تقديم عن طبعة المجلس الأعلى للثقافة بمصر
رحلة حسن أفندي توفيق العدل (١٨٨٧ - ١٨٩٢)
تضم "الرحلة إلي برلين" و"رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا "، وقد قدم له الدكتور محمد صابر عرب بدراسة ضافية. والكتاب من إعداد عبد المنعم محمد سعيد. وقد صدر الكتاب ضمن سلسلة "من أدب الرحلات" التي تصدرها المجلس الأعلى للثقافة بمصر.
تشير مقدمة الدكتور محمد صابر عرب إلى نبوغ حسن العدل وتنوع ثقافته وطموحاته العلمية الفائقة؛ وقد كانت أسبابا كافية لاختياره من قبل نظارة المعارف لكي يسافر إلي ألمانيا بمجرد تخرجه في دار العلوم، معلما للغة العربية وآدابها في جامعة برلين التي وصل إليها في ٢٠ سبتمبر ١٨٨٧، حيث قضى خمس سنوات. ولم يكن مجرد معلم بل حرص علي تعلم الألمانية في أقل من ستة أشهر، كما حرص على أن يستفيد من كل مشاهداته التربوية والاجتماعية والسياسية وأن يحيل ذلك كله إلى كتابات كتبها بالمصرية. وفي جميع الحالات كان مصريا نابها وسفيرا لبلاده ومدافعا عن قضاياها. ويرى الدكتور صابر أن رحلة حسن العدل إلى ألمانيا وسويسرا نموذج لأدب الرحلات، ليس لأنها قد سجلت بدقة كل ملاحظات الرجل ومشاهداته وانطباعاته، وإنما لما تميزت به من روح مرحة وطرف خفيفة الظل كان طرفا فيها، كما يلاحظ على رحلة حسن العدل عنايته الفائقة بالتعليم وحرصه على الاستفادة من تجارب كل البلاد التي زارها لدرجة أنه سافر من ألمانيا إلى إنجلترا وفرنسا حيث أمضى عدة شهور متنقلا بين المؤسسات التعليمية والثقافية، فزار جامعات أكسفورد وكمبردج وإبتون، قبل العودة إلى بلاده لكي يقدم خبرته إلى وزارة المعارف المصرية. وعندما أقام الدكتور براون في القاهرة للعمل أستاذا بدار العلوم عام ١٩٠٣ - وكان مكلفا من قبل جامعته لاستقدم احد الاساتذة المصريين للعمل مدرسا للغة العربية في جامعة كمبردج وقع اختياره على حسن العدل الذي سافر إلى انجلترا في أكتوبر ١٩٠٣ وأصبح عضوا في الجمعية الآسيوية الملكية حتى كانت وفاته في ١٩ يونيو عام ١٩٠٤.
تقديم عن طبعة دار السويدي الثقافية الإماراتية (*) عصام حمزة تكشف يوميات الكاتب المصري حسن توفيق العدل المدونة في كتاب عن رحلته لالمانيا في لقرن التاسع عشر عن نزاع فكري ونفسي تجلى في ثنائية الصراع بين الانا والاخر .. بين تقدم الاخر الاوروبي وتخلف الانا العربي وهي ثنائية حكمت جيل العدل بأسره والاجيال اللاحقة الى اليوم. وفي كتابه "رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا .. رحلة عربي من برلين الى برلين" الذي اصدرته دار السويدي الثقافية الاماراتية في اطار مشروع ارتياد الافاق الذي يعنى بأدب رحلات العرب الى دول العالم خلال العشرة قرون الماضية يكشف الكاتب المصري عن انطباعاته ومقارناته عن ايمان بالعلم والتقدم والحرية وعن تقدير للاختلاف الثقافي والحضاري بين الامم والثقافات. يقول الشاعر نوري الجراح الذي حرر الكتاب وعلق هوامشه ان انطباعات العدل عن الرحلة التي قام بها في أغسطس آب وسبتمبر أيلول من عام ١٨٨٧ وطاف خلالها عشرات المدن والقرى ما بين ألمانيا وسويسرا "لا تختلف عن غيرها من اليوميات العربية في أوروبا في همومها واهتمامات أصحابها." وقال الجراح الذي يشرف على مشروع ارتياد الافاق لرويترز "لم تكن الرحلة من الشرق العربي الى ألمانيا في القرن التاسع عشر رائجة عندما قام صاحب هذه اليوميات برحلته فقد كانت أنظار الرحالة والمسافرين العرب مشدودة يوم ذاك الى فرنسا وبريطانيا."واضاف "كانت كل من باريس ولندن العاصمتين الاكثر اغراء للنخب المثقفة الشرقية المتطلعة الى تحصيل العلم في أوروبا والعمل على احداث تغيير واصلاحات في نظم المجتمع والدولة ولاحقا المناداة بالاستقلال عن دولة الخلافة ممثلة بالباب العالي بالنسبة الى العرب الذين رزحوا تحت نير الحكم التركي أكثر من أربعة قرون." وقال الجراح "في سبتمبر ١٨٨٧ وعلى اثر اختياره من قبل (نظارة المعارف) في القاهرة لتدريس العربية للطلاب الاجانب في برلين ركب العدل الباخرة من الاسكندرية متجها الى ألمانيا وانتهى به المطاف في ٢٠ سبتمبر من العام نفسه في برلين قادما من فيينا." في أكتوبر تشرين الاول من سنة ١٩٠٣ وصل الى انجلترا لتدريس اللغة العربية في جامعة كيمبردج بطلب من الحكومة المصرية فقضى هناك سبعة أشهر أمضاها في التدريس والبحث. وفي ٣١ من مايو أيار سنة ١٩٠٤ وبينما هو في قاعة الدرس أصيب بعارض صحي أودى بحياته تحت أنظار طلابه. أما رحلته من برلين واليها وسياحته في المدن الالمانية والسويسرية التي استمرت شهرا كاملا فقد كتب عن طبيعتها وناسها ومصانعها وعلومها ومدارسها. _________ (*) مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نقلا عن رابطة أدباء الشام
