متى تحولين وجهك نحو الشرق أيتها الحرية؟ متى يمتزج نورك بنور هذا البدر الباهر فيدور معه حول الأرض ويضيء ظلمات كل شعب مظلوم؟ أيتأتى أن يرى المستقبل تمثالا للحرية بجانب الأهرام؟ أيمكن أن نرى لك في بحر الروم مثيلا؟ أممكن أن يولد لك أخوات في الدردنيل وفي بحر الهند وفي خليج الصين؟ أيتها الحرية! متى تدورين مع البدر حول الأرض لتنيري ظلمات الشعوب المقيدة والأمم المستعبدة؟
وأنت أيتها البواخر المقلة إلى أوربا ومصر وعدن والهند منسوجات «نوانكلند» وقطن «ڤرجنيا» وحديد «بنسلفانيا» وقمح «تكساس» وخشب «ڤرمنت» خذي معك إلى بحر الروم وبحر الهند والبحر الأحمر والبحر المتوسط بعض موجات من هذه الأمواج التي تغسل أبدا قدمي تمثال الحرية، خذي معك ولو زجاجة صغيرة من هذا الماء المقدس ورشي منها سواحل مصر وسوريا وفلسطين وأرمينيا والأناضول، وإلى كل جزيرة تمرين بها وكل بلاد تقصدينها وكل شعب تحيي سواريك قباب كنائسه ومآذن جوامعه احملي سلام هذه الآلهة التي تنير الآن طريقك في الخروج من العالم الجديد وتوكل بك ما لها في السماء من شقيقات باهرات.
احملي إلى الشرق شيئا من نشاط الغرب وعودي إلى الغرب بشيء من تقاعد الشرق، احملي إلى الهند بالة من حكمة الأميركان العملية وعودي إلى نويرك ببضعة أكياس من بذور الفلسفة الهندية، اقذفي على مصر وسوريا بفيض من ثمار العلوم الهندسية واقفلي إلى هذه البلاد بفيض من المكارم العربية. أيتها البواخر الآيبة حيي عن جسر بروكلن خرائب تدمر وقلعة بعلبك وأقرئي أهرام مصر سلام هذه المعالم الشاهقة المشعشعة بالكهرباء. سيري أيتها السفن بسلام وارجعي بسلام. •••
وقد شاهدت الآن ثلاثة مناظر عظيمة لا أقدر أن أنساها حياتي، لا أتناساها؛ لأنها عندي أشبه برموز جميلة لدعائم الحياة الروحية الثلاث هي مراحل في رحلتي الفكرية التي باشرتها منذ خمس سنين، أو من حين ولدت، نعم إني طفل في العالم الروحي، إني سائح في مروج النفس وأوديتها. أمامي مسافة طويلة يجب أن أجتازها وتحتي هوة هائلة يجب أن أسبر غورها، وفوقي فضاء غير متناه ينبغي لي أن أتمتع بجماله، وحولي من المروج والجبال والأنهر والبحار ما يشغل معظم وقتي لو عشت ألف عام.
أما المناظر الثلاثة التي تمتع بها طرفي حتى الآن فتركت أثرا عظيما في نفسي فهي لبنان وسواحله من ذروة جبل صنين وباريز على برج إيفل ونويرك في الليل من منتصف جسر بروكلن. فالأول إنما هو رمز الطبيعة، والثاني رمز الفنون الجميلة، والثالث رمز الكد والاجتهاد، وهذي هي دعائم الحياة الروحية الثلاث، فالمنظر الأول صنعة الله، والمنظران الآخران صنعة الإنسان. المنظر الأول أو الطبيعة هو منبع النفحات الإلهية والإلهامات الروحية، والمنظر الثاني أو باريز هو منبع التفنن في الصناعة على الإطلاق، والمنظر الثالث المنبسط أمامي الآن
1
إنما هو عنوان الجهاد والجلد والثبات والنجاح، فإذا كنت أيها القارئ شاعرا أو مصورا أو كاتبا بل لو كنت صباغا أو دباغا أو إسكافا وجه نظرك إلى الطبيعة أولا تستمد منها الإلهام الإلهي وعنها تقتبس الألوان البديعة والمناظر الجميلة والأشكال الأنيقة والنغمات السماوية، وعرج على باريز ثانيا تتعلم منها دقة الصناعة ولطافة الأسلوب وجمال الفنون وغرابة الإبداع وسر الابتكار وانزل على نويرك ثالثا تأخذ منها الاجتهاد والجلادة وتتعلم من أهلها الاستقلال في العمل والثبات بعد الفشل، الطبيعة - التفنن - الاجتهاد - هذي هي أس الأعمال الفكرية، هذي هي دعائم الحياة الروحية.
لبنان - باريز - نويرك - في الأولى روحي وفي الثانية قلبي وفي الثالثة الآن جسدي.
فوق سطوح نويرك
دخلت ذات يوم مصعد إحدى بنايات نويرك الشاهقة فرفعني الخادم في أقل من دقيقة إلى الطابق الأخير منها - الطابق الخامس والعشرين - ومن هناك أخذت أدور صاعدا درجا من الحديد لولبيا حتى وصلت إلى قبة البناية العظيمة، قبة تكاد تختفي بين الغيوم في النهار وتضيع بين النجوم في الليل، قبة ترتفع فوق أبنية نويرك العالية ارتفاع هذه فوق بيوت الفقراء الحقيرة. ومن هناك يشرف المتفرج على مدينة نويرك العظمى وينظر إليها نظرة الطائر، ولكن يجب عليه قبل أن يرى أسواقها المزدحمة أن يطل من حالق على سطوحها المشتبكة بأسلاك البرق والتلفون المغشاة بالدخان المتصاعد من المداخن ومن آلات سكك الحديد الجارية فوق الأسواق.
Page inconnue