نمت البارحة كالعادة بعد أن قرأت صفحة من تأملات مرقس أوريليوس، نمت راضيا مرضيا ناسيا منسيا تاركا ورائي كل ما لا يستحق أن يدخل معي هذا العالم الجميل الكائن بين عالمي الموت والحياة، ولكن لم أكد أغمض جفني حتى وجدت نفسي عريانا في أرض صلقع بلقع يرتعد حتى الجن من وحشتها المظلمة. أرض جرداء مرداء لا وديقة تعرف ولا صحراء، لا غابا رمده النار ولا مدينة دمرتها العواصف، وجدت نفسي في بقعة ماحلة ولكنها غامرة، في بقعة مجدبة ولكنها مثمرة، كيف لا والزارع فيها الموت والحاصد هو الله، فيها تزرع الجثث الفانية ومنها تحصد الأنفس الخالدة.
وجدتني في عالم الأموات عند منتصف الليل والبرد قارس والسماء مكفهرة والديار مهجورة فحجبت عني النجوم نورها وأمسكت عني الأرض حرارتها وكان قد ألبسها الغمام في المساء الماضي ثوبا من الثلج فمرت عليه الرياح وحولته جليدا وصقيعا، فصارت تزل الأرض تحت قدمي كلما أعصفت حولي الأهوية.
رياح وجليد، ظلمة وقبور، وأنا فيها وعليها أسير عريانا، أبحث عن صديق يسكن تلك الديار. فسرت من بيت إلى آخر أطرق الأبواب برجلي المتجمدة ولكن السكان نيام، لا أحد يسأل: من ولا أحد يقول: ادخل، فظللت سائرا وأنا أزلق تارة وأعثر أخرى والرياح لا تشفق والجليد لا يرثي والظلمة لا ترحم.
وكنت أحس أحيانا بشوك تحت قدمي فإذ هي الحصى جمد عليها الثلج فأصبحت رءوسها كسنان الرماح، سرت هائما في الظلمة على أشواك من الجليد ورجلاي تتركان وراءي أثرا من الدم وبدني يرتجف كالقصبة تحت الرياح. نظرت إلى السماء ولكن الكواكب لم ترني، فهي راقدة كالأجساد تحت قدمي، هي ملتحفة بملاءة كثيفة من الغيوم فكأنها دهشت لهذا المشهد وأوجست خيفة من تصوراتها فرفعت الغطاء إلى ما فوق رأسها. وأما أنا المسكين العريان فإذا أغمضت طرفي يجلد جفني عليه، وإذا وقفت لأرتاح تلتصق بالأرض رجلي، علي أن أسير إذا حيث تقذفني الرياح، فهل تحملني إلى ضريح صديقي، لا أعرف، الليل لا يتكلم والجليد لا يعزي، والبرد لا يبتسم والقبور لا تهدي، ولكن ما هذا؟ من أين النور الذي يشق الظلام؟ نعم هو كوكب لا يخاف هول القبور قد جاء ليأخذ بيدي، ويهديني إلى بيت صديقي، وما كدت أسير وإياه بضع دقائق حتى مر أمامي رجل مرتديا رداء أسود ثقيلا فخاطبته بصوت خافت قائلا: من أنت؟ فنظر إلي ورآني عريانا أرتجف من القر والهواء، وظل سائرا في طريقه ولم يتكلم.
ثم رأيت رجلا منضيا ثيابه مثلي يتأثره راكضا، ولكنه وقف لما رآني ثم تقدم إلي وسألني قائلا: من أنت؟ قلت: غريب في دار الغربة. وأنت؟ فقال: أنا أحد سكان هذا العالم، أنا لص القبور، فقلت: وهل تعرف الرجل الذي مر من هنا؟ فقال: نعم هو شريك لي، هو أحد أولئك الذين يجهزون المرضى ويجنزون الأموات، يجيئني في الليل ليقاسمني الغنيمة بعد أن يهديني إلى أثمن القبور وأغناها، وما لي أراك ترتجف؟ فقلت: ألا تشعر بالبرد فقال: قد ألفه جسمي، ولكنني - والله - أخاف عليك منه. قال اللص هذا وركض يطلب شريكه المرتدي بالرداء الأسود.
أما أنا فكاد الدم يجمد في عروقي ووقعت على الجليد مرتعشا من صبارة القر وشدة الخوف، وبعد هنيهة شعرت بيد تعالجني فرفعت رأسي وإذا اللص بجانبي والرداء الأسود بيده فقدمه لي قائلا: قم والبس هذا فيقيك من البرد، فأخذت الرداء مستبشرا ولكن ما كاد يقع نظري عليه حتى عرفت أنه جبة شريكه فأعدته إليه قائلا: «أشكر معروفك، ولكنني أفضل أموت بقربك عريانا.»
فلتر
كل أديب سوري يحب فلتر، إن لم يكن علنا فسرا وإن لم يكن من قبيل المبدأ فمن قبيل التصلف. وكل شاب يخرج من عالم الخرافة المظلم إلى بلاد الحرية العامرة يذهب توا إلى فلتر ليقدم له الجزية، فالكاتب الإفرنسي الشهير هو في مملكة الآداب الحرة كالبابا في مملكة الكنيسة.
ولكن بعد أن يعيش المبتدئ تحت سلطة سلطان الحرية الدينية بضع سنين ويقترب منه وينقاد لأحكامه ويسهر وإياه ويسمعه يتكلم في نومه يرى شيئا من نقصه وتنجلى له طرق مكائده وأساليب مصانعته فيشعر إذ ذاك بقليل من الاستبداد الذي يجعله الكاتب مقبولا بما لأسلوبه من اللطف والرقة والرشاقة، وإذا لم يكن للشاب رأس مال عقلي خصوصي تفتر فيه الحماسة وتضعف الهمة ويبرد الإيمان ويذوب الإخلاص وتجتمع في صدره روح الإلحاد مع روح التساهل فيتعانقان ويضحكان من النفس التي رحبت بهما.
الإلحاد مضر بالصحة، فهو - لا شك - ينفخ الصدر ولكنه يضعف القلب ويصغر الرئتين، أقول هذا عن اختبار ولا أقول أكثر من ذلك، ليعمل القارئ فكره إذا، الإلحاد مضر بالصحة ومهما قلتم لا أوضح. اختبروا لأنفسكم إن شئتم ولكن إياكم والتطوح وإذا كنتم لا تعرفون الحدود فالأجدر بكم أن لا تجربوا؛ لئلا تتملك فيكم جراثيم المرض.
Page inconnue