انطلق العدل في رحلته من برلين في ١٦ أغسطس اب سنة ١٨٨٩ متجها الى مدينة هانوفر وغادرها الى مدينة مندن وهي بلدة قديمة في ولاية فستفاليا ثم زار عددا من المدن الالمانية قبل أن يعبر الى الاراضي السويسرية. ورجع من سياحته بعد شهر قضاه في شوارع المدن وأحضان الطبيعة الخلابة فوصل الى برلين يوم ١٥ سبتمبر أيلول عام ١٨٨٩. ويقول الجراح معلقا على رحلة العدل "لم يكن رحالتنا أول من دون يوميات وانطباعات عن ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر فقد سبقه رحالة واحد على الاقل هو اللبناني سليم بسترس الذي زار ألمانيا قادما من بيروت عبر الاستانة سنة ١٨٥٥ وعاصره محمد أمين فكري الذي زارها في سنة ١٨٨٩ وهي السنة نفسها التي دون فيها العدل سياحته." ويضيف "لحقت بهؤلاء مجموعة من الادباء والشعراء والباحثين العرب الذين زاروا أوروبا وعرجوا على ألمانيا فدونوا انطباعات شكلت جزءا من مجمل انطباعاتهم عن الحياة الاوروبية." ويمضي الجراح "نجد أن العدل يتميز عن هؤلاء أولا .. في أن سياحته انحصرت بألمانيا وبالجزء الالماني من سويسرا وبأنه قام برحلته خلال اقامة طويلة نسبيا في برلين أجاد خلالها اللغة الالمانية وقرأ في التاريخ الالماني وعبر مرارا في كتاباته عن اعجابه بالشخصية الالمانية وبشخصية الامير بسمارك على نحو خاص." السمة الثانية التي تنفرد بها رحلة العدل بين أخواتها من الرحلات العربية أنه تاريخيا يعد الاسبق الذي سعى الى تدوين سياحته بين ألمانيا وسويسرا في كتاب مستقل. وهناك سمة ثالثة هي اشتراكه مع رفاعة رافع الطهطاوي في تكوينهما الازهري بينما تحدر الرحالة الاخرون بمن فيهم المصريون من مرجعية ثقافية مختلفة. ورأى الجراح ان المشترك بين العدل وهؤلاء الرحالة جميعا أن نصوصهم تكشف عن طبيعة اهتمام النخب العربية المثقفة بأوروبا من خلال تأملها في النموذج الالماني فهي تعبر عن مراحل مهمة من الاتصال المتجدد بالغرب ما بين أواسط القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين. وقال ان نصوص الرحلات تعكس انطباعات وأفكارا وملاحظات لشرقيين ينتمي أكثرهم الى المجموعات المفكرة التائقة الى تغيير نمط الحياة في الشرق العربي ليساير التطور ويدخل الى العصر وبالتالي تفصح نصوص الرحلة العربية الى ألمانيا وأكثرها مجهول عن رؤية تلك النخبة للحياة الاوروبية كالعمران والتمدن والصناعة والفنون والتعليم والفكر والتخطيط الاجتماعي وغير ذلك مما يشكل بنية الحياة الحديثة وتجلياتها في الثقافة والاجتماع وكذلك نظرتها الى الشخصية الالمانية وما رأت أنها تتميز به من خصال.
ووصف الجراح هذه النصوص بانها نصوص مسافرين "لم يهمل جلهم اعمال الفكر في أسباب تقدم الغرب من دون اغفال أهمية المقارنة بين عناصر الاختلاف القائمة بين الشرق والغرب وعليه فان كتاباتهم عن ألمانيا تمثل تطلعات نخبة أملت بكثير من الرومانسية في أن تستلهم حداثة الغرب وتحذو حذوه في انتهاج سبيل العصرنة للانتقال بمجتمعاتهم من حال التخلف واللحاق بركب المدينة الحديثة.
تقديم عن طبعة دار السويدي الثقافية الإماراتية (*) عصام حمزة تكشف يوميات الكاتب المصري حسن توفيق العدل المدونة في كتاب عن رحلته لالمانيا في لقرن التاسع عشر عن نزاع فكري ونفسي تجلى في ثنائية الصراع بين الانا والاخر .. بين تقدم الاخر الاوروبي وتخلف الانا العربي وهي ثنائية حكمت جيل العدل بأسره والاجيال اللاحقة الى اليوم. وفي كتابه "رسائل البشرى في السياحة بألمانيا وسويسرا .. رحلة عربي من برلين الى برلين" الذي اصدرته دار السويدي الثقافية الاماراتية في اطار مشروع ارتياد الافاق الذي يعنى بأدب رحلات العرب الى دول العالم خلال العشرة قرون الماضية يكشف الكاتب المصري عن انطباعاته ومقارناته عن ايمان بالعلم والتقدم والحرية وعن تقدير للاختلاف الثقافي والحضاري بين الامم والثقافات. يقول الشاعر نوري الجراح الذي حرر الكتاب وعلق هوامشه ان انطباعات العدل عن الرحلة التي قام بها في أغسطس آب وسبتمبر أيلول من عام ١٨٨٧ وطاف خلالها عشرات المدن والقرى ما بين ألمانيا وسويسرا "لا تختلف عن غيرها من اليوميات العربية في أوروبا في همومها واهتمامات أصحابها." وقال الجراح الذي يشرف على مشروع ارتياد الافاق لرويترز "لم تكن الرحلة من الشرق العربي الى ألمانيا في القرن التاسع عشر رائجة عندما قام صاحب هذه اليوميات برحلته فقد كانت أنظار الرحالة والمسافرين العرب مشدودة يوم ذاك الى فرنسا وبريطانيا."