مقدمة
1 - الخوارج
2 - الكوفة عاصمة الإمام علي
3 - غادة الكوفة
4 - العجوز لبابة
5 - سعيد
6 - اللقاء
7 - الصك
8 - تمام الحيلة
9 - طارق مفاجئ
10 - أبو رحاب
11 - بيت أبي رحاب
12 - انقلاب غريب
13 - التهمة الباطلة
14 - علي والخلافة
15 - معاوية وأصحابه
16 - الخوارج
17 - خاتمة الوصية
18 - طيف قطام
19 - المؤامرة
20 - 17 رمضان
21 - آخر العهد بأبي رحاب
22 - رفيق جديد
23 - اللجاجة السذاجة
24 - كشف الأمر
25 - غاية الدهاء
26 - لقاء قطام
27 - منتهى الدهاء
28 - الاجتماعات السرية في عين شمس
29 - عهد جديد
30 - الغدر الفظيع
31 - الفسطاط
32 - سعيد وعبد الله
33 - عمرو بن العاص
34 - عين شمس
35 - الاجتماع السري
36 - السجينة الأمينة
37 - الشك واليقين
38 - كشف السر
39 - عبد الرحمن بن ملجم
40 - برح الخفاء
41 - إتمام الحديث
42 - الحب يعمي ويصم
43 - البغتة
44 - الخلوة
45 - خليج أمير المؤمنين
46 - الإغراق
47 - الندم
48 - خولة
49 - السفر العاجل
50 - تمام الحيلة
51 - عود ريحان
52 - لبابة وابن ملجم
53 - لقاء ابن ملجم
54 - خطبة جديدة
55 - مهمة ريحان
56 - ريحان وبلال
57 - انكشاف الخديعة
58 - يحاول عبثا
59 - انقشاع الغشاوة
60 - منزل الإمام علي
61 - ضمير ابن ملجم
62 - فخ جديد
63 - بلال
64 - مقتل الإمام
65 - لات ساعة مندم
66 - الوصية
67 - موت الإمام ومقتل ابن ملجم
68 - سر جديد
69 - خولة وابن ملجم
70 - قلب خولة
71 - حب جديد
72 - خولة في الفسطاط
73 - نفوذ الحيلة
74 - خولة ووالدها
75 - خبر جديد
76 - عبد الله حي
77 - عريس جديد
78 - نجاة عمرو
79 - ضياع قطام
80 - نجاة معاوية
81 - عبد الله في دار الأمير
82 - عبد الله وخولة
83 - تتمة الحديث
84 - البشارة غير السارة
85 - الخطبة الجديدة
86 - الزيارة الأولى
87 - الزفاف الكاذب
88 - كشف النقاب
89 - استطلاع السر
90 - الوفاق التام
91 - قدوم بلال
92 - إبلاغ الرسالة
93 - العزم على الكوفة
94 - دعوة غريبة
95 - غرفة عمرو
96 - الاستنطاق
97 - الجلسة الخصوصية
98 - دعوى قطام
99 - دفاع خولة
100 - صدق اللهجة
101 - فشل الظالمين
102 - العفو العام
103 - كشف السر
104 - الجريمة والفرار
105 - غوطة دمشق
106 - النزول
107 - على الباغي تدور الدوائر
108 - الفاكهة الغريبة
109 - الموت عبر الأحياء
110 - إذا سقط اللئيم لا يلقى نصيرا
111 - الوصول إلى الفسطاط
112 - المداعبة
113 - جائزة مئة دينار
114 - الطلاق والزواج
مقدمة
1 - الخوارج
2 - الكوفة عاصمة الإمام علي
3 - غادة الكوفة
4 - العجوز لبابة
5 - سعيد
6 - اللقاء
7 - الصك
8 - تمام الحيلة
9 - طارق مفاجئ
10 - أبو رحاب
11 - بيت أبي رحاب
12 - انقلاب غريب
13 - التهمة الباطلة
14 - علي والخلافة
15 - معاوية وأصحابه
16 - الخوارج
17 - خاتمة الوصية
18 - طيف قطام
19 - المؤامرة
20 - 17 رمضان
21 - آخر العهد بأبي رحاب
22 - رفيق جديد
23 - اللجاجة السذاجة
24 - كشف الأمر
25 - غاية الدهاء
26 - لقاء قطام
27 - منتهى الدهاء
28 - الاجتماعات السرية في عين شمس
29 - عهد جديد
30 - الغدر الفظيع
31 - الفسطاط
32 - سعيد وعبد الله
33 - عمرو بن العاص
34 - عين شمس
35 - الاجتماع السري
36 - السجينة الأمينة
37 - الشك واليقين
38 - كشف السر
39 - عبد الرحمن بن ملجم
40 - برح الخفاء
41 - إتمام الحديث
42 - الحب يعمي ويصم
43 - البغتة
44 - الخلوة
45 - خليج أمير المؤمنين
46 - الإغراق
47 - الندم
48 - خولة
49 - السفر العاجل
50 - تمام الحيلة
51 - عود ريحان
52 - لبابة وابن ملجم
53 - لقاء ابن ملجم
54 - خطبة جديدة
55 - مهمة ريحان
56 - ريحان وبلال
57 - انكشاف الخديعة
58 - يحاول عبثا
59 - انقشاع الغشاوة
60 - منزل الإمام علي
61 - ضمير ابن ملجم
62 - فخ جديد
63 - بلال
64 - مقتل الإمام
65 - لات ساعة مندم
66 - الوصية
67 - موت الإمام ومقتل ابن ملجم
68 - سر جديد
69 - خولة وابن ملجم
70 - قلب خولة
71 - حب جديد
72 - خولة في الفسطاط
73 - نفوذ الحيلة
74 - خولة ووالدها
75 - خبر جديد
76 - عبد الله حي
77 - عريس جديد
78 - نجاة عمرو
79 - ضياع قطام
80 - نجاة معاوية
81 - عبد الله في دار الأمير
82 - عبد الله وخولة
83 - تتمة الحديث
84 - البشارة غير السارة
85 - الخطبة الجديدة
86 - الزيارة الأولى
87 - الزفاف الكاذب
88 - كشف النقاب
89 - استطلاع السر
90 - الوفاق التام
91 - قدوم بلال
92 - إبلاغ الرسالة
93 - العزم على الكوفة
94 - دعوة غريبة
95 - غرفة عمرو
96 - الاستنطاق
97 - الجلسة الخصوصية
98 - دعوى قطام
99 - دفاع خولة
100 - صدق اللهجة
101 - فشل الظالمين
102 - العفو العام
103 - كشف السر
104 - الجريمة والفرار
105 - غوطة دمشق
106 - النزول
107 - على الباغي تدور الدوائر
108 - الفاكهة الغريبة
109 - الموت عبر الأحياء
110 - إذا سقط اللئيم لا يلقى نصيرا
111 - الوصول إلى الفسطاط
112 - المداعبة
113 - جائزة مئة دينار
114 - الطلاق والزواج
17 رمضان
17 رمضان
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة
فرغنا والحمد لله من الحلقة الرابعة لسلسة روايات الإسلام وفيها تفصيل خبر المؤامرة المشهورة على قتل الثلاثة العظام الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص في السنة الأربعين للهجرة وتفصيل مقتل الإمام علي مع ما رافق ذلك من الحوادث التي تبين حال الخوارج وانقسام العالم الإسلامي واشتداد الفتن إلى تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية.
وسنتبع وراية «17 رمضان» هذه برواية أخرى هي الحلقة الخامسة من السلسلة المذكورة نبسط فيها مقتل الإمام الحسين وما يتقدمه ويتبعه من الفتن والحروب وسندعوها «غادة كربلاء » نسبة إلى المكان الذي قتل فيه الحسين. وننشرها ملحقة بالسنة التاسعة من الهلال. ونسأل الله أن يوفقنا إلى تمام هذه الخدمة وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الأول
الخوارج
الخوارج جماعة من رجال الإمام علي نقموا عليه لأنه قبل بالتحكيم على أثر واقعة صفين (راجع عذراء قريش) وكانوا قبل ذلك في مقدمة الذين حرضوه على قبوله. لكنهم لما رأوا التحكيم آل إلى الحكم بخروج الخلافة منه إلى معاوية بن أبي سفيان نقضوا بيعته ونبذوا طاعته وطمعوا في السلطة لأنفسهم فبايعوا واحدا منهم اسمه عبد الله بن وهب حاربوا تحت رايته زمنا.
ولما صدر حكم الحاكمين بخلع علي وتثبيت معاوية اشتد أزر معاوية وبويع بالخلافة في الشام. وكان الخوارج لا يزالون في بدء أمرهم فأخذ علي يتجهز لحرب معاوية. وفيما هو يتجهز جاءه الخبر بتألب الخوارج وتمردهم فنصح لهم وجادلهم وبين لهم أنه لم يخطئ بقبول التحكيم وإنه لم يقبله إلا إجابة لطلبهم فلم يرتدعوا. فرأى أن يستأصل شأفتهم قبل خروجه إلى معاوية. فحاربهم في مواقع عديدة أشهرها واقعة النهروان وراء دجلة بالقرب من مكان بغداد انتصر فيها عليهم نصرا مبينا وشتت شملهم تشتيتا ولكنهم مازالوا يجتمعون سرا.
وفي سنة 28ه فتح عمرو بن العاص مصر وقتل محمد بن أبي بكر عاملها وتولاها باسم معاوية فأصبح معاوية خليفة في مصر والشام ومقامه دمشق. وبقي علي في العراق والجزيرة والحجاز واليمن ومقامه الكوفة.
وأخذ معاوية يبعث سراياه إلى بلاد الإمام علي يلتمس افتتاحها للاستقلال بالخلافة. فأنفذ جندا إلى مكة وآخر إلى اليمن وآخر إلى الجزيرة يحاربون ويناوئون ولكنهم لم يبلغوا اربا. فدخلت سنة أربعين للهجرة وعلي يتأهب للخروج على معاوية وقد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت. وفي ما هو في ذلك فاجأه القدر فمات مقتولا كما سترى تفصيل ذلك في ما يلي.
الفصل الثاني
الكوفة عاصمة الإمام علي
هي مدينة إسلامية مصرها سعد بن أبي وقاص أحد كبار الصحابة في السنة السابعة عشرة للهجرة على عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد أن فتح العراق وقد أشار عليه عمر أن يقيم في مكان لا يحول بينه وبين المدينة بحر ولا جسر حتى إذا أراد أن يقدم إليه على راحلته قدم
1
فبنى الكوفة في غربي الفرات على شاطئ بحيرة كانت هناك بقرب مكان الحيرة بينها وبين الفرات بضعة وعشرون ميلا.
وكان بناؤها في أول أمرها بالقصب فأصابها حريق فاستأذنوا الخليفة عمر في بناءها باللبن فقال «افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان والزموا السنة يلزمكم الدولة» ففعلوا ذلك وجعلوا طرقها نوعين المناهج والأزقة وجعلوا عرض المنهج عشرين ذراعا وعرض الرقاق سبعة أذرع وما بين المناهج أماكن البناء أربعون ذراعا. والقطائع ستون ذراعا. وأول شيء خطوه فيها المسجد. فوقف في وسط المدينة رجل شديد النزع رمى إلى كل جهة بسهم وأمروا أن يبنوا ما وراء ذلك. وأما الساحة حول ذلك الرامي إلى مرمى سهامه فتبقى المسجد.
وبنوا في مقدمة المسجد ظلة أو رواقا أقاموه على أساطين رخام من بناء الأكاسرة نقلوها من أخربة الحيرة. وجعلوا على الصحن خندقا لئلا يقتحمه أحد ببنيان وبنوا لسعد بن أبي وقاص قصرا بجانب المسجد نقلوا حجارته من آجر بنيان الأكاسرة وسموه قصر سعد.
1
ومازالت الكوفة تعمر حتى اتخذها الإمام علي مقرا له بعد واقعة الجمل سنة 26ه فازدادت عمارتها بما تقاطر إليها من الناس بعد أن صارت عاصمة الخلافة وتكاثرت فيها الأبينة وعمرت الأسواق وأنشئت حولها الحدائق والبساتين مما يلي بحيرتها.
الفصل الثالث
غادة الكوفة
وكان في ضاحية الكوفة على شاطئ البحيرة حديقة من نخيل حولها سور من جذوع النخل يحيط بالحديقة إلا من جهة البحيرة. وفي وسط الحديقة بيت مبني من اللبن يدل شكله على أن سكانه من أهل اليسار وقد يخيل لك إذا دخلت الحديقة أنه مسكن بعض الأمراء ذوي الخدم والحشم لما ترى بين نخيله من آثار المعالف والأوتاد والسلاسل والقيود. وترى جذوع بعض النخيل قد تأكلت من شد الأفراس إليها على توالي الأيام أو من تعهد الأفراس تقشيرها بأسنانها وهي مشدودة إليها .
وكان الوقت ليلا في أوائل السنة الأربعين للهجرة في زمن الخريف
1
وقد نضج الثمر على نخله وليس من يقطفه فتساقط بعضه على الأرض وليس من يلتقطه. وكان القمر بدرا وقد أطل من وراء الآكام فأرسل أظلال النخيل مستطيلة متقاطعة. والجو هادئ والسكوت سائد لبعد المكان عن المدينة وضوضائها فلا تسمع غير نقيق الضفادع على شاطئ تلك البحيرة يتخلله صرير الصراصير وقرقرة القر. وربما هب النسيم فأسمعك حفيف سعف النخل هنيهة ثم انقطع. ولقد تعجب لوحشة ذلك المكان مع ماتراه فيه من آثار الأنس ودلائل الأبهة.
ولو دخلت المنزل لرأيته عبارة عن دار وثلاث غرف مستطرقة بعضها إلى بعض مفروشة أرضها بحصر من سعف النخل فوقها جلود الماعز إلا غرفة في أرضها طنقسة جميلة عليها وسائد من الخز. وفي بعض جوانب الغرفة مصباح ضعيف النور. وعلى إحدى تلك الوسائد فتاة في مقتبل العمر أشرق وجهها بماء الشباب. وقد حلت شعرها الأسود فأرسلته على كتفيها فحجب بعض جبينها وغطى عذاريها فحجب قرطيها وسالفيها ولكنه زاد عينيها كحلا وإشراقا. ترى تلك العينين الدعجاوين البراقتين قد غشيهما الدمع وأخذ ينحدر على وجنتين محمرتين بينهما أنف دقيق مستقيم تحته فم صغير. فإذا زاد انسكاب الدمع استلقته بأطراف جدائلها أو بأحد كميها. وكانت لابسة جلبابا أسود حدادا على فقيديها. ولم يزدها ذلك الحداد إلا جمالا وفتنة. وكأن تلك الغادة استأنست بوحدتها فأطلقت لنفسها عنان البكاء حيث لا رقيب ولا عدو فأخذت تلطم خديها وتندب فقيدين عزيزين قتلا في يوم واحد.
تلك هي قطام بنت شحنة بن عدي
2
من قبيلة تيم الرقاب. تلك هي فتاة الكوفة الفتانة التي ذاع صيتها في الآفاق وسمع بجمالها القاصي والداني حتى أصبحت فتنة الكوفيين ومضرب أمثالهم. وقد شخصت إليها الأبصار وحامت حولها القلوب فباتت معجبة بجمالها لا تعرف هما ولم تذق غما حتى بليت بقتل والدها وأخيها معا.
قتل والدها وأخوها في واقعة النهروان
3
وكانا من جملة الخوارج الذين نقموا على علي لقبوله بالتحكيم فانضموا إلى من نقض بيعته وحاربوا في جملة من حاربه.
وكانت قطام ثابتة الجأش شديدة الانتقام ذات حيلة ودهاء ما انفكت منذ قتل والدها وأخوها وهي تندبهما وتلتمس الانتقام لهما ولكنها لم تكن تستطيع المجاهرة بذلك والكوفة مقر الإمام علي ومجتمع أنصاره وشيعته. فأقامت في منزلها في ضاحية الكوفة وحيدة ليس معها سوى عبد كهل ربي في أهلها منذ صباه. فلما بليت بمصيبتها هجرها سائر الخدم والأعوان إلا هذا. وكانت ترتاح إلى بث شكواها له وهو يخفف عنها ويعدها بنيل المرام.
وكانت قد انفذته في أصيل ذلك اليوم يستقدم لها عجوزا من مولدات الكوفة كانت قد ربيت بين ذراعيها منذ نعومة أظفارها وهي تحن إليها حنين الوالدة. فطال غيابه وسدل الليل بقائه ولم يعد. فانشغل خاطرها وشغلت عن أحزانها بالهواجس لانفرادها في ذلك المكان. ولكنها كانت إذا سكتت هنيهة تذكرت والدها وأخاها ومن كان يقيم في تلك الدار من الخدم والعبيد فتعود إلى البكاء والنحيب.
الفصل الرابع
العجوز لبابة
وفيما هي في ذلك سمعت وقع أقدام مسرعة عرفت أنها خطوات عبدها ريحان فأجفلت ولكنها استأنست به فوقفت وأسرعت لاستقباله. وكان ريحان طويل القامة شديد السواد خفيف العضل سريع الحركة جاحظ العينين أفطس الأنف عظيم الوجنتين بارز الأسنان ويزيدها بروزا تدلي شفته السفلى وانحسار شفته العليا وكان يستهلك في خدمة سيدته فابتدرها بالسلام. فقالت وما الذي أخرك يا ريحان وإنت تعلم أني وحيدة هنا. أين هي لبابة.
قال: إنها قادمة سريعا.
قالت: وما سبب غيابك حتى الآن.
قال: كنت في انتظارها وهي تخاطب شابا وتجادله ....
قالت: وأي شاب
قال: لا أدري ... ها قد أتت وهي تقص عليك الخبر مفصلا.
وما أتم كلامه حتى دخلت العجوز تتوكأ على عكازها وقد احدودب ظهرها وأحناها الكبر فزادها قصرا ولكنها ما زالت سريعة الحركة شديدة العصب وكانت عمصاء العينين غائرة الفم لخلو فكيها من الأسنان مجعدة الخدين غائرتهما. فتقدمت إلى قطام وقد غطت شعرها الشائب بنقاب أسود يكاد يجر ورائها لطوله وقصرها. وحالما دنت منها قبلتها وأخذت تخفف عنها وتقول لا بأس عليك يا ابنتي اعذريني لإبطائي في الحضور.
فلم تزدد الفتاة إلا بكاء وهي تقول ما الذي يشغلك عني يا خالة وأنت تعلمين أن ليس لي معز في أحزاني سواك.
قالت: هوني عليك يا قطام واستريحي فقد جئتك بالفرج بإذن الله.
قالت: من أين يأتيني الفرج ولا يفرج كربتي إلا الانتقام ... الانتقام. قالت ذلك وحرقت بأسنانها وهي تتشاغل بجمع شعرها وإرساله إلى وراء ظهرها. ثم مسحت عينيها بكمها الطويل وأرسلته إلى كتفها فبانت أساورها ودمالجها حول معصمها الممتلئ ونظرت إلى العجوز كأنها تسألها الإيضاح.
فضحكت العجوز وهي تنظر إليها وكأنها تذكرت أمرا محزنا فقطعت ضحكتها بغتة فاستاءت قطام من ضحكها وهي تبكي وقالت ما بالك تضحكين لعلك تهزأين بكلامي.. إني والله غير قانعة بغير الانتقام.
فأمسكتها العجوز بيدها وأقعدتها على الوسادة وجلست إلى جانبها ونظرت إلى ريحان نظرة فهم منها أنها تلتمس خروجه لتخلو بقطام. فخرج
فلبثت قطام صامتة تنتظر ما تقوله العجوز. فإذا هي قد تنحنحت كأنها تتهيأ لحديث طويل ثم قالت وماذا تريدين الآن يا قطام؟
قالت: أريد الانتقام لوالدي وأخي فقد قتلهما علي ظلما ولابد من الانتقام.
قالت العجوز: ما قولك إذا دبرت لك من ينتقم عنك؟
قالت: ومن ينتقم. قولي ...
قالت: طولي بالك ولا تكوني لجوجة.. أتعرفين سعيدا.
قالت: وأي سعيد.
قالت: سعيد الأموي الشاب الجميل الذي يحبك ويهواك.
قالت: دعينا من الحب والغرام وحدثيني عن الانتقام.
قالت: سبحان الله أجيبي على سؤالي. هل تعرفين هذا الشاب فإنه مغرم بك مفتون بسواد عينيك.
قالت: نعم أعرفه وما تفيدني معرفته. بالله عليك لا تذكري الغرام الآن. إني لا أشعر بعاطفة الحب ولا يهمني أحبني الناس أو أبغضوني.
فابتسمت العجوز ابتسامة الاستخفاف وقالت: ياللعجب ما أكثر لجاجتك.. قلت إنك تعرفين سعيدا فهل تحبينه.
فأجابت على الفور لا لا.. لا أحبه ولا أحب سواه.. إن قلبي لا يشتغل اليوم إلا بالبغض. إني أبغض بعض الناس ولا أحب أحدا.
قالت: ولكن إذا كان لابد من الانتقام فيجب أن تحبي سعيدا.
قالت : كيف أحبه وقلبي لم يبق فيه مكان لغير البغض والحقد إني حاقدة ناقمة.
قالت: أنا أعلم ذلك ولكن أحبي سعيدا ولو مؤقتا وهو ينتقم لك.
فبغتت قطام ونظرت إلى العجوز وجعلت تتفرس في سحنتها لتتحقق أنها تتكلم الجد فلما آنست الجد في لهجتها قالت: وهل تقولين حقا هل يقدر هذا الرجل على ركوب هذا المركب الخشن..
قالت: إني أجعله يركبه فإذا لم يكن أهلا له فليس أهلا لحبك.. ما رأيك؟
فصمتت هنيهة ثم قالت. أأحبه. نعم أحبه ولو إلى أجل قريب.. ولكني لا أظنه أهلا لهذا العمل بل لا أحسبه يقدم عليه. ولكن قولي لي العلك تتكلمين من عند نفسك أم أنت على يقين مما تقولينه.
فاعتدلت تلك العجوز المحتالة في مجلسها ونظرت إلى قطام نظر الاهتمام وقالت: اعلمي يا حبيبتي أن سعيدا هذا قد علق بك وأحبك منذ أعوام ولكنه لم يكن يجسر على مخاطبة المرحوم والدك بشأنك لأن والدك كان يومئذ في جملة القائمين بنصرة علي. وسعيد كما تعلمين أموي أي أنه ممن نقموا على علي وقاموا للمطالبة بدم عثمان.
فكان يعلم أنه إذا طلبك من والدك يومئذ لا ينال غير الفشل. أما بعد أن خرج والدك رحمه الله من طاعة علي في جملة من خرج بعد التحكيم حدثته نفسه أن يطلبك فخاطبني في شأنك مرارا. ولكن والدك كان مشغولا بمحاربة علي وشيعته فلم أتمكن من التوسط له. فلما علم بمقتله ومقتل أخيك وا أسفاه عليهما (وتنهدت وهي تتظاهر بمسح دموعها) عاد إلى مخاطبتي في ذلك. وقد كنت أدافعه لعلمي بحزنك الشديد وهو مع ذلك مازال يتردد علي ويستنهضني ويبذل كل مرتخص وغال في سبيل التمتع بهذا الوجه الجميل. فجاءني اليوم وأعاد الكرة وبالغ في التذلل والاستعطاف فلمحت له أنه إذا أصر على نيلك لابد له من الانتقام لوالدك. فآنست منه ارتياحا فأطلت الكلام معه وريحان في انتظاري خارجا وهذا هو سبب تغيبي عنك فما قولك؟
فلما سمعت قطام كلامها استبشرت بنيل مرامها فقالت: «وهل تظنين أنه يعدني وعدا شافيا بالانتقام.. هل يتعهد لي بقتل علي بن أبي طالب. إني لا أقبل بأقل من ذلك.»
قالت: «أظنه يقبل ومع ذلك فإني استقدمه إليك ونظرا لما أعهده من مهارتك في أساليب السياسة لا أشك في أنه يتعهد لك بكل ما تريدينه وخصوصا إذا أظهرت له ميلا وقلت له إنك تحبينه وتفننت في طرق الدلال والتمنع واشترطت عليه أنك لا تتزوجين إلا بعد قتل علي. فإذا عاهدك صبرت حتى يقتله فإذا لم يفعل وأصاب حتفه كان دمه على رأسه والسلام ... ايه؟»
فأشرق وجه قطام وأحست بارتياح إلى هذا الرأي وقالت «لا ريب عندي إني أحمله على التعهد ... فاستقدميه لنرى ما يكون. ولكن قولي له إني لم أقبل بعد وبالغي بتمنعي وإبائي وأنا أتمم الحيلة».
فضحكت العجوز ضحكة طويلة وقالت «سامحك الله يا قطام ألا تزالين تحسبينني فتاة مثلك وهل تجهلين أين قضيت هذه الشيبة.. ألا تعلمين أني قضيت عمري في مثل هذه الحوادث. فكم أزوجت من الرجال وكم أقنعت من النساء في الزواج بعد أن كان قبولهن ضربا من المحال.. لا تخافي علي.. ولا أنا أخاف عليك» قالت ذلك ونادت ريحان فأسرع إليها. فقالت له هل تعرف الشاب الذي كان عندي الليلة.
قال: نعم أعرفه.
قالت: سر إليه إنه لايزال في المنزل حيث رأيتنا الليلة وقل له إن خالتك لبابة تدعوك إليها.
قال: وإذا أبى الحضور ماذا أقول له؟
قالت: لا أخاله إلا سابقك في الطريق اذهب وادعه إلى حالا.
قال: سمعا وطاعة وخرج.
الفصل الخامس
سعيد
وكان سعيد شابا أمويا في حوالي الثلاثين من عمره توفى والده وهو طفل فكفله جده وقضى صباه وشبابه مع جده في منزل الخليفة عثمان وكانا شديدي التعلق به.. فلما قتل عثمان كان سعيد وجده في مقدمة الناقمين لعثمان والمطالبين بدمه. فلما كانت واقعة الجمل بجوار البصرة كان هو في جملة رجال أم المؤمنين وظل جده مقيما في مكة لشيخوخته. ولما فشل جند أم المؤمنين وعادت هي إلى مكة عاد هو معها وظل عند جده ولم يخرج لواقعة صفين.
