قال ثعلب: البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير، فتأمل.
ومما يذكر عن ابن المقفع ما رواه صاحب الأغاني وغيره قال: حدثني اليزيدي، قال: حدثني عمي عبيد الله، قال: حدثني أحمد، قال: سمعت جدي أبا محمد يقول: كنت ألقى الخليل بن أحمد، فيقول لي: أحب أن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع. فجمعت بينهما، فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علما، ثم افترقنا فلقيت الخليل، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت علمه أكثر من عقله، ثم لقيت ابن المقفع فقلت له: كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه. وقال المرتضى: إن من جمعهما كان عباد بن عباد المهلبي، فتحادثا ثلاثة أيام وليالهن.
قال الأصمعي: قيل لابن المقفع: من أدبك؟ فقال: نفسي؛ إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته، ودعاه عيسى بن علي للغداء فقال: أعز الله الأمير، لست يومي للكرام أكيلا. قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم، والزكمة قبيحة الجوار، مانعة من عشرة الأحرار. ومن كلامه: شربت من الخطب ريا ولم أضبط لها رويا؛ ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظاما وليس غيرها كلاما.
ومما يؤثر عنه وهو ما يدل على رأيه في الإنشاء أنه قال لبعض الكتاب: إياك والتتبع لوحشي الكلام طمعا في نيل البلاغة؛ فإن ذلك هو العي الأكبر. وقال لآخر: عليك بما سهل من الألفاظ مع التجنب لألفاظ السفلة، وقيل له: ما البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها.
وفي البيان والتبيين عن إسحاق بن حسان بن فوهة، أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد قط؛ سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة، منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة.
فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين؛ فالإكثار في غير خطل والإطالة في غير إملال. قال: وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، كأنه يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواكب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت والغرض الذي إليه نزعت.
قال: فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام؛ فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنهما لا يرضيهما شيء، وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا تناله، وقد كان يقال: «رضاء الناس شيء لا ينال.»
وقال عبد العظيم ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير، في البديع، في باب التهذيب والتأديب: قد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعباراتهم رائقة، وفصولهم متقابلة، وتلك طريقة الإمام علي - عليه السلام - ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام؛ كابن المقفع، وسهل بن هارون، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.
وقال الأمين المحبي فيما يعول عليه في المضاف والمضاف إليه: يتيمة ابن المقفع يضرب بها المثل لبلاغتها وبراعة منشئها، وهي رسالة في نهاية الحسن، تشتمل على محاسن من الأدب، وقد ذكرها أبو تمام وأجراها مثلا في قوله للحسن بن وهب:
ولقد شهدتك والكلام لآلئ
Page inconnue