فوض إلى أمراء جندك وقوادهم أمور أصحابهم، والأخذ على أيديهم رياضة منك لهم على السمع والطاعة لأمرائهم والاتباع لأمرهم، والوقوف عند نهيهم، وتقدم إلى أمراء الأجناد في النوائب التي ألزمتهم إياها، والأعمال التي استنجدتهم لها، والأسلحة والكراع التي كتبتها عليهم، واحذر اعتلال أحد من قوادك عليك، بما يحول بينك وبين جندك وتقويمهم لطاعتك وقمعهم عن الإخلال بمراكزهم لشيء مما وكلوا به من أعمالهم؛ فإن ذلك مفسدة للجند معي للقواد عن الجد والمناصحة، والتقدم في الأحكام.
واعلم أن استخفافهم بقوادهم وتضييعهم أمرهم، دخول الضياع على أعمالهم واستخفاف بأمرك الذي يأتمرون به، ورأيك الذي ترتئي، وأوعز إلى القواد ألا يتقدم أحد منهم على عقوبة أحد من أصحابه، إلا عقوبة تأديب وتقويم ميل وتثقيف أود، فأما عقوبة تبلغ تلف المهجة وإقامة الحد في قطع، أو إفراط في ضرب، أو أخذ مال أو عقوبة في سفر، فلا يلين ذلك من جندك أحد غيرك، أو صاحب شرطتك بأمرك، وعن رأيك وإذنك، ومتى لم تذلل الجند لقوادهم وتضرعهم لأمرائهم، يوجب عليك لهم الحجة بتضييع، وإن كان منهم لأمرك خلل إن تهاونوا به من عملك، أو عجز إن فرط منهم في شيء وكلتهم إليه، أو أسندته إليهم، ولم تجد إلى الإقدام عليهم باللوم، وعض العقوبة مجازا تصل به إلى تعنيفهم بتفريطك في تذليل أصحابهم لهم، وإفسادك إياهم عليهم، فانظر في ذلك نظرا محكما، وتقدم فيه تقدما بليغا، وإياك أن يدخل حزمك وهن أو عزمك أمارات من رأيك ضياع، والله أستودع دينا في نفسك.
إذا كنت من عدوك على مسافة دانية، وسنن لقاء مختصر. وكان من عسكرك مقتربا قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته، فتأهب أهبة المناجزة وأعد عدد الحذر وكتب خيولك وعب جنودك، وإياك والمسير إلا مقدمة وميمنة وميسرة وساقة قد شهروا بالأسلحة ونشروا البنود والأعلام، وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم قد أخذوا أهبة القتال، واستعدوا للقاء ملحين إلى مواقفهم، عارفين بمواضعهم من مسيرهم ومعسكرهم، وليكن ترجلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم ومراكزهم.
وعرف كل قائد وأصحابه موقعهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة لازمين لها، غير مخلين بما استنجدتهم له، ولا متهاونين بما أهبت بهم إليه، حتى تكون عساكرهم في كل منهل تصل إليه ومسافة تختارها، كأنه عسكر واحد في اجتماعها على العدة، وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها، ونزولها على مراكزها ومعرفتها بمواضعها، إن أضلت دابة موضعها، عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها، وفي أي المحل حلوله منها؛ فردت إليه هداية ومعرفة ونسبة قيادة صاحبها؛ فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له، اطراح عن جندك مؤنة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة.
ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا، ورضا في العامة وإنصافا من نفسه للرعية، وأخذا بالحق في المعدلة، مستشعرا تقوى الله وطاعته، آخذا بهديك وأدبك واقفا عند أمرك ونهيك معتزما على مناصحتك وتزيينك نظيرا لك في الحال، وشبيها بك في الشرف وعديلا في المواضع ومقاربا في الصيت، ثم اكشف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر، وأعنه بالأموال واغمره بالسلاح، ومره بالعطف على ذوي الضعف من جندك ومن رخفت به دابته، وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة، من غير أن تأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره، أو التخلف بعد ترجله إلا المجهود أو المطروق بآفة، ثم تقدم إليه محذرا ومره زاجرا، وانهه مغلظا بالشدة على من مر به منصرفا عن معسكرك من جندك بغير جوارك شادا لهم أسرا، وموقرهم حديدا ومعاقبهم موجعا، أو موجههم إليك فتنهكهم عقوبة، وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة.