ولكنه كان يتردد إلى الكوفة وكان يسمع بقطام هذه وجمالها وقد رآها مرارا تحت الخمار فوقعت من نفسه موقعا عظيما ولكنه لم يجسر على خطبتها لأن والدها كان قبل تحكيم الحكمين من شيعة الإمام علي فكيف يزوج ابنته لأموي يطالب بدم عثمان. فلما خرج الخوارج عن طاعة الإمام علي بعد التحكيم استبشر بنيل مرامه على أنه لم يتمكن من السعي في طلبها إلا بعد مقتل والدها وأخيها. فجاء لبابة العجوز كما تقدم فاستخدمت هذه العجوز كل دهائها في إغرائه على قتل علي وتركت بقية الحيلة لقطام لعلمها أنها لا تقل عنها دهاء ومكرا.
وكان سعيد حسن الطوية قليل الاختبار وخصوصا في ما يتعلق بدهاء أولئك العجائز. وكان جميل الصورة معجبا بجماله وكان الحب قد أعمى بصيرته فلم يعد يرى غير قطام ولم يحلم إلا بالحصول عليها وهو لا يصدق أنها ترضى به. فلما جاء العجوز في تلك الليلة وخاطبها بشأنها وأظهرت ما أظهرته من التمنع ازداد رغبة فيها وبذل كل ما في وسعه من الوعود في سبيل إرضائها وبذل للعجوز كل ما يرضيها من المال والحلي فوعدته أن تسعى في ترغيبها ومضت وتركته يتقلب على جمر الانتظار.
فلما جاءه العبد يستدعيه إليها خفق قلبه وهرول مسرعا وهو يتعثر بأذياله فمر في أسواق الكوفة وهو لا يرى شيئا من الأسواق ولا ناسها لانشغال باله بما سيلاقيه من البغتة عند اجتماعه بقطام منى قلبه وغاية مرامه فكان إذا تصور رضاءها أشرق وجهه وكاد يطير فرحا. فيعترض تصوره ما آنسه من التمنع عند مخاطبته العجوز وما بدر منه من الوعد بالانتقام فتنقبض نفسه ويضطرب لهول ذلك العمل. ولكن هيامه كان يهون عليه كل عسير ويصور المحال ممكنا. فخيل له أن قطاما إذا رأت جماله وتحققت ما هو فيه من الوجد لا تلبث أن تقع في هواه وتغضي عن أمر الانتقام.
في مثل ذلك قضى سعيد طريقه وريحان يخطوا أمامه خطواته المتباعدة لطول ساقيه ويحاول الإبطاء في مسيره لئلا يسبق رفيقه فلا ينتبه إلا وقد تجاوزه فيمشي الهويناء إلى موازاته وسعيد لا يفقه لشيء من ذلك. وخرجا من المدينة فآنسا سكونا لا يسمع فيه إلا صوت الحصى إذا عثرا ببعض منها لأن الكوفة كثيرة الحصى والرمال.
1
حتى وصلا باب البستان ودخلا بين النخيل. فقال العبد أمهلني يا مولاي ريثما افتقد أهل المنزل ثم أعود إليك.
فظل سعيد يتمشى بين النخيل يتشاغل برؤية أظلالها مع ما يسمعه من نقيق الضفادع على شاطئ البحيرة وأخذ يهيئ نفسه لمقابلة قطام فأصلح عمامته ومشط شاربيه ولحيته ونفض جبته وأصلحها ولبث في انتظار العبد فأبطأ عليه فانشغل خاطره وحدثته نفسه بالاستئذان والدخول إلى الدار. وفيما هو يهم بذلك سمع حركة ومشيا وبعد هنيهة بان له نور عند الباب وسمع ريحان يناديه فهرول وقلبه يخفق وركبتاه ترتعشان رعشة الحب والبغتة. فعثرت رجله بحبل من ألياف النخيل كان مشدودا في جزع بعض النخيل حتى كاد يقع ولكنه تجاهل عن ذلك وتقدم إلى باب الدار فاستقبلته لبابة مرحبة ومشت أمامه وريحان يتقدمها بالمصباح. فدخلت به الغرفة التي كانت قطام فيها ودعته للجلوس على وسادة وجلست هي على وسادة وترك ريحان المصباح هناك وخرج.
وكان سعيد يتوقع أن يرى قطاما هناك فلم يرها فانشغل باله وزاد انشغاله لسكوت لبابة عن الحديث وجمودها. فقال مالي أراك ساكتة يا خالة ألم ترسلي إلى بالمجيء.
قالت: بلى.
قال: وأين قطام.
فتنهدت وقالت هي هنا في الغرفة الأخرى وسنذهب إليها بعد قليل.
قال: أراك في قلق ... مالذي جرى ... قولي.
قالت: لم يجر شيء ... وتظاهرت كأنها تكتم خبرا.
فقال: وكيف. مالي أراك كئيبة أخبريني لقد نفد صبري.
قالت: لا ينشغل خاطرك ياولدي إذ ليس هناك ما يدعو إلى القلق. غير أني مللت من استعطاف هذه الفتاة وترغيبها وتشويقها فلم أر منها إلا البكاء والنحيب ولم أسمع إلا قولها «الانتقام الانتقام» ومن يخاطبها بغير هذا الموضوع لا يسمع منها جوابا.
قال: ألم تذكري لها شيئا من حديثي معك.
قالت: «كيف لا وهي لو لم أذكر لها اسمك مشفوعا بوعدك بالانتقام لما أجابتني» ثم أدنت فمها من أذنه وقالت: «ولكنني آنست من خلال ذلك التمنع أنها ترتاح إلى ذكر اسمك وأظنها تحبك كثيرا ولكن انشغالها في الانتقام شغلها عن الحب ولذلك فقد سرت لما أخبرتها بوعدك ولكنها لم تصدق قولي كأنها تحسبني أقول مزاحا أو لعلها استبعدت ذلك منك أو خافت عدولك عنه لجهلها ما أنت مفطور عليه من الحمية وكرم الأخلاق» قالت العجوز لك بنغمة تدل على ثقتها التامة بشرف نفس سعيد وصدق وعده. ثم شغلت نفسها بالنحنحة والسعال ومسح آماقها مما يتحلب فيها من الدمع المتواصل لضعف الشيخوخة وصبرت لترى ما يبدو منه قبل إتمام الحديث.
أما هو فآثر قولها فيه وهاج ما في قلبه فقال لها: «لا ألوم قطاما لأنها لا تعرفني بعد فهي معذورة إذا ساءت الظن بي.. ولكن أين هي أريني إياها فأؤكد لها وعدي فتعلم من هو سعيد ....» قالت هي هنا.
الفصل السادس
اللقاء
وحملت لبابة المصباح بيدها ومشت أمام سعيد إلى غرفة أخرى ليس في أرضها إلا حصير فوقه بعض جلود الماعز وقطام جالسة الأربعاء وهي تبكي وشعرها محلول. فلما رأت النور يقترب من غرفتها أسرعت فضمت شعرها وأرسلته إلى ظهرها وغطت رأسها بنقاب أسود. ولم تكد تفعل ذلك حتى دخلت العجوز وهي تقول: «خففي عنك يا قطام وارفقي بنفسك واشفقي على شبابك لقد كفاك بكاء ونحيبا. انهضي فسلمي على سعيد الذي قلت لك أنه يحبك».
فقطعت قطام كلامها قائلة: «كم قلت لك لا تذكري الحب والغرام بل اذكري القتل والانتقام. إني لا أحب إلا الانتقام ومن ينتقم لي فهو خليق بأن يحبني ولكن ...».
فتقدم سعيد وقد أصبح بعد رؤية قطام في تلك الحال لا يرى شيئا غيرها ولا يبغي إلا رضاها فشق عليه قولها «ولكن» لما ينطوي عليه من الاستدراك الذي يجل نفسه هنه. فقال لها: «ألا ترضين يا قطام أن أكون أنا المنتقم لك ...».
قالت وهي تتظاهر بعدم الاكتراث «لا ... لا أرضى أن تعرض نفسك لهذا الأمر من أجلي فإني أولى منك بركوب هذا المركب الخشن» ثم رفعت يدها وأشارت بسبابتها إلى صدرها وقالت بصوت يتخلله غصة البكاء «أنا أقتل قتلة أبي وأخي بيدي.. أنا أقتلهم.. أنا أقتل عليا وإن كنت فتاة. إن حب الانتقام يقويني ويشجعني ... ولا حاجة لي إلى تعريض سواي لخطر القتل.. إنك شاب لا يهمك من أمر علي شيء فكيف تتكلف قتله عبثا.. ذلك لا يكون».
فانخدع سعيد بكلامها وحسبه صادرا عن شهامة وغيرة حقيقيتين فازداد رغبة في الإقدام على ذلك العمل. فقال لها: «كيف تقدمين يا مليحة على هذا الأمر وأنا بين يديك. العلك لا ترين في الكفاءة. كيف تقولين أنه لا يهمني من أمر علي شيء وأنت تعلمين أن بني أمية كافة يطالبونه بدم عثمان وأنا منهم وإذا قتلته فإني أرضي كل بني أمية فضلا عن إرضاء قطام.. إن بذل النفس في سبيل إرضائها هين.. وإذا أذنت لي أن أدعوك حبيبتي فكل شيء يهون علي ...».
فلما تحققت قطام وقوعه في الشراك بقى عليها أن تتمكن من وعده بصك تستكتبه إياه فأمسكت نقابها بيدها وتظاهرت بإصلاحه فانكشف معصمها فرأى الأساور والدمالج وبانت عيناها وقد ذبلتا من البكاء فازدادتا جمالا ورمت إليه شذرا وتأملته كأنها تزن مقدرته على ما وعد به. أما هو فلا تسل عن حاله بعد تلك النظرة فثارت عواطفه ونظر إلى العجوز كأنه يحرضها على التوسط في الأمر. فتظاهرت لبابة بأنها تساعده في غرضه وقالت لها: «ألم يكفك ما قاله هذا الشهم ألم أقل لك إن وعده صادق وفضلا عن إرضائك بقتل علي فهو يرضي عشيرته وأهله أيضا. واعلمي يا قطام أنه لابد من رجل يقتل هذا الخليفة ومن يسبق إلى قتله فإنه صاحب النصيب الأوفر والأجر الأعظم».
فقطعت قطام كلام العجوز قائلة: «أنا أعلم أنه مقتول لا محالة وإذا لم يبق من الرجال من يفعل ذلك فعلته أنا بيدي.. انظري إلى هذه الحلي في معصمي وأذني إني لم أنزعها ليس لأني لم أحزن على والدي وأخي .. آه رحمهما الله ... بل لأني واثقة من الانتقام لهما وكأني أحسب ثأري حاصلا في قبضة يدي ومتى أخذت باثأر فقد أحييت القتيلين فكيف أحزن .... أما ما قاله سعيد فهو فضل منه ولكن الإنسان يا خالة عرضة للتردد فلعل سعيد إذا خرج من عندنا يرى رأيا آخر أو يتهيب من هذا الأمر فيعدل عن الوعد. فأنا لا أريد أن أقيده في عهد أرى في نغمة كلامه ما يدل على خوفه منه ... لا أقول أنه يخاف وقتل هذا الخليفة من أهون الأمور. ولكنني لا أرى أن أكلفه وعدا إذا خلا بنفسه ربما ندم عليه ...».
الفصل السابع
الصك
فهم سعيد بالتكلم ليؤكد لها صدق وعده فأوقفته العجوز عن الكلام وتظاهرت بالدفاع عنه وقالت: «اسمحي لي يا قطام بكلمة أقولها لك. أنت لا تعرفين سعيدا بعد ولكنني أعرفه وأعرف صدقه وأنا أقول لك بالنيابة عنه هل تريدين أن يكتب لك صكا على نفسه أنه يفعل كل ما قاله لك».
فلما سمع سعيد ذكر الصك تهيب وعظم الأمر عليه وكأنه صحا من سكرته لحظة تبين فيها خطارة ذلك الأمر ثم عاد إلى سكرة الغرام وراده تثبيتا في ذلك ما سمعه من كلام العجوز الدال على ثقتها به وبوعده.
أما قطام فكانت تنظر إلى كل حركة تبدو من سعيد فلم يفتها ما جال في خاطره ساعتئذ من الندم وهو يحاول التظاهر بخلاف ذلك. فلكي تحمله على كتابة الصك من تلقاء نفسه قالت العجوز: «أراك أقمت نفسك نائبة عنه في أمر لا تصح النيابة فيه وهو غير راض به وفي سكوته أكبر دليل على ذلك. فدعينا من هذا الموضوع ولا تعرضي سعيدا لهذا الخطر وأنت تعلمين ما قلته لك عنه وما له من المنزلة في قلبي وإن أكن قلما رأيته فأفضل أن أعرض نفسي للخطر ولا أعرضه».
فعظم ذلك القول على سعيد وثارت الحمية في رأسه فنهض بغتة وقال لها أتحسبين سكوتي يا قطام عن تردد أو خوف ... لا وحبك ما أنا ممن يضنون بالنفس في سبيل الحب وكيف تقولين أنك تفعلين ذلك عني ... وربما ترددت في بادئ الرأي. وأما بعد أن علمت بما عندك نحوي فإني أكتب الصك ولا أرضى إلا بكتابته.. هاتوا رق ومدادا» فنهضت العجوز حالا لاستحضار الرق والمداد والقلم وكانت قد أعدت كل شيء قبل مجيئه.
فاغتنم سعيد غيابها وأزاح مقعده وأصلحه بحيث يواجه قطاما. أما هي فنظرت إليه وابتسمت وقالت بصوت يتخلله نغمة الدلال «لا تعرض نفسك للقتل يا حبيبي ومالنا وللصكوك ألا يكفينا القول».
فما صدق سعيد أن آنس منها هذا التقرب وسمع قولها «حبيبي» فجعل يبالغ في حبه وغرامه واستهلاكه في سبيلها وطابت له تلك الخلوة القصيرة فتبادلا فيها من عواطف الحب ما لا تفي بشرحه المجلدات وسعيد يحسب نفسه أسعد إنسان على وجه الأرض لحصوله على حب قطام. وهي إنما همها من كل ما جرى إغراؤه على قتل علي وقد أضمرت في باطن سرها أنه إذا انتقم لها تزوجته وإن تكن غير مغرمة به. وإذا فشل في مهمته فلا أسف عليه وقتل. فإذا كتب الصك لا يجسر على الرجوع عن وعده وأدركت العجوز أن في إبطائها وسيلة لتبادل الإشارات واللحظات وزيادة التمكن من الإغراء فأبطأت لغير داع ثم عادت وبيدها رق من جلد الماعز وقلم من القصب وقرن أيل فيه مداد أسود. فلما رآها سعيد وتحقق كتابة الصك عاوده الخوف وحدثته نفسه بالرجوع عن الوعد ولكن الحياء والحب منعاه. ولم يخف تردده عن قطام فتلافت ذلك بابتسامة ونظرة وهو يربو إليها ويقول في نفسه «ما أسعد هذا اللقاء وما أجمل هذا الحبيب لولا ما اشترطه من العقبات» ولم تترك له قطام فرصة يفكر فيها فقالت للعجوز «لمن أتيت بهذه الأدوات يا خالة».
قالت: أتيت بها إلى سعيد.
قالت: «أترجين منه أن يكتب الصك لا لا أظنه يكتبه (وابتسمت وهي ترنو إليه شذرا) وكأني به ندم على ما فرط منه لا عن جبن أو خوف لا سمح الله ولكنه رأى قطاما لا تستحق هذه العناية وأراه يقول في باطن سره أمن أجل امرأة مثل هذه اقتحم مثل هذا الخطر الهائل ...» قالت ذلك ونظرت إليه نظر المحب العاتب.
فلما سمع سعيد كلامها ورأى فيها ذلك الدلال نسي كل خطر واستولى عليه الخجل ولم ير له مخرجا من خجله إلا بالمبادرة إلى الرق فتناوله من يد لبابة وأمسك القلم وقد أخذ منه الهيام مأخذا عظيما حتى توردت وجنتاه واحمرت عيناه. فوقفت العجوز إلى جانبه والمصباح في يدها فكتب ويده ترتعش وهو يتجلد لئلا يبدو ذلك لقطام فتظنه خائفا وإليك نص كتابه: «أنا سعيد بن ... الأموي أعاهد قطام بنت شحنة على قتل علي بن أبي طالب مهرا لزواجي بها وإذا لم أفعل ذلك كنت لا أستحقها وعلي عهد الله وميثاقه».
كتبه سعيد الأموي
الفصل الثامن
تمام الحيلة
فلما فرغ سعيد من كتابة الصك دفعه إلى قطام وقد ظهرت عليه ملامح الافتخار بأنه لم يكن جبانا كما ظنته. ولكنه لم يكد يدفعه إليها حتى أحس بالخطر الذي عرض نفسه له. على أنه لم يستجل ذلك الخطر جيدا لما حال بينه وبين عقله من غياهب الوجد والهيام.
أما قطام فتناولت الرق وقرأته بلا اكتراث ثم نظرت إلى سعيد باستغراب وقالت «يظهر إنك كتبت الصك حقيقة. أليس عارا على قطام أن تأخذ منك صكا على عهد عاهدتها عليه في مثل هذا الموقف كأنك اتخذت كلامي مأخذ الجد وقد قلت لك الآن إني لا أبالي من يقتل عليا وإذا لم يقتله أحد قتلته أنا. أما وقد كتبته بخط يدك وإني أحفظه عندي تذكارا لهذه الليلة التي أعدها من ليالي العمر ... وأرجو أن نجتمع قريبا وقد نلنا المرام» قالت ذلك وفي صوتها غنة الدلال.
فصدق سعيد كلامها واطمأن باله من قبيل الشرط الذي اشترطه على نفسه والصك الذي كتبه بيده ولكنه علم بأنه لا ينال قطاما إلا بعد قتل الإمام علي. فعاد الأمر إلى خطارته فانقبضت نفسه وأحب الاختلاء فالتمس الخروج. فقالت له قطام: «امكث عندنا ... أو اذهب لعلك تهتدي إلى سبيل يقرب زمن اجتماعنا الدائم» قالت ذلك وابتسمت ورنت إليه كما يرنو الحبيب إذا التمس من محبه أمرا يخشى أن يكون بعيد المنال. فودعها سعيد وخرج فتبعته لبابة فرأيا ريحانا لا يزال ساهرا في الحديقة يطوف حول المنزل خوفا من الرقباء والعيون.
ولما خرجت لبابة لسعيد قالت له وهي تضحك «إني أهنئك برضاء هذه الغادة فقد نلت الليلة ما طالما تحسر عليه أهل الكوفة بل سائر أهل العراق. ومن الغريب أنها كانت مع فرط حزنها لا تستطيع النظر إليك إلا وهي تبتسم ... فما أجمل الحب إذا كان متبادلا. وأما مسألة الصك فما هي من الأهمية في شيء. وهب أنك رأيت في طريقك خطرا فهل ترضى قطام أن تعرض نفسك له». فودعها ومشى وحده وهو يتعثر بأذياله. وكأنه غادر قلبه عند قطام فخلا بعقله وعادت إليه هواجسه فتصور خطارة الأمر الذي عرض نفسه له. ولما لم يبق له حيلة في الرجوع عن عهده بعد كتابة الصك جعل ينتحل لنفسه أعذارا تخفف قلقه وتحسن له ارتكاب ذلك المنكر. فخيل له إذا قتل عليا أنه ينتقم لسائر بني أمية ويفاخرهم جميعا بما لم يستطعه أحد منهم. فينال حظوة في عيني معاوية فضلا عن تمتعه بقطام. ولما تصور قربه منها اختلج قلبه في صدره وهان عليه كل عسير.
فمشى وهو في مثل هذه الخيالات الكاذبة حتى دخل الكوفة ومر بجامعها القائم في وسط الساحة الكبرى. وكان الجو هادئا والقمر منيرا فرأى ما يحدق بمنزل الإمام علي من الأبنية والخيام بمن فيها من كبار بني هاشم وغيرهم من شيعته. وهو يعرف منهم جماعة صناديد لا يهابون الموت. فما لبث أن تصور ذلك حتى خارت قواه وكبر عليه الأمر ولكنه ظل ماشيا يلتمس منزله وهو يفكر في حيلة ينال بها بغيته.
الفصل التاسع
طارق مفاجئ
وكان منزله في بعض أسواق الكوفة فوصله وهو يظن نفسه لا يزال بعيدا عنه وإنما نبهه إلى ذلك جعجعة جمل رابض في فنائه فظنه في بادئ الرأي جمله وهو يعهد أنه أرسله إلى مأواه قبل خروجه. فدخل الفناء فرأى هناك جمالا وأناسا كأنهم قادمون من سفر فبغت. فتقدم إليه واحد منهم ولم يكد يلقى عليه السلام حتى عرف أنه من رجال جده أبي رحاب فانذهل ولم يرد التحية ولكنه قال له ما وراءك يا عبد الله ما الذي جاء بكم.
قال: إننا قادمون من عند جدك مولانا أبي رحاب.
قال: وما الذي حملكم على المجيء؟
قال: جئناك في مهمة مستعجلة.
قال: وما هي؟
قال: إن أبا رحاب بما تعرفه من شيخوخته وضعفه قد بعثنا نستقدمك إليه سريعا.
فذهل وصاح قائلا: وما الذي أصابه ألعله مريض؟
قال: هو مرض الشيخوخة ولكنه مشتاق لرؤيتك وقد أمرنا أن نستقدمك حالا.
قال: وأين هو؟
قال: هو في مكة كما تعلم.
قال: أأذهب إلى مكة الآن؟
قال: ذلك ما أمرنا به فافعل ما بدالك.
فلبث مدة صامتا يفكر ثم مشى وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله. وسار عبد الله في إثره حتى دخلا المنزل وهما صامتان. ثم التفت سعيد وهو ينزع عباءته وقال لابد من أمر ذي بال يدعوني جدي إليه فهل تعرفه؟
قال لا أخاله استدعاك إلا ليراك قبل حلول أجله لأنه شاخ وضعف وأنت تعلم أنه يحبك ولا رجاء له سواك.
قال لا حيلة لنا في القعود فلنبت الليلة ونصبح مسافرين. وقضى ليلته يفكر في قطام وسفره.
ولما أصبحوا ركب سعيد ناقته وركب عبد الله ورفاقه حمالهم وهموا بالمسير فرأى سعيد أن يودع قطاما قبل السفر فاستمهل رفاقه ريثما يعود إليهم وسار يلتمس منزلها وهو في لباس السفر. فلما أشرف على المنزل تذكر ليلته بالأمس ولكنه لم يضطرب لانشغال خاطره في جده وقد خاف عليه الموت قبل وصوله إليه. ووصل المنزل فلقي ريحانا فسأله عن قطام. فقال: أنها خرجت في حاجة وسوف تعود.
فقال: إلي أين ذهبت؟
قال: إلى مكان لا أدري أين هو.
فانشغل بال سعيد لخروجها في ذلك الصباح وهو لا يرى ما يدعو فتاة مثلها إلى الخروج فدبت الغيرة في قلبه فقال: وهل مضت وحدها؟
قال : سارت مع لبابة.
قال: أتظنها تبطئ كثيرا؟
قال: لا أدري وربما ظلت إلى المساء أو الغد إذ يخيل لي أنها التمست بعض أهلها في مكان خارج الكوفة.
دار ذلك الحديث بينهما وسعيد لا يزال راكبا جمله يتردد بين أن ينتظر عودتها قبل سفره أو أن يسير. وود لو يعلم أين هي ليمضي إليها فيودعها ويذهب شيئا من غيرته عليها. ولو تحقق مجيئها بعد ساعة أو بضع ساعات لفضل الانتظار ولكنه خاف أن يطول غيابها أياما. فعول على المسير إلى مكة فقال لريحان: أقر قطاما السلام عند رجوعها وقل لها إني شاخص إلى مكة لأمر يدعو إلى الإسراع وقد جئت لوادعها فلم أجدها. على أني سأعود قريبا بإذن الله.
قال: حسنا.
فودعه وعاد فانضم إلى رفاقه وسار يلتمس مكة وقلبه في الكوفة. ولم يكد يخرج منها حتى ندم على خروجه ولم ير قطاما. ولكنه التمس عذرا لنفسه بما دعاه إلى العجلة من أمر جده.
الفصل العاشر
أبو رحاب
وكان أبو رحاب جد سعيد شيخا طاعنا في السن كما تقدم ربى سعيد في حجره بعد موت والده وكان كلاهما على دعوة بني أمية في المطالبة بدم عثمان. ولم يكن غرضهما من ذلك إلا الانتقام لعثمان لأنهما أقاما زمانا طويلا في منزله. وكان أبو رحاب مع شدة حبه لعثمان لم يغفل عما كان فيه من الخطاء الذي دعا الناس إلى اضطهاده وكثيرا ما كان يحرضه على الإصلاح ومصالحة المسلمين فلم يصغ له إلا قليلا. وعلم أبو رحاب بعد ذلك أن جماعة من ذوي الأغراض كانوا يثنونه عن الإصغاء ويحرضونه على العداء. حتى إذا قتل عثمان كان أبو رحاب وسعيد في جملة المطالبين بدمه. ولكنه ما لبثا أن عادا من واقعة الجمل حتى قعد أبو رحاب عن المطالبة لأنه تحقق أن أصحاب تلك الواقعة إنما حاربوا عليا طمعا في الملك لا غيرة على عثمان.
وأقام في مكة مدة لا تسلية له إلا سعيد وكان سعيد ينوي الانضمام إلى جند معاوية في واقعة صفين فمنعه جده. وكان أبو رحاب يعلم أن سعيدا يحب قطاما حبا شديدا وأنه ساع في التزوج بها. ولذلك فإنه كان يأذن له في الخروج إلى الكوفة لتلك الغاية. وطال غياب سعيد هذه المرة وأحس أبو رحاب بزيادة الضعف فأراد استقدامه ليتزود من رؤيته قبل موته ويوصيه وصية لها علاقة كبرى في شؤون حياته وربما غيرت مجاري أعماله وحولته عن مقاصده وآماله. فبعث رجلا من خاصته اسمه عبد الله في وفد إلى الكوفة لهذه الغاية. ولبث ينتظر رجوعهم وهو يتقلب على فراش الضعف والهرم كأنه يستمهل ملاك الموت ريثما يصل حفيده لئلا يذهب ما في نفسه أدراج الرياح وتضيع حياة سعيد عبثا.
