وجدير بنا بعد هذا التشبيب الذي لا بد منه للخطيب البحث في ماهية الحرية وأصولها باختصار يوجبه الوقت والمقام، فالحرية اليوم كلمة تملأ أفواه القوم، الحرية جمال يزدهي في أعمدة الصحافة وأندية الأمة، الحرية مجد أنسى التجار أشغالهم، والأتقياء فروضهم وأنفالهم، الحرية آلهة هجرت الأمة معابدها لتعبدها.
كل ذلك جائز كل ذلك حسن إن لم يكن مفيدا، ولكنني في كل ما قرأته في الجرائد لمن كتبوا وخطبوا ما اطلعت على كلام في الموضوع حري بالنظر والاعتبار، وقد يكون فاتني في عزلتي كثير مما كتب وفات الشعب في ابتهاجه وهوسه أكثر من ذلك؛ لأن المعقولات في مثل هذه الأيام قلما تستلفت أنظار الناس والبحث الفلسفي في الموضوع لا يروق الشعب ولا يلائم الزينة في المدينة. على أنني دعيت إلى الخطابة في هذه الحفلة الشائقة فينبغي لي أن أقول الكلمة التي يوجبها العلم ويقتضيها الضمير ويؤيدها الاختبار، ولكم أن تنبذوها بعد أن تسمعوها أو تزرعوها فتستثمروها.
كل انقلاب في الحكومات لا يسبقه انقلاب في الأفكار والآراء لا يرجى منه كبير فائدة، فالحرية السياسية جميلة وأما وحدها فمنافعها قليلة، ومن الواجب أن يتحرر عقل الأمة وضميرها ليتعزز شأنها وشأن حكومتها. واعلموا أن ثورة روحية في بلاد الإفرنج هي أصل هذه الحرية السياسية التي نتمتع بها اليوم فرحين مبتهجين، يقال إن للجند يدا في هذه النهضة الإصلاحية ولا ريب عندي في ذلك، ولكن الجند في الحكومات الاستبدادية إذا امتهنت حقوقه وحبس زمنا معاشه يقيم السيف في أمره حجة قاطعة.
وكثيرا ما حدث من مثل هذا الحادث في الحكومات الاستبدادية في سالف الزمان، وأما الآن فنرى أن الجند العثماني ينصر النهضة الفكرية الإصلاحية ويثق تمام الثقة بمواعيد زعمائها، والفضل في تغلب الفكر على القوة والعقل على السيف حتى في الجند عائد إلى شيء جميل في مدنيتنا ينتشر في العالم انتشارا سريعا، وهذا الشيء الجميل يتجسد أحيانا في دعاة الإصلاح الصادقين وغالبا في الفلاسفة والشعراء الحقيقيين. فالشورى على وجهها البسيط قديمة في العالم، وطريقها من المشرق إلى المغرب يكاد يختفي في ظلمة التاريخ، وأما من المغرب إلى المشرق فمسلكها واضح وآثارها جلية، فمن المصلحين العثمانيين إلى المصلحين الروسيين مرحلة قصيرة، وتكاد أسباب مجلس المبعوثين تتصل بأسباب مجلس الدوما وفي الدوما تتجلى لنا أرواح باكونين وتورغانيف وتولتسوي وغوركي، وهؤلاء منبثقون من فولتير وروسو وديدارو وهوغو، وروسو وفولتير وهوغو مديونون لكالفين وجون نكس ولوثيروس بكثير من الحرية التي تنبعث أشعها من أقوالهم.
فالثورة الروسية إذا هي ابنة الثورة الإفرنسية وكلكم - على ما أظن - تعلمون ذلك، والثورة الإفرنسية - وهذا ما لا أظنكم تعلمون - هي إحدى نتائج الثورة الروحية التي أطلقت ضمير الإنسان من قيود الخرافة السوداء، وعقله من قيود السلطة الصماء، وقلبه من قيود الطاعة العمياء، فتدبروا هذا، واعلموا أن الحرية الروحية هي رسول الحرية السياسية، وإذا جاءت هذه قبل تلك يعد مجيئها نقصا لا بد أن تحاسبنا عليه الأيام.
8 •••
ورب قائل يقول: وما معنى الحرية الروحية؟ فقبل أن أجيب على هذا السؤال أوجه إليكم سؤالا آخر: أتظنون أن كل من عاش في ظل الدستور صار حرا، أتظنون أن كل من تمتع بحقوقه المدنية أصبح حرا، أتحسبون الفقراء والعمال في الجمهوريات من الأحرار، أتقوم الحرية بهذا الوهم الذي يدعونه في الحكومات الدستورية حق الاقتراع، أتعجبون إذا قلت لكم: إن نصف سكان الولايات المتحدة لا يزالون مكبلين بسلاسل العبودية، فما الفائدة للخادم من الحرية التي تتوقف على إرادة سيده الخبيثة الجائرة، ما الفائدة من الحرية السياسية التي يكفلها له القانون إذا كان القانون في قبضة الأغنياء، أفمثل هذا يعد حرا وهو لا يستطيع أن يبدي رأيا مخالفا رأي سيده، أيعد حرا من لا يملك نفسه من لا رأي ولا روح له، أيحسب حرا من كان وجدانه مقيدا بوجدان من يتوقف عليه معاشه، فالتسكسك في الولايات المتحدة أي: بذل ماء الوجه أمام أرباب المال. هو مشتق من التسكسك في الشرق، أي: تعفير الوجه أمام أرباب السلطة والسيادة، والمتسكسك - يا سادتي - وإن ملأ ماضغيه فخرا بالحرية والاستقلال والمساواة فما هو إلا عبد تكللة، لا رأي ولا نفس له.
الحرية الروحية إذا هي أن يكون الفرد مالكا نفسه، أي: مطلقا من القيود التي تضغط على روحه وعقله إن كانت هذه القيود عائلية أو اجتماعية أو دينية أو سياسية ، الحرية الروحية هي أن تكون روح كل امرئ بيده وتصرفه، لا محجوزة ولا موقوفة، ولا مبيعة ولا مرهونة.
وطالب هذه الحرية يتدرج فيها من بيته إلى دائرة أشغاله ومنهما إلى معبده وحكومته. فينعتق أولا من الواجب الكاذب الذي يفسد الحب في الأسرة، ومن المصادقة التي تدعى لطفا وصداقة، ومن الخرافات التي تشوه وجه الدين، ومن التقاليد التي تفسد الحكومة. فواضح إذا أن الحرية السياسية هي فرع من الحرية الجوهرية الأصلية الروحية أو هي نتيجة من نتائجها، وهذه الحرية يحدها ويقيدها الناموس من جهة والتهذيب من الجهة الأخرى، فبدون الناموس يستبد الحاكم ويوغل في الطغيان، وبدون التهذيب يستبد الشعب ويمعن في العصيان، بدون الناموس يسود الظلم في الحكومة، وبدون التهذيب تسود الفوضى في الأمة.
فالناموس القويم الحي والتهذيب القويم الحي إنما هما حصنا الحرية المنيعان. وأما الناموس فتمثله الحكومة في الدستور ويمثله الدين في الإيمان، وتمثله الإنسانية في الضمير، فالضمير الحي والإيمان الحي والدستور الحي إنما هي الدعائم الثلاث التي تقوم عليها الحرية الحقيقية المعنوية الجوهرية. الحرية الثالوثية التي هي واحدة أي: الحرية الروحية والحرية الأدبية والحرية الدينية.
Page inconnue