أما الفئة الثانية فهي مؤلفة من الفلاسفة الروحيين الذين ساووا بين تقوى الله وحب الإنسان، بين القنوت والإحسان بين العلم والإيمان، ومع ذلك فقد خرجوا عن المسيحية بحسب عرف الكنيسة؛ لأن رؤساءها لا يرضون عمن كان جريئا في الحق حريصا على الحقيقة ولا يرتاحون لما يخالف اعتقاداتهم المنتحلة من الأقوال والأحكام، فلهؤلاء يقول:
يعيرونكم بالكفر والإلحاد ويضطهدونكم ظلما وعدوانا فأنا أقول لكم هكذا جرى لي يوم قمت على الكتبة والفريسيين وأحييت روح الحق والمحبة بين الناس هم يبشرونكم بعذاب أليم وأنا أبشركم بمقام سام كريم فأنتم الأصفياء وإن أنذروكم بالهلاك، أنتم فسرتم آيات كتابي تفسيرا حقيقيا، أنتم نددتم برؤساء ديانتي لما رأيتموهم يضطهدون ويقتلون بعضهم بعضا ، أنتم خرجتم عن دائرة الكنيسة لما رأيتموها أصغر من دائرة أقوالي، أنتم خدمتم الإنسانية التي جئت لأخلصها خدمة مخلصة مجردة، أنتم وضعتم النفس على كرسي عرشها ودفعتم عنها هجمات الدهريين وفيالق الجاحدين، أنتم مارستم الناموس ونفذتموه بأقوالكم وأعمالكم، أنتم جعلتم لأبي في قلوبكم عرشا معززا كريما ثم طفقتم تنذرون الضالين وترشدونهم لتقربوا إلى قلوب الناس ملكوت السماوات، أنتم دافعتم عن الضعيف وسخرتم بالظالم الأثيم وحسرتم عن الرياء اللثام قد نبذتكم الكنيسة التي خانتني ولكن الحق أقول لكم إنكم أقرب إلي وأكثر إخلاصا من الذين نبذوكم، أنتم أتباعي المخلصون، أنتم أنصاري الحقيقيون، نعمة أبي في السماء تحل عليكم.
ثم يصوب المسيح سهام غضبه إلى الملوك والأمراء والرؤساء المسيحيين ممن يتخذون المسيحية ذريعة لتنفيذ مآربهم وتوسيع نطاق سلطتهم وتحقيق مطامعهم العديدة المنكرة، فيصرخ فيهم قائلا: «يا ملوك الزمان ويا أمراء البلاد وساداته، الحق أقول لكم إن مسيحيتكم فاسدة وإيمانكم كاذب، إنكم لا تختلفون عن الوثنيين إلا بخبثكم وريائكم، فأولئك اضطهدوني وقتلوا رسلي، ولكنهم أقاموا بذلك جهرا وأما أنتم تعملون الآن أعمالهم الفظيعة وتدعون الادعاءات الباطلة قائلين كذبا وافتراء: إن ما نفعله من أجل المسيح ودينه، فتلحقون إثم الخبث بإثم الاضطهاد.
إن مطامعكم الدولية أنستكم واجباتكم وأماتت فيكم عواطف الشرف والصدق. إن الخبث والختل والقسوة في كل أعمالكم ظاهرة، إن حسدكم الدولي يجعلكم صغار النفوس كبار الذنوب فتتحاماكم الشفقة وتبعد عنكم الاستقامة، قد صيرتكم الأنانية أعداء الداء لمن أوجد الجامعة التي تنتمون إليها، إن آثامكم العديدة الكبيرة التي تسترونها باسمي معدودة عند أبي في السماء، إن الشعب الضعيف الحقير يئن من الضرائب والمكوس التي ترهقونه بها لتقوموا بنفقات حروبكم، ألا تفكرون فيما تعملون، ألا تخجلون من انتسابكم إلى دين يعلمكم عكس ما أنتم فاعلون. إن انتسابكم هذا الباطل لا يجديكم نفعا يوم الحساب. «فيا أمراء البلاد ويا ملوك الزمان وساداته، قد بشرت منذ تسعة عشر قرنا بالسلام على الأرض والرجاء الصالح لبني البشر، فهل تفهمون بالسلام والحروب، وهل تظهرون رجاءكم الصالح بمدافعكم القتالة ومدرعاتكم الهائلة. متى قلت لكم انشروا ديني بالسيف والنار، متى قلت لكم انهبوا واسلبوا وافتكوا واقتلوا باسمي، متى قلت اضطهدوا من خالف تعليمي واقتلوا من أنكر لاهوتي وانبذوا من سخر بأقوالي.