أما سعيد فإنه قضى مسافة الطريق بين الكوفة ومكة وهو بين شوق إلى قطام وقلق على أبي رحاب. وكان من شدة فرحه بقطام إنما يود بقاء جده حيا ليبشره برضائها وقبولها لأنه طالما شكى له رغبته فيها. وكان أبو رحاب يتمناها له. وكان سعيد إذا فكر في ذلك فرح ثم يعترض فرحه أمر الصك وقتل الإمام فيضطرب فيعلل نفسه بما يناله من الفخر إذا قتل عليا فضلا عن استرضاء جده لأنه يطفئ ما يجيش في نفسه من نار الانتقام لعثمان فيفرحه قبل موته.
قضى أكثر أيام الطريق في مثل هذه الهواجس لا يبالي بمن حوله من الرفاق كأنه سائر وحده. ولم يكن يشغله عن ذلك ما يلاقيه في سبيله من الجبال والأودية والصحاري ولا ما يمر به من الربوع والأحياء والخيام حتى أشرف على مكة عن أكمة. فإذا هي في منبسط من الأرض تحيط بها الجبال والكعبة قائمة بين أبنيتها قيام الملك بين الأعوان. وكانت الشمس قد مالت نحو الغروب فأسرع في مسيره يلتمس منزل جده وقلبه يخفق خوفا عليه من بأس يصيبه قبل وصوله.
الفصل الحادي عشر
بيت أبي رحاب
ولم يكد يدخل مكة حتى سدل الليل نقابه فساق ناقته يلتمس المنزل قبل اشتداد الظلام وترك رفاقه يهتمون بشؤونهم. وكانت عادته إذا دخل مكة أن يطوف الكعبة قبل الذهاب إلى البيت ولكنه سار في هذه المرة توا إلى المنزل وهو يضطرب خوفا على حياة جده.
فعرج في منعطف يؤدي إلى البيت رأى فيه أناسا عرف أنهم من الأهل والأصدقاء فحياهم وسألهم عن حال أبي رحاب. فلما عرفوه طمأنوه وسبقه بعضهم ليبشر المريض بقدوم حفيده. فلما اطمأن بال سعيد على حياة جده هدأ روعه وترجل عن ناقته وسلمها إلى بعض الخدم ومشى وهو لا يزال بالعباءة والكوفية والسيف. فانتهى إلى باب كبير مقفل دخل من خوخته ولم ينتظر أن يفتحوه له. فمر في فناء لم ير فيه أحدا وسار توا إلى الغرفة التي يقيم فيها جده عادة وفيها مصباح منير دون سائر الغرف. وقبل وصوله الباب استقبله رجل خارج من عنده يمشي الهوينا على رؤوس أصابعه مخافة أن يوقظ المريض من نومه العميق. فعرف سعيد أنه من بعض أهله فسأله عن حال جده.
فقال له: «إنه مستغرق في الرقاد وقد مضى عليه بضعة أيام لا ينام فلما أحس بالنعاس الآن أخرج الناس من غرفته ولم يبق سواي وأوصاني أن لا أوقظه إلا إذا جئت أنت».
قال: دعني أدخل وأراه وهو نائم قال ذلك ونزع حذاءه خارجا ودخل وهو يسترق الخطى. فوطئ العتبة وأطل على الغرفة فإذا هي مضيئة بسراج على مسرجة قصيرة من الخشب الصلب فوق حافة بارزة من الحائط بجانب فراش المريض وكانت فتيلة السراج ثخينة يتصاعد من لهيبها سناج يتطاير فيترك في صعوده آثارا سوداء على الحائط بجانب السراج ولو كان لون الحائط بقي البياض لظهرت آثار السناج أكثر جلاء ولكنه مدهونا بطين أسمر.
وتحول سعيد نحو الفراش وقلبه يخفق لئلا يكون رقاد جده أبديا كما يتفق الكثيرين ممن يهرمون فيموتون وهم نيام. فمشى على حصير من سعف النخل يكسوا أرض الغرفة عليه غطاء من جلد مصقول هو بمنزلة البساط وسار نحو الفراش. وكانوا لما اشتد به الضعف رفعوه عن الأرض إلى مقعد مستطيل ظهره شبكة من نسيج الجلد وهي قدد من جلد يشدونها بين جوانب المقعد كالشبكة يجلسون عليها مباشرة أو يجعلون فوقها الفرش أو نحوها. وكان أبو رحاب قد توسد فراشا رقيقا والتحف ببرد من صوف أسود يغطيه إلى أعلى الصدر وقد توسد على ظهره ويداه مضمومتان تحت اللحاف وعيناه مغمضتان يظللهما شعر حاجبيه فيزيدهما غورا.
وحالما اقترب سعيد من جده رمى ببصره إلى صدره ليرى تنفسه فإذا هو يتنفس تنفسا هادئا فهدأ اضطرابه وسكن باله ولبث واقفا يتأمل في ظواهر الهرم. وتذكر أن جده كان من كبار الهامة طولا وعرضا فرآه قد أصبح هيكلا من عظام مكسوا بالجلد. أما وجهه فلم يكن ظاهرا منه إلا الأنف والجبهة وما بقي منه كان مغطى بالشعر الأبيض الناصع. وازداد ذلك المنظر رهبة حينئذ لضعف النور حتى خيل لسعيد لما أشرف على فراش جده أن رأسه كتلة من القطن المندوف يتخللها ثنيات مظلمة هي الأنف والوجنتان والجبهة وأما ما خلا ذلك فقد غطته اللحية والشاربان والحاجبان. واستطالت لحيته وانبسطت حتى غطت عنقه وصدره ولكنها كانت قليلة الشعر تشف عن عنق دقيق مستطيل بانت عضلاته وفي مقدمها القصبة قد برزت بروزا عظيما. أما الرأس فقد كان حليقا أو لعله أصلع.
وكأن شيخنا الراقد قد دله قلبه المستيقظ على مجيء حفيده فتحرك وتململ ثم فتح عينيه البراقتين وأجال نظره في جوانب الغرفة حتى وقع على سعيد فتبسم. فلما رآه سعيد قد استيقظ جثا أمام فراشه وهم بتقبيل يديه. فرفع أبو رحاب ذراعيه وضم سعيدا إلى صدره وطفق يستنشق رائحة عنقه وخديه بلهفة وسعيد يطاوعه بكل حركة يريدها. فأطال أبو رحاب عناقه وسعيد صار حتى أحس بماء ساخن ينحدر على خده علم أنها دموع سخية ولكنه لم يدر دموع الحزن هي أم دموع الفرح. على أنه خاف على جده فاستأذنه ونهض عن صدره فرآه يحاول الجلوس فأعانه عليه بيده ونظر إليه وهو جالس فانذهل لشدة ضعفه حتى تخيله قفصا من عظام استدل على ذلك مما انكشف من عنقه إلى أعلى الصدر.
أما أبو رحاب فأخذ يصلح لحيته وشاربيه ويمسح عينيه ثم تنحنح ومد يده إلى سعيد فعلم هذا أنه يريد يده فدفعها إليه فأمسكها أبو رحاب بين يديه. فأحس سعيد كأنها مقبوضة بأصابع من حديد ليبوسة أنامله وجفاف جلدها وبرودتها ولكنه شعر بارتعاشه ارتعاشا متواصلا هو من دلائل الضعف الشديد.
الفصل الثاني عشر
انقلاب غريب
ومازال سعيد يتخيل في جده الضعف الشديد حتى سمع صوته فإذا هو كما يعهده جهوري رنان. فاستأنس به واطمأن باله لسماعه. وأول كلمة سمعها منه قوله «الحمد لله على مجيئك سالما. لقد أطلت الغيبة علي يا ولدي».
قال: لقد جئتك سريعا حالما علمت برغبتك في ذلك كيف أنت الآن وبماذا تشعر يا جداه.
قال: كنت أحسبني على شفا الموت ولكنني لما رأيتك وأمسكت يدك شعرت برجوع قواي. فأنا الآن كما تعرفني من عشر سنوات وكأن الله شدد عزيمتي لأتمكن من تزويدك بنصيحة هي آخر ما أتلفظ به في هذه الحياة.
قال«إني أشتاق لنصائحك في كل حين ولكنني أرجو أن يمد الله في أجلك لتشهد زواجي بقطام» ثم التفت يمنة ويسرة لئلا يسمعه أحد فرأى المكان خاليا من الناس فقال بصوت منخفض: «وتفرح بما سيتقدم ذلك من الانتقام الذي طالما تاقت نفسك إليه».
فنظر الشيخ إليه بعينين رأي سعيد بريقهما من خلال الحاجبين وكان قوس الشيخوخة واضحا حولهما ثم سمع جده يقول: «أما زواجك بقطام فقد فهمته وسرني بلوغك مرامك وأما الانتقام فلم أفهم علاقته بها».
فتبسم وقال ألا تذكر يا جداه ما قمنا به منذ أعوام وقام به كل بني أمية من المطالبة بدم الخليفة المقتول ظلما. وهل تجاسر أحد على الانتقام بقتل القاتل ليخلو الجو لنا.
فأقطب الشيخ أسرته كأنه غضب وقال: «من هو القاتل ومن سيقتله».
فأدنى سعيد شفتيه من أذن جده وقال: «إن القاتل علي بن أبي طالب وأنا سأقتله ولا يخفى عليك ما في ذلك من الفخر والفضل فإنما بقاءك ليتم ذلك تحت جناحك..».
ولم يصبر الشيخ على سماع بقية الحديث لعظم اضطرابه وحنقه. وعرف سعيد حنقه مما رآه من ارتعاش يديه واختلاج شفتيه واهتزاز لحيته. ولا تسل عن دهشة سعيد لما سمع جده يقطع عليه الكلام قائلا بصوت عنيف «لا لا لا يا سعيد ... لا تقتلوا البرئ».
فانذهل وظن جده لم يفهم كلامه «فقال له تمهل يا جداه وأي برئ تعني إني سأنتقم من علي بن أبي طالب فكيف تقول أنه برئ وأنت أول من دعا إلى المطالبة بدم عثمان منه. يظهر أنك أخطأت مرادي».
قال: «كلا إني لم أخطئ مرادك فلا تخطئ أنت مرادي. إن عليا برئ ... إنه برئ مما اتهمناه به ... إنه لم يتقل عثمان ولا مالأ على قتله ولا أراد سوءا بالمسلمين ولا ارتكب أمرا يستوجب نقمة».
فوقف سعيد وهو يحسب نفسه في منام لعلمه أن جده كان من أول الناقمين على علي فكيف انقلب إلى الضد من ذلك. فتبادر إلى ذهنه أن جده إنما يتكلم عن خرف. وأدرك أبو رحاب ما جال في خاطره فقال له: «لا يخالجن ذهنك شك في صحة عقلي فإني إنما أقول ما أقوله عن روية وطويل نظر ولم استقدمك من العراق إلا لهذه الغاية. ولا أقول ذلك جزافا بل أثبته بالبرهان».
ومازال سعيد منذهلا مستغربا. لكنه صبر نفسه إلى آخر الحديث فقال: «وما الذي دعاك إلى هذا التغيير العظيم. كيف يمكن أن يكون ذلك وكيف يمكن أن يكون علي بريئا من دم عثمان بل كيف تعترف أنت ببراءته وقد كنت من أول القائلين باتهامه».
فأشار الشيخ بيده إلى سعيد أن يجلس ويهدئ روعه ويصبر نفسه إلى سرد البراهين ثم قال «أما ما دعاني إلى ذلك فهو هاتف سمعته يقول ويكرر القول (إن عليا برئ وإنما يتهمه أهل المطامع والأغراض) وكنت كيفما توجهت اسمع هذا الصوت يرن في أذني حتى أقلق راحتي. فبحثت عن الأمر بنفسي وتدبرت ما أعلمه من تاريخ علي وعثمان وغيرهما من القائمين في هذه الفتنة فوجدت معاوية وسائر بني أمية على ضلال بل هم أهل أغراض اتخذوا مقتل الخليفة المظلوم ذريعة للحصول عليها». قال ذلك وأقطب حاجبيه وقد أبرقت عيناه من خلال قوس الأشياخ حول حدقتيه وبان الجد في لهجته فظل سعيد صامتا لا يبدي حراكا لما استولى عليه من الدهشة.
الفصل الثالث عشر
التهمة الباطلة
فمشط الشيخ لحيته بأصابعه وأصلح شعر حاجبيه وشاربيه والتفت إلى سعيد وقال: «يزعم معاوية وأصحابه أنهم جردوا السيوف وسفكوا الدماء للمطالبة بدم عثمان كأنهم لم يكونوا يستطيعون الذب عنة قبل قتله. ولقد يضحكني مطالبة عمرو بن العاص بدم عثمان وهو أول من أراد قتله وسعى في قتله حتى لقد يفتخر أنه هو الذي قتله وإن يكن في فلسطين. فقد علمت أنه ما بلغه مقتل عثمان وهو في وادي السباع قال: «انا قتله وإنا في وادي السباع»
1
يعني أنه سعى في قتله عن بعد. فلا يغرنك بعد ذلك مجيئه هو وابناه ماشين إلى دمشق وهم يبكون ويقولون (واعثماناه ننعي الحياء والدين) إنهم إنما فعلوا ذلك حيلة للانضمام إلى معاوية ...». «وأما معاوية وسائر بني أمية فهل تحسبهم أشرعوا الأسنة وأيقظوا الفتنة طلبا بدم ذلك الخليفة المقتول؟ فإذا كانوا فعلوا ذلك غيرة وحنانا ما بالهم لم يدافعوا عنه وهو محصور يستنجدهم من المدينة إلى الشام؟ وهب أنهم تأخروا عن نجدته كرها كما يزعمون فما بالهم نسوه ونسوا أولاده. وإذا كانوا يعتقدون موته مظلوما وإنهم إنما قاموا للمطالبة بدمه فلماذا لم يولوا الخلافة ولدا من أولاده؟. أرأيت كيف اتخذوا اسم هذا الخليفة ودمه ذريعة إلى السلطة ....» «هكذا فعل أيضا طلحة والزبير فقد قتل عثمان وهم في المدينة على قيد أذرع منه فلو أرادوا إحياءه لم يعجزهم الدفاع فسكتوا عن قتله حتى إذا رأوا الخلافة أفضت إلى علي تظاهروا بالدفاع عن عثمان وقالوا أنه قتل ظلما».
وكان الشيخ يتكلم وهو يحاول خفت صوته فلا يطاوعه التهيج فلا يشعر إلا وقد علا صوته تتخلله غصات وارتجاجات. وأما سعيد فكان يسمع كلام جده وهو مطرق لا يستطيع النظر إلى وجهه تهيبا واحتراما. فلما وصل أبو رحاب إلى هذا الحد سكت برهة تشاغل فيها بمسح فمه وشاربيه مما لحقهما من نفثات ريقه أثناء الكلام لأن الهرم أخلى فكيه من الأسنان. فاغتنم سعيد تلك الفرصة وخاطب جده قائلا: «كيف تحسب عمل هؤلاء طمعا في الخلافة ولا تحسب عمل علي أيضا مثل عملهم. وقد كانوا جميعا في المدينة فكيف إذا قتل الخليفة تكون البيعة لواحد منهم والباقون ينظرون. لماذا لم تحسب ذلك طمعا من علي؟».
فضحك الشيخ ضحكة اغتصابية أو هي قهقهة تشبه الضحك لعظم ما قام في نفسه وهو في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة. وقبل أن يتم قهقهته حول وجهه إلى سعيد وقال: «أتسألني عن خلافة علي وقد كان الأولى بي أن أسأل نفسي ما الذي أعماني عن حقوقه فيها من أول الأمر صدق القائل أن الغرض يعمي ويصم ... إن الخلافة لم تكن لأحد من الصحابة قبل هذا الإمام وهو ابن عم الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) وصهره على ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين. وهو أول الناس إسلاما بعد خديجة
2
وزد على ذلك أن الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) ربي في حجر أبي طالب والد علي. وقد كفله ودافع عنه عند أول الدعوة. وكانت قريش تكره دعوته حتى كثيرا ما هموا بأذيته وأبو طالب يمنعهم بما له من المنزلة الرفيعة عندهم. فلما ولد علي ربي في حجر الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) وأسلم وهو في العاشرة من عمره وذب عن الإسلام بقلبه ويده ولسانه ولا أنسى يوم الهجرة يوم تآمرت قريش على أذية الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) في مكة فعول على الهجرة كيف أن عليا أقام مقامه في منزله فتسجى ببرده وبات على فراشه وعرض نفسه لخطر القتل ونجاه الله. ناهيك عن حروبه في الغزوات والسرايا فقد شهد معظم المواقع وأشهرها وبذل نفسه في الذب عن الإسلام يوم كان معاوية ووالده وإخوته في مكة من ألد أعداء الإسلام ولم يسلموا إلا بعد فتح مكة أي بعد قنوطهم من النصر».
3
الفصل الرابع عشر
علي والخلافة
وكان أبو رحاب يتكلم والعرق يتصبب عن جبينه كأنه يعمل عملا شاقا يجهد نفسه فيه وسعيد صامت مطرق لا يزال في دهشته واستغرابه حتى كاد يغيب عن صوابه. ولم يجسر على كلام. وطال سكوت جده فهم باستفهامه فرآه يتحفز للكلام فسكت وأصغى فقال أبو رحاب «أراك دهشت لما سمعته كأنك لم تعلمه قبلا ولا ألومك إذا علمته وتجاهلته فإني أكبر منك سنا وأعلم منك في هذه الشؤون وقد أعماني الغرض. وكأنني بعد ذاك الهاتف قد فتحت عيناي وصرت انظر إلى الحقيقة كما هي ....» «نعم إن عليا أولى منهم جميعا بالخلافة والرسول (
صلى الله عليه وسلم ) فضله عليهم جميعا وآخاه دون سواه فقال له على مسمع من الصحابة (أنت أخي في الدنيا والآخرة) وخاطبه مرة وقال: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا كافر) ولقد تستغرب ما سأتلوه عليك وتعجب كيف لم يتول الخلافة قبل الآن كيف لا وهو قول الرسول: (إن عليا مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي) وقوله (
صلى الله عليه وسلم ) (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وإل من والاه وعاد من عاداه)
1
فمن يعلم ذلك ويعجب لخلافته بل كيف لا يعجب لتقاعده عن الخلافة إلى الآن».
وكان سعيد لا يزال مطرقا وقد تغيرت سحنته وتولته الدهشة حتى ظن نفسه في منام وندم على مجيئه لأنه أصبح بعد سماع ذلك الكلام حجرا بين مطرقتين لا يدري أيقوم بعهده لقطام التي ملكت لبه أن يعمل بوصية جده وهو في آخر أيام الدنيا. فظل صامتا لا يبدي حراكا. وأدرك جده تلبكه ولكنه تجاهل عما يجول في خاطره وعمد إلى إتمام الحديث فقال: «فترى يا ولدي أن عليا أولى بالخلافة من سائر الصحابة بالنظر إلى قاربته وصهره ووصية الرسول له ولكنه يمتاز عن سائر الناس بفضائل تكفي وحدها لتوليه أمور المسلمين لا أرى في معاوية وأصحابه شيئا منها. إن عليا رجل منقشف زاهد في الدنيا رأيته مرة أنزل سيفه للسوق فباعه فسئل لماذا فعل ذلك فقال: (لو كان عندي أربعة دراهم ثمن آزار لم أبعه) ويكفي قوله في وصف المؤمنين (ومن سيماهم أن يكونوا خمص لبطون من الطوى يبس الشفاه من الظمأ عمش العيون من البكا) ولو فتشت بيته اليوم ما وجدت فيه لا صفراء ولا بيضاء. وقد قضى عمره في عز الإسلام وفتح الفتوحات ولم يلبس ثوبا جديدا ولا اقتنى ضيعة ولا ريعا
2
ومن كان في مقامه قادر على حشد الأموال واقتناء العبيد والإماء والضياع والماشية كما فعل غيره من الصحابة كطلحة والزبير وعثمان وصاحبنا وابن عمنا معاوية ...».
الفصل الخامس عشر
معاوية وأصحابه
ولما بلغ الشيخ إلى هذا الحد تنهد تنهدا عنيفا وصوته يعلو بالرغم عنه «إن معاوية خدعنا بتظاهره في نصرة الخليفة المقتول حتى كرهنا بالإمام علي وقد كنا في ظلمات من الغرض لا يرى الحق وأما الآن وقد قشعت الغشاء عن عيني فإني أصبحت ناقما على معاوية وإذا فكرت في إعماله وإعمال كدت أتميز غيظا ويتفطر قلبي أسفا على ما نال هذا الإمام من الأذى الذي لا يستحقه. كيف لا وهو رجل عرفناه يوم انتصر علينا في موقعة الجمل كيف أنه أشفق على عدوه إشفاقه على أولاده فأوصى أصحابه أن لا يلحقوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يسموا النساء ولا الأولاد بسوء. وكم أوصى عماله أن يقسطوا في أحكامهم وقد أخبرني رجل سمعه يوصي أحد عماله ويقول (لا تضربن رجلا سوطا في جباية درهم ولا تبيعن رزقا ولا كسوة شتاء ولا صيفا ولا دابة يعتمدون عليها ولا تقيمن رجلا قائما في طلب درهم)
1 . ولو أردت أن أسرد من أمثلة ذلك لضاق بي المقام وخفت انقضاء أجلي قبل الفراغ منها وإنا إنما استمهل ملاك الموت ريثما أتم وصيتي لك ... فأصغ لي يا ولدي وتأمل عدل الإمام علي وحلمه وما ارتكبه معاوية وعماله من التعدي على المسلمين. وخوفا من زيادة التطويل وقد تعبت من الكلام اذكر لك حادثة قريبة العهد لايزال صداها يرن في الآذان ... آه ... آه من القساة أهل المطامع ... أتعرف عبيد الله ابن عباس؟»
قال: «كيف لا أعرفه وهو ابن عم الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) وابن عم علي بن أبي طالب. نعم أعرفه».
قال اصغ لما أقصه عليك واعتبر. لما فرغ معاوية من واقعة صفين وتحكيم الحكمين وظفر بالخلافة بحيلة عمرو بن العاص كما تعلم بايعه أهل الشام وظل علي في العراق. فلم يقنع معاوية بما أوتيه من الحكم فبعث سراياه إلى الحجاز والعراق للفتح يدعون الناس إلى بيعته ونقض بيعة علي. وكان رسوله إلى الحجاز واليمن بسر بن ارطاة فجاء المدينة وتولاها لأن عاملها فر من وجهه. ثم جاء مكة هذه منذ شهرين ولا يزال الناس يتحدثون بفرار صاحبها أبي موسى الأشعري من وجهه بلا حرب. فأكره أهلها على البيعة فبايعه أهل مكة مكرهين وقد كنت مريضا ولم أر وجهه ... على أن عمله هذا لا يستوجب ملاما ولكنه سار إلى اليمن وعاملها عبيد الله بن عباس الذي ذكرته لك. فخاف عبيد الله فهرب إلى الكوفة استخلف عبد الله بن عبد المدان فلم يكن من بسر بعد دخوله اليمن إلا أنه أمر بعبد الله هذا فقتله وقتل ابنه صبرا ... وسمع بابنين صغيرين لعبيد الله بن عباس قد ودعهما عند زجل من كنانة بالبادية فأراد قتلهما فبعث إليهما فجاء الكناني ومعه الطفلان فلما علم أن بسرا يريد قتلهما ذعر وصاح قائلا: «لم تقتل هذين ولا ذنب لها فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما» ولم يكن من ذلك الظالم إلا أنه قتل الطفلين والكناني
2
وبلغني أن الكناني دافع عنهما حتى قتل. ولقد أعجبني قول امرأة من كنانة رأت ابن ارطاة مارا بعد تلك الفاجعة فقالت له: «يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين والله ما كانوا يقتلون الأطفال في الجاهلية ولا الإسلام. والله يا ابن ارطاة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء».
3
هذه يا ولدي أعمال معاوية وعماله فأين هي من أعمال الإمام علي فكيف ننقم عليه بعد ذلك ونقول أنه قتل عثمان وإن يستوجب القتل؟
الفصل السادس عشر
الخوارج
ولم يتم الشيخ كلامه حتى خارت قواه وعجز عن الكلام ومل القعود فاستلقى على ظهره وهو يلهث والعرق يتصبب عن جبينه فخاف سعيد عليه فأسرع إلى منديل مسح به عرقه وأتاه بلبن كانوا أعدوه له فشربه واستلقى يلتمس الراحة وسعيد جالس إلى جانبه وقد وقع في حيرة عظمى. فتصور عهده لقطام والصك الذي كتبه على نفسه ولبث صامتا وجده الشيخ يلتفت إليه خلسة يراقب عواطفه. فأدرك ارتباكه وعلم أنه يفكر بقطام وأهلها فحول وجهه نحوه وهو لا يزال مستلقيا وقال: «أظنك تفكر في قطام وأهلها الخوارج وقد يخيل لك أن خروجهم من طاعة علي قد يطعن بصدق ما قلته لك ولكنهم لم يخرجوا إلا طمعا في الدنيا فانتحلوا سببا لا يسمعه عاقل إلا هزأ بهم وأيقن تعديهم. خلعوا طاعة علي لأنه قبل بالتحكيم المشهور وما ذنبه وهم الذين أجبروه على قبوله وهب أنه أخطأ فهل يخرجون عليه ويحاربونه. ولكنهم رأوا معاوية قام في الشام وكاد يفوز بالخلافة فطمعوا هم بالحكومة لأنفسهم فاجتمعوا على نقض البيعة ويؤيد ذلك أنهم ولوا عليهم رئيسا منهم وبايعوه ولكنهم فشلوا في حروبهم وعادت العائدة عليهم.
