استدرت لأمضي بعيدا، فتحرك أمامي بثقل. «لا أظن أن ثمة شكا حول الكيفية التي وصلت بها هذه النقوش إلى جدراني.»
قلت في فتور وضجر: «إذا كنت تريد أن تقول إن لي صلة بهذا الأمر، فلا بد أنك مجنون.» «كيف وصلت هذه النقوش إلى هنا إذن؟ لمن هذا المرحاض؟ لمن؟» «إنه بلا مفتاح. أي شخص بإمكانه الصعود إلى هنا ودخوله. ربما صعد بعض الصبية من الشارع إلى هنا وفعلوا ذلك الليلة الماضية بعد أن غادرت إلى المنزل، كيف لي أن أعرف؟» «إنه لشيء مؤسف أن نلقي باللوم على الصبية في كل شيء بهذه الطريقة، في حين أن الكبار هم من يفسدونهم. يمكنك تأمل هذا الأمر قليلا. هناك قوانين. قوانين مكافحة الفحشاء. تسري على مثل هذه الأمور، وعلى المطبوعات أيضا حسبما أظن.»
هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أذكر أنني تنفست فيها بعمق وبتعمد، لأغراض تتعلق بضبط النفس. لقد أردت قتله حقا. أذكر كم بدا وجهه رخوا ومثيرا للاشمئزاز، وعيناه مغلقتين تقريبا ، ومنخاره منفوشا مستنشقا رائحة الاستقامة المطمئنة، رائحة النصر. لو لم يحدث ذلك الشيء الأحمق، ما انتصر أبدا. لكنه انتصر. ربما رأى شيئا في وجهي أوهن عزيمته - رغم لحظة الانتصار هذه - إذ تراجع إلى الجدار، وبدأ يقول إنه حقيقة، في واقع الأمر، لم يشعر أنني يمكن أن أفعل مثل هذه الأشياء شخصيا، بل ربما يفعلها أصدقاء معينون لي - فما كان مني إلا أن دخلت حجرتي وأغلقت الباب.
كانت الغلاية تصدر ضجيجا مخيفا، فقد غلى الماء بها حتى تبخر كله تقريبا. جذبتها سريعا بعيدا عن الموقد، وجذبت القابس ووقفت لبرهة أختنق من فرط الغضب. مرت نوبة الانفعال هذه وفعلت ما توجب علي فعله من قبل؛ وضعت آلتي الكاتبة وأوراقي فوق المقعد وطويت الطاولة. أغلقت غطاء القهوة السريعة الذوبان بإحكام، ووضعت الوعاء والكوب الأصفر وملعقة الشاي في الحقيبة التي أحضرتها فيها؛ كانت لا تزال مطوية فوق الرف. تمنيت على نحو طفولي أن آخذ بثأري من أصيص النبات الموضوع بالركن بجانب البراد المزخرف بالزهور وسلة المهملات والوسادة، وأيضا - نسيت ذلك - مبراة أقلام بلاستيكية صغيرة موضوعة خلفه.
وفيما كنت أنزل الأشياء إلى السيارة جاءت السيدة مالي. لم أرها كثيرا منذ أول يوم جئت فيه إلى هنا. لم تبد منزعجة، بل بدت عملية ومذعنة.
قالت: «إنه مستلق. هو ليس على طبيعته.»
حملت الحقيبة التي بها القهوة والكوب. كانت هادئة للغاية لدرجة جعلتني أشعر بغضبي يغادرني، ليحل محله كآبة غامرة. •••
لم أعثر على مكتب آخر بعد. أظن أنني سأحاول مجددا يوما ما، لكن ليس الآن. علي الانتظار على الأقل حتى تنزوي تلك الصورة التي أراها بوضوح شديد في ذهني، رغم أنني لم أرها قط في الواقع: السيد مالي يحمل قطع قماش وفرشا ودلوا ممتلئا بالماء والصابون، ينظف بطريقته الخرقاء، طريقته الخرقاء المتعمدة، جدران المرحاض، وينحني بصعوبة، ويتنفس في أسى، ويرتب في ذهنه روايته الغريبة - التي لن يرضى عنها تماما بطريقة أو بأخرى - عن شخص آخر خان ثقته. وفي الوقت نفسه أنظم أنا كلماتي، بينما يدور بخلدي أن من حقي التخلص منه.
العلاج
لم يحتس والداي الشراب، لكنهما لم يكونا متشددين حيال الأمر، بل أذكر حين وقعت على عهد الامتناع عن الشراب وأنا في الصف السابع، مع بقية ذاك الصف الملقن على نحو ممتاز وإن كان مؤقتا؛ قالت أمي: «إنه محض هراء وتعصب أن يقوم بذلك أطفال في ذلك العمر.» كان من الممكن أن يحتسي أبي الجعة في يوم حار، لكن أمي لم تكن تنضم إليه في ذلك، إلى جانب أنه دائما ما كان يحتسي هذا الشراب «خارج» المنزل، سواء كان ذلك عن غير قصد أو لدلالة رمزية. أغلب الناس الذين عرفناهم كانوا على هذا المنوال، في البلدة الصغيرة حيث عشنا. لن أقول إن هذا الأمر هو ما أوقعني في صعوبات؛ إذ إن الصعوبات التي واجهتها كانت تعبيرا صادقا عن طبيعتي المثيرة للإزعاج؛ الطبيعة نفسها التي دفعت أمي للنظر إلي، في أية مناسبة تستدعي على نحو تقليدي مشاعر الفخر والشعور بإنجاز الأم (أقصد عند مغادرتي لأداء أول رقصة رسمية لي، أو التحضيرات المتعنتة للالتحاق بالكلية)، بتعبير يعكس يأسا يطاردها ولا تستطيع الفكاك منه، كما لو أنه لم يكن بإمكانها أن تتوقع - ولم تتمن - أن تصير الأمور معي مثلما صارت مع الفتيات الأخريات؛ فما تحلم به الفتيات من مغانم - أزهار الأوركيد، الشباب الجذابين، الخواتم الماسية - هي أشياء من الممكن أن يحملها بنات صديقاتها إلى منازلهن في الوقت المناسب، وليس أنا؛ كل ما بوسعها فعله هو تمني وقوع كارثة أخف وطأة من كارثة كبرى، على سبيل المثال، هروبي مع شاب لن يستطيع أبدا كسب قوت يومه، بدلا من اختطافي للاتجار بي في تجارة الرقيق البيض.
Page inconnue