز فاينمان - على الأقل خلال سنوات معرفتي به - هو ذلك السرور المحض المستمد من ممارسة العلم فعليا. لقد بدا كمن يفضل قضاء وقته في التعرف على الأشياء، وإجراء الحسابات. وكان فذا في إجراء الحسابات. بل لعله كان أفضل حاسب بشري على الإطلاق. دائما ما كنت أعتبر ذلك شيئا لا يصدق. كان يبدأ في حل مسألة ما، فتجده يملأ صفحات تلو صفحات بالعمليات الحسابية. وفي نهايتها، يصل بالفعل للحل الصحيح! لكنه عادة كان لا يقنع بهذا. فبمجرد توصله إلى الحل، يعود من جديد ويحاول معرفة سبب كونه صحيحا.
عندما كان فاينمان يهتم بأمر ما، أو بشخص ما، تكون المسألة بهذا قد انتهت. كان تأثيره مغناطيسيا؛ إذ كان يركز كل طاقته، وكل تركيزه، وكل عبقريته فيما يبدو على ذلك الشيء أو الشخص. ولهذا السبب تأثر كثيرون عندما جاء فاينمان للاستماع لندواتهم العلمية وبقي بعد انتهائها كي يطرح بعض الأسئلة.
ولأن ردود فعل زملاء فاينمان تجاهه كانت بصفة عامة بالغة القوة، فقد كانت تعكس دائما شخصية فاينمان وكذلك شخصية زملائه. فعلى سبيل المثال، سألت ديفيد جروس وفرانك ويلكزيك، وهما شخصان مختلفان تماما اكتشفا «الحرية المتقاربة» في الديناميكا اللونية الكمية، عن طريقة تعامل فاينمان مع الديناميكا اللونية الكمية والنتائج التي توصلا إليها عام 1973. فأخبرني ديفيد أنه شعر بالضيق لأن فاينمان لم يبد اهتماما كافيا، ويعود ذلك بقدر كبير - حسبما شعر ديفيد - إلى أن فاينمان لم يكن هو من توصل للنتيجة بنفسه. وبعدها، عندما تحدثت مع فرانك في نفس الموضوع، أخبرني عن مدى شعوره بالفخر والدهشة معا للاهتمام الذي أبداه فاينمان. وقال إن فاينمان كان متشككا في الأمر، لكن في تلك السنوات المبكرة، ظن فرانك أن هذا كان هو رد الفعل المناسب. وأظن أن كليهما كان على صواب.
أما القصة الأكثر تأثيرا وتعبيرا عن شخصية ريتشارد فاينمان الذي عرفته من خلال تأليفي لهذا الكتاب، والمبادئ التي كانت توجه مسار حياته وتوجه طبيعة الفيزياء التي مارسها، فقد رواها لي صديق هو باري باريش، الذي كان من زملاء ريتشارد في كالتك خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته. كان باري وريتشارد يسكن أحدهما بالقرب من الآخر نسبيا، لذا كانا كثيرا ما يرى أحدهما الآخر. ولما كانا يسكنان على بعد يقرب من ثلاثة أميال من الحرم الجامعي، فقد كانا يذهبان إليه سيرا على الأقدام أحيانا بدلا من استخدام السيارة، وفي بعض الأحيان كانا يسيران معا، وفي أحيان أخرى يذهب كل منهما بمفرده. وذات مرة سأل ريتشارد باري هل رأى منزلا معينا في شارع محدد وما رأيه فيه. ولم يتعرف باري على المنزل لأنه - مثل معظم الناس - عثر على طريق يفضل السير فيه وكان يسلك ذلك الطريق في الذهاب إلى العمل والإياب منه كل يوم. وحينها علم باري أن ريتشارد كان حريصا على أن يفعل العكس تماما. لقد كان يحاول ألا يسلك المسار نفسه مرتين أبدا.
شكر وتقدير ومراجع
كما أشرت في المقدمة، كان أحد أسباب موافقتي على تأليف هذا الكتاب، بعد أن طرح علي الفكرة جيمس أطلس، هو أنه أتاح لي الفرصة والحافز كي أعود إلى الماضي وأقرأ - بمستويات متباينة من التفصيل - جميع الأبحاث العلمية التي كتبها فاينمان. كنت أعلم - باعتباري فيزيائيا - أن تلك التجربة ستكون ملهمة لي وستتيح لي فهما أفضل للمسار الفعلي لتاريخ الفيزياء، بدلا من الاعتماد على النسخة المنقحة التي تظهر حتما أثناء تنقيح الفيزيائيين وتبسيطهم للأساليب والتقنيات التي كانت مبهمة في وقت من الأوقات.