وليس فشلهم بالدليل على سوء نياتهم ولكنني أتلو عليك حكاية سمعتها من رجل أثنى بصدق روايته قال: إن الخوارج عند أول خروجهم من طاعة علي على اثر رجوعهم من صفين نزلوا عن النهروان فرأوا رجلا يسوق بامرأة على حمار فدعوه فانتهروه فأفزعوه وقالوا له من أنت. قال أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ). فقالوا له أفزعناك. قال: نعم. قالوا: لا روع عليك حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله (
صلى الله عليه وسلم ). قال: أنه تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيه بدنه يمسي فيها مؤمنا ويصبح كافرا ويمسي مؤمنا. فقالوا: لهذا الحديث سألناك فما تقول في أبي بكر وعمر؟. فأثنى عليهما خيرا. قالوا: ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها. قال: إنه كان محقا في أولها وفي آخرها. قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم وبعده. قال : إنه أعلم بالله منكم وأشد توقيا على دينه وأنفذ بصيرة. فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحدا. فأخذوه وكتفوه ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فتركها في فيه فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن فألقاها ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة فضربه أحد بسيفه فقالوا هذا فساد في الأرض فلقي صاحب الخنزير فأرهباه فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما علي منكم من بأس إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ولقد أمنتموني قلتم لا روع عليك. فأضجعوه فذبحوه فسال دمه في الماء وأقبلوا إلى المرأة فقالت إني امرأة ألا تتقون الله. فبقروا بطنها. هذه أعمال أعداء علي وهذا هو علي كيف ننقم عليه بل كيف نقتله أو نساعد على قتله بل كيف نسكت عن قتلته ولا ندافع عنه.
الفصل السابع عشر
خاتمة الوصية
فلما رأى سعيد نهاية حديث جده لم يعد يذكر الصك الذي كتبه على نفسه وتعهد فيه بقتل علي لئلا يزيد من غضبه. فظل ساكتا يفكر في حيلة يتخلص بها من وعده بالتي هي أحسن فلم يسعفه ذهنه على التأمل وقد أحس بالتعب الشديد ورأى أبا رحاب قد تعب أيضا. قال له: لقد أتعبت نفسك يا جداه بوصايتي فأشكر عنايتك وإني أرى في قولك الصواب وأطلب إليه تعالى أن يقدرني على العمل به فاسترح الليلة وغدا نصبح إن شاء الله وقد ارتحنا فنستأنف الكلام. قال ذلك واكب على يده فقبلها فرآها قد زادت برودة وجمودا. فقال له جده: «نم هنيئا يا ولدي ولكنني أخشى أن لا أصبح في الغد فلابد من كلمة أقولها وهي خاتمة وصيتي لك» قال: ذلك ومد يده فدنا سعيد إليه فعانقه وبكى ثم قال: والدمع ملء عينيه وشفتاه ترتجفان وذقنه تهتز «إذا شئت يا ولدي أن يفارق جدك هذه الدنيا مرتاحا مطمئنا عاهده بأنك تعمل بوصيته أي أنك لا تبغي سوءا للإمام علي بل إذا رأيت سبيلا للدفاع عنه دافع بكل جهدك.. هل تعاهدني على ذلك؟ ... عاهدني عليه. واجبر قلبي واذكر أني جدك ووالدك ووصيك وإني ربيتك وكفلتك وإني لا أريد بك إلا الخير. هل تعاهدني على ذلك.. قل نعم واجبر قلبي إني قلق عليك ...».
فتأثر سعيد من كلام جده حتى اغرورقت عيناه بالدموع وتذكر حنوه وانعطافه فلم يسعه إلا الإيجاب فعاهده على وصيته.
ولكنه لم يكد يعاهده حتى تذكر عهده لقطام في الضد من ذلك فعظم عليه الأمر على أن البغتة أنسته هول ذلك التضاد. ورأى في جده ميلا إلى الرقاد فدعا الرجل الموكل بخدمته وأمره أن يتولى تعهده في أثناء رقاده وخرج إلى غرفة أخرى نزع فيها ثيابه والتمس الراحة. أما الرقاد فلم يكن له فيه مطمع بعدما انتابه من الهواجس والمشاغل.
على أنه لم يكن يهدأ له بال وإذا فكر في حاله ازداد الأمر خطارة لديه وهاله ما رمى به نفسه من عهدين متناقضين. فكان كلما تصور عدو له عن قتل الإمام علي شعر بارتياح من الخطر الذي كان يخافه على نفسه لو باشر القتل. ولكنه لا يلبث أن يفكر بعهده المكتوب وبقلبه المغلول حتى ترتعد فرائصه ويرتبك في أمره فيهب من فراشه كأنه أصيب بخبل.
الفصل الثامن عشر
طيف قطام
ومازال في مثل ذلك حتى انقضى نصف الليل وهو لم يغمض له جفن ولم يزدد إلا اضطرابا وقلقا. وضاقت الدنيا لديه فنهض من فراشه وتزمل ببرده وعباءته وتعمم وخرج يلتمس الخلاء. وكان الظلام مخيما وقد رقد الناس ولم يبق في شوارع مكة أحد. ففرح لذلك الهدوء وسار لا يدري إلى أين وهو غارق في هواجسه ولم يسر قليلا حتى شعر بالبرد فالتف بالعباءة وظل ماشيا تارة ببطيء وطورا يسرع على غير هدى فما شعر إلا هو بباب المسجد الحرام وأحس لساعته بارتياح. فقال في نفسه لأدخلن المسجد أصلي ركعتين لعل الله يوحي إلي طريقة تخفف اضطرابي. وكان الباب مفتوحا وصحن المسجد خاليا فتأبط نعليه ودخل حتى دنا من الكعبة فصلى وسجد فأحس لساعته براحة فطاف حول الكعبة ثم التمس مكانا وراءها اتكأ فيه وعادت إليه هواجسه. فأرسل بصره يراقب النجوم السابحة في الفضاء وقد اجتذب بصره جمال القبة الزرقاء وأفكاره تائهة في ما أحدق به واشتد البرد عليه فأدخل رأسه في العباءة جعلها خمارا. وكأن التعب والبرد تغلبا عليه فخدر بدنه واستولى عليه النعاس ولكنه لم يكد يغمض جفنيه حتى ابتدرته الأحلام فرأى قطاما بجلباب أسود وقد أسفرت عن محياها فبدت عيناها المكحولتان ورآها تمشي نحوه حافية القدمين على بساط من ريش النعام الأبيض. فخفق قلبه لرؤيتها وهم بالسلام عليها فرآها أعرضت إعراض العاتب وعيناها تتلألآن بالدموع فتفطر قلبه لرؤيتها وساءه إعراضها فهم بالإقبال عليها فلم تسعفه رجلاه لما تولاها من الرعدة فناداها يلتمس قربها فلم تجبه وظلت معرضة وقد تحولت عنه ومشت وهي تنظر إليه شزرا ولسان حالها يقول: «لقد خنت عهدي فما أنت أهل لي».
وحاول سعيد اللحاق بها ليخبرها ببقائه على العزم فلم يستطع ولما ابتعدت عنه هم أن يناديها فأفاق من رقاده فإذا هو وحده بجانب جدار الكعبة والظلام محدق به فمسح عينيه ليتيقن حاله أفي يقظة هو أم في منام ولما تحقق أنه كان في منام حمد الله ولكنه أيقن أنه إذا لقي قطاما لا يرى منها غير الإعراض.
فمكث صامتا تتقاذفه الهواجس وهو لا يهتدي إلى حل مقنع فنهض يلتمس المنزل ليرى ما تم لجده بعد ذلك الحديث. واشتاق للالتحاف بالفراش بعد بضع ساعات قضاها في ذلك الخلاء والبرد قارس. ولم يكد يتلو سورة الفاتحة وهو عائد حتى سمع لغطا خافتا كان أناسا يتسارون. وكان قد وصل إلى مقام إبراهيم أمام الكعبة.
1
فوقف وأصاخ بسمعه فسمع خطوات بطيئة تقترب من الكعبة وهمسا يتكرر كأن القادمين يتشاورون في أمر هام. فانزوى وراء المقام في مكان لا ينتبه إليه أحد وخصوصا في ذلك الظلام ولكنه كان إذا أرسل بصره وقع على الكعبة وحواليها.
الفصل التاسع عشر
المؤامرة
فما لبث أن رأى ثلاثة رجال لم يعرف أحدا منهم ولكنه عرف من قيافتهم أنهم غرباء على أنه لم يقدر على تمييز ألوانهم ولا سحنتهم وقد لفوا رؤوسهم بالعمائم لفا كالخمار إما اتقاء للبرد وإما تنكرا.
فهمه أمرهم وخفق قلبه خوفا من انكشاف مكانه وربما كانوا في مهمة إذا علموا أنه اطلع عليها سعوا في قتله. فبالغ في الانزواء وخاف أن يداهمه العطاس فلا يستطيع حبسه فينفضح أمره فظل متحيرا. أما هم فوصلوا باب الكعبة واقتربوا من سعيد بحيث يراهم جميعا ولو كان القمر طالعا أو كان هناك مصباح لتبين سحنهم جيدا ولكنه لم يقدر على تمييز شيء منهم لاشتداد الظلام. على أنه تأكد من مجمل أحوالهم وحركاتهم أنهم جاؤوا لأمر ذي بال أحدهم طويل القامة وهو أكثرهم حركة فجلس رفيقاه الأربعاء وظل هو واقفا ثم جلس القرفصاء وقال: «والآن مالنا ولهؤلاء إنهم جبناء تعالوا نبدأ بالأمر فيكون لنا الفخر».
قال الثاني وكان قصير القامة ممتلئ الجسم «إني أرى رأيك إذ ما نابنا من هؤلاء الأئمة إلا الضرر. هم يتنازعون على الخلافة فيقتل المسلمون بعضهم بعضا في نصرتهم فإذا قتلناهم رقدت الفتنة. نعمن قتلهم جميعا» قال ذلك بصوت خافت وفي نطقه لجلجة وكان يلتفت يمنة ويسرة لئلا يسمعه أحد.
فقال الرفيق الثالث وكان لا يزال ساكتا «إني أفكر في واقعة النهروان وفيمن قتل فيها من الأبطال والشجعان إلا ويقطر قلبي دما. إن عليا قتلهم لأنهم لم يرضوا معه بالتحكيم».
فابتدره الأول الطويل وكان أكثرهم جرأة على الكلام وكان رفيقاه إذا تكلما خفضا صوتيهما أما هو فكان لا يهاب شيئا فيتكلم بملء فيه فقال: «لا يكفينا التذمر والتضجر ونحن سكوت نرى أبناءنا وإخوتنا يقتلون في نصرة أولئك الأئمة ولا نبدي حراكا. هلم بنا نقتلهم ونريح المسلمين من شرهم».
فلما سمع سعيد حديثهم علم أنهم جاءوا للمؤامرة على قتل جماعة من الأئمة الإمام علي واحد منهم ولكنه لم يعلم من هم الباقون. فجعل يرتعد لتأثره وزاد خوفه على نفسه إذا كشف مكانه . وكان في بادئ الرأي قد ندم على بقائه هناك فلما توسم خطارة ما هم فيه من سر لبقائه على أنه مازال خائفا من الفضيحة. فلبث منزويا وهو يحبس أنفاسه خوفا من السعال أو العطاس فإنه لو تنحنح أو عطس لأجفلهم جميعا وهم على بضعة أذرع منه. ولو قام أحدهم ومشى خطوتين نحو مقام إبراهيم لرأى سعيدا أمامه. أما سعيد فكان يفكر في حيلة ينقذ بها نفسه لو كشف مكانه. وكان مع شدة الظلام يخيل له أنه في رابعة النهار لخوفه وقد ساعده على ذلك صحو الجو وتلألؤ الكواكب لأن السماء كانت نقية لا يحجب نجومها الأسحب رقيقة متفرقة كانت تجتمع أحيانا وتتلبد فتزيد الظلام كثافة وقد كان سعيد في انفراده وراء الكعبة قبل مجيء هؤلاء إنما يشاغل نفسه بمراقبة حركات تلك السحب. وكان إذا تلبدت أو تكاثفت انقبضت نفسه أم الآن فأصبح لا يرى غير الخطر أمامه وود تكاثف الغيوم لأنها تزيد في احتجابه وقد نسي قطاما وجده وأصبح قلقا لاستطلاع سر ذلك الاجتماع.
الفصل العشرون
17 رمضان
وكان السكوت قد استولى على تلك الجلسة لحظة على اثر كلام ذلك الطويل الجرئ فلما رأى هذا سكوت رفيقيه ابتدرها قائلا: «وإذا فعلنا ذلك ما الذي نخافه غير الموت؟ حبذا الموت في سبيل انقاذ المسلمين من فتنة يقتتلون فيها. وأصل الفتنة كما تعلمون ثلاثة من كبارنا يتنازعون على الخلافة أو هي السلطة الدنيوية وهم علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص هلم بنا نقتلهم ونريح الناس منهم».
1
فقال الثاني: «لقد وافقتك على رأيك من أول الأمر ولكن ما السبيل إلى قتلهم وأنت تعلم أنهم محاطون بالجند والأعوان فلنفكر في طريقة تضمن لنا الفوز وتأمننا من الخطر».
فأسرع الأول قائلا: «أراك تتردد في القول كأن الأمر هالك خطره وكأني بك تخاف كبير أولئك الأئمة وتخشى أن يكون من حظك قتله. تعالوا نقتسم العمل فيما بيننا. تعالوا نتعاهد على أن يقتل كل منا واحدا من أولئك الثلاثة ولنعين يوما نباشر العمل فيه معا فيكون أحدنا في الكوفة لقتل علي والآخر في مصر لقتل عمرو والثالث في الشام لقتل معاوية في يوم واحد ويقتل كل منا صاحبه في ذلك اليوم فيصبح المسلمون وقد نجوا من أسباب الفتنة فيختارون خليفة يولونه أمورهم وترجع الخلافة إلى بساطتها».
ولما سمع سعيد ذلك تهيب لعظم هذا المشروع ولم يصدق أنهم يتفقون على القيام به. ولاح له لأول وهلة أن عليا إذا قتل رضيت قطام به وإن لم يكن قتله على يده ولكنه تذكر كلام جده ووصيته بأن يدافع عن علي لبراءته مما ينسبونه إليه فانقبضت نفسه. وما لبث أن شغل عن تلك الهواجس بما دار بين أولئك المتآمرين. فإن المتكلم الأول لما فرغ من كلامه ولم ير من رفيقيه تلبية لم يصبر حتى يسمع جوابهما فقال لهما: «لا تترددا ولا يهولكما الأمر وهو أسهل ما يكون على ذي مروءة. وكأني بكما تفكران في كيفية اقتسام العمل وتخافان أن يكون نصيب أحدكما أصعب مراسا من نصيب الآخر فلا تخافا إني أتعهد بقتل أكبر هؤلاء الثلاثة وأشجعهم. أنا أقتل عليا ابن أبي طالب فآتي الكوفة وإن يكن مقامي في الفسطاط فأقتله» قال ذلك وأقبل حتى دنا من باب الكعبة وأمسك بحلقته وقال لهما: «ها إني أمسكت بحلقة الكعبة وأقسم بالله وبهذا البيت الحرام أني أقتل عليا ابن أبي طالب ابذل في سبيل ذلك ما في وسعي وأشهد الله على ذلك».
فلما فعل ذلك نهض رفيقاه وقد اندفعا إلى القسم فأمسك كل منهما بحلقة الباب وأقسم أحدهما أنه يقتل معاوية بن أبي سفيان والآخر أنه يقتل عمرو بن العاص.
ولا تسل عن حال سعيد بعد أن تم التعهد على هذا الفعل الخطير وود لو يعرف أولئك المتعاقدين ولكنه لم ير سبيلا إلى ذلك. على أنه علم من خلال حديثهم أن المتعهد بقتل الإمام علي من أهل فسطاط مصر.
ثم رأى الثلاثة عادوا إلى مجالسهم فقال أحدهم وهو السمين القصير «لقد تعاهدنا على قتل هؤلاء الأئمة ولكننا لم نعين اليوم الذي نفعل فيه ذلك وإن لم نعينه قتلنا جميعا».
فقال الثالث: «وهذا رأيي أنا أيضا لأننا إن لم نعين اليوم كان المجال واسعا ونخشى إذا سبق أحدنا الآخر ولم ينجح أو قتل أو قبض عليه أن يخاف الباقيان ويرجعا. فنعين اليوم والساعة».
فقال الأول: «إن الساعة لا يمكن تعيينها ولكننا نعين الليلة فليكن عملنا في ليلة واحدة. في أي الشهور نحن الآن؟
قالا: في جمادى.
قال: «فليكن موعدنا رمضان المبارك حتى لا نعيد الفطر إلا والمسلمون كافة في راحة وإذا قتلنا لقينا ربنا وقد فعلنا ما علينا. فاختاروا ليلة من ليالي رمضان».
قال الثاني: «إني أختار الليلة السابعة عشرة من ذلك الشهر فما قولكم».
2
قالوا: «إنها خير ليلة». ونهضوا وسعيد يخاف أن يمروا به فيروه ولكنهم داروا حول الكعبة كأنهم يطوفون بها ولبث هو ينتظر عودتهم فلم يعودوا. فلما استبطأهم علم أنهم خرجوا من باب آخر أو داروا وتحولوا إلى الباب الذي دخلوا منه. فرفع رأسه ونظر حوله فلم ير أحدا ولا سمع صوتا. فنهض وطاف حول الكعبة فتحقق أنهم خرجوا. فجلس هنيهة يفكر في ما مر به وهو يحسب نفسه في حلم لغرابة ما رآه واتفاق حدوثه في الليلة التي أوصاه جده فيها أن لا يقتل عليا. ونظر إلى الأفق فاستقبلته الزهرة تتلألأ كأنها تبشره بإقبال الفجر. وتذكر جده فقال لأعودن إلى المنزل قبل أن يطلع النهار ويخرج الناس. فعاد يلتمس البيت.
الفصل الحادي والعشرون
آخر العهد بأبي رحاب
ولما اقترب من المنزل خفق قلبه مخافة أن يكون جده قد أصاب حتفه في غيابه فدخل الدار فرأى السكوت مستوليا عليها فاستبشر والتمس الحجرة التي كان جده نائما فيها فرأى المصباح لا يزال مضيئا فأطل من الباب فرأى عبد الله جالسا بجانب الفراش وجده نائم. فنظر إلى عبد الله كأنه يستطلعه الحال فنهض لاستقباله ووجهه باش فاطمأن باله وقبل أن يلقي التحية ابتدره عبد الله قائلا: لقد شغلت بالنا بغيابك فإن جدك أفاق من نومه مرارا والتمس أن يراك ونحن لا نعرف مكانك وقد ألح كثيرا في طلبك.
قال: وكيف هو الآن؟
قال: هو في خير وقد رأيناه في راحة لم يذقها منذ أيام.
ولم يتم عبد الله كلامه حتى رأى أبا رحاب يتحرك في فراشه فتقدم سعيد نحوه فإذا هو قد فتح عينيه وأشار إليه بيده فدنا منه وجثا أمامه يلتمس منه إشارة.
فقال أبو رحاب: أين كنت يا ولدي فقد التمسناك مرارا فلم نقف على مكانك.
قال خرجت في حاجة إلى الكعبة واتفق لي حادث شغلني عن المجيء حتى الآن.
فمد الشيخ يده حتى قبض على يد سعيد وضغط عليها كأنه لا يريد أن يفارقه وسعيد صامت لا يبدي حراكا لشدة تأثره من منظر جده الشيخ وقد شعر أنه إنما ضغط على يده ضغطة الوداع.
فترقرقت الدموع في عينيه والتفت إلى عيني جده فرآها عارقتين بالدمع وهما شاخصتان إليه فتفطر قلبه وهم أن يتكلم فابتدره جده قائلا: «أراني لا أزال في قلق على مستقبل حياتك وأخشى أن لا تكون استوعبت نصيحتي فقد نصحتك وأنا في آخر أيام الدنيا نصيحة أوحى إلي أن ألقيها إليك. وقد تركتني الليلة غارقا في بحار الأحلام وكأن هاتفا خوفني من غيابك. هل أنت باق على عهدي يا سعيد».
قال: «لقد عاهدتك يا جداه عهدا وثيقا أني لا أنوي شرا للإمام علي ما حييت وأنا باق على عهدي وأريدك علما أني لقيت في الكعبة أناسا يتآمرون على قتله وقتل صاحبيه معاوية وعمرو في يوم عينوه. وتعاهدوا عليه فلم يبق تمت حاجة إلى سعيي».
فبغت الشيخ وحملق بعينيه وصاح قائلا: «ومن هم هؤلاء».
فقص سعيد خبره مختصرا وختم كلامه قائلا: «إني لم أعرفهم ولا استطعت اللحاق بهم خوفا منهم لأني أعزل».
قال: «ألم تعرف الذي تعهد بقتل الإمام علي».
قال: «كلا ولكنني علمت من عرض كلامه أنه من مصر ويغلب على ظني أنه من الخوارج».
فصمت الشيخ برهة كأنه يفكر في أمر هام ولحظ سعيد من شخوص عينيه وذبول أجفانه وتغير سحنته أنه تعب. وأما أبو رحاب فتجلد وقال وصوته يرتجف وقد أصبح لا يستطيع التلفظ بكل مقطع من مقاطع الكلام كأن لسانه أصيب بتلعثم قال: «ياليتني كنت بينهم لأقنعهم بالكف عن ذلك ... ولو استطعت استمهال أجلي لسعيت في البحث عنهم فإذا عرفت الساعي في قتل الإمام علي أرجعته عن غيه بالبرهان ... إنهم والله ظالموه» ... ثم سكت هنيهة ريثما يستريح وعاد إلى الكلام وهو يتلجلج ويقف عن الكلام عند كل شهيق من تنفسه. وكان تنفسه قد أسرع وظهر الاضطراب عليه فتحقق سعيد أن جده في حال النزع فارتعدت فرائصه تجشع قلبه وأسف لحاله ولكنه أصغى لتتمة حديثه فإذا هو يقول: «وأما أنت يا سعيد فأصغ لقولي واعمل بنصيحتي ... ولا أقبل منك السكوت عن هذا الأمر ... وإنما أنت.. مكلف بالبحث عنه ... إنك مكلف بالبحث عن هذا ... الرجل في مصر ... والشام ... والعراق حتى تعلم مقره .... فإما أن تقنعه.. بالعدول.. وإما أن تنبئ الإمام بأمره ... إني ... ألقى ... هذا الأمر ... على عاتقك ... فاحذر ... أن تتقاعد عنه. وإلا فاتك ... قاتل عليا بيدك .... هذه وصيتي لك اختفظ بها ولا تتماهل أو تتجاهل ... والله شاهد ... على ما أقول. هذه ... وصيتي الأخيرة بل ... هذه ... آخر كلمة أفوه بها في هذه ... الحياة الدنيا ... وكنت مستغربا استئخار أجلي ... إلى الساعة. وكنت أحسبني ... ميتا منذ أيام ولكن الله ... إنما أراد بذلك ... أن أكل إليك ... بهذا الأمر ... هذه آخر وصيتي لك ... ابحث ... عن هذا الرجل وارجعه ... عن غيه ... كما أرجعتك ولو أوتيت .... عمرا ثانيا لقمت في بني أمية ... وفي الخوارج ... خطيبا أصرح ببراءة ... الإمام علي على رؤوس الأشهاد. ولكن آه ... إن الساعة آتية لاريب ... فيها ... وها إني أستودعك ... الله وآخر ك ... لم ...ة.. أقو ...لها لك.. علي .... علي ... دا ....فع ... عن علي بيدك ... وقلبك ... ولسا ...نك ....»
ولم تخرج هذه الكلمات الأخيرة من فيه حتى اختنق صوته ثم شهق شهقة دوى صوتها في أطراف المنزل وارتخت مفاصله فأفلتت يد سعيد من يده. ونظر سعيد إلى جده فإذا هو قد أغمض جفناه ووقف تنفسه ... فجس يده فإذا هي باردة فلمس جبينه فإذا هو كالثلج وقد فتح فاه وأرسل نفسه الأخير وبطلت حركة الحياة فأصبح تمثالا من تراب. فاقشعر بدن سعيد ولطم يدا بيد وصاح «جداه يا جداه.. وا ويلاه كلمني زودني نصيحة أخرى ...» وما من مجيب فأيقن بوفاته وكان عبد الله قد خرج فعاد ولما رأى أبا رحاب قد مات أخبر أهل المنزل فاجتمعوا وعلا النحيب والبكاء.
ولم يكن الحزن على موت أبي رحاب شديدا لتوقعهم ذلك منذ أيام. ولكن سعيدا كان حزنه مضاعفا لامتزاجه بالهواجس والاضطرابات بما سمعه من جده مع ماهو مقيد به من العهود في الضد من ذلك.
الفصل الثاني والعشرون
رفيق جديد
وبعد الاحتفال بالدفن عاد سعيد إلى صحوه وفكر في حاله فرأى نفسه في مشكلة لا يدري كيف يتخلص منها. وبعد التأمل الطويل رأى المسألة مع إشكالها ليس أسهل من حلها إذا استطاع إقناع قطام ببراءة علي فتتنازل عن الانتقام. فلما فتح عليه بذلك توسم فيه خيرا وأحس بانفراج الأزمة فأعمل فكرته في الأسلوب الذي يستولي به على عواطفها ويغير اعتقادها بالإمام علي حتى تسكت عن الطلب بثأر والدها وأخيها منه. فخيل له عن بعد أن إقناعها ممكن فهدأ روعه نوعا.
وأسرع في تدبير شؤون أهله وكان في حملتهم شاب اسمه عبد الله رباه أبو رحاب كما ربى سعيدا وكان يتعزى به ويحبه وهو الذي أنفذه إلى الكوفة لاستقدام سعيد فلما مات أبو رحاب تقدم عبد الله إلى سعيد أن يأذن له بمصاحبته وبالغ في إلحاحه واستهلك في سبيل مرافقته. فتعجب سعيد لتلك الرغبة في السفر ولم يكن يعهد عبد الله ميالا إلى ذلك.
والسبب في تلك الرغبة أن أبا رحاب كان من الدراية والفراسة بحيث لم يخف عليه ضعف سعيد فأرسل أنفاسه الأخيرة وهو يخاف عليه غدر الناس وخداعهم ولكنه استدرك ذلك قبل موته فأوصى عبد الله هذا أن يكون له عونا فيصحبه حيثما سار فينجده ويرشده وإن يكن هو شابا مثله ولكنه كان أعرف منه بأحوال الدهر وأسوأ طنا في مجريات الأيام .
