أولم تقل في رؤساء أورشليم إنهم عصاة وشركاء اللصوص وإنهم يحبون الرشوة ويتبعون الأجور وإن الرب سيقطعهم من إسرائيل؟ فأحنى النبي رأسه ثانية، فقلت: وها قد مضى على ذلك يا صاحب النبوة ألوف من السنين والعالم لم يزل كما كان يوم صببت عليه شآبيب غضبك، فأجاب أشعيا قائلا: إن ألوف السنين التي مرت على نبوءاتي هي كالدقائق في عين الله، والأجيال بالنسبة إلى الأبدية هي كالساعات بالنسبة إلى الأجيال، فلا يريبك كلامي، ردد نبوءتي ولا تخف، بشر بالمدينة العظمى في بلادي وبلادك ولا تيأس. قال هذا وهم بالانصراف، فاستأذنته بسؤال آخر فقلت: وكيف كان يكلمك الله يا صاحب النبوة ويطلعك على غيب الأمور؟ فقال النبي: مثلما أنا أكلمك الآن، وقبل أن فتحت الباب استحال شعلة نار، وتوارى عن الأبصار.
لا تظنوني مازحا أيها السادة، فإن للأنبياء المقام الرفيع في العالم الروحي، لم تزل لهم تلك السطوة الصالحة على الأنفس السامية، وإنك إذا حككت نفس أكبر نابغة في العالم تجد في لبها شيئا من روح النبوة. المدينة العظمى إذا هي التي تتم فيها نبوة أشعيا، هي التي يسير الذئب والحمل والنمر والجدي فيها معا، هي التي يرتاح فيها الناس من شرور أصحاب السيادة الدينية، هي التي تنقطع فيها سليلة أولئك المفترين على الله وأنبيائه، الجالسين على عروش القداسة الكاذبة، القابضين على صولجان الخرافة، المتوجين بتيجان الجهل والتعصب والطغيان.
إن مصيبة الشرق في رجال الدين والكهان لا في الأنبياء والأديان، المدينة العظمى هي التي يسود فيها العلم والحرية والإخلاء والوفاء هي التي تنتصر فيها القوى الروحية على القوى المالية والقوى العقلية على القوى المادية، هي التي تطبع فيها آلات الحرب معاول ومحارث ومناجل، هي التي تشيد فيها الصروح والمعاهد لأرباب الموسيقى والشعر والتصوير ولربات الفنون والجمال، هي التي يكثر فيها أمثال علي بن أبي طالب وأشعيا بن آموص، وذاك الأمير العربي الذي ساد قومه؛ لأنهم احتاجوا إلى علمه واستغنى عن دنياهم. أي سادتي! إن المدينة التي ينبغ فيها أعظم الرجال وأعظم النساء لهي أعظم مدن العالم، وإن كان سكانها لا يتجاوزون عدد سكان الفريكة. (6) قيمة الحياة
13
أيها السادة والسيدات
عندما وصلتني دعوة جمعيتكم لأخطب في حفلتها السنوية هذه؛ كنت مهتما بإنجاز تأليف جئت في بعض فصوله على ذكر أجدادنا الفينيقيين ، فسرني أن أرى شيئا من علو همتهم ونشاطهم في أبنائهم الصيدونيين. سرني أن أرى مصابيح العلم والعرفان تضيء على هذه الشطوط القديمة التي نشأت في ربوعها اللغة وكبرت فيها همة الفينيفي التجارية والعقلية فجاء بما يدهش الإفرنج حتى اليوم من آيات الفكر الباهرات ومن غرائب الاكتشافات والاختراعات، وسرني أن أرى روح أولئك الأجداد الكرام تنبعث اليوم فينا فتنهض بنا إلى العلياء، وعجبت بصدف ترينا في صدف الحوادث لؤلؤ الأماني، فلبيت الدعوة على ما كنت فيه من شغل شاغل وتأهب للسفر مزعج؛ حبا بزيارة مدينتكم وبمساعدة هذه الجمعية الوطنية في مشروعها - إذا كان في حضوري ما ينفع وفي كلماتي ما يفيد، على أني في قراءتي كتاب الجمعية وقفت عند عبارة مدهشة.
والظاهر أن كاتبه الكريم طويل الباع في طرق الإطراء وأساليبه، فبعد أن غلاني بالغلو وأغرقني بالإغراق، رغب إلي أن أتحفكم بخطبة «لم تفتق رتق سمع، ولا خطب مثلها في جمع» - السجعة له لا لي - فقلت في نفسي: وماذا يبتغي الصيدونيون مني وما أنا بصاحب معجزات أو كرامات، إن خطبة مثل هذه - أيها السادة - في زمن كثرت فيه المنابر والمطابع لا يستطيع أن يأتي بها بشر مثلي، لا جديد تحت الشمس ولا فوقها، فالمذنبات التي لا نراها نحن إلا مرة في حياتنا مثلا مرت - لا شك - في فلك الأرض بمرأى من أسلافنا مرات عديدة في ما مضى من الزمان، لا جديد فوق الشمس وصوت الحقيقة الذي أحب أن أسمعكم إياه هذه الليلة طالما ردده قبلي العلماء والأنبياء، لا جديد تحت الشمس على أنني أستطيع أن أحدثكم بلغة لم تسمعوها بعد إذا كانت بغيتكم تنحصر في مجرد رؤيتي واستماعي خطيبا، يمكنني أن أحدثكم في عضارطة
14
السياسة ودهاقينها،
15
Page inconnue