واضاف "كانت كل من باريس ولندن العاصمتين الاكثر اغراء للنخب المثقفة الشرقية المتطلعة الى تحصيل العلم في أوروبا والعمل على احداث تغيير واصلاحات في نظم المجتمع والدولة ولاحقا المناداة بالاستقلال عن دولة الخلافة ممثلة بالباب العالي بالنسبة الى العرب الذين رزحوا تحت نير الحكم التركي أكثر من أربعة قرون." وقال الجراح "في سبتمبر ١٨٨٧ وعلى اثر اختياره من قبل (نظارة المعارف) في القاهرة لتدريس العربية للطلاب الاجانب في برلين ركب العدل الباخرة من الاسكندرية متجها الى ألمانيا وانتهى به المطاف في ٢٠ سبتمبر من العام نفسه في برلين قادما من فيينا." في أكتوبر تشرين الاول من سنة ١٩٠٣ وصل الى انجلترا لتدريس اللغة العربية في جامعة كيمبردج بطلب من الحكومة المصرية فقضى هناك سبعة أشهر أمضاها في التدريس والبحث. وفي ٣١ من مايو أيار سنة ١٩٠٤ وبينما هو في قاعة الدرس أصيب بعارض صحي أودى بحياته تحت أنظار طلابه. أما رحلته من برلين واليها وسياحته في المدن الالمانية والسويسرية التي استمرت شهرا كاملا فقد كتب عن طبيعتها وناسها ومصانعها وعلومها ومدارسها. _________ (*) مُعِدُّ الكتاب للشاملة: نقلا عن رابطة أدباء الشام
انطلق العدل في رحلته من برلين في ١٦ أغسطس اب سنة ١٨٨٩ متجها الى مدينة هانوفر وغادرها الى مدينة مندن وهي بلدة قديمة في ولاية فستفاليا ثم زار عددا من المدن الالمانية قبل أن يعبر الى الاراضي السويسرية. ورجع من سياحته بعد شهر قضاه في شوارع المدن وأحضان الطبيعة الخلابة فوصل الى برلين يوم ١٥ سبتمبر أيلول عام ١٨٨٩. ويقول الجراح معلقا على رحلة العدل "لم يكن رحالتنا أول من دون يوميات وانطباعات عن ألمانيا أواخر القرن التاسع عشر فقد سبقه رحالة واحد على الاقل هو اللبناني سليم بسترس الذي زار ألمانيا قادما من بيروت عبر الاستانة سنة ١٨٥٥ وعاصره محمد أمين فكري الذي زارها في سنة ١٨٨٩ وهي السنة نفسها التي دون فيها العدل سياحته." ويضيف "لحقت بهؤلاء مجموعة من الادباء والشعراء والباحثين العرب الذين زاروا أوروبا وعرجوا على ألمانيا فدونوا انطباعات شكلت جزءا من مجمل انطباعاتهم عن الحياة الاوروبية." ويمضي الجراح "نجد أن العدل يتميز عن هؤلاء أولا .. في أن سياحته انحصرت بألمانيا وبالجزء الالماني من سويسرا وبأنه قام برحلته خلال اقامة طويلة نسبيا في برلين أجاد خلالها اللغة الالمانية وقرأ في التاريخ الالماني وعبر مرارا في كتاباته عن اعجابه بالشخصية الالمانية وبشخصية الامير بسمارك على نحو خاص." السمة الثانية التي تنفرد بها رحلة العدل بين أخواتها من الرحلات العربية أنه تاريخيا يعد الاسبق الذي سعى الى تدوين سياحته بين ألمانيا وسويسرا في كتاب مستقل. وهناك سمة ثالثة هي اشتراكه مع رفاعة رافع الطهطاوي في تكوينهما الازهري بينما تحدر الرحالة الاخرون بمن فيهم المصريون من مرجعية ثقافية مختلفة. ورأى الجراح ان المشترك بين العدل وهؤلاء الرحالة جميعا أن نصوصهم تكشف عن طبيعة اهتمام النخب العربية المثقفة بأوروبا من خلال تأملها في النموذج الالماني فهي تعبر عن مراحل مهمة من الاتصال المتجدد بالغرب ما بين أواسط القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين. وقال ان نصوص الرحلات تعكس انطباعات وأفكارا وملاحظات لشرقيين ينتمي أكثرهم الى المجموعات المفكرة التائقة الى تغيير نمط الحياة في الشرق العربي ليساير التطور ويدخل الى العصر وبالتالي تفصح نصوص الرحلة العربية الى ألمانيا وأكثرها مجهول عن رؤية تلك النخبة للحياة الاوروبية كالعمران والتمدن والصناعة والفنون والتعليم والفكر والتخطيط الاجتماعي وغير ذلك مما يشكل بنية الحياة الحديثة وتجلياتها في الثقافة والاجتماع وكذلك نظرتها الى الشخصية الالمانية وما رأت أنها تتميز به من خصال.
ووصف الجراح هذه النصوص بانها نصوص مسافرين "لم يهمل جلهم اعمال الفكر في أسباب تقدم الغرب من دون اغفال أهمية المقارنة بين عناصر الاختلاف القائمة بين الشرق والغرب وعليه فان كتاباتهم عن ألمانيا تمثل تطلعات نخبة أملت بكثير من الرومانسية في أن تستلهم حداثة الغرب وتحذو حذوه في انتهاج سبيل العصرنة للانتقال بمجتمعاتهم من حال التخلف واللحاق بركب المدينة الحديثة.
Page inconnue
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لك أنشأتَ الكونَ فأبدعتَ، وخلقتَ الخلقَ فأحسنتَ، مهدتَ الأرضَ ورفعتَ السماءَ، وأقمتَ الأعلامَ، وأجريتَ الماءَ، وشكرًا لك على ما هديتنا إلى المحجة البيضاء، والصراط السواء، وصلاة وسلامًا منك على رسولك الجامع لشتات الجامعة، من الأقطار الشاسعة، وآله وأصحابه، وأتباعه وأحبابه.
وبعد، فأخبركم سادتي، وكلكم خبير بثمرات التجول في الأقطار، وملازمة عصا التَّسيار. هو السفر طالما أسفر عن عجائب، وهو الترحال كثر ما أعرب من غرائب، يدرِّبُ الإنسان ويشحذ الأذهان، وجدير بمن تحمَّل رعائبه، أن ينال رغائبه، ولو لم يكن نعمة عظمى لما منَّ سبحانه على أمَّة قريش بإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فآمن من خوفهم، وأطعم من جوعهم.