وبعد أيام ودع سعيد أهله واصطحب عبد الله وسارا يطويان الصحراء نحو الكوفة وعبد الله لا يعرف شيئا من علاقة سعيد بقطام ولا ما تآمر عليه الثلاثة في المسجد الحرام. ولكنه فهم من وصية أبي رحاب أن سعيدا كان عازما على قتل الإمام فأرجعه أبو رحاب عن عزمه. وسمع حديث سعيد عن المؤامرة ولكنه لم يتفهمها جيدا. فلما أوغلا في الصحراء فتح عيد الله حديثا تطرقا منه إلى مقتل الإمام علي واستأنس سعيد بعبد الله وهو مخلص من فطرته ففتح له قلبه وكشف له عن سره وارتاح لمشورته. ولم يصلا الكوفة حتى أصبح عبد الله عارفا بكل مكنونات قلبه فشاركه في شعوره من قبيل عهده مع قطام ورجوعه عنه فثبته على وصية جده وهون عليه إقناع قطام إلى أن قال: «فإذا لم تقتنع ليس أهون من أن تعدل عنها والنساء كثيرات وإنا أختار لك فتاة من أجمل الفتيات خلقا وخلقا وأرفعهن نسبا لا تقاس بها بقطام» وكانا يتحادثان وهما على ناقتيهما يطويان الصحراء طيا.
فقطع سعيد عليه الكلام قائلا: «لا لا تقل ذلك ليس في الناس أجمل من قطام عندي ولا صبر لي على إغضابها ويظهر أنك لم تعان الحب ولا عرفت سلطانه» قال: ذلك وتنهد ... وصبر هنيهة ثم قال: «وهب مع ذلك أني لا أحبها ولا أنا عالق بها فإن في يدها صكا مكتوبا أخاف إذا أغضبتها أن تشي بي إلى علي أو ... ولكني واثق بصدق مودتها فهى لا تريد بي سوءا بل تبغي رضاي».
فقال عبد الله: «إذا كانت تحبك كما تقول فليس أهون من إقناعها في العدول عن قتل الإمام فيهون عليك البحث عن المتعهد بقتله وتردعه عن غيه فإذا لم يرتدع قتلته أو نقلت خبره إلى الإمام ليرى رأيه فيه».
فارتاح سعيد لهذا الرأي.
الفصل الثالث والعشرون
اللجاجة السذاجة
وأقبلا على الكوفة ذات يوم والشمس قد مالت إلى المغيب وكان سعيد قد قضى ذلك النهار وهو يستحث ناقته لعله يدرك المدينة قبل الغروب ليتمكن من المسير إلى بيت قطام إذ لا صبر له على فراقها وهو على مقربة منها. فلما دنا الغروب وهو لم يدخل الكوفة انقبضت نفسه وأدرك عبد الله انقباضه مما آنسه فيه من السكوت التام فأراد أن يصرف ذهنه عن ذلك فقال: «له وهل نحن بعيدون عن منزلك».
قال: «لانلبث أن ندخل المدينة حتى ندنو منه لأنه في أطرافها».
قال: «إني أكاد لا أصدق بوصولي لأستريح من وعثاء السفر وأتخلص من ركوب الجمال فقد أتعبني جريها وخصوصا في هذا النهار».
قال سعيد: «إني أراني في الضد من ذلك وتحدثني نفسي أن أصلي العشاء في المسجد قبل المبيت».
فأدرك عبد الله أنه إنما يريد زيارة قطام ليطلعها على وصية جده ويرى ما يبدو منها إذا علمت بما عول عليه فرأى أن يثنيه عن زيارتها ريثما يفاوضه في الأمر ويهيئا الحيلة في مخاطبتها لئلا يفشلا لعلمه بسلامة نية سعيد فخاف عليه السقوط في ما يخشاه. فقال له: «دعنا نصلي العشاء معا في المنزل ونصبح إن شاء الله فنصلي في المسجد».
فلم يراجعه سعيد حياء وقال له: «حسنا رأيت» ولكنه عول في باطن سره على الذهاب خلسة إلى منزل العجوز لبابة يتجسس الحال.
وما لبثا أن دخلا الكوفة وقد أمسى المساء فالتمسا منزل سعيد فترجلا واغتسلا وصليا ثم تناولا العشاء وتظاهر سعيد بالنعاس فذهب كل إلى فراشه.
وتبرص سعيد ريثما ظن رفيقه نام فالتف بعبائته وانسل إلى بيت لبابة وقضى طريقه يفكر بعبارة يبدأ بها الكلام. فوصل المنزل فرأى لبابة خارجة منه وقد تخمرت ومشت تتوكأ على عكازها فبغت لرؤيتها وحياها فردت التحية وهي لا تصدق أنها تره. فلما تحققت أنه سعيد رجعت وهي تبالغ في الترحاب به وتضحك ضحكتها المعهودة. فاستأنس بلهفتها ثم ما لبث أن تذكر ما جاء به من الأمر الجديد حتى انكمش قلبه ولكنه تبعها حتى وقفا بباب الغرفة فأمرت عبدها أن يضيء المصباح وعادت إلى مخاطبته فسألته عن ساعة وصوله. فقال: «إني وصلت الساعة ومع شدة تعبي من السفر الطويل لم أصبر على مشاهدتك قبل المنام».
فقهقهت قهقهة دوى لها البيت وخيل له لفرط قلقه أن عبد الله يسمعها. فقال لها بصوت خافت:» وما الذي يضحكك يا خالة».
قالت: «لقد أضحكني شوقك إلى رؤية هذا الوجه القبيح (وأشارت إلى وجهها) وأنت إنما تشتاق إلى رؤية وجه أجمل منه ... أليس كذلك ...».
فقطع كلامها وهو يبالغ في خفض صوته وقال: «لا والله إني الآن في شوق إليك أكثر من شوقي إلى قطام لأني وقعت في مشكل لا أرى أحدا ينجيني منه سواك فأسعفيني برأيك ودهائك. وأرجو قبل كل شيء أن تعتبرى قدومي إليك الان سرا تكتمينه عن كل لسان لأن معي رفيقا صحبني من مكة فلما وصلنا الكوفة ورأى في ميلا إلى الخروج أقعدني إلى الصباح فاستحييت وبقيت فلما استغرق في نومه جئت خفية ...».
ولم يتم كلامه حتى جاء العبد بالمصباح فدخلا الغرفة وسعيد يقول: «لقد عودتني يا خالة أن تكوني عونا لي في مصائبي وأنت التي بمهارتك ودهائك أقنعت قطاما بزواجي فألتمس منك الآن أن تقنعيها بما جئت به إليك».
فعجبت العجوز لاهتمامه الشديد ولو كان قلبها حيا لخفق واضطرب ولكنها تعودت الأهوال ولاقت الغرائب فلم يعد يخيفها أمر. فقالت: «قل ما بدا لك إني مستودع أسرارك ولا آلو جهدا في خدمتك».
فتنهد سعيد وسكت وهي تحدق فيه بعينيها الغائرتين. وبعد هنيهة قال لها: «لقد جئتك بأمر لا أدري كيف أبدأ الحديث به».
قالت: «قل لا تبال ولا تجزع فإني عركت الدهر ولقيت الأهوال حتى لم أعد استغرب أمرا.. قل ما بدا لك».
الفصل الرابع والعشرون
كشف الأمر
قال سعيد: «أنت تعلمين أني عاهدت قطاما على قتل الإمام علي.
قالت: نعم أعلم ذلك.
قال: وهل تعلمين لماذا خرجت إلى مكة.
قالت: علمت أنك شخصت إليها ولكنني لم أعلم سبب شخوصك.
قال: شخصت إليها إجابة لطلب جدي رحمه الله.
قالت: جدك أبو رحاب؟ ما الذي أصابه؟
قال: إنه مات بعد وصولي مكة بيوم واحد وكان قد بعث إلى ليراني قبل الممات .
قالت: «مات أبو رحاب! رحمة الله عليه.. إنه كان رفيقا بك شفوقا عليك وأنا أعلم كيف ربيت في حجره وقد كان أحن عليك من الوالد. ولاشك أن موته شق عليك كثيرا. وكم كنت تود أن يبقى حيا ليفرح بك ويشهد زواجك بعد أن يعلم بما تعهدت به لتنقذ بني أمية من العار و ... ... ....».
فقطع كلامها قائلا: «آه يا خالة لقد كنت أظن ذلك قبل أن قابلته ولكني ما لبثت أن ندمت على ذهابي إليه لأنه حملني قبل موته حملا لا أدري كيف أتصرف به».
قالت: وماذا عسى أن يكون ذلك.
قال: إن ما ظننته سببا لارتياحه قد رأيته داعيا لغضبه.
قالت: هل أخبرته بعزمك على قتل علي.
قال: «نعم أخبرته ولكنه أنكر علي قتله وأوصاني وهو على فراش الموت أن لا أمد يدي إلى هذه الجريمة لأن هاتفا جاءه وأنبأه ببراءة الإمام علي مما يتهمونه به».
وكان سعيد يتكلم ولبابة شاخصة إليه وقد أسفت لخيبة مسعاها ولكنها لدهائها ومكرها لم تبد حراكا ولا أظهرت استغرابا بل تشاغلت بإصلاح خمارها تنتظر آخر الحديث.
وأما سعيد فكان يخاطبها وهو يتوقع بغتتها أو غضبها فلما رآها صامتة مصغية تجرأ على إتمام الحديث فقال: «ولما سمعت كلام جدي دافعته فرأيت منه إصرارا على رأيه وقص علي شيئا كثيرا من الأدلة والشواهد المؤيدة لقوله».
قال سعيد ذلك وسكت وهو ينتظر ما تقوله العجوز فرآها لا تزال صامتة ولم يبد على وجهها شيء من الاستغراب فعطف بحديثه إلى المؤامرة التي شاهدها في الكعبة ظنا منه أنها توازن ما تقدم من الحديث الغريب. فلما سمعت قصة المؤامرة على قتل الإمام علي وعمرو ومعاوية رأت فيها تعزية ولكنها أظهرت الاستخفاف بما تآمروا عليه وأرادت أن تتحقق ما عول هو عليه فقالت: «وهل علم أبو رحاب قبل موته بتلك المؤامرة».
قال: «نعم إني أطلعته عليها قبل إرسال نفسه الأخير ببعض الساعة فلم يزدني إلا ثقلا بوصية قالها وهو في آخر ساعات الدنيا ... آه من تلك الوصية».
قالت: وما هي ؟
قال: «إنه أوصاني أن لا أكتفي بالكف عن قتل الإمام علي بل يجب علي أن أدافع عنه. فلم أر بدا من إجابة طلبه وأنت تعلمين مركزي في مثل هذه الحال ... ولكني لم أعاهده إلا بعد أن تفطر قلبي لدموعه التي كانت تنحدر على لحيته وقد شخصت عيناه وتلعثم لسانه وتلجلج صوته حتى خيل لي أن عظامه تتكلم..».
الفصل الخامس والعشرون
غاية الدهاء
فلما تحققت لبابة عدوله عن عهده خافت إذا أظهرت له الاستياء أن يبيح بأمرها وأمر قطام إلى علي وهما في الكوفة فينتقم علي منهما فأرادت أن تخادعه فتأخذ منه ولا تعطيه. فقالت: «ولماذا لم تعاهده فإن كلام مثل هذا الشيخ الجليل يعتبر خارجا من أفواه الملائكة».
فلما سمع سؤالها انشرح صدره فابتسم وقال بكل بساطة «كيف لم أعاهده وهل أستطيع غير ذلك. ولكنني أعترف لك أني عاهدته وخاطري منشغل بقطام وعهدها لعلمي أن ذلك العهد يحرمني منها..» ثم عطف فقال: «ولكنني لما تذكرت حبك لي وغيرتك علي هان الأمر لدي وقلت أن ما يعسر على مثلي يهون على خالتي لبابة.. بالله.. ألا ساعدتني على إقناع قطام بالعدول عن عزمها على قتل الإمام علي إنه والله برئ مما اتهموه به.. بالله ساعديني واشفقي علي فقد وقعت في حيرة بل هي مصيبة لا ينجيني منها إلا سواك..» قال ذلك وجثا أمامها وهم بيدها وقبلها وقد كادت العبرات تخنقه.
فتظاهرت تلك العجوز المحتالة بالحنو وتبسمت وهي تجذب يدها من بين يديه لتمنعه من تقبيلها وأجلسته في مكانه وقالت: «طب نفسا يا بني إني فاعلة ما تريد وأرجو أن يساعدني الله على إقناعها ...».
فلما سمع سعيد قولها لم يتمالك عن الابتسام والدمع ملء عينيه إعجابا بحنوها وفرحا بنيل بغيته التي لم يكن يتوقعها ولا بالمنام وفرح بمجيئه في تلك الليلة ومقابلة لبابة قبل مقابلته قطام.
أما لبابة فنظرت إليه وهي تحك ما وراء أذنها برأس سبابتها كأنها تفكر في ما تختلقه من الأسباب لإقناع قطام وهي بالحقيقة تدبر حيلة لخداع سعيد ثم قالت: «طب نفسا ولاتبال فإني أؤكد لك الفوز إذا أطعتني ...» فابتدرها قائلا: «إني طوع إرادتك في كل ما تأمرين وهذا مالي وكل ما أملكه بين يديك بالله اشفقي علي».
وكان سعيد يتكلم ولبابة مطرقة. فسكت هو وظلت هي مطرقة ثم استأنفت الحديث بغتة فقالت: «سبحان الله.. لقد مر علي أيام وأنا مستغربة ما يبدو لي من قطام على غير المعتاد والظاهر أن الكلام الذي فاه به جدك في مكة أثر في قطام هنا أو لا أدري ما هو هذا التأثير».
فاندهش سعيد بما سمعه وقال ماذا تعنين؟
قالت: «أعني أني آنست في قطام تغيرا غريبا بعد ذهابك فإنها لم تعد تذكر الانتقام قط وقضت أياما عديدة كأنها في حيرة أو كأن أمرا طرأ عليها لا تتكلم إلا قليلا فعسى أن يكون ما غيرك قد غيرها. وعلى كل حال كن في راحة وسكينة وأنا أدبر الأمر فلا تذكر أنك جئت إلي ولا أنك رأيتني قبل رؤيتها».
قال: «بارك الله فيك. والله إن قضيت لي هذه المهمة لا أدري كيف أكافئك ولكنني أتقدم إليك أن لا تذكري زيارتي هذه أما أحد وخصوصا رفيقي عبد الله».
قالت: «سمعا وطاعة فعليك إذا أن تأتي غدا لزيارتها في منزلها وأكون أنا هناك ولا تزد على السلام والكلام. واحذر أن تذكر شيئا يتعلق بهذا الأمر إلا إذا هي خاطبتك به وسنرى ماذا يتم.. وهل تنوي اصطحاب رفيقك غدا».
قال: «إنه سيكون معي ولا بأس من الخوض في الموضوع بين يديه لأنه بمنزلة أخي».
قالت: «حسنا فليكن كما تريد وفقنا الله لما فيه خيرك وراحتك».
فازداد سعيد إعجابا بغيرتها وحنوها فقال لها: «اسمحي لي أن أقبل يدك فإني لما فقدت جدي الذي كان بمنزلة والدي حسبت نفسي صرت يتيما ولكنني تحققت الآن من حنوك أني مازلت مرموقا بعين العناية. ها إني قد ألقيت الحمل على عاتقك فدبري الأمر كما يلوح لك». قال ذلك وقبل يدها مرارا ونهض ونهضت لوداعه وهي تقول له: «نم مرتاحا وموعدنا اللقاء غدا في بيت قطام».
خرج سعيد من عندها وقلبه يطفح سرورا لنجاته من شر عظيم. وما دري ما نوته تلك القهرمانة من أساليب الخداع. فلما توارى عنها عادت إلى غرفتها وعملت فكرتها الخبيثة في حيلة تنطلي عليه بحيث يصدق عدول قطام عن عزمها. ولولا خوفها من أن يشي هو بها وبقطام إلى علي إذا أنكرت عليه وصية جده لجاهرت بمقاومته ولكنها رأت من الفطنة والدهاء أن تجاريه على رأيه وتحمل قطاما على مشاركتها في ذلك ثم تحتالان في بقاء المؤامرة مكتومة حتى ينفذ المؤامرون عهدهم فيقتل علي. وما درت لبابة أن قطاما أشد دهاء منها وأعظم حيلة وأنها ستزيد على ذلك وسيلة أخرى للفتك بسعيد على أهون سبيل.
ولم تعد لبابة تستطيع رقادا قبل مكاشفة قطام بالأمر لتدبير الحيلة قبل مجيء سعيد فنهضت لساعتها وسارت إلى قطام.
الفصل السادس والعشرون
لقاء قطام
أما سعيد فإنه شرح والفرح ملء فؤاده حتى أتى منزله فرأى رفيقه لا يزال نائما لفرط تعبه فسر لذلك سرورا عظيما ومضى إلى فراشه ولكنه لم يستطع رقادا لشدة تأثره فقضى ساعات يتقلب على الفراش وقد طال ليله وهو يفكر في ساعة اللقاء غدا ولا يصدق أن يلقى قطاما على مثل رأيه. فلما تصور عدولها عن قتل علي كاد يطير من الفرح بما سيناله من الاقتران بها ثم يعترضه كلام جده وما كلفه به من السعي في الدفاع عن علي وردع الساعي في قتله فيختلج قلبه في صدره لهول ذلك الأمر. ولكنه لم يكن شيئا لديه بالنظر إلى ما يتوقعه من السعادة بالحصول على قطام.
ولم تغمض أجفانه إلى الصباح ولم يكد ينام حتى أفاق مذعورا وقد رأى شعاع الشمس يسطع على جدار غرفته فأسف لإبطائه في الفراش والوقت ثمين فنهض لساعته وخرج يلتمس عبد الله فإذا هو قد لبس ثيابه ووقف يصلي فصلى معه وهو لا يفقه ما يقول.
فلما فرغ من الصلاة قال له عبد الله: لقد أبطأت في رقادك يا أخا أمية.
قال: إنما أبطأت لهول ما لقيناه من التعب في الطريق.
فصدقه عبد الله وجلسا على الطعام وسعيد غارق في بحار الهواجس وقد أدرك عبد الله ذلك فيه ولكنه حسبه من قبيل الشوق إلى قطام فقال له ألا تنوي الذهاب إلى قطام.
قال: بلى أرى أن نسير إليها لعل الله يأخذ بيدنا ونرى منها انصياعا للحق فتعدل عن عهدها.
فأراد عبد الله أن يختبر شأنه فقال: «وهب أنها لم تقبل بذلك فماذا تفعل هل تبقى على عزمك أم ترجع عن وصية جدك؟»
قال سعيد: «إننا نبذل جهدنا في إقناعها فإذا لم تقتنع ظللنا على عزمنا فإن وصية جدي مقدسة».
فسر عبد الله لثباته وهو لا يعلم أن سعيدا لم يقل ذلك إلا بعد ما أملته به لبابة من إقناع قطام ولولا ذلك لتردد في الجواب كثيرا وربما فضل البقاء على عهد قطام على احترام وصية جده لأن غرامه بتلك الفتاة الفتانة غلب على كل جوارحه.
فلما آنس عبد الله ذلك الثبات فيه استعجله في الذهاب إلى قطام مخافة أن يطرأ عليه ما يضعف عزيمته. وكان عبد الله قد عول في باطن سره إذا آنس فيه ترددا أن يثنيه عن الذهاب إليها. فلما فرغا من الطعام نهضا ومشيا يلتمسان بيت قطام.
ولا حاجة بنا إلى بيان ما جال في خاطر سعيد مما سيقاسيه ساعة اللقاء من الاضطراب ولكنه سار مطمئن الخاطر لما ألقته إليه لبابة من المواعيد.
ووصلا المنزل فأطلا على الحديقة فاختلج قلب سعيد في صدره لتذكره الليلة التي لقي بها قطاما هناك وما وقع له معها من تبادل عبارات الغرام. فدخلا الحديقة وفيما هما يسيران بين النخيل رأيا لبابة واقفة بالباب وهي تبتسم. فلما رآها سعيد استبشر وتشدد فمشى ورفيقه يسير في اثره حتى دنوا منها فحياها سعيد كأنه لم يرها بعد رجوعه. فسلمت عليه فقدم لها رفيقه فعرفهابه فرحبت بهما ودخلا حتى أقبلا على غرفة قطام فإذا هي واقفة إلى نافذة تطل على البحيرة وقد لبست جلبابا أسود فوقه خمار أسود فلما أقبلا أرخت خمارها وتحولت نحوهما فحياها سعيد وذكر اسم رفيقه لها وهو يقول: «لقد أتيت ومعي صديقي وأخي عبد الله فإنه أنيسي ومساعدي».
فرحبت بهما ودعتهما للجلوس فجلسا وجلست هي وكلهم سكوت وبعد السكوت برهة تكلمت العجوز قائلة: «لقد أوحشتنا يا سعيد بغيابك طول هذه المدة وقد أخبرنا ريحان أنك أتيت يوم سفرك إلى هذا المنزل فلم تر قطاما فشغلت بالنا لسرعة ذهابك فعسى أن يكون خيرا».
فتنهد سعيد وقال: كلا إنه لم يكن خيرا يا خالة لأني ذهبت إلى جدي أبي رحاب في مكة إجابة لدعوته على يد أخي عبد الله.
فأظهرت لبابة البغتة وقالت: وماذا عسى أن يكون سبب استدعائك.
قال: إنه دعاني لأراه قبل موته بعد أن هرم وغلب عليه الضعف والمرض ولما تحقق دنو أجله أراد أن يراني قبل الممات فسرت ولم ألبث معه إلا ليلة ثم قضى نحبه رحمه الله.
فتظاهرت قطام باستغراب الخبر كأنها لم تسمعه قبلا. وقالت: «هل مات جدك؟.. رحمة الله عليه وعزاك الله وأبقاك». ثم تنهدت كأنها تذكرت فقيديها وقالت: إن موت الأهل شديد الوطأة يا سعيد وخصوصا إذا كان الميت لم يهرم مثل أبي رحاب.
وكان عبد الله يراقب حركات قطام وكان قد سمع بجمالها فلم يلم سعيدا على افتنانه بها ولكنه خاف أن تبقى على عهدها فتخرج من نصيب سعيد فود الاستطراق إلى الموضوع ليرى ما يبدو منها ثم تذكر أن وجوده هناك لأول مرة قد يكون باعثا على تجنب البحث في ذلك الموضوع فتظاهر بغرض يحتاج إليه خارجا ونهض وخرج وخرجت لبابة في اثره إتماما لحيلتها.
الفصل السابع والعشرون
منتهى الدهاء
فلما خلت قطام بسعيد قالت له: «ومن هو هذا الشاب هل أنت واثق به؟»
قال بنغمة المحب المفتون: «إنه رفيق صباي وموضع أسراري ولا أخشى بأسا من إطلاعه على كل شيء.
قالت: وهل أطلعته على عهدنا؟
قال: نعم يا حبيبتي وهل ترين ما يمنع ذلك؟
قالت: كلا لا أرى مانعا ولكنني أود أنك لم تطلعه عليه لخاطر خطر لي بعد ذهابك إلى مكة.
فاستبشر سعيد بهذا الاستهلال فقال: «لا أرى بأسا في ذلك لأني أعرف ضميره ولي فيه ثقة تامة. وما الذي خطر لك؟»
قالت: «سأقصه عليك وأرجو أن تطاوعني عليه ولا تطالبني بما سبق من العهود».
قال: قولي ما تريدين. وما تريدينه إنما هو العهد الذي نتعاهد عليه. فإني رهين إشارتك.
قالت: أتذكر أنك جئت إلينا يوم سفرك ولم تجدني في البيت؟
قال: كيف لا أذكر ذلك وقد كان له تأثير شديد علي.
قالت: أتدري أين كنت يومئذ؟
قال: كلا.
قالت: خرجت إلى أهلي لزيارة. ولم يكن غرضي مجرد الزيارة ولكنني بعد أن عاهدتك على قتل أمير المؤمنين شعرت بقلق واضطراب ولم أذق رقادا تلك الليلة.
فلما أصبحت قلت في نفسي لعل سبب هذا القلق ذنب ارتكبته بما سعيت فيه على الإمام وهو لا يستحقه. فلاح لي أن أمضي بنفسي إلى أهلي وأبحث عن حقيقة الواقع فرأيت بعد البحث أن الذنب في قتل والدي وأخي لم يكن ذنبه هو وتحققت أنه برئ وأنه نصح لهما مرارا قبل الواقعة أن يرجعا فأبيا ولما اختدم النزال وعلم أنهما تحت خطر القتل أوصى أن لا يصيبهما أحد بسوء. ولكن بعض الأغرار قتلهما بغير علمه ولما علم هو بذلك غضب على القاتل وانتقم منه. فشعرت في تلك الساعة بارتكابي أمرا عظيما بما نويته وعولت على تحويلك عما تعاقدنا عليه. فقضيت مدة غيابك وأنا في حيرة لا أدري كيف أبدأ بإقناعك. وحفظت ذلك في سري حتى عن خالتي لبابة.
ولم يتمالك سعيد عند سماعه ذلك عن الوقوف بغتة بغير أرادته وقبل أن يجيبها على خطابها نادى عبد الله ولبابة فجاءا فالتفت سعيد إلى عبد الله وقال له تعال اسمع يا أخي ما دبره الله لنا من أسباب السعادة. فإننا لم نتكلف في إقناع قطام إلى مشقة بل هي تريد إقناعنا بالعدول عن العهد الذي أخبرتك عنه.
فأظهرت قطام الاستغراب وقالت: وكيف ذلك يا سعيد وما الذي جئتنا به عساه خيرا.
فتعرضت لبابة للكلام فقالت : يظهر أنك جئتها بمثل ما جاءتك هي به.
قال: «نعم يا خالة وأحمد الله على ذلك فإني جئت من مكة وقد اقتنعت ببراءة الإمام علي وتقيدت بعهد عاهدت به جدي أن لا أقتل عليا وكنت خائفا أن لا توافقني قطام عليه وهي إذا لم تفعل ذلك كنت من أشقى الناس. فالحمد لله على ما جرى» وجلس يقص عليهم حديث جده ووصيته فظهرت لوائح البشر والسرور على الجميع. ثم استطرد إلى حديث المؤامرة فلما ذكر أن أحد المؤامرين تعهد بقتل الإمام علي تظاهرت قطام بالغضب وقالت: ألم تعرف من هو الرجل؟
قال: لم أعرفه ولكنني علمت من سياق الحديث أنه من فسطاط مصر.