ماذا تفهمون «بالآية الذهبية» التي تفاخرون بها العالم بأسره، هل عندكم للمحبة معنى سوى أنكم تتصنعون بحب من يخضع لسلطانكم صابرا وينفذ أوامركم ساكتا طائعا، ألا يردعكم الضمير عن الأعمال القبيحة التي تقترفونها وتقولون «إن ذلك من أجل المسيح» متى يا ملوك الزمان متى تخلصون لسيدكم متى تطهرون الاسم الذي جعلتموه بأعمالكم مرادفا للظلم والجور والقسوة، أنا بشرت بالمحبة وأنتم تورون بينكم زند الضغينة، أنا بشرت بالاتحاد العام وأنتم من أجل لفظة تختلفون وأحشاء جامعتكم تمزقون، أنا دخلت الهيكل وكسرت الأصنام وأخرجت الصيارفة فعدتم أنتم تعبدون البعل وتسجدون لعجل الذهب.
قلت قاوموا الشر بالخير وأنتم تنفون من انتقدكم وتقتلون من ندد بأعمالكم وتنتقمون من أعدائكم شر انتقام، فيا ملوك الزمان وسادة الأرض، لا توغلوا في الإثم والعدوان ومن أجل العالم وأحطامه لا تهلكوا النفس، كفاكم استبدادا وظلما كفاكم رياء وخبثا، كفاكم قسوة وجورا، كفاكم تجبرا وطغيانا، اعدلوا فلا تحتاجون إذ ذاك إلى جيش يحميكم ولا إلى قلاع تصون بلادكم، حصنوا البلاد بالعدل أيها الحكماء والرؤساء وكفوا عنها يد الظلم.»
بيني وبين مدير الجريدة1
زحفت منذ عام على هذ الخواطر روح خفية، فطردتها من أعمدة هذه الجريدة الأميركية، أرادت تلك الروح الاستئثار، فآثرت الخواطر على الحضارة القفار، وعلى الدخان النار، وسمت إلى الطيران في الفضاء دون الاقتراب من الكبار والصغار، هجرت قانعة وسارت رائدة، فكان للهاجر والمهجور بعض الفائدة، والحقيقة الآن إلى البيت المطهر عائدة، العود إذا إلى الوطن المحبوب، فقد استتب فيه السلام المطلوب، وظهرت حسنات وسيئات تلك الحروب التي عززت بعض الحقوق ومكنت في الناس كثيرا من العيوب.
ختمنا هذه الخواطر منذ عام بالنزاع والخصام، ونفتتحها الآن تحت ألوية الوئام والسلام، وهذا كل ما نكتبه سجعا رفقا بالقراء الكرام، فلا تجزع إذا أيها القارئ ولا تخف، إن صاحب هذه الخواطر يعتبر الشريعة إلى حد محدود ولا تلذه الكتابة من وراء الحديد، وهو يعدك بأن حريته وحكمته تبقيان غالبا في القانون، فإذا كانت الحكمة تحبس الجسد الذي يحبس النفس فنحن في غنى عنها وعن توابعها، أجل قد يكفي هذه النفس القلقة حبس واحد.
إني أحترم الشريعة ولا أتعشق الحبس؛ وذلك لأن الشريعة تمنحني بعض الحرية والحبس يحرمني إياها تماما، فإذا ما لا يملك كله لا يترك جله، ولكن ما العمل إذا جاءني صديق وأراد أن يشاطرني هذا القليل أو أن يحرمني منه كل الحرمان، أفلا يصبح هذا الصديق كالحبس الذي لا أهواه، بل هو حبس لا حديد له ولا جدران، هو يريد أن يقيدني بإرادته كما يقيد المأمور السجين، هو يريد أن يحصر حريتي ضمن جدران مصلحته الشخصية، أفليس أوفق - والحالة هذه - أن أسلم نفسي إلى البوليس فأرتاح من قرقعة هذا العالم ودويه ومن وداد أبنائه ومحبتهم؟
Page inconnue