وقد انتبه لفوائده أمة أوروبا فساحوا في الأقطار، وجاسوا خلال البلاد والديار. فمنهم المشرِّقُ ومنهم المغرِّبُ، يتسنمون نجدًا، ويتحدرون غورًا، دائبين على استكشاف البقاع ومعرفة أحوال الأمم على اختلاف طبائعها وعوائدها، فحصلوا من ذلك
1 / 315
على ما أكسبهم المعرفة، وأزال عنهم الجهالة، وأوسع من نطاق علمي الجغرافيا والتاريخ اللذين هما أساس التمدن ومركز دائرة المعارف. ولم يألُ كل سائح منهم جهدًا في تقييد ما شاهده من البلدان، واستكشفه من أحوال أهلها المادية والأدبية، حتى صارت مؤلفاتهم في ذلك عددًا عديدًا، فمنها ما هو ضمن كتب مستقلة، ومنها ما هو طي الجرائد اليومية، تسهيلًا للمطالعين، وتثقيفًا لعقولهم، فلست ترى عائلة أوروبية إلا ولديهم مجموع عظيم من ذلك، يجلبون بمطالعته أنسهم، ويوسعون بذكره دائرة أفكارهم.
ولما مَنَّ الله على الضعيف بالرحلة إلى بلاد أوروبا، والمكث في مدينة برلين عاصمة الإمبراطورية الألمانية لاكتساب الفنون والعلوم، رأيت من طبعي نزوعًا إلى السياحة والتَّجَوُّل في بلاد ألمانيا مدة المسامحة لأتعرّف أحوال أمَّته المعاشية
والأدبية، تطبيقًا للعلم على العمل، وتأكيدًا للسماع بالنظر. وقد أكرمتني لذلك نظارة المعارف المصرية الجليلة بمدِّ يدِ المساعدة، حيث شملتني عناية مؤسس دعائمها قديمًا وحديثًا سعادة وزيرها الأفخم علي مبارك باشا لازالت أبناء المعارف تبتسم عن شكر أياديه، ولا بَرِح الإقبال طوع أيديه.
1 / 316
فقمت بأعباء الأمر، وأخذت في التجول في أنحاء البلدان والمدن، فاتجهت إلى بلاد ألمانيا الغربية، ثم إلى شمال وشرق سويسرا، ثم إلى ألمانيا الجنوبية، متتبعًا أهم البلاد، مستكشفًا أحوالها الطبيعية الجغرافية والتاريخية، حتى حصلت من ذلك على فوائد جزيلة، وثمرات مفيدة، قد وضعتها ضمن هذا الكتاب إيفاء بحقوق الوطنية، وشكرًا للمعارف الجليلة العمومية التي أرضعتني لبان مننها، وكستني حلل كرمها، وخدمة لمصدر الكرم، وولي النعم، مُحيي روح التَّمدن والعمران، وغارس شجرة الصلاح والأمان، من أنام الأنام في ظل عدله، ولحظهم بكرمه وفضله، مليك العصر، وعزيز مصر خديونا الأعظم محمد توفيق باشا الأفخم، أدام الله لنا ذاته الشريفة، ومتَّعنا ببقاء سُدَّته المنيفة، وسرَّنا بحفظ السادة الأنجال بُدور الجلال وشموس الكمال.
وها أنا أوافيكم بالتفصيل، وعلى الله قصد السبيل فأقول.
الإنطلاق من برلين
١٦ آب - أغسطس ١٨٨٩
بارحت برلين صباح يوم ١٨ ذي الحجة سنة ١٣٠٦ هجرية الموافق ١٦ أغسطس سنة ١٨٨٩ ميلادية قاصدًا مدينة كلونيا في قطار يطير في الأقطار، وقد بلَّت أجنحتَه الأمطار، ولم يزل يعرض علينا البلاد والقرى، وأنا أتصفح بعض الكتب لأطلع على مالها من الأهمية ماديًا وأدبيًا. حتى إذا كان وقت الظهيرة حط
1 / 317
رحاله في مدينة هنوفر فنزلت ملتمسًا مشاهدة منظرها، فإذا هي بلدة متّسقة الشوارع متسعتها، وقد كانت عاصمة المملكة المسمّاة باسمها، وفي سنة ١٨٦٦ ميلادية استولت عليها مملكة البروسيا وجعلتها ضمن ولاياتها قبيل الحرب البروسيانية النمساوية كما شرحت ذلك في الجزء الثامن من رحلتنا البرلينية، ثم هي الآن عاصمة تلك الولاية ومنطق أهلها باللغة الألمانية أفصح ممن عداهم، وذلك في إعطاء الحروف حقَّ مخارجها كما هو مشهور، ورأيته بتتبعي لكلامهم.