قالت: أما وقد علمت بعزم هذا الرجل فأصبح السكوت عنه مشاركة له في القتل فلابد من ردعه أو قتله.
فابتسم سعيد لذلك الاتفاق الغريب وقال: «وقد فاتني أن أخبرك بأن من جملة وصية جدي أن أسعى في ذلك جهدي».
فقالت: «وهذا ما أراه أنا أيضا لأن السكوت عنه أصبح جريمة ولكني أرى أن يبقى أمر هذه المؤامرة مكتوما بيننا فلا تطلع عليه أحدا لئلا يسبقنا أحد إلى اكتساب الفخر في رده أو أن المؤامر إذا علم باشتهار أمره ونحن لم نعرفه بعد يعجل بالقتل فيذهب سعينا عبثا. ألا ترى ذلك يا عبد الله؟»
فاندهش عبد الله من ذلك الاتفاق الغريب ولو علم بزيارة سعيد للبابة لانكشف له سر الحيلة ولكنه أخذ الأمر على ظواهره فقال: «لقد رأيت الرأي الصواب وها إني مستعد للسعي في ردع ذلك الرجل مع أخي سعيد».
قالت: وما الذي تنويان فعله؟
قال: سعيد أرى أن نذهب إلى الفسطاط ونبحث عن الرجل لنعلم من هو أولا فإذا عرفناه هان علينا ردعه».
فقالت قطام وما الفائدة من ذهابكما وإنما لا تعرفان الرجل ولا تعلمان شيئا من أمره وكيف يتأتى لكما معرفة اسمه. هل ذهبتما إلى الفسطاط قبل الآن وهل تعرفان أحدا هناك؟»
قال عبد الله: إني أعرف الفسطاط ولكنني لم أقم طويلا ولا أعرف أحدا من أهلها ولكننا نبحث جهدنا.
الفصل الثامن والعشرون
الاجتماعات السرية في عين شمس
فتقدمت لبابة وهي تظهر الاهتمام وكأنه قد فتح عليها برأي سديد فقالت: «اجلسوا لأهديكم إلى طريق يهون علكم كل صعب».
فجلسوا جميعا وكانوا لا يزالون واقفين.
فقالت: «لا تسخروا برائي لأني عجوز فإني أعرف من الأسرار ما لا يعلمه إلا الله. اعلموا أن في مصر من مريدي الإمام علي أحزابا جمة أذعنوا لعمرو بن العاص بالرغم عنهم وهم صابرون على ما أصابهم من مقتل ابن أبي بكر وهم جماعة كبيرة لا يزالون ينوون الانتفاض إذا سنحت الفرصة. هل تعلمون ذلك؟
قال عبد الله: أهذا ما تفاخريننا بمعرفته ولا يجهله أحد من المسلمين فإني عالم به وبأكثر منه.
قالت: وما الذي تعلمه فوق ذلك؟
فابتسم عبد الله ابتسام الاستخفاف وقال: «إني أعلم أمورا كثيرة تلقنتها من جدنا أبي رحاب رحمه الله وقد أوصاني أن لا أطلع عليها أحدا غير أخي سعيد لأنها تنفعه في جهاده بالدفاع عن أمير المؤمنين».
فتوسمت لبابة من وراء ذلك سرا لأنها لم تقل ما قالته إلا وهي ترجو الإطلاع عليه فهزت كتفها والتفتت إلى قطام التفاتة ففهمت قطام مرادها فابتدرت عبد الله قائلة بنغمة الدلال: «إذا كنت تلقنت ذلك سرا فاحفظه ولا تبح به لأحد من الخوارج نظيرنا ...».
فخجل عبد الله من توبيخها اللطيف ونظر إلى سعيد فرآه شاخصا إليه كأنه يتوقع تصريحه بذلك السر بين يدي قطام لئلا تسيء الظن بهما.
فقال عبد الله وفي كلامه لهجة الاعتذار: «حاشا يا مولاتي. إني لا أعني كتمان السر عنك بعد أن رأينا منك الموافقة على الدفاع عن أمير المؤمنين بل بعد أن كنت أنت الداعية إلى الدفاع عنه. ولكنني قلت ما قلته ببساطة ولكي تتأكدي صدق نيتي آذني لي أن أبسط ذلك السر بين يديك ويدي خالتي لبابة». قال ذلك والتفت يمنة ويسرة كأنه يحاذر أن يسمعه رقيب أو عدو فأصغى الجميع لسماع كلامه فقال: «علمت من جدي رحمه الله أن في الفسطاط كما قالت خالتي جمهورا كبيرا لا يزالون على دعوة الإمام علي وهم متحدون قلبا وقالبا في القيام بنصرته ولهم اجتماعات سرية يجتمعون فيها للمفاوضة في الوسائل المؤدية إلى ذلك». ولما بلغ إلى هذا الحد تلعثم لسانه كأن شيئا أوقفه عن إتمام الحديث وارتبك في كلامه فسكت.
وظهرت البغتة عليه وقد ندم على ما فرط منه وعول على الاقتصار على ما قاله فأدركت لبابة المحتالة سبب توقفه فابتدرته قائلة وهي تضحك: «أنعم به من سر عميق لم يطلع عليه أحد إني لا أراك زدت على قولي حرفا واحدا. فقد قلت أن دعاة علي باقون على دعوته فلم تزد على ذلك إلا أنهم يجتمعون سرا. وهذا أمر مفهوم بالقرينة فكأنك ندمت على ثقتك فينا فبدأت بالحديث ثم قطعته ولا ألومك على ذلك فإنك لا تعرفنا قبل هذه الساعة».
فقطعت قطام حديثها قائلة: «تقولين أنك لا تلومينه وأراك عاتبة عليه دعيه لئلا يظننا راغبين في استطلاع سره لغرض لنا ونحن إنما نريد بعض ما يريده عبد الله فلا حاجة لنا في سره ولكننا نوصيه أن يقوم بمؤزارة سعيد في ما أوصاه به جده وهذا يكفينا». ثم وجهت كلامها إلى سعيد قائلة: «لقد سرني من رفيقك محافظته على السر حتى عن هذه الحقيرة التي بعد أن كانت أول الناقمين على علي أصبحت من أكبر المدافعين عنه وهب أنه أراد إفشاء ذلك السر فما نحن سامعون ما يقول إذ ربما وسوس لنا الشيطان فبحنا به إلى الأعداء ...».
فوقع كلام قطام في قلب سعيد موقع السهام وغلب عليه الحياء والتفت إلى عبد الله وقال: «لا طاقة لي باحتمال هذا التأنيب يا عبد الله قل ما تعلمه سمعته قطام أم لم تسمعه وما أنا خارج من هذا المكان قبل أن أسمع بقية الحديث».
فندم عبد الله على ما فرط منه وأصبح لا يدري كيف يتخلص من حيائه وارتباكه ولما رأى الحاح سعيد هان عليه التصريح بما لديه وهو لا يرى في ذلك لوما عليه فقال: «أراكم تتهمونني بذنب أنا براء منه فإني لم أتوقف عن إتمام الحديث ضنا به على قطام بعد أن تحققت إخلاصها في الدفاع عن علي ولكنني صبرت ريثما استجمع كلام جدي بحرفه فإذا أذنت قطام تلوته عليكم حالا».
قال سعيد: «قل إنها تريد وإذا سدت أذنيها عن سماعه فأنا أسمعه».
قال عبد الله: «أخبرني أبو رحاب رحمه الله أن دعاة الإمام علي يجتمعون فيه سرا في معبد قديم خارج الفسطاط في مكان يعرف بعين شمس يتفاوضون فيه سرا في يوم الجمعة من كل أسبوع».
فسرت قطام ولبابة بالإطلاع على ذلك السر ولكن لبابة لدهائها ومكرها تظاهرت بالاستخفاف والإنكار وقالت: «أهذا هو سرك العظيم إنه باطل لا يقبله العقل».
فاغتاظ عبد الله لإنكارها وقال: وماالدليل على بطلانه يا خالة.
قالت: «تقول أن دعاة علي يجتمعون هناك كل جمعة ونحن نعلم أنهم يعدون بالألوف فكيف يسعهم ذلك المعبد. وهب أنه وسعهم فكيف يجتمع الألوف منهم كل أسبوع ولا يدري بهم عمرو بن العاص وعيونه مبثوثة في أطراف الفسطاط أليس ذلك باطلا».
فسر عبد الله لاستخفافها بكلامه إذ لا يكون لإفشائه تأثير وود الوقوف عند هذا الحد فلم يرض سعيد بذلك بل أخذ على نفسه تفسير مقاله وهو يحسب أنه أتى أمرا جديدا فقال: «إن عبد الله لا يعني باجتماع دعاة علي أنهم يجتمعون جميعا كبارا وصغارا ولكنه يريد أن رؤساء العشائر وكبارهم هم الذين يجتمعون فقط» فضحكت لبابة وتظاهرت بالرد عليه فقطعت قطام كلامها قائلة: «يظهر يا خالة أنك إنما تريدين المرح فقد كلفت عبد الله الإفشاء بالسر ثم جعلت تجادلينه ونحن كما قلنا لا يهمنا من الأمر إلا الوصول إلى الغاية المقصودة وهذا يكفي».
الفصل التاسع والعشرون
عهد جديد
ثم وجهت قطام كلامها إلى سعيد قائلة دع لبابة وتحريفها واسع في ما أنت ساع فيه فسر إلى دعاة علي حيث هم مجتمعون وهم يعينونك على البحث والتنقيب. ولا أوصيك إلا وصية واحدة ذكرتها لك في بدء الحديث وهي أن تبقي هذا الأمر مكتوما بيننا عن كل إنسان حتى نعرف من هو ذلك الخائن الذي يريد قتل الإمام علي فإذا عرفناه إما أن نرده عن غيه أو أن نرى رأينا فيه على ما تقتضيه الحال. أما إذا أشعنا خبره الآن فإنه يبالغ في التستر وربما أسرع في إنفاذ سهمه فيقتل أمير المؤمنين غيلة ويذهب سعينا عبثا. أما الآن فنحن على يقين أنه لا يقوم على ذلك إلا في 17 رمضان ونحن لا نزال بعيدين عنه. وزد على ذلك أنك إذا حفظت هذا الأمر مكتوما وتفردت في البحث عنه كان الجزاء لك وحدك ولا أشك أنه يكون عظيما. ولا أرى فائدة من إطالة البحث. ولكي تتحقق شدة رغبتي في الإسراع أبدل عهدي إبدالا يسرك فعوضا من أن يكون اقتراننا موقوفا على قتل الإمام علي فقد جعلته وقفا على إنقاذه من القتل فإذا كنت تحبني (وهذا ما لا أشك فيه) بادر إلى العمل وهذان عبد الله ولبابة شاهدان على ما أقول.
وكان سعيد بعد أن تغير وجه المسألة يرجو أن يقترن بقطام قبل ذهابه في هذه المهمة. فلما سمع كلامها خجل من مراجعتها لئلا يقال أنها أشد رغبة منه في الدفاع عن علي فانطلت الحيلة عليه ولم يسعه إلا إجابتها فقال: «وهذا ما عولت عليه أنا أيضا لكي يتم عقد النكاح على يد الإمام نفسه بحول الله».
وكان عبد الله في أثناء ذلك صامتا يسمع الحديث وقد خامره شك في كلام قطام وندم لتسرعه في إفشاء السر فظل صامتا لئلا يقع في ما يزيد ندمه وشعر لساعته بما أوتيته هذه الفتاة من الدهاء ولم ير خيرا من إظهار ثقته بها ويصدق لهجتها فأخذ يطري بغيرتها ويثني على صدق مودتها فقال لها: «إني أعد أخي سعيدا من أسعد خلق الله لتوفقه إلى هذا النصيب فأطلب إليه تعالى أن يوفقنا إلى ما نحن ساعون فيه».
ثم قال: «وقد أصبت بوجوب كتمان ذلك عن كل إنسان بارك الله فيك» والتفت إلى لبابة فقال: «وأنت يا خالة نرجو أن تواصلينا بأدعيتك الصالحة وآرائك الصائبة ».
فقالت لبابة: «وأما الرأي عندي فالإسراع في الأمر فعليكما بالسفر حالا إلى مصر وأطلب إلى الله أن يوفقكما ويسهل طريقكما وإذا أتيتما الفسطاط اطلبا عين شمس في يوم الجمعة ولا تعدمان من أنصار أمير المؤمنين من يرشدكما إلى الباغي».
وقصوا برهة في أحاديث أخرى ثم انصرف عبد الله وسعيد وفي نفس عبد الله شكوك لم يجسر على مكاشفة سعيد بها لما آنسه من إخلاصه لقطام وارتياحه إلى مواعيدها ولكنه عول على اغتنام فرصة يستطيع بها التسلط على أفكاره.
الفصل الثلاثون
الغدر الفظيع
أما قطام فحالما خرج سعيد وعبد الله من منزلها خلت بلبابة فقالت لها: لبابة «لقد تمت لنا المعدات وآن الانتقام على غير يد هذا الجبان. إن عليا سيقتل لا محالة ولقد أحسنت بطمأنته ومسايرته. وأحسن ما رأيته من دهائك تصبيره على الكتمان لأنه لو أطلع عليا على خبر المؤامرة فشل المؤامرون ونجا علي من الموت».
فقطعت قطام كلامها قائلة: «ولكن ذلك وحده لا يضمن لنا الفوز يا خالة وأنا لم التمس منه الكتمان لهذا الغرض فقط ولكنني أردت أن يبقى خبر المؤامرة مكتوما عن مل إنسان حتى عن هذين الأمويين».
قالت: وكيف ذلك إني لم أفهم مرادك.
قالت: «أتكونين لبابة العجوز القهرمانة ويخفى مغزى كلامي عليك.. ما الفائدة إذا من البحث عن مجتمع أنصار علي».
قالت: أني لا أزال أجهل ما تريدينه قولي ما مرادك.
قالت: «مرادي أن أبعث إلى عمرو بن العاص بخبر تلك الجمعية ويوم اجتماعها وهو لاريب يبغتها ويقبض على رجالها وسيكون سعيد وعبد الله بينهم فإما أن يقتلهما أو يسجنهما فإذا قتلهما ظل أمر المؤامرة مكتوما عن كل إنسان وإذا سجنهما ظلا في السجن إلى ما بعد 17 رمضان على الأقل فيكون قد نفذ السهم وانتقمت لقتيلي ولا يهمني بعد ذلك أمر».
فلما سمعت لبابة كلام قطام همت بها وقبلتها وهي تقول: «بورك فيك يا بنية والله إنك أبعد مني نظرا وأشد دهاء. وإذا أحياك الله إلى سني لم يعد إبليس يقوى على مكرك ...» قالت ذلك وضحكت. وظلت قطام عابسة ولم تعبأ بضحكها ولكنها نادت ريحان خادمها فحضر وكان جالسا في مكان بحيث يسمع ويرى ولا يراه أحد فلما وقف بين يديها قالت له: «ألم يقتل سيداك ظلما».
قال: كيف لا وإني مطالب بدمهما.
قالت: أتدري لما دعوتك.
قال: بلى إنك دعوتني لتبعثي بي إلى الفسطاط أخبر عمرا بن العاص بخبر هذين أو بخبر مجتمعات العلويين.. أليس لذلك دعوتني؟
قالت: بلى إني دعوتك لمثل ذلك بورك بسوادك هذا وقت الحاجة إليك ولكنني أطلب إليك أن تبلغ عمرا ذلك بدون أن تذكر اسمي وإني واثقة بفطنتك فلا تخيب أملي. اذهب إلى مصر وأبلغ الرسالة وجئني بمقتل هذين أو سجنهما وأنت حر لوجه الله.
فأقطب ريحان حاجبيه وتظاهر بالعتاب وقال: «ألا تعلمين يا مولاتي أنك تهينينني بهذا الكلام. من حيث تريدين سروري. أتظنين أني أفضل الحرية على الاستعباد لك. فقد قلت قولا واسمحي لي أن أقول مثله. إني ذاهب لإنفاذ مرامك فإذا أنا فزت فيه رجوت أن تعديني بأن لا تذكري الحرية قط».
فضحكت قطام وأظهرت الإعجاب بشهامة ريحان وقالت سر يا أسمر إنك والله خير من ألف أبيض.
الفصل الحادي والثلاثون
الفسطاط
هي مدينة عمرو بن العاص بناها سنة 3 للهجرة بعد فتحه الإسكندرية. وسبب تسميتها الفسطاط (الخيمة) أن عمرا لما فتح حصن بابل حيث هو دير مارجرجس الآن أو دير النصارى بقرب مصر القديمة واستقر الصلح بينه وبين المقوقس نهض لفتح الإسكندرية وكانت خيامه منصوبة خارج ذلك الدير بين النيل وجبل المقطم فأمر بتفويضها والرحيل فجاءه منبئ أن في فساط الأمير يماما معششا تحته صغاره لا تستطيع الطيران فقال عمرو: «لقد تحرمت بجوارنا أقروا الفسطاط حتى يطير فراخها»
1
فتركوا الفسطاط منصوبا حتى عادوا بعد فتح الإسكندرية فأتموا الدور حوله. ولما تمت المدينة أطلق عليها اسم الفسطاط وهي أول مدينة بناها المسلمون في القطر المصري واتخذوها عاصمة ملكهم حتى بنيت القاهرة في القرن الرابع للهجرة فنقلت الحكومة إليها (راجع كتابنا تاريخ مصر الحديث).
وكانت الفسطاط في العام الأربعين للهجرة وهو العام الذي جاءها فيه سعيد ورفيقه عبد الله قد عمرت وأقامت بها القبائل والأفخاذ في خطط وحارات بنيت لهم. وكانت الفسطاط مستطيلة الشكل على ضفة النيل الشرقية طولها ميلان في ما يقرب من مصر العتيقة الآن. وأما مكان مصر العتيقة فقد كان يومئذ مجرى النيل المبارك. وكان إذا جرى رست سفنه بباب دير النصارى حيث كنيسة المعلقة اليوم فكل ما بين الدير والنيل من اليابس وما أقيم عليه من البناء إنما حدث بعد الإسلام.
وكان جامع عمرو الباقية آثاره هناك إلى هذا اليوم مركز تلك المدينة وحوله أنشئت الخطط والأزقة والحارات. وكان أقربها إلى الجامع المذكور دار عمرو أو هما داران الدار الكبرى والدار الصغرى. وكان المسلمون أولا ينزلون في الخيام فلما بنى عمرو دار به اهتم الناس بناء المنازل. ولم يكن قبل الفسطاط هناك إلا بعض الديور للقبط متفرقة بين النيل والمقطم. وبنوا الخطط أو الشوارع على أسماء القبائل التي تألفت منها حملة ابن العاص في ذلك الحين ومن نزح بعدهم وواجههن جميعا أهل الراية من قريش والأنصار وخزيمة وغيرهم فبنوا لهم خطة سموها خطة أهل الراية ثم خطة مهرة وخطط لخم واللفيف والصدف من كندة وخولان فضلا عن خطط غير العرب مثل خطة الفارسيين وهم من حضر الفتح من أهل فارس وأصلهم من بقايا جند باذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام أسلموا في الشام
2
ناهيك عن خطط أخرى لا تحصى فضلا عن الشوارع والأزقة والحارات.
فترى مما تقدم أن الفسطاط لم يكن يقيم فيها في أول أمرها غير المسلمين وأما المسيحيون واليهود ممن كانوا قبل الفتح فمن آثر البقاء تحت رعاية المسلمين أقام في الأديرة خارج الفسطاط وأكبرها دير النصارى (أو دير مارجرجس) وهو الحصن الذي حاصر فيه المقوقس ورجاله لما جاءهم المسلمون وكان يسمى حصن بابل أو قصر الشمع وربما أقام بعض القبط أو اليهود في الفسطاط لتجارة أو صناعة أو كتابة لأن عمرا عهد إلى القبط في بادئ الرأي كثيرا من أعمال حكومته وأبقى الدواوين تكتب بالقبطية وما زالت كذلك إلى إمارة عبد الله بن عبد الملك بن مروان فأبدلت بالعربية.
وكانت مدينة عين شمس (المطرية) شمالي الفسطاط خربة لم يبق من أبنيتها الشامخة ومعالمها الرفيعة إلا بعض الجدران الغليظة أو الأعمدة الضخمة والمسلات من بقايا الهياكل الفرعونية وهي مهجورة لا يقيم فيها أحد فإذا احتاج الناس إلى حجارة أو أعمدة يبنون بها دارا كبيرة أو جامعا حملوها من أنقاضها.
الفصل الثاني والثلاثون
سعيد وعبد الله
أما سعيد وعبد الله فإنهما تأهبا للرحيل في ذلك اليوم وأصبحا على راحلتيهما وخرجا من الكوفة يلتمسان الفسطاط وهما لا يعلمان ما أعدته لهما قطام من المكائد. وسارا يجدان السير يوصلان الليل بالنهار حتى أقبلا في فجر يوم جمعة على الفسطاط فأطلا عليها من سفح المقطم فإذا هي ممتدة على ضفة النيل على مسافة طويلة وراءها النيل يجري وفيه السفن راسية تحمل الأغلال والأحمال بعضها قادم من الصعيد والبعض الآخر صاعد من الشمال. وفي وسط المدينة جامع عمرو حوله الأبينة والدور فوقفا هنيهة يبحثان في الخطة التي يجب أن يسيرا عليها في إتمام مهمتهما.
فقال عبد الله ها إننا أمام الفسطاط الآن وقد طلع فجر الجمعة الذي يجتمع فيه دعاة أمير المؤمنين في عين شمس على ما نعلم. فهل نظل هنا حتى نسير توا إلى عين شمس أم ننزل الفسطاط ثم نخرج منها إلى عين شمس.
فقال سعيد وما الداعي لبقائنا هنا وقد يكون في بقائنا مظنة سوء ونحن لا يعرف أحد إلا أننا من دعاة معاوية وزد على ذلك أننا لا ندري الساعة التي ينعقد فيها ذلك الاجتماع تماما وإنما علمنا باجتماعهم في يوم الجمعة فهل هو في الصباح أو المساء أو أي متى؟
قال عبد الله: لست على يقين من ساعة الاجتماع ولكني أظنهم يجتمعون بعد صلاة العصر إلى المساء وعلى كل لا أرى بأسا من النزول إلى الفسطاط نصلي الصبح فيه ونجعل دوابنا في مأوى تستريح فيه. ثم أخرج أنا للبحث عن ساعة الاجتماع ومكانه وأعود إليك فنسير معا.
قال سعيد: لقد رأيت الرأي الصواب.
ونزلا بناقتيهما حتى دخلا المدينة وهي يومئذ آهلة بالناس وقد أذن المؤذنون يدعون الناس إلى صلاة الصبح فأتيا المسجد وأمامه ساحة كبرى تقف فيها الدواب تشد إلى أوتاد أو نخيل. فربطا الراحلتين ودخلا المسجد للصلاة وكانت الشمس قد أضحت وتقاطر المسلمون أفواجا فدخلا في جملة الداخلين.
الفصل الثالث والثلاثون
عمرو بن العاص
ولم يكد يستقر بهما الجلوس حتى رأيا الناس في حركة وجلبة وقد فتح باب في بعض جوانب المسجد دخل منه رجال في أيديهم السياط يزجرون الناس. فقال سعيد: من هم هؤلاء. فقال عبد الله إنهم الشرطة يفتحون الطريق للأمير. ولم يكد عبد الله يتم كلامه حتى دخل رجل ربعة قصير القامة وافر الهامة أدعج أبلج عليه ثياب موشاة كأنه العقبان تأتلق عليه حلة وعمامة وجبة عرفا أنه عمرو بن العص فصعد المنبر والناس ينظرون.
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (
صلى الله عليه وسلم ) ووعظ الناس وأمرهم ونهاهم وجعل يحضهم على الزكاة وصلة الأرحام ويأمر بالاقتصاد وينهى عن الفضول وكثرة العيال وإخفاض الحال في ذلك إلى أن قال يا معشر الناس: إياكم وخلالا أربعا فإنها تدعو إلى النصب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السعة وإلى الذلة بعد العزة إياكم وكثرة العيال وإخفاض الحال وتضييع المال والقيل بعد القال في غير درك ولا نوال. ثم أنه لابد من فراغ يؤول إليه المرء في توديع جسمه والتدبير لشأنه وتخليته بين نفسه وبين شهواتها ومن صار إلى ذلك فليأخذ بالقصد والنصيب الأقل ولا يضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه فيجوز من الخير عاطلا وعن حلال الله وحرامه غافلا. يا معشر الناس إنه قد تدلت الجوزاء وذلت الشعرى وأقلعت السماء وارتفع الوباء وقل الندى وطاب المرعى ووضعت الحوامل ودرجت السخائل وعلى الراعي بحسن رعيته حسن النظر فحي لكم على بركة الله تعالى إلى ريفكم فنالوا من خيره ولبنه وخرافه وصيده واربعوا خيلكم واسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جتكم من عدوكم وبها مغانمكم وأنفالكم. واستوصوا بمن جاورتموه من القسط خيرا وإياكم والمومسات والمعسولات فإنهن يفسدن الدين ويقصرن الهمم. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لهم فيكم صهرا وذمة فكفوا أيديكم وعفوا فروجكم وغضوا أبصاركم. ولا أعلمن ما أتى رجل أسمن جسمه وأهزل فرسه. واعلموا أني معترض الخيل كاعتراض الرجال فمن أهزل فرسه من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوف قلوبهم إليكم وإلى داركم معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة النامية.
وحدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندا كثيفا فذلك الجند خير أجناد الأرض فقال له أبو بكر رضي الله عنه ولم يا رسول قال لأنهم وأزوجهم في رباط إلى يوم القيامة» فاحمدوا الله معشر الناس على ما أولاكم فتمتعوا في ريفكم ما طاب لكم فإذا يبس العود وسخن الماء وكثر الذباب وحمض اللبن وصوح البقل وانقطع الورد من الشجر فجيء إلى فسطاطكم على بركة الله ولا يقدمن أحد منكم ذو عيال إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطاق من سعته أو عسرته أقول قولي هذا وأستحفظ الله عليكم
1
انتهى.