واعلم أنه إن لم يكن بذلك الموضع من تسكن إليه واثقا بنصيحته، عارفا ببصيرته قد بلوت منه أمانة تسكنك إليه، وصرامة تؤمنك مهانته، ونفاذا في أمرك يرخي عنك خناق الخوف في إضاعته، لم آمن تسلل الجند عنك لواصا، ورفضهم مراكزهم وإخلالهم بمواضعهم، وتخلفهم عن أعمالهم آمنين تغيير ذلك عليهم، والشدة على من اخترمه منهم ما ... ذلك في وهنك، وأخذ من قوتك وقل من كثرتك.
اجعل خلف ساقتك رجلا من وجوه قوادك جليدا ماضيا، عفيفا صارما شهم الرأي شديد الحذر شكيم القوة غير مداهن في عقوبة ولا مهين في قوة، في خمسين فارسا من خيلك تحشر إليك جندك، ويلحق بك من يتخلف عنك بعد الإبلاغ في عقوبتهم، والنهك لهم والتنكيل بهم، وليكن لعقوبتك في المنزل الذي ترتحل عنه، والمنهل الذي تتقوض منه، مفرطا في النقض والتبع لمن تخلف عنك مشيدا في أهل المنهل، وساكنه بالتقدم موعزا إليهم في إزعاج الجند عن منازلهم، وإخراجهم من مكانهم وإبعاد العقوبة الموجعة، والنكال المنيل في الإشعار وإصفاء الأموال، وهدم العقار لمن آوى منهم أحدا، أو ستر موضعه وأخفى محله، وحذره عقوبتك إياه في الترخيص لأحد، والمحاباة لذي قرابة، والاختصاص بذلك لذي أثرة أو هوادة، وليكن فرسانه منتخبين في القوة، معروفين بالنجدة، عليهم سوابغ الدروع دونها شعار الحشو وحب الاستحثاث، متقلدين سيوفهم سامطين كنائنهم مستعدين لهيج إن بدهم، أو كمين إن يظهر لهم، وإياك أن تقبل في دوابهم إلا فرسا قويا أو برذونا وثيجا؛ فإن ذلك من أقوى القوة لهم، وأعون الظهير على عدوهم - إن شاء الله.
ليكن رحيلك إبانا واحدا ووقتا معلوما، لتخف المؤنة بذلك على جندك ويعلموا أوان رحيلهم، فيقدموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم وأعلاف دوابهم، وتسكن أفئدتهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه، ويطمئن ذوو الحاجات إبان الرحيل، ومتى يكن رحيلك مختلفا تعظم المؤنة عليك وعلى جندك ويخلوا بمراكزهم، ولا يزال ذوو السفه والنزق يترحلون بالإرجاف وينزلون بالتوهم، حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة.
إياك أن تنادي برحيل من منزل تكون فيه، حتى يأمر صاحب تعبيتك بالوقوف على معسكرك، أخذا بفوهة جنبتيه بأسلحتهم عدة لأمر إن حضر، ومفاجأة من طليعة للعدو إن أراد نهزة، أو لمحت عندكم غرة، ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة وأهبتك معدة وجنتك واقية، حتى إذا استقللتم من معسكركم وتوجهتم من منزلكم، سرتم على تعبيتكم بسكون ريح وهدوء حملة وحسن دعة.
فإذا انتهيتم إلى منهل أردت نزوله، أو هممت بالمعسكر به، فإياك ونزوله إلا بعد العلم بأن تعرف لك أحواله، أو يسبر علم دفينه ويستبطن علم أموره، ثم ينهيها إليك وما صارت إليه لتعلم كيف احتمال عسكرك، وكيف مأواه وأعلامه وكيف موضع عسكرك منه، وهل لك إذا أردت مقاما به أو مطاولة عدوك ومكايدته، فيه قوة تحملك ومدد يأتيك؛ فإنك إن لم تفعل ذلك لم تأمن أن يهجم على منزل يزعجك منه ضيق مكانه، وقلة مياهه وانقطاع مواده إن أردت بعدوك مكيدة، واحتجت من أمرهم إلى مطاولة؛ فإن ارتحلت منه كنت غرضا لعدوك، ولم تجد إلى المحاربة والأخطار سبيلا، وإن أقمت به أقمت على مشقة حصر وفي أزل وضيق، فاعرف ذلك وتقدم فيه.
Page inconnue