ولما صاح القطار بنعيرته وأعلن بالرحيل نزلت العربة فإذا أنا فيها وحيد، ولم أشعر إلا وقد انفتح باب العربة فرأيت شابًا وشابة كأنهما القمر والشمس يودِّعان أهلهما وأصحابهما، وقد أخذ الجميع في التقبيل والعناق، وتلاوة كلمات الفراق، ثم أقبلا علي يتهلَّلان فرحًا وسرورًا، فألقيا السلام، فرحبت بهما، وشرفت من شأنهما، حتى إذا استقر بهما المجلس، وسار الوابور أخذا يتغازلان. وقد جرى بينهما سر الهوى، وباحت عيونهما بالجوى، فرقَّ لرقتهما قلبي، وهام بشأنهما لُبِّي وبعد لُحيظات لحظاني بعيونهما، حتى إذا علما أني غريب عن جنسهما ظنا أني لم أعرف لغتهما، فقالت فرنساوي؟ وقال بل روسي؟ إسبانيولي؟ بل إيطالياني؟ يوناني؟ بل تركي؟ فعند ذلك أخذني الضحك، فشعرا
1 / 318
بذلك، وطلبا مني العفو، وتجاذبنا من وقتئذ أطراف الحديث. وعلمت من حديثهما أنهما قد تقارنا قريبًا
بعدما أنحلهما الغرام، وهالهما الهُيام، وقد أخذا في سفر الزواج كما هي عادة الألمانيين. وإليك شرحها اختصارًا، فأقول:
لما كان التزوج في البلاد الألمانية عسير الحصول بالنسبة لكثرة عدد الإناث وقلّة غنى الذكور، التزمت الآباء بإعطاء كامل الحرية لبناتهم متى بلغن ١٨ سنة من عمرهن، فيتركونهن في المجتمعات والمحافل يتسامرن، ويتداعبن، ويلعبن، ويرقصن مع الشبان إلى غير ذلك، فربما علق أحدهم بإحداهن وهي به، فيخرجان، وقد ثارت نيران الحب في أحشائهما، ويكون ذلك لهما موضوعًا للمراسلات العشقية، ويتراسلان، ويتواعدان ليتفسح معها في المنتزهات أوقات الفضا، ويكون مصاحبًا لها أشهرًا، وربما أعوامًا تحت مراقبة الآباء أو أولياء شأنهما، ويسمون تلك المدة بمدة التجربة، ويستمران على ذلك حتى إذا لم يجدا مانعًا في الأثناء، وألفيا أن لا مناص من الاقتران عرضا خطبتهما على الآباء فإذا رضوا، ولم يكن ثم مانع، احتفلوا لزواجهما ليلة أو ليلتين، ثم يسافران معًا ليشتد وثوقهما، ويشد بعضهما أزر البعض تمكينًا للألفة والمحبة، وإلا فمتى حصل عائق وتفاقم غرامهما ورأيا أن لا محيد عن الفراق، فالناس في هذه
1 / 319
الحالة مختلفون: فمنهم من يتصبر ويتسلى، ويصادم جيش الهوى حتى يأتيه السُّلوان، ومنهم من يزيد قلبه اشتعالًا ويهيجه الغرام، فيصبح صريع الموت وحشوًا للقبور بمخاطرته بنفسه. وأغلب هذا القسم هم العوام، لا سيما إذا أضناهم شظف العيش، وأخذت عليهم يد الفقر، وكذلك بعض من متوسطي الناس وأشرافهم، فترى الجرائد أحيانًا ممتلئة بذكر أسماء الشبان والبنات الذين خاطروا بنفسهم نعوذ بالله من تلك الفعلة التي هي في الحقيقة حِطة في التمدن الإنساني، وثَلم لما عليه قارة أوروبا من كمال الإنسانية.
الوصول إلى مندن
هذا ولم تزل تطوِّح بنا الطوائح إلى أن أشرفنا على مدينة مندن التي هي بلدة قديمة ومن مشهوري مدن ولاية فستفالن إحدى ولايات البروسيا، وبعدما بارحناها ببعض دقائق زج بنا في واد متسع بين جبلين يَنْهَر فيه نهر فيزر.
وكان الرومانيون يسمون ذلك الوادي فستافالكا ومعناه باب فستفالن وحين شاهدته راقني موقعه، وشغفت بمنظره، حيث هو من أعظم البقاع التي يفتخر بها الجرمانيون، لانتصارهم فيه على الرومانيين قديمًا. وذلك أن الرومانيين في القرن الأخير قبل الميلاد في عصر القيصر سيزار عاثوا في بلاد جرمانيا حتى فتحوا قسمًا عظيمًا منها، وأسسوا مدنًا، وحصنوا بها قلاعًا، ولم
1 / 320
يزالوا، فيما بعد، رافعين ألوية الانتصار على الجرمانيين في كل حرب يقيمونها حتى أخضعوهم إليهم، ونظموا منهم جيشًا يسيرونه كيف شاءوا. ولم تزل هذه حالتهم إلى أن تولّى على الرومانيين القيصر أغسطس وفي عهده وجه إلى بلاد جرمانيا واليًا له يسمى فاروس وكان مع قوة بأسه ليِّن الجانب سهل الانخداع، وحينما رأى أفراد الجيش الجرماني أولي قوة كثيري الطاعة، كما هي سنة الأمة المغلوبة للغالبة، شُغف بهم، وأعلى من درجاتهم، وكان منهم رجل جرماني يدعى هرمان شديد الجأش، عارفًا بطرق الحيل والخداع.
وكانت الحمية الجرمانية تضرم في قلبه، وكراهته للرومانيين تصلي فؤاده، فأوجس في نفسه الانتقام، والتخلص من قهرهم، وأخفى ما كنَّهُ صدره، وصار يتقرب إلى ذلك الوالي شيئًا فشيئًا إلى أن اغترَّ به وأوصله إلى درجة كبرى، حتى جعله من جملة قواد الجيوش الجرمانية والرومانية. فعند ذلك انتهز الفرصة فحرَّك يد الفتنة في الجرمانيين سرًّا، وجعل بينه وبينهم مسيسًا، فرفعوا عصا العصيان، وقاموا ضد الرومانيين، وكان من القائد هرمان أن هاج في الرومانيين يحثّهم على الحرب، وألان جانب الوالي والقيصر حتى تجهزوا لانتشاب نار المعارك، فقام
الوالي بجيشه وقواده، ومن جملتهم القائد
1 / 321
هرمان وقد جعلوه ركنًا لهم حصينًا لمعرفته بمكائد الحرب وجغرافية البلاد، فصار دليلًا لهم إلى أن أوصلهم إلى موضع يقال له تيتوبورج فالده قريب من ذلك الوادي، حيث هو يعلم أن الجرمانيين متربصون في معاطف الجبال والمغارات، وبينما هم سائرون به، وإذا بالجرمانيين قد انصبُّوا عليهم كالسيل العرِم، وأحاطوا بهم، وأشعلوا نار الحرب فيهم، ولما شاهد ذلك القائد هرمان أشار إلى بعض قواد الرومانيين بأن يجوزوا بالجيوش ذلك الوادي ليتحصنوا من الجهة الأخرى، ففعلوا وإذا بأرجل أفراسهم قد انغرزت في ذلك الوادي حيث كان موحلًا، فانضم القائد هرمان إلى الجرمانيين، وانقضَّ بهم على الرومانيين حتى أذاقهم كؤوس العذاب بمكره وخداعه، وحقَّت عليهم كلمة الغلبة، وحينما سمع ذلك القيصر أغسطس هاله الأمر، فقام يتردد في أودته، يضرب رأسه في الحائط هنا وهناك قائلًا: فاروس أعد لي جيشي أعدْ لي جيشي مكررًا لها.