غير أنني لا أزعم مطلقا أنني أنجزت أي نوع من الدراسات التاريخية الأصيلة. فعلى الرغم من أنني تتبعت بعض الاستقصاءات التاريخية التي جرت في الماضي - وهو ما تطلب مني التوجه إلى سجلات المحفوظات والبحث والتنقيب في الخطابات وغيرها من الوثائق الأصلية - ففي حالة ريتشارد فاينمان، كانت الغالبية العظمى من المادة الأساسية التي كنت بحاجة إليها مجموعة ومبوبة بصورة لطيفة ومتوافرة لدي في صورة مطبوعة. وعندما يضاف إلى ذلك كتابان غير عاديين، أحدهما يركز في المقام الأول على حياة فاينمان والآخر على تاريخ فيزيائي مفصل لبحثه في الديناميكا الكهربائية الكمية، فإن القارئ المهتم بسيرته والمدرب فنيا يمكنه أن يصل مباشرة إلى معظم المادة التي استعنت بها كأساس لهذا الكتاب.
وبعيدا عن تلك المصادر فإنني أشعر بعظيم الامتنان لكثيرين من زملائي الفيزيائيين للمناقشات التي أجريتها معهم حول انطباعاتهم وتجاربهم الشخصية التي جمعتهم بفاينمان. ومن بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: شيلدون جلاشو، وستيفن واينبرج، وموراي جيلمان، وديفيد جروس، وفرانك ويلكزيك، وباري باريش، ومارتي بلوك، وداني هيليس، وجيمس بيوركن. وإضافة إلى هؤلاء، أود التعبير عن شكري لهارش ماثر لمعاونته، التي كثيرا ما قدمها لي، إذ كان مرشدا أساسيا لي نحو أدبيات المادة الكثيفة، وفي حالتنا هذه تحديدا، نحو البحث الذي أجراه فاينمان في ذلك الميدان.
تشتمل المصادر الرئيسية للمعلومات التي يمكن للقراء المهتمين الرجوع إليها - وهي بالمصادفة تزودهم بكل مقولة قالها فاينمان ووردت في كتابي هذا - على المواد الرئيسية المنشورة عن فاينمان أو التي كتبها فاينمان ذاته. ومن تلك المراجع، كما أوضحت، عرض تقديمي تقني شامل ليس فقط لعمل فاينمان في مجال الديناميكا الكهربائية الكمية وإنما أيضا نسخ من جميع أبحاثه الرئيسية، بالإضافة إلى سيرة ذاتية رائعة وواضحة لحياته. وعلاوة على ذلك، هناك العديد من المراجع الممتازة التي تلقي الضوء على حياته، ومن بينها مجموعة حديثة مبوبة من خطابات فاينمان مع طائفة من التأملات عن فاينمان كتبها أولئك الذين عرفوه، سواء من العلماء أو من غيرهم:
QED and the Men Who Made It,
Sylvan S. Schweber, Princeton University Press, 1994.
Selected Papers of Richard Feynman,
Laurie Brown (ed.), World Scientific, 2000.
Genius: The Life and Science of Richard Feynman,
James Gleick, Pantheon, 1992.
The Letters of Richard Feynman,
M. Feynman (ed.), Basic Books, 2005.
Most of the Good Stuff: Memories of Richard Feynman,
Laurie Brown and John Rigden (eds.), Springer Press, 1993 (proceedings of an all-day workshop in 1988 in which key scientists wrote their reflections of Feynman).
No Ordinary Genius: The Illustrated Richard Feynman,
Christopher Sykes (ed.), W. W. Norton, 1994.
The Beat of a Different Drum: The Life and Science of Richard Feynman,
Jagdish Mehra, Oxford University Press, 1994.
هناك ثلاثة مصادر أخرى مفيدة تتضمن دراسات تاريخية في الفيزياء وعن فيزيائيين آخرين، وهي:
the 1950s,
Laurie M. Brown, Max Dresden, Lillian Hoddeson (eds.), Cambridge University Press, 1989.
Strange Beauty: Murray Gell-Mann and the Revolution in the Twentieth Century Physics,
G. Johnson, Vintage, 1999.
Drawing Theories Apart: The Dispersion of Feynman Diagrams in Postwar Physics,
David Kaiser, University of Chicago Press, 2005.
وأخيرا، هناك كتب علمية مفيدة كتبها فاينمان نفسه، منها:
QED: The Strange Theory of Light and Matter,
The Character of Physical Law,
MIT Press, 1965.
The Feynman Lectures on Computation,
A. J. G. Hey and R. W. Allen (eds.),
The Feynman Lectures on Gravitation,
with F. B. Morinigo, and W. G. Wagner; B. Hatfield (ed.), Addison-Wesley, 1995.
Statistical Mechanics: A Set of Lectures,
Addison-Wesley, 1981.
Theory of Fundamental
Addison-Wesley, 1961.
Quantum Electrodynamics,
Addison-Wesley, 1962.
Quantum Mechanics and Path Integrals,
with A. Hibbs, McGraw-Hill, 1965.
The Feynman Lectures on
with R. B. Leighton and M. Sands, Addison-Wesley, 2005.
Nobel Lectures in Physics,
1963-72, Elsevier, 1973.
Elementary Particles and the Laws of
with S. Weinberg, Cambridge University Press, 1987.
The Meaning of It All: Thoughts of a Citizen Scientist,
Helix Books, 1998.
Feynman’s Thesis: A New Approach to Quantum Theory,
Laurie Brown (ed.), World Scientific, 2005.
Page inconnue