وكان عمر يخطب والناس يسمعون وقد تخشعوا لما قاله من الأوامر والنواهي فقال سعيد لعبد الله همسا والله إنه لنعم الأمير وشلت يد تقتله والله منذره لذلك متى دنا الأجل المضروب فلم يجبه سعيد مخافة أن يلحظ أحد شيئا مما هما فيه.
وبعد تمام الصلاة خرج الناس وخرج عبد الله وسعيد واجتمعوا في ساحة المسجد خارجا وتعارفوا فعرف عبد الله رجلا من غفار كان له معه صداقة فدعاه وسعيدا إلى منزله ليقيما عنده فاعتذرا فألح عليهما فسارا معه لئلا يوجب ابتعادهما شبهة فأنزلهما في منزل له في خطة اسمها خطة خارجة بن حذاقة فأمر الغفاري عبدا له استلم الراحلتين وسار بهما إلى المربط ودخل بالضيفين إلى غرفة لم يريا فيها نافذة إلا كوة في أعلاها فعجبا وهم عبد الله بالاستفهام عن ذلك وأوقفه التأدب فلحظ الغفاري استغرابه فقال له لا تعجب لحال هذه الغرفة فإن كذلك سائر أبنية الفسطاط.
فقال عبد الله إني والله يا أخا غفار لفي عجب عجاب مما أرى فما الذي دعا إلى هذه الأقفال. فقال الغفاري اعلما أن خارجة بن حذاقة صاحب شرطة مولانا الأمير عمرو ابن العاص هو أول من ابتنى غرفة في الفسطاط. فلما علم بذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يومئذ كتب إلى الأمير عمرو بن العاص أن «ادخل غرفة خارجة وانصب فيها سريرا وأقم عليه رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير فإن اطلع من كواها فاهدمها» ففعل ذلك عمرو فلم يبلغ الكوى فأقرها
2
فلم يجسر أحد أن يبني غرفة بعد ذلك إلا على هذا الوصف وهو بالحقيقة أضمن للحجاب.
الفصل الرابع والثلاثون
عين شمس
ثم جاءهما الغفاري بالزاد فتناولاه وبعد الاستراحة التمسا الخروج لبعض المهام وهما إنما يريدان الخلوة للنظر في ما جاءا من أجله فخرجا ومشيا في وسط المدينة يتظاهران بالتفرج بمشاهدة ما فيها من الحوانيت والبيوت حتى خرجا منها فقال سعيد إننا في نحو الظهر وما العمل؟
فقال عبد الله دعني أسير وحدي إلى عين شمس فإنها على بعد أميال من هذا المكان حيث ترى هذه الخرائب وأمامها هاتان المسلتان (وأشار إليهما بإصبعه) فابحث عن مكان الاجتماع فإذا عثرت عليه جئتك على عجل. فأين الملتقى؟
قال إني أقيم في المسجد حتى تعود إلي واحذر أن تطيل غيابك.
فسكت عبد الله ولبث برهة يفكر ثم قال وإذا أبطأت في الرجوع إليك فاطلب عين شمس وانتظرني بقرب هاتين المسلتين اللتين تراهما قائمتين هناك وأنا آتيك أو ابعث من يدعوك إلينا.
قال: حسنا وافترقا وسار عبد الله يلتمس عين شمس وقد جعل وجهته إليها المسلتين وكانت ظاهرتين عن بعد وعاد سعيد إلى الجامع.
أما عبد الله فسار حتى أقبل على عين شمس فإذا هي عبارة عن أخربة ليس فيها من الأبنية إلا الجدران والأعمدة فطاف بين خرائبها فلم ير أحدا ولا سمع صوتا وقضى في ذلك ساعتين يتردد بين تلك الجدران ثم يعود إلى حيث بدأ فلم ير أثرا للآدميين فظن نفسه أخطأ المكان أو ساء فهم ما بلغه من أمر ذلك الاجتماع حتى كاد يهم بالرجوع وقد خاب ما أمله وخيل له أن دعاة علي أبدلوا مجتمعهم هناك بمكان آخر.
فأسند ظهره إلى جدار ووقف يفكر في ماذا يفعله وقد مالت الشمس نحو المغيب فرأى رجلا قادما من الفسطاط فشغل عبد الله نفسه بمشاهدة بعض ما هو محفور على تلك الآثار من الرسوم الهيروغليفية كأنه يعجب لغريب صنعها ريثما يمر الرجل ويمضي. وكان يتظاهر بالنظر إلى تلك الرسوم وهو بالحقيقة يختلس النظر إلى ذلك المار وكان الرجل يظهر تارة ويختفي تارة أخرى في مروره بين الأعمدة والخرائب ثم اختفى ولم يعد يظهر.
الفصل الخامس والثلاثون
الاجتماع السري
فعجب عبد الله لأمره وقال في نفسه لابد أن يكون هذا الرجل من جملة أهل ذلك الاجتماع السري وقد نزل في نفق أو نحوه. فالتمس المكان الذي ظنه اختفى فيه فوجد هناك منحدرا يظهر لأول وهلة أنه مسدود فنزل فيه وهو يخطو الهويناء حتى انتهى إلى ظلمة دامسة فوقف وأصاخ بسمعه فسمع لغطا عميقا فاستبشر بالوصول إلى المكان المطلوب ولكنه لم يكن يعرف مدخل تلك المغارة وخاف أن يستغشه القوم فيقتلوه.
فوقف برهة يتردد بين أن يسير متلمسا أو يرجع فيأتي بسعيد. ثم رأى أن يتحقق المجتمع قبلا ثم يعود فخطا بضع خطوات وهو لا يرى شيئا أمامه فلطم رأسه بالسقف فحنا ظهره وداهمه العطاس لرطوبة الهواء فعطس عطسة فدوى لها المكان وما شعر إلا وقد ظهر نور ضعيف وتقدم بضعة رجال كلهم ملثمون وعليهم أردية سوداء تزيدهم وحشة فقبضوا عليه وهو لا يبدي حراكا. ونزلوا به في ذلك الدهليز إلى قاعة تحت الأرض واسعة وكل جدرانها وسقفها مغطاة بنسيج أسود مما يجعل المنظر رهيبا ولولا شمعات مضيئة في بعض جوانب المكان لكانت الظلمة لا تطاق لكثافتها. ونظر عبد الله إلى ما حوله فرأى في وسط القاعة دكة مغطاة بملاءة سوداء لم يدر ما تحتها ولكنه لم يستطع التأمل وقد أحدق به بضعة عشر رجلا التحفوا العبي تحتها السيوف وكلهم ملثمون. فخاطبه واحد منهم يسأله عما يريده.
فقال: إني جئت أشارككم في ما أنتم فيه.
قال: وما أدراك ما نحن فيه؟
قال: علمت أنكم تدعون الناس إلى نصرة الإمام علي أليس ذلك ما تدعون إليه.
قال: وما شأنك وذلك؟
قال: شأني هو شأنكم. لا تسيئوا الظن بي إني قادم من الكوفة لهذه الغاية.
فقال له رجل آخر: كيف تكون أمويا وتدعي نصرة الإمام علي.
فاشتبه عبد الله بصوت مخاطبه أنه صوت صديقه الغفاري الذي نزل عنده في ذلك الصباح.
فقال له: ألست أنت صديقي الغفاري. اصدقني ولا نخف إني والله جئتكم بخبر هام إذا أشركتموني في أمركم أطلعكم عليه وتحققتم صدق قولي.
فقال الغفاري: إذا كنت صادقا في ما تقول تعال معي. ومشى فتبعه إلى الدكة في وسط القاعة ورفع الملاءة السوداء فإذا هناك مصحف فوقه سيف مسلول وقال له ضع يدك على هذا السيف وأقسم بالله أنك حليف للإمام علي تنصر نصيره وتحارب عدوه.
فوضع عبد الله يده على المصحف والسيف معا فشعر ببرودة السيف فارتعشت أنامله ولكنه أقسم لهم كما أرادوا.
ثم قاده بيده إلى دكة أخرى رفع غطاءها وتناول عنها قارورة فيها مسحوق أسود كأنه الكحل فاشتاق عبد الله لمعرفة ما فيها فقال وما هذه. قال هذه قارورة فيها بقية من رماد ابن أبي بكر الذي أحرقتموه بالنار ظلما فإذا شئت الهداية ونصرة الحق كما تدعي وجب عليك أن تكتحل بهذا الرماد وتبكي ذلك القتيل المظلوم وتعاهدنا على الأخذ بثأره. فهل أنت قابل بذلك باق على قسمك؟
قال إني باق على ما تريدون وقد قلت لكم الصدق فلا تستغشوني.
فتقدم إليه صاحبه ففتح القارورة وأدخل فيها ميلا علق عليه بعض الرماد فأعطاه إلى عبد الله فاكتحل به فهاجت عيناه وانسكب الدمع بالرغم عنه فشاركه الرفاق البكاء.
ثم أزاح الغفاري لثامه وقال له: نعم إني صديقك كما قلت ولكن اعلم أنك إذا كنت على غير ما تقول فإني أكون عدوك أهدر دمك بحد هذا السيف. قل ما بدا لك.
فلما اطمأن عبد الله تذكر سعيدا فقال ولكن لي رفيقا أريد أن أدعوه إليكم ليشهد ما نحن فيه ويشاركنا في هذا الجهاد.
فقال له الغفاري إنك غير خارج من هذا المكان إلا بعد خروجنا جميعا فقل ما تريده.
فأطاعهم وقال «لا تعجبوا أولا لأني أموي. وقد أصاب صاحبي الغفاري بأني من أنصار معاوية وقد كنت مطالبا بدم عثمان ولكن طرأ علي طارئ سأقصه عليكم أما الآن أخبركم أولا أني قادم من الكوفة وقد علمت أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قد جمع رجاله هناك فاجتمع منهم حوله أربعون ألف مقاتل
1
وكلهم مستعدون للنزال وبذل المال والرجال في هذا السبيل».
فقالوا إن رجالنا يعدون بالآلاف ونحن وهم وأموالنا وكل ما نملكه تهدر حلالا في نصره الإمام ابن عم رسول الله.
وهم عبد الله بإتمام الحديث فاعترضه أحدهم قائلا: عرفناك أمويا من ألد أعداء الإمام كما ذكرت فما الذي حملك على نصرته حتى خاطرت بنفسك وجئت هذه البلاد.
فأخذ يقص عليهم حديث أبي رحاب ولكنه لم يكد يقول كلمتين حتى سمعوا وقع حوافر الخيل فوق رؤوسهم وقد ارتج المكان فوقهم بالجلبة فأنصتوا ووقع الرعب في قلوبهم وخيل لهم أنها دسيسة من عبد الله فهموا بقتله ولكنهم ما لبثوا أن رأوا أنوار المشاعل ممنبعثة من مدخل الدهليز وقد انهالت الشرطة عليهم فأرادوا الدفاع عن أنفسهم فلم يفلحوا فشدوا وثاقهم وساقوهم في ظلام الليل إلى الفسطاط.
الفصل السادس والثلاثون
السجينة الأمينة
ومكث سعيد في الجامع حتى دنا الغروب ولم يعد عبد الله فتردد برهة بين أن يذهب إلى عين شمس أو ينتظر عود عبد الله ثم غربت الشمس فلم ير بدا من المسير إلى عين شمس كما أوعز إليه. فخرج من الفسطاط وجعل المسلتين وجهته والظلام يكاد يحجبهما عنه فمشى وقد أوجس خيفة من إبطاء عبد الله ولم يعد يرى المسلتين إلا إذا برزتا في الأفق. ثم اختفتا ولم يعد يراهما وخاف أن يضل الطريق. وفيما هو في ذلك سمع دبيبا وقرقعة كأن جندا قادما وراءه فتنحى عن الطريق فإذا بكوكبة من الفرسان مرت به مسرعة تلتمس عين شمس فاضطرب وخاف الدسيسة. والتفت إلى يمينه فرأى بيتا قائما في بستان. فلاح له أن يتحول إليه يستفهم أهله عن الطريق فلما دنا منه سمع صوتا رخيما خراجا من بعض جوانبه استوقف انتباهه فوقف وأصاخ بسمعه فسمع صوتا رخيما يمازجه بكاء ولم ير هناك نورا ولا رأى أحدا في البستان فالتمس باب البيت فإذا هو موصد وقد وضح لديه صوت الباكي فتنصت فسمع صوت امرأة تبكي وتقول: «ألا تخاف الله يا ظالم أما كفاك ما واطأت عليه من قتل البرئ حتى رميت الوفا من الناس تحت خطر القتل الفظيع ... هل من ينبئ هؤلاء الأبرياء بما وشوا به عليهم فينقذهم من خطر الموت».
فلما سمع تلك العبارات أقشعر بدنه ولم يعد يصبر على استطلاع سبب ذلك البكاء. فقرع الباب قراعا خفيفا فانقطع الصوت بغتة فصبر هنيهة وكرر القرع ويده ترتعش من شدة التأثر فلم يسمع شيئا فازداد شوقا لاستطلاع ذلك السر ولكنه خاف أن يقع في مكيدة وهو غريب هناك فلبث برهة والهواجس تتقاذفه وقد حدثته نفسه أن بين ما سمعه وبين ما يسعى في البحث عنه علاقة كبرى. وكان الفرسان الذين مروا به قد بعدوا عنه ولم يعد يسمع من وقع حوافر أفراسهم غير الدوي البعيد. فأيقن أنهم يلتمسون عين شمس ولم يفهم سبب ذهابهم إليها في ذلك الليل. وبعد التأمل بما سمعه ورآه اعتقد أن في الأمر سرا يهمه الإطلاع عليه.
فهز الباب بيده هزا شديدا كأنه يريد فتحه بالعنف فلم ينفتح لأنه موصد ولم يعد يستطيع صبرا والوقت ضيق فقال بصوت خافت: «هل في المنزل أحد يفتح الباب إني غريب ضللت الطرق».
فأجابه الصوت من الداخل «ليس في البيت سواي والباب مقفل لا سبيل إلى فتحه».
فازداد سعيد دهشة واستغرابا وقال: «من أنت أيها المخاطب إني أراك في ضيق فهل من سبيل إلى إنقاذك».
فأجابه الصوت: «يا حبذا ذلك إذا استطعته إني حبيسة بالرغم عني. من أنت؟»
قال: «قلت لك إني غريب ضللت الطريق أريني وجهك أو أرشديني إلى وسيلة افتح بها الباب».
قالت: «عالج الأقفال بالعنف لعلك تستطيع فتحها فتنقذني وربما أنقذت الوفا من الناس معي».
الفصل السابع والثلاثون
الشك واليقين
فثارت الحمية في رأسه واستل خنجره وجعل يعالج الأقفال وهي تساعده من الداخل حتى فتح الباب فبرزت منه فتاة محلولة الشعر عليها رداء أهل الفسطاط ولما رأت سعيدا قالت: من أنت؟ اصدقني الخبر.
قال: بل أنت اصدقيني ولا تخافي لقد سمعتك تندبين الوفا من الناس فمن هم أولئك الألوف.
فتفرست فيه وتفرس فيها فلم يعرفها ولا عرفته لشدة الظلام.
فقالت له: من قال لك أني أندب الوفا.
قال: سمعتك بأذني.أفصحي ولا نخافي.
قالت: وما يهمك من أمر هؤلاء الألوف.
قال: «أخاف أن أكون أنا منهم ...».
قالت: وما الذي جاء بك إلى هذا المكان.
قال: كنت ذاهبا إلى عين شمس فتهت وجئت هذا المنزل لأسأل أهله عن الطريق فسمعت بكاءك ويحدثني قلبي أن حديثك يهمني. قولي لقد نفذ صبري.
قالت: أني أخاف العيون ولا أثق بأحد بعد أن غدر بي والدي.. فكيف أثق بالغرباء.
قال: رب غريب أقرب من القريب قولي لا تخافي.
وفيما هما في ذلك سمعا وقع الحوافر وصوت الضوضاء من ناحية عين شمس فدخلت الفتاة الغرفة وجرت سعيدا بثوبه ولم تفه بكلمة فدخل في اثرها وقد تولته الدهشة ولبث صامتا. ولم تمض برهة حتى دنت الضوضاء منهما وسمعا من بين الأصوات قائلا يقول: «لقد وقعتم في أيدينا أيها الخائنون وعرفنا دسائسكم» وسمعا لفظا كثيرا من هذا القبيل فظلا صامتين حتى مر الفرسان كلهم وهم يسوقون جماعة من المشاة موثقين.
فلما تواروا عن البيت لطمت الفتاة وجهها وقالت: «لقد نالوا بغيتهم قبحهم الله وقبضوا على الجماعة».
فقال: وأي جماعة؟ هل قبضوا على جماعة عين شمس؟
قالت: نعم إنهم قبضوا عليهم وا أسفاه.
فصفق سعيد بيديه وخرج ليطل على الفرسان كأنه يريد أن يتحقق طريقهم.
فقالت له: يظهر أنك كنت سائرا إلأيهم.
قال: نعم.
قالت: لقد نجاك الله من أيديهم ولم يكن ضلالك إلا وسيلة لنجاتك.
فاضطرب سعيد واختلج قلبه في صدره وقال بالله عليك أفصحي يا أخيه فقد نفذ صبري وقد علمت غرضي فأخبريني عن حقيقة أمرك.
قالت: لم يعد يمكنني البقاء هنا مخافة أن يأتي أحد فيراك معي فتكون العاقبة وخيمة علينا.
قال: وهل تريدين أن نبعد من هذا المكان.
قالت: نعم هلم بنا فإذا خلونا تحادثنا وعساك أن تتلافى أمرا لا أزال خائفة من وقوعه وهو شر عظيم. قالت ذلك وخرجت من الغرفة فمشت أمامه وهو يتبعها حتى خرجا من البستان وأوغلا في الحقول وهو يسير في أثرها إلى حيث لا يدري وكلاهما صامتان لا يفوه أحد بكلمة حتى دنوا من بناء عالي الجدران كأنه بلا باب. فقالت له: هذا دير للقبط فلندخله بحجة الزيارة فنكون في مأمن ومشت أمامه إلى باب صغير في أسفل الحائط مصفح بالحديد فقرعته فأطل عليها من نافذة في أعلى الحائط راهب في يده مصباح وقال من يقرع الباب.
قالت: إننا غرباء نلتمس زيارة الدير.
ولم تمض هنيهة حتى فتح الباب وسمع لفتحه صرير فدخلاه حانيي الرأس لضيقه فأشرفا على دهليز دخلا منه والراهب يسير بالمصباح أمامهما حتى انتهيا إلى الكنيسة فنظر الراهب إليهما في نور المصباح فعرف الفتاة أنها من أهل الفسطاط بل هي من أعيانهم فسر من زيارتها ورحب بها وأدخلهما إلى غرفة في الجانب الآخر من الكنيسة فيها مصباح فسألهما إذا كانا يحتاجان إلى شيء فقالا كلا فتركهما ورجع.
الفصل الثامن والثلاثون
كشف السر
أما سعيد فتأمل الفتاة في النور فإذا هي شابة في مقتبل العمر جميلة الطلعة وقد أحمرت عيناها وتكسرت أهدابها من البكاء ولم يزدها ذلك إلا جمالا. وكانت قد ضفرت شعرها في أثناء الطريق وغطت رأسها بطرف ثوبها. فجلسا على وسادة فوق حصير وسعيد يتلهف لاستطلاع حديثها وقلبه يخفق لما يتوقعه من النبأ الغريب فابتدرها بالسؤال حالا عن حقيقة أمرها.
فنظرت إليه ولم تكد تتأمله حتى قالت: «ألعلك أحد الغريبين اللذين وصلا الفسطاط في صباح هذا اليوم.
قال: نعم إني هو وما أدراك بذلك.
قالت: رأيتكما مع جارنا الغفاري وها أني أقص عليك خبري الغريب والتمس منك أن تشرع في ملافاة الخطر العظيم الذي سيدهم المسلمين قريبا.
قال بلهفة: قولي إني لهذا الأمر أتيت الفسطاط فعسى أن أكون قد وقعت على ضالتي.
قالت: إني أطلعت على سر لا أظن أحدا عرفه قبلي ... ألست على دعوة الإمام علي.
قال: بلى إني على دعوته وقد جئت في سبيل نجدته.
وهمت بالتكلم ثم توقفت برهة وأطرقت فلحظ سعيد ترددها وأدرك أنها ساءت الظن به فقال لها: لا تظني السر الذي ستبدينه لي مجهولا لدي وإذا شئت قلته لك. ولاطمئنان بالك أقول أنه يتعلق بالإمام علي وفيه خطر على حياته ....
فاطمأنت ولكنها تنهدت وقالت: «اعلم يا سيدي أن والدي يصنع السلاح ويبيعه في الفسطاط وقد ربيت وأنا أسمعه يتشيع للإمام علي فانغرس حب هذا الإمام في قلبي وما أنا في حاجة إلى امتداح والدي له وهو ابن عم الرسول وصهره ولكنني ذكرت لك امتداحه لأذكر لك التغير العجيب الذي طرأ عليه. «فما زلنا ندعو لعلي بالنصر حتى كانت واقعة صفين منذ بضع سنين فرأيت في والدي فتورا من هذا القبيل ولكنه لم يذكر لنا شيئا صريحا بهذا الشأن. على أني كثيرا ما كنت أراه يختلي بجار لنا من بين مراد كان يعلم الناس القرآن وكنت أحسبه من أهل التقوى ... (قالت ذلك وتنهدت) ولكنني وجدته واأسفاه من أهل العداء. ومازالا يتساران في أمر هذا العداء ولا يجرآن على التظاهر به لأن مصر كانت لاتزال في حوزة الإمام علي وعاملها محمد بن أبي بكر . فلما جاءنا ابن العاص بخيله ورجله وحارب دعاة علي فقتل ابن أبي بكر رحمه الله قتله لم يسبق لها مثيل في الإسلام استقام الأمر للأمويين فجاهر والدي بمعاداة علي وكان جارنا المرادي يزيده كرها له. فعلمت أنهما تشيعا للخوارج فظللت مع ذلك صابرة كاظمة إذ لا سبيل لي إلى شيء أعمله وأنا فتاة ضعيفة كما ترى. وكان والدي يظنني على دعوته. ففي ذات يوم جاءنا ذلك المرادي خاطبا ووافقه والدي أن أكون خطيبة له فلم أجب لا حسنا ولا قبيحا خوفا من إكراهي على الزيجة. ولكنني صممت في باطن سري أني إذا تحققت عزمه على الزواج فررت وتركته ومازلت أماطل في كتابة العقد إلى الآن».
الفصل التاسع والثلاثون
عبد الرحمن بن ملجم
وكانت في أثناء كلامها عن الزوج قد أطرقت حياء فلما بلغت إلى هذا الحد رأت سعيدا مصغيا إلى حديثها بكليته وهي تعلم أنه إنما يشتاق إلى آخر الحديث أكثر مما إلى أوله فخافت أن يمل فقالت: «ولا أطيل عليك الحديث قبل أن أصل إلى جوهره فأقول إن ذلك كله احتملته بالصبر ثم علمت أن المرادي خرج إلى مكة فظننته يلتمس الحج ووددت أن لا يعود ولكنني ما لبثت أن رأيته عائدا».
قالت ذلك وتنهدت وسعيد يتطاول لسماع ما تقول وقد دهش لغرابة الحديث فقالت: «عاد ذلك المرادي بمهمة جديدة يا ليتني مت قبل أن سمعت خبرها ... ولكنني إذا لم أجد من يتحمل المشقة في ملافاتها تلافيتها بنفسي.. جاءنا هذا المرادي ثاني يوم وصوله الفسطاط فاختلى بوالدي الليل كله يتكلمان وأنا لا أعلم ما دار عليه حديثهما. ولكنني علمت بعد ذلك أنه أوصى والدي أن يصنع له سيفا ماضيا أنفق عليه ألف درهم وقضى مئة يوم وهو يشحذه فلم أفهم معنى هذا الاستعداد ولا اهتممت به وبعد أن شحذه كلف والدي فسقاه السم. وقد علمت أنه اتفق على سقايته ألف درهم أيضا
1 ... فويل لجسم يجرحه هذا السيف لو جرحا خفيفا».
فمل سعيد ولم يعد يستطيع صبرا على التصريح باسم ذلك الرجل والإفصاح عن غرضه بسقاية السيف وهو لا يشك أنه المؤامر على قتل الإمام علي. وكان قد صبر نفسه حتى يسمع ذلك من فم الفتاة ولكنه مل الانتظار فسألها قائلا: «وما هو اسم هذا الرجل».
فقالت: إن اسمه عبد الرحمن بن ملجم المرادي.
فلم يذكر أنه يعرفه أما خولة فتنهدت وقالت: «فلما رأيت منه هذا الاستعداد وهو كاتم خبره عني عمدت إلى الحيلة فجاءني في صباح أمس يودع والدي وقد عزم على الكوفة فقلت في نفسي سيذهب الرجل ولا أدري السر فتظاهرت بإعجابي بشجاعته وإقدامه وأطريت على غيرته على الإسلام ونحو ذلك وسألته أن يريني السيف لأتأمل فرنده فجاء به وأوصاني أن أتقي حده لأن جرحه يميت حالا فسللته بحذر كلي فإذا هو يلمع لمعانا تقشعر منه الأبدان فارتعد جسمي ولكنني أظهرت الجلد وقلت: «أراك أنفقت مالا كثيرا على صقله وما الفائدة من هذا اللمعان».
فضحك مستخفا وقال: أتظنين أني انفقت كل هذا المال على مجرد صقله.
قلت: وماذا إذا أني لا أرى فيه غير اللمعان.
فقال: إني سقيته السم.
فأظهرت الاستغراب وقلت ولماذا سممته. ومازلت أحاوله وأجادله حتى هان عليه التصريح. فقال لي: «اعلمي يا خولة أني سأقتل بهذا السيف رجلا يزعمون أنه أكبر رجل في الإسلام ويقولون أنه أقرب أقرباء الرسول» قال ذلك والشر باد في عينيه واصفرار الوجل يتخلل ما كان يحاوله من الابتسام. أما أنا فلما سمعت قوله ارتعدت فرائصي واختلج قلبي وأظنه قرأ ذلك على وجهي. كيف لا وقد ظهر لي أنه يريد الإمام عليا. ولكنني أحببت تحقق الظن فقلت: «ومن هو ذلك الرجل».