وكانت هذه الواقعة في سنة تسع بعد الميلاد، وهي أولى الوقائع التي انتصر فيها الجرمانيون على الرومانيين. ولذلك تجد الألمانيين الآن يعظمون ذروة أحد الجبلين المحيطين بذلك الوادي تذكارًا له ولبسالته.
1 / 322
معمل كروب للمدافع
وفي وقت العصر لاحت لنا عن اليمين وعن الشمال القرى والبلدان التي منها ثروة ألمانيا، لاشتمالها على كهوف الفحم الحجري المعدني الذي يجلب بسواده الأبيض والأصفر، وقد عبق دخان المعامل التي بها. وبعد هنيهة مررنا بضواحي مدينة يقال لها أسن وإذا بالأرض كأنها تقشعر، وشمنا سحائب الدخان قد ملأت الجو، وصوت المطارق يرعد عن اليسار، ويمثله الصدى عن اليمين، فهالني ذلك، وسألت عما هنالك؟ فإذا هو معمل كروب الشهير بعمل المدافع التي عمَّ
صيتها وصوتها، وهو معمل أنشأه رجل ألماني يدعى كروب سنة ١٨١٠ ميلادية، وهو الآن تحت يد ذريته، وبه ١٠. ٠٠٠ عامل قد اتخذوا حوله مساكنهم، وسمعت أن به مطرقة ثقلها ١٠٠٠ قنطار ترتفع وتنخفض بالآلات البخارية.
وحينما بارحنا تلك الجهة، وفتحت التذكرة لأرقم ما شاهدته التفت إلي رجل مسن هولندي يتكلم باللغة الألمانية، وقال متبسمًا: ألا كتبت أيضًا أن صوت المطارق تنادي وتؤذن بالدمار!
فقلت له وإذ علمت مراده: لماذا؟
فقال: أنرى الراحة في الدنيا، وفي الممالك معامل مثل هذا، والحرب الحرب، هي الدمار بعينه ومَخْدَشة لوجه الأمان، وراحة الاجتماع!
فقلت له: أيها الأديب، إن هذا الموضوع حرج صعب المسالك،
1 / 323
قد أَضْرَمَتْ فيه نيرانَ الجدالِ السلفُ، واشتغلت بحديثه الخلفُ، وإني أعضد رأيك ومذهبك، ولكن ذلك إذا نُزع من نفوس الأمم حب الاستئثار والفخار.
فقال: ذلك أشكو، لقد كانت الحرب قديمًا لإقامة الأديان، وأما الآن فهي لحب الفخار. . الآن الآن وقد ضرب التمدن بجرانه في أنحاء البسيطة.
فأجبته قائلًا: نعم أنت ومذهبُك. وما علينا إلا أن نبتهل إليه سبحانه بأن يوطد دعائم الصلاح حتى تكون الأرض منزلًا واحدًا لعائلة واحدة يقتسمون السرور فيما بينهم، فما ذلك عليه بعزيز.
وبينما نحن بذلك الحديث وإذا بالوابور قد حطَّ رحله في مدينة كلونيا فودعته من حينئذ ونزلت بها وقد شاب النهار وأقبل شباب الليل، فبتُّ بها ليلتئذ حتى إذا كشفت الشمس قناعها، والجو صافٍ لم يطرَّز ثوبُه بعلم الغمام، نزلت قاصدًا أول ما يحرك إليه الغريب قدمه ألا وهي كنيستها الكبرى التي اشتهرت بحسن موقعها وجمال صنعها، وريثما طوحت إليها النظر أرتني منها بناء شاهقًا، وجبلًا سامقًا،
تكاد ببرجيها تنطح ثور السماء، ذروتها تخالها للعقرب لسعاء، فدخلتها ضمن الداخلين أمثالي المتفرجين، فما درينا ألاتساع رحباتها نهشُّ، أم لارتفاع دعائمها نُدهش؟ ثم أردنا أن نتسنم سماوتها، ونرتقي ذروتها، فعلونا يقدمنا الدليل لكيلا تشكل علينا السبيل، ومازلنا
1 / 324
نصعد درجات، ونسلك معاطف ووهدات، حتى إذا علونا ذروتها ورقينا قمتها لاحت لنا عجائب المناظر، وقد انتعش لرؤيتها الخاطر، ثم هبطنا إلى المنزل الأول والمكان السواء، وحدَّثنا من في الأرض، وأستغفر الله، بأخبار السماء.
وبالجملة فلقد قام بناؤها دليلًا على ما صنعت يد الإنسان ناطقًا بلسان الحال والجنان:
تلك آثارنا تدلُّ علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
ثم إن هذه الكنيسة كاثوليكية أمر بتأسيسها المطران كونرا دفن هوخ ستادن سنة ١٢٤٨ ميلادية، ولكن لم يتم بناؤها في أيامه بل حصلت فترات بعد ذلك، فكانوا وقتا يقيمون منها وآخر يعرضون عنها إلى سنة ١٨٤٠، وفيها أمر بإتمامها ملك البروسيا فريدريك فيلهلم الرابع حتى أخذت كمالها في سنة ١٨٨٠م، وارتفاع برجيها ١٥٦ مترًا فوق سطح الأرض، وقد كانا أعلى بنيان في أوروبا إلى أن شيد صرح أيفل في باريس الذي ارتفاعه ٣٠٠ متر.
وقد أخبرني بعض علماء الألمانيين وأدبائهم، وكان يتفرج معنا، أن الدراهم التي صرفت في بناء تلك الكنيسة هي ربح القمار، وذلك أن كثيرًا من الشركات قد فرضت مقدارًا من
1 / 325
الدراهم لمن أراد اللعب، وثلث المجموع يأخذه من تخرج له القرعة، والثلثان الباقيان يُصرفان في البناء. وحينما سمعت ذلك منه قلت له:
كيف تؤسسون بيت العبادة بدراهم هي الحرام بعينه؟
فالتفت إليَّ، وقد ضمَّ كتفيه، ثم أرسلهما قائلا هذه الجملة:
فحينما طرقت مسمعي أخذني الضحك حتى كدت أستلقي، وذلك أن هذه الجملة مثل مشهور بأوروبا وهو لاتيني اللفظ، ومعناه الربح ليس له رائحة. ومصدر ذلك المثل أن أحد قياصرة الرومانيين ضرب رسومًا وعوائد على كل محل يطمئن إليه الإنسان سواء في المنازل والطرقات، فقيل له في ذلك فقال:
الربح ليس له رائحة. فذهبت مثلًا.
حديقة الحيوان
وبعد ذلك قصدت معرض الحيوانات بتلك المدينة، فشِمته بستانًا قد جمع من الحيوانات البرية والبحرية والهوائية على اختلاف أجناسها وأقطارها، وقد وضعوا كل قسم منها في محلات تألف لها، كهي في مواضعها الطبيعية، وبينما أنا أروض النظر هنا وهنالك إذا ألفيت أحد مدرسي المدارس يقود عددًا عظيمًا من البنات، وبيده خريطة ذلك المحل يعرض عليهن الحيوانات، فيذكر لهن أسماءها، وخواص كل منها، وينسبها إلى الأقطار الخاصة التي هي بها، وهل هي مأنوسة أو وحشية إلى غير ذلك،
1 / 326
فما وجدت بنتًا منهن يهولها منظر تلك الحيوانات، أو تتهيأ لها بعبعًا، أو غولًا، أو عفريتًا! وذلك لحكمة تعلمهن في المدرسة مناظرها مصورة على الأوراق فيما قبل.
ومن جملة ما شاهدته من نوادر ذلك المعرض الحمير، وقد تهافت عليها الناس نساء ورجلًا وصبيانًا يرمون إليها بالحشائش، وهي تدنو إليهم تلعب لهم، ولحظت منها حمارًا ساكنًا ينظر يمينًا ويسارًا سائل الدموع كأنه يذكر الربوع، فأذكرني أخاه حمار بشار بن برد، حيث أضناه الهوى، فأصبح صريع الجوى، حيث قيل في أحاديث الشجون، وأساطير المجون، أن محمد بن الحجاج قال: جاءنا بشار يومًا وهو مغتم، فقلت له مالك مغتمًا؟ فقال مات حماري، فرأيته في النوم، فقلت
له: لم مِتَّ؟ ألم أكن أُحسن إليك؟ فقال:
سيدي خذْ لي أتانا ... عند باب الأصبهاني
تيَّمتني ببنان ... وبِدِلٍّ قد شجاني
تيَّمتني يوم رحنا ... بثناياها الحسان
وبغَنجٍ ودلالٍ ... سَلَّ جسمي وبراني
ولها خدُّ أسيلٌ ... مثل خد الشنفراني
فلذا متُّ ولو عش ... ت إذًا طال هواني
1 / 327
فقلت له ما الشنفراني؟ قال ما يدريني. هذا من غريب الحمار، فإذا لقيته فاسأله عنه انتهى.
شرقي وغربي
وبعد الظهيرة من ذلك اليوم طفت بتلك المدينة مع أحد أدباء الألمانيين السيَّاحين، وقد عقدت الصدفة بيننا عروة الصحبة، فألفيت أغلب الطرق آخذًا انتظامًا على ضيقها، صغيرة المنازل ليست بعاليتها، وقد حفظت بعض منازلها القديمة لتكون أثرًا للغابرين، وتذكارًا للسالفين، وكان حديثي مع ذلك الرفيق إذ ذلك في الفرق بين المشرق والمغرب، فصار كلما نمرُّ في طريق أو يحيط بنا ميدان ينبه من التفاتي معجبًا بحسن الطرقات، ظانًّا أن هذا النظام لم يكن في المدن المشرقية. فمازلت أحدثه عن بلادنا وحسن مواقعها حتى قذفت بنا الأقدام في شوارع خارجة عن النظام، تسيل بها مياه المنازل كريهة الرائحة، فالتفت إليه قائلًا: أيباع في تلك الشوارع ماء كلونيا؟ فبدلًا عن أن يلتزم بالحجة عاث بيديه ورجليه مضطربًا ضاحكًا مكررًا جمل العفو، حتى هدأ باله، وأخذ يُرقم ما كان من الحديث للتذكار، ولم نزل معًا حتى تصوبت الشمس للمغيب، فمددنا يد الوداع متواعدين بتواصل الرقاع، وعمدت للمبيت بها إلى الصباح قاصدًا مبارحتها إذا ابيضَّ من الدجى
الجناح.
1 / 328
أما مدينة كلونيا فهي موضوعة على الجهة الشرقية لنهر الرين صانعة عليه قوسًا، يسكنها ٢٦٧٠٠٠ نفس، وخمسة أسداسهم كاثوليكيون، وهي من أعظم مدن ولاية الرين إحدى ولايات البروسيا، ومن أهم موضع للتجارة بألمانيا، وتعد هي ومدينة ديتس التي توازيها من الشاطئ الآخر قلعة حصينة من الدرجة الأولى، وقد أوصلوا بينهما جسرًا عظيمًا حديدي المادة كبري وقد اتسع عمرانها اتساعًا عجيبًا منذ ما جعلت قلعة، وذلك من سنة ١٨٨١ ميلادية.
وكلمة كلونيا لاتينية ومعناها المستعمرة، أسسها أحد قواد الرومانيين المسمى أجربا في سنة ٣٨ قبل الميلاد، ودعا إلى سكناها بعضًا من القبائل الألمانية وكانت تسمى وقتئذ كلونيا أجرينسيس أي مستعمرة أجربا، ثم اختصرت، فيما بعد، فقيل لها كلونيا فقط، ويدعوها الألمانيون بكلمة كان. وفي أواخر القرن الخامس عشر بعد الميلاد تملَّكها الإفرنج أسلاف الفرنساويين، ولم تلبث إلا وقد صارت جمهورية يحكمها مجلس يُدعى بمجلس الشيوخ. وقد كان بألمانيا مدن تماثلها في الاستقلال، وتتبع إمبراطور ألمانيا تبعية شرف، ولكل منها مجلس خاص، ولمجموعها مجلس عام كان ينعقد في مدينة لوبك في شمال ألمانيا على بحر البلطيك وفاقت كلونيا إذ ذاك باقي
1 / 329
تلك المدن لأهمية موقعها التجاري. وفي القرن الثاني والثالث عشر تولع أهلها بإقامة شعائر الدين المسيحي فتفننوا في بناء الكنائس والبيع حتى صارت لهم اليد الطولى في إتقان المباني، كما يدلك عليه الكنيسة الكبرى التي وصفتها آنفا، وفي القرن الرابع والخامس عشر أزهرت فيها صناعة التصوير، واشتهرت مدرستها في تلك الصناعة اشتهارًا عجيبًا، وفي القرن السادس عشر أخذت كلونيا في الانحطاط شيئًا فشيئًا، ونزل بها الفرنساويون سنة ١٧٩٤م واستولت عليها البروسيا في أواخر سنة ١٨١٥ في الحرب الشهيرة
المسمّاة بحرب الحرية وقد ذكرتها في الرحلة البرلينية. وحينما سَلَّ الصبحُ من غمد الظلام سيفه، وفتح الأفق عن حدقة الشمس طرفه، هزتني أريحية الآمال إلى السير والترحال، فامتطيت الرين في باخرة ماخرة.
يشق حَباب الماء حيزومُها بها ... كما قسم التربَ المفائلُ باليد
فنَهَرت بنا تتثنى، ونحن بدلالها نتغنى، وقد بسط الربيع على الشواطئ بساطه الأخضر، وخلع عليها ثوبه الأزهر.
وبساط الربيع أخضر قد ... حامَ به الرين حاملًا أطرافه
1 / 330
وقد كان على ظهر تلك الجارية، وتيك البضة العارية، جمٌّ من الغرباء، قد بارحوا الوطن لإمتاع الطرف بذلك المنظر الحسن، فسررت حيث ضمني وإياهم نادٍ سمعت فيه مختلف لغاتهم، وتعرفت تباين صفاتهم، فمن رجال أولي حماسة وسماحة، لطيفي السجايا فسيحي الساحة، ومن جوارٍ حسان قد تمنطقن بالجمال، وتوشحن بوشاح الكمال.
حسان أعارتها الظِبا حسن وجهها ... كما قد أعارتها العيون الجآذر
ينثنين عن كثبان، ويتمايلن وهن غصن البان، وقد ترامت غدائرهن على الأقدام لتشفع لأولي الهوى والهيام، ولولا المجد والفضائل لأصبح مثلي أسير تلك الحبائل.
وإني لأستحي من المجد أن أُرى ... حليفَ غوانٍ أو أليف أغاني
على أنني من قوم، ولا فخر شيمتهم الغرام، وديدنهم الهيام، فما ترى منهم إلا في المحبة ناثرًا، ولا في الصبابة إلا شاعرًا.
نحن قوم تذيبنا الأعين النجل ... على أننا نُذيب الحديدا
ولم تزل الباخرة بنا تتثنى وتميل، ونحن نمتع الطرف بذاك المنظر الجميل، إلى أن مرَّت بنا على قرية باسقة الأشجار،
1 / 331
زاهية الثمار، لا أعلم منها سوى أنها وطن
لرجل يدعى بتهوفن كان فريد عصره في الألحان الموسيقية بأنحاء ألمانيا، ولد بها سنة ١٧٧٠ ومات في فينا سنة ١٨٢٧ ميلادية، وتسمى تلك المدينة بن ومنها تأخذ الشواطئ ارتفاعًا، فتصنع أكمات وجبالًا. ويسمون الجبال الشرقية بجبال أيفل والغربية بجبال فسترفالد وهي مزروعة بالكروم والأعناب، يتخذ منها النبيذ أبيضه وأحمره، وليس لأهل تلك الجبال اشتغال إلا بزرع الأعناب وتعهدها. وبعد قليل أشرفنا على مدينة يدعونها كونجس فنتر ومنها تتفرع سبعة جبال وشاهدت بها من بعد قصرًا يسمونه أدرخن فلز ومعناه صخرة الآفة وذلك أنه كان يسكنه في قديم الزمان رجل يدعى زيج فريد وكان بطلًا شجاعًا، ويزعمون أن حية كانت بمغارة هناك فتجاسر ذلك البطل على قتلها والاستحمام بدمها، ولذلك يسمون نبيذ تلك الجهة أدرخن بلود أي دم الحية.
ولما كان وقت الظهيرة تليت علينا سورة المائدة فاحتاط بها الجميع، وقد امتزجت الظباء بالأسود، ودارت عليهم كؤوس ابنة العنقود، وأما أنا فتناولت، ولا فخر الراح ملؤها العذب القراح، مكتفيًا بما خامر خُماري من صرف الهوى وصفو الهواء، وحسن ذلك المنظر الوضاء، ولم يزالوا بالكؤوس، يصيدون سرور النفوس،
1 / 332
ولطرح الأتراح يرفعون الأقداح، وهي كأنها الياقوتة الحمراء، حتى تشابه عليهم الراح والصهباء:
رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وحينما قتلتْ تلك المقتلةُ أتراحهم، وأقامتْ أفراحهم، أخذ الرجال يسامرون النساء، حيث على يمين كل منا غيداء هيفاء، وريثما جاذبت مع قسيمتي أطراف الحديث، من ماضٍ وحديث التفتت إلي ومالت:
والسكر في وجنتها وجفنها ... يفتح وردًا ويغُض نرجسًا
وتثنت وقالت: سيدي العفو قبل الملام.
فقلت: بروحي سيدتي، علام؟
فقالت: أفي ريعان الشباب وتجتنب الشراب؟ والكؤوس راحة النفوس. ونحن في مجلس أشرقت بأفقه شموس السرور، وأحدقت عليه هالة الحبور؟ وقد علمت من حديثك الفصل أنك عربي المنشأ مشرقي الأصل، وقد سارت إلينا الأخبار وامتلأت الصحائف والأسفار تنبئنا عن الخلاعة المشرقية، والصبابة العربية، فأين أنت من حانات الخلفاء السالفين، ومحافل الأدباء الماجنين، وأحاديث العشاق الذين أضناهم الحب والاشتياق؟
فحين أطربت مسمعي بلفظها الأغن، وبعبارة منطقها الحسن، علمت أنها رضيعة لبان الأدب، وسليلة
1 / 333