فقال: «ألا تعلمين من هو ألا تعرفين سبب كل هذه الانقسامات وإذا كنت لم تفهمي بعد فأقول لك إنه علي بن أبي طالب الذي يسميه أشياعه أمير المؤمنين». قال ذلك واحمرت عيناه وتجلى الغدر في وجهه وقال: «احذري أن تبوحي بذلك لأحد وإلا فإنك تنالين جرحا من هذا السيف». قال ذلك وهو يمزح الجد بالهزل أما أنا فتحققت أنه يقتلني ولا يبالي لأنه تجرأ على قتل أمير المؤمنين فكيف لا يقتل فتاة مثلي.
فلم أستطع جوابا وخفت إذا نطقت أن يبدو أمري فصمت وقد عولت في باطن سري على السعي في إبلاغ أمير المؤمنين ذلك على عجل لأن موعد القتل قريب وأظنه في 17 رمضان لأني كثيرا ما كنت أسمعه يذكر هذا التاريخ ويعرض بذكر الكوفة ولم أكن أفهم مراده بذلك. وأما الآن فقد فهمت جيدا أنه عازم على قتل الإمام علي في 17 رمضان ونحن في أواسط شعبان وأخاف أن ينال هذا الرجل بغيته قبل أن يبلغ الخبر عليا ... آه يا ليتني طير أحمل هذا الخبر إليه.
الفصل الأربعون
برح الخفاء
وكان سعيد لما وصلت خولة إلى ذكر اسم الرجل وتصريحه بمقتل الإمام علي قد نهض وجعل يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا والحمية ملء رأسه وندم على مجيئه قبل أن يخبر الإمام عليا ولكنه تذكر أنه لم يكن يعرف اسم المؤامر ولم تكن ثمت فائدة من إعلامه أما الآن فإنه يذهب إليه بالخبر الصريح.
وكان مع شدة تأثره من حديث خولة لا يغفل عما يتجلى في وجهها من ملامح الجمال وما في حديثها من صدق اللهجة وقد أعجبه منها بنوع خاص غيرتها على الإمام علي فشعر بانعطاف نحوها. ولكنه تذكر عهده لقطام وما يطنه من حبها له فرأى أن لا يطلق لنفسه العنان في حب سواها. على أنه لم يكد ذهنه ينصرف لحظة إلى هذا الموضوع حتى عاد إلى التفكر بعبد الله ومصيره وسبب وجود خولة في ذلك البيت المنفرد. فقال لها: «لا أدري يا مولاتي ما الذي ساقني إلى منزلك حتى حظيت بك وسمعت هذا الحديث الذي إنما جئت الفسطاط من أجله. ولا أخفي عليك أني كنت عالما بعزم بعضهم على الفتك بالإمام ولكنني لم أكن أعلم اسم العازم ولا من هو فجئت الفسطاط ومعي رفيق من ذوي قرابتي كان قد سبقني في صباح هذا اليوم إلى مجتمع العلويين في عين شمس على أن يعود إلي بخبر مكانهم فلما أبطأ سرت في اثره وأنا لا أعرف الطريق فضللت في الظلام حتى اهتديت بك ونعم الضلال ضلالي. ولكنني في قلق على رفيقي إذ يلوح لي أن الفرسان الذين شاهدناهم الليلة كانوا قادمين من عين شمس ويظهر أنهم قبضوا على أنصار علي هناك ... ألا تظنين ذلك؟»
فقالت خولة: لو صبرت علي لإتمام حديثي لكفيت نفسك مؤونة الظن ويلوح لي أنك تود الإطلاع على سبب وجودي منفردة في ذلك البيت وقد أوصدت الأبواب دوني. فاعلم أني لما سمعت حديث المرادي سكت وكظمت فخرج الرجل وأظنه شخص إلى الكوفة ولبثت أنا في حيرة لا أدري ماذا أعمل فقضيت نهار الأمس في الهواجس والظنون وكلما تصورت عليا مقتولا بسيف هذا الغادر يقشعر بدني وكان والدي يخرج إلى حانوته في كل صباح ولا يعود إلى المساء وعندنا في المنزل عبد رباني منذ حداثتي وهو يحبني ويكرمني وكنت قلما أكلمه فخطر لي أن أغتنم غياب والدي وأكلم العبد عساه أن يطلعني على نبأ جديد أو لعلي أفهم شيئا آخر. لأن حديث ابن ملجم أتعبني وأقلق راحتي وليس لدي من أشكو إليه أمري أو أكاشفه سري فخرجت من غرفتي لأدعو العبد فلم أجده فناديته باسمه فأبطأ ولم يجب فأطللت من الدار فرأيته واقفا مع عبد آخر يظهر أنه غريب وكانا يتحادثان ويتساران. فلما رآني خجل وأسرع إلي فدخلت غرفتي ودخل هو في أثري وعلى وجهه أمارات البغتة كأنه سمع خبرا غريبا يريد قصه علي. فقلت أين كنت وقد دعوتك فلم تجب؟
قال: كنت واقفا مع عبد قادم من الكوفة لمهم سرية إلى الأمير عمرو.
فقلت: له وهل أطلعك على خبر تلك المهمة.
الفصل الحادي والأربعون
إتمام الحديث
فسر عبدنا لما آنسه من ملاطفتي وأراد أن يبرهن لي ثقته بي فقال: «إنه أطلعني على سر لا أظن أحدا يعرفه في كل الفسطاط سوى الأمير وبعض شرطته» ثم أخبرني أن ذلك العبد جاء إلى الأمير عمرو بأن أنصار علي يجتمعون سرا في عين شمس يوم الجمعة وأن عمرا عين جندا للقبض عليهم أو قتلهم في ساعة الاجتماع. فلما سمعت ذلك لم أتمالك عن البكاء لشدة الغيظ ورأيت من أهم واجباتي أن أبلغ الجمعية تلك النية ليتحذروا. ولكنني لم أكن أعرف أحدا أثق به في إنفاذ هذه المهمة فعولت على الذهاب بنفسي في ساعة الاجتماع.
فأصبحت في هذا اليوم وأنا أتوقع خروج والدي إلى حانوته لأتنكر وأسير إلى عين شمس فإذا هو لم يخرج من البيت ورأيته في اضطراب ووجل وما علمت أن العبد أخبره بالحديث وأنه أطلعني عليه فخاف والدي أن أبوح لأحد قبل القبض على المجتمعين. فلازمني في البيت إلى الظهر ثم دعاني للخروج من الفسطاط للنزهة فأتينا هذا البيت وهو بيت لشريك لنا في الفلاحة ولم يكن فيه أحد فلم أظهر استغرابي ولا قلت شيئا لأني كنت عالمة بأن والدي سيكون في جملة السائرين إلى عين شمس فلابد من أن يتركني فإذا تركني خرجت وأنا على مقربة من المكان. وما علمت ما أضمره لي فإننا لم نكد نرى الشمس تميل حتى خرج والدي وتظاهر بأمر هام يدعوه إلى سرعة الذهاب وادعى أنه أقفل الباب علي خوفا من الغرباء أو أبناء السبيل سامحه الله وهو يعلم أني لا أستطيع النداء واستنجاد الناس لأني إذا تظاهرت بنصرة الإمام كنت من المغضوب عليهم. فظللت هناك حتى جئت أنت ورأيتني في هذه الحال. فرفيقك لاشك أنهم قبضوا عليه في جملة أولئك الأنصار.
قال سعيد: هل تظنين عليه بأسا.
قالت: لا أظنه إلا مسجونا الآن حتى يسألوه أسئلة كثيرة ثم اذا رأوا قتله قتلوه وكذلك يفعلون برفاقه. ولكن لا بأس عليه بإذن الله وسنتدبر في أمره. وما العمل الآن إني أخاف إذا عاد والدي ولم يرني في البيت أن تزيد نقمته علي فأرى أن أذهب إلى منزلنا في الفسطاط وأتظاهر بأني خفت من بقائي في البيت ففتحت الباب بأسلوب أكيففه على شكل مقبول ولابد من تجاهلي كل ما حصل لأرى ما يكون. وما أنت فاعل؟
قال أود أن أسرع إلى الكوفة لأرى ابن ملجم فأقنعه أو أخبر الإمام عليا.
فقطعت عليه الكلام قائلة: «وكيف تقنعه وهو لا يقنع بل قد يسرع في القتل وليس أفضل من أن تطلع الإمام عليا على سر الأمر وهو يدبر بما يراه».
قال: وكيف أفعل برفيقي هل أتركه في السجن؟
قالت: «وأخاف إذا تأخرت هنا أن تفوت الفرصة والمسافة من هنا إلى الكوفة بعيدة وإني لأعجب منك كيف كنت عالما بخبر هذه المؤامرة ولم تخبر عليا وأنت في الكوفة».
فتنهد وقال: «كفي الملام قد وقع ما وقع وكنت أظن الكتمان يبعد المصيبة وفاتني أن أخبرك بأن المؤامرة ليست على مقتل علي فقط بل هي على مقتل عمرو ومعاوية أيضا». وقص عليها الخبر مختصرا.
الفصل الثاني والأربعون
الحب يعمي ويصم
فاستغربت خولة الخبر وقالت: «مالنا ولهذين إننا نريد الدفاع عن علي الآن ولكنني لم أفهم كيف انتقل خبر قدومكم إلى هنا وأنت تقول أنه كان سرا مكتوما لم يطلع عليه أحد».
فكاد سعيد يسئ الظن بقطام ولكن الحب غشي بصيرته فانتحل سببا آخر وقال: «لا أدري» وخطر له أن يقص عليها حديثه مع قطام ثم أمسك عن ذلك حفظا لعهدها وهو كما قلنا غير مرة سليم النية لا يعرف الدهاء ولهذا السبب نفسه لم يطلق لعواطفه الحرية في حب خولة مع أن الأحوال تقضي عليه بحبها بالنظر لما آنسه من جمالها وحميتها مع استهلاكها في نصرة الحق.
على أنه أدرك مع ذلك أن كتمان خبر المؤامرة عن علي إلى ذلك الحين خطأ ولكنه حمله على غلط قطام لا على سوء قصدها ومع ذلك فقد رأى الأمر سهل الملافاة ولا يزال ثمت باب مفتوح لإنقاذ علي بمجرد إعلامه. ولكن ذلك يدعو إلى السفر السريع وهو لا يعلم ما آل إليه حال عبد الله فقال لها: «إني عازم على الكوفة بأقرب وقت فما الذي أفعله برفيقي وأنا لا أدري إذا كان حيا أم ميتا».
قالت: «غدا نعلم الحقيقة دعني أذهب الآن إلى منزلنا بالفسطاط وامكث أنت هنا إلى الصباح ».
قال: «كيف أستطيع البقاء هنا وحدي ولا صبر لي على استطلاع خبر عبد الله فأرى أن أدخل الفسطاط وأتردد إلى المسجد ولا يعرفني أحد هناك فأما أن أسمع خبرا ممن يفد على المسجد من المصلين أو تبعثي إلى بالخبر».
قالت: لك الخيار في ذلك. ونهضت فنهض وخرجا فرافقها إلى قرب منزلها وودعها وعاد يلتمس بيت الغفاري للمبيت وهو لا يدري أن الرجل في جملة المقبوض عليهم وقد أصبح بيته موضع شبهة ولا كانت خولة تعلم ذلك.
وكان الجند بعد القبض على أهل ذلك الاجتماع قد ساقوهم في الأغلال إلى السجن وكان عمرو ينتظرهم في داره فلم يصبر على رؤيتهم إلى الصباح فلما أخبروه بالقبض عليهم أمر باستقدامهم إليه واحدا واحدا فرأى بينهم جماعة ممن لم يكن يخطر له أنهم على غير دعوة بني أمية وخصوصا الغفاري. ولما وصل إلى عبد الله عرف أنه من بني أمية وتذكر قرابته من أبي رحاب ولكنه تجاهل عن ذلك كله وأمر أن يسجن كل من هؤلاء في حجرة على حدة وبعث جندا يبتغون منازلهم ويقبضون على من فيها من الرجال لعلهم يطلعون على شيء جديد وهو معول على إعدامهم بعد ذلك. ولم يكن الجند يحتاج إلى أمر للنهب وقد أصبحت منازل أولئك العلويين وما فيها مالا حلالا لهم. فما صدقوا أن أمروا بالبحث فيها حتى حملوا عليها وأوغلوا فيها سلبا ونهبا.
الفصل الثالث والأربعون
البغتة
وكان سعيد قد نزل في بيت الغفاري فسأل عن صاحبه فأخبره أهل المنزل أنه خرج من الظهر ولم يعد فلم يخطر له أنه في جملة المقبوض عليهم فالتمس الحجرة التي وضع فيها ثيابه وهم بالرقاد ولم يكد يلقي رأسه على الفراش حتى تراكمت عليه الهواجس فأخذ يفكر في عبد الله وماذا عسى أن يفعل لإنقاذه وخاف إذا أبطأ في المسير إلى الكوفة أن ينفذ ابن ملجم بغيته فيذهب سعيهم عبثا.
وفيما هو في هذه الهواجس وقد طار نومه سمع لغطا في الدار ولم تمض برهة حتى علت الضوضاء وضج الناس فوقف وتنصت فإذا برجال عمرو قد دخلوا المنزل وأوغلوا في النهب ومن تعرض لهم آذوه فأيقن أنهم آتون إلى حجرته وتحقق أنهم مؤذوه فتقلد حسامه والتفت يمينا وشمالا لعله يجد مخرجا ينجو به بنفسه فسمع صوتا يناديه من وراء الحجرة فاستأنس بالصوت ثم عرف أنه صوت خولة ولم يكن له سبيل إلى مشاهدتها غير نافذة عالية لا يشرف منها إلا إذا صعد على مرقاة فاحتال في الصعود إليها وأطل وكان الظلام حالكا ولكنه رأى شيخا وسمع صوت خولة تقول له: «إن الشرطة سيفتكون بكل من في المنزل وإذا رأوك آذوك فإليك هذا الخمار والجلباب فالبسهما وافتح الباب واخرج فيظنوك امرأة فلا يتعرضون لك» فلم يصدق أنه سمع ذلك حتى مد يده وتناول الخمار والجلباب وتنكر بهما وتخمر وهو يرقص من الرعشة مخافة أن يسبق أجله فيدخل الشرطة قبل خروجه.
فلم يكن إلا كلمح البصر حتى لبس وتلثم بالخمار وفتح باب الغرفة وخرج بزي امرأة فرأى الضوضاء لاتزال مرتفعة والنهب جاريا فلم يتعرض له أحد فالتمس الشارع وراء البيت حيث كانت خولة واقفة وهو مع دهشته وبغتته لم يتمالك عن الإعجاب بشهامتها والإقرار بفضلها عليه. وفيما هو يفكر بها رآها تمشي أمامه فاقتفى خطواتها حتى وصلا إلى منفرد فوقفت وقالت له: «الحمد لله على سلامتك وسلامة الإمام علي» فلم يفهم مرادها فابتدرته قائلة: «لا تعجب لقولي فإن حياة الإمام علي تتوقف على حياتك إذ ليس هنا من يعلم الخطر الذي يتهدده سواك نعم إني أعرفه أيضا ولكني لا أضمن اقتداري على الذهاب ولا آمن الاعتماد فيه على أحد».
فقال: «وأنا إنما أبغي البقاء حيا لأقوم بإنقاذ هذا الإمام من القتل والفضل بالحقيقة لك أنت فأخبريني كيف عرفت بالخطر المحدق بي حتى جئت بهذه الحيلة».
قالت: «علمت من والدي أن عمرا أمر بنهب منازل أولئك العلويين والقبض على من فيها من الرجال والمال وأخبرني أيضا أن هذا الغفاري كان في جملة المقبوض عليهم وقد علمت أنك نازل في منزله فجئت إليك بهذه الحيلة فالحمد لله على سلامتك».
فشعر سعيد بفضل خولة وأحس بانعطاف نحوها ولكن حبه قطاما مازال غالبا عليه قابضا على قلبه لا يترك له سبيلا إلى سواها.
وبعد التأمل برهة قال: «وما العمل الآن إني عازم على الكوفة عاجلا ولكنني لا أدري ما ألم بعبد الله ولا ما يأول إليه حاله هل علمت شيئا عنه؟»
فتشاغلت خولة عن الجواب بإصلاح ثوبها كأنها تحاول إخفاء ما تعلمه فظنها لم تسمع كلامه فأعاد السؤال. فقالت: «لا يعلم المستقبل إلا الله».
فلم يعجبه جوابها فقال: أفصحي عما تعلمينه يا خولة.
قالت اعلم أن عمرا أمر بتقل أولئك العلويين في فجر هذا الصباح ولكن من يدري النتيجة.
فاختلج قلب سعيد أيما اختلاج وشعر كأنك صببت عليه ماء غاليا وقال: ماذا تقولين هل يقتلون عبد الله ما العمل؟ كيف يقتلونه؟
فقالت: «دع الأمر لله واعذرني إني لا أستطيع البقاء معك طويلا لئلا ينتبه والدي لغيابي فلا أنجو من القتل. وأما أنت فحياتك في أشد الخطر فيجب عليك أن تخرج من الفسطاط حالا».
فقطه كلامها وقال: «كيف أخرج وعبد الله سيقتل غدا إنه صديقي وابن عمي وأعز من أخي كيف العمل يا رباه».
فقالت له: لا خيرة في الواقع فإن شرا واحدا أهون من شرين ومع ذلك إن الوقت ضيق لا مجال فيه للسعي أو البحث عن سبيل لإنقاذ حياة عبد الله إذا قدر الله قتله ونحن الآن في نحو منتصف الليل وسينفذ القتل عند الفجر.. قالت ذلك وسكتت هنيهة.
فابتدرها سعيد قائلا يلوح لي أن أبوح لعمرو بعزم بعض الناس على قتله واحذره من الوقوع في الخطر ألا تظنينه يعفو عن قتل عبد الله مكافأة لهذا الجميل.
قالت: «ربما عفا ولكنه لدهائه وشدته يظن في قولك السوء فيقبض عليك ويؤجل قتل عبد الله حتى يأتي 17 رمضان فإذا لم يظهر صدق قولك قتلكما جميعا. فهل أنت ضامن أن المؤامر على قتل عمرو يأتي في الوقت المعين وخصوصا إذا علم باطلاع عمرو عليه. فلا تكون النتيجة إلا أنك ألقيت بيديك إلى التهلكة. ولكني أرى أن تترك هذا الأمر إلي لعلي أهتدي إلى وسيلة استغفل لها والدي فأذهب بنفسي إلى الإمام وأطلعه على هذا السر فإذا رأى أن يقبض علي فليفعل والمستقبل في يد الله. أما انت فسر حالا إلى الكوفة قبل فوات الفرصة إن الوقت قصير.. ووقتي الآن أقصر منه. دعني أذهب إلى والدي قبل أن يعلم بغيابي فيعرقل مساعي ثم أرى ما يكون. وسر أنت إلى الدير الذي كنا فيه في أول هذا الليل وسآتيك بالخبر. وقبل أن تصل الدير انزع عنك النقاب والإزار وادخل بثوب الرجال ورئيس الدير يعرفك فلا يستغشك». قالت ذلك وانصرفت تلتمس منزلها وهو يود لو أنها بقيت.
الفصل الرابع والأربعون
الخلوة
فلما خلا بنفسه مشى وهو غارق في بحار الهواجس لا يدري إلى أين يسير.فما شعر إلا وقد خرج من الفسطاط ووصل إلى حافة ترعة ظنها لأول وهلة النيل. ثم ما لبث أن رأى ضيقها فعلم أنها خليج وكان الظلام حالكا فوقف برهة وأفكاره تائهة في عبد الله ومصيره وكلما تصور ما هو فيه من الخطر هب جسمه واقشعر بدنه.
وظل واقفا وقد نسي موقفه لانشغال باله فرأى بالقرب منه نخلة فاقترب منها وجلس على حجر تحتها وأسند ظهره إليها وجعل يفكر في حاله وحال عبد الله وما جره إلى تلك المدينة من البواعث الهامة. فتذكر قطاما ووعودها وما مر له معها من الأحوال. وكان الجو هادئا لا يكدره إلا نقيق الضفادع على شاطئ ذلك الخليج فاتخذ نقيقها شؤما على عبد الله وتصور أنه لا يطلع النهار حتى يكون في عداد الأموات. فلما تخيل ذلك اقشعر بدنه فوقف بغتة وقال في نفسه» أأبقى أنا هنا وعبد الله في حال الخطر الشديد ... ماذا تكون حاله مع عمرو.. هل يقتله أم يستبقيه آه ... ماذا أعمل هل أمكث في الفسطاط لأنقذ عبد الله من القتل أم أسير إلى الكوفة لإنقاذ الإمام علي ... ولكن ما الفائدة من بقائي هنا وابن العاص قد عول على قتل عبد الله في صباح الغد ... لابد من المبادرة إلى انقاذه» قال ذلك ومشى بجانب الخليج جنوبا وهو يفكر في مجرى الماء هناك ونقيق الضفادع يعترض مجرى أفكاره. ثم تأمل في ذلك الخليج فتذكر أنها خليج أمير المؤمنين وقد حفره عمرو بن العاص لما فتح مصر منذ عشرين عاما لإرسال المؤونة عليه إلى الحجاز تلافيا لما كانوا يخافونه من القحط هناك. وكان قد حفره بإشارة من الخليفة عمر بن الخطاب
1
لما كان كرسي الخلافة في المدينة. فتذكر حال الإسلام في ذلك العهد وما كان فيه من اجتماع الكلمة وما فتحته سيوف المسلمين من البلاد الواسعة في الشام ومصر والعراق في بضع عشرة سنة. وكيف تحولت تلك السيوف الباترة بعد مقتل الخليفة عثمان إلى الفتنة فانقسم المسلمون فيما بينهم وانشغلوا عن تأييد سلطانهم بالحروب الاهلية حتى أصبحوا يقتلون خلفاءهم بتهم ما أنزل الله بها من سلطان.وأقبح ما آلت إليه تلك الفتنة أنهم تآمروا على قتل أمرائهم وخصوصا الإمام علي وهو ابن عم الرسول وخيرة قواد المسلمين. ولا ذنب له غير السعي في تأييد الكتاب. ولما تصور تلك الحال انقبضت نفسه وغلب عليه الكدر حتى كادت تخنقه العبرات وهو لا يدري أيبكي عبد الله أم يبكي الجامعة الإسلامية أم يبكي الإمام عليا أم يبكي سوء بخته الذي جره إلى تلك المدينة حتى وقع في تلك الحيرة.
الفصل الخامس والأربعون
خليج أمير المؤمنين
ثم وقف بغتة والتفت إلى ذلك الخليج وجعل يخاطبه قائلا: «ألست الخليج الذي أشار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بحفرك؟ قل لي بمائك الذي يجري فيك هل علم ابن الخطاب لما أذن بذلك أن دولة الإسلام سيقضي عليها بالانقسام حتى يحمل عامتهم على خليفتهم فيقتلوه ثم يختلفون على الخلافة فيقتسمونها ثم يختصمون على اقتسامها. هل خطر لابن العاص يوم نزل وادي النيل وحاصر هذا الحصن المنيع حصن بابل أنه سيجرد سيفه على المسلمين ويقتل ابن أبي بكر حرقا بالنار ثم ينقم على ابن عم الرسول فيستخرج الخلافة من يده بالحيلة .. أين أنت يا عمر يا أمير المؤمنين يا جامع كلمة المسلمين كانت المدينة مقر الخلافة وأنت على كرسيها فأصبحت منقسمة على نفسها يدعيها غير أهلها.. آه ياربي ما هذه الحال ياليتني مت قبل ذلك ... هنيئا لك يا أبا رحاب أن عظامك ساكنة في هذا التراب وروحك تنتظر لقاء ربها في يوم الحساب.. أما أنا الشقي فإني تائه بعدك تتنازعني عوامل لا أدري مصدرها ولا أعلم مصيرها. أأبقى لأرى مصير أخي عبد الله أم أسرع إلى الكوفة لأنبئ الإمام بما تآمروا عليه؟ ... أرشدني يا جدي ويا سندي ... ابقى هنا؟ وما الفائدة من بقائي هل يعفو عمرو عن عبد الله فيبقى حيا فأراه ...؟ لا أظنه يفعل.. إذا ماذا يفعل أيقتله ولا أستطيع الدفاع عنه؟؟ «آه يا خولة ... يخيل لي أنك ملاك أرسلك ربك لترشديني إلى سواء السبيل ...فهل يتم لي السعد على يدك فتنقذين عبد الله من القتل ...».
الفصل السادس والأربعون
الإغراق
وفيما هو يحدث نفسه ويمشي الهويناء على تلك الضفة سمع لغطا وحركة عن بعد فأجفل وتقدم نحو الصوت وهو يحدق بنظره فعلم أنه بجانب فم الخليج عند اتصاله بالنيل ورأى في النيل سفنا كبيرة وسمع لغطا عميقا كأن لصوصا يهمسون فيما بينهم يحاذرون أن يسمعهم أحد. وكان هو لا يزال بلباس النساء فخاف أن يراه أحد فيتحرش به فينكشف أمره فانزوى وراء جميزة كبيرة بقرب الشاطئ ثم خاف أن يدنو منه أحد فيراه. فتسلق فرعا من فروعها واختبأ بين الأغصان والأوراق هو يحاذر أن يحف الورق. حتى إذا استكن على غصن غليظ جعل يتفرس بما يراه فإذا هناك بضعة وعشرون رجلا يحيطون ببضعة عشر آخرين كأنهم أسرى مغلولون يسوقونهم إلى قارب كبير وسمع بعضهم يقول: «إلى أين أنتم ذاهبون بنا في هذا البحر ألعلكم تريدون إغراقنا» فشجبه أحدهم قائلا: «وما علينا إذا أغرقناكم وأنتم عصبة شريرة تآمرتم على نصرة رجل قتل الخليفة عثمان».
فصاح آخر: «أهذه أعمال ابن العاص يقتل الرجال غيلة. أما كفاه أنه يلتمس الخلافة لصاحبه بالحيلة حتى يقتل نصراء الحق غرقا. أما تخافون الله ألا تخافون يوم القيامة».
فصاح به آخر وقال: «لا تخف يا فلان إننا إنما أمرنا بنقلكم إلى جزيرة الروضة تبقون فيها أياما». ثم علت الضوضاء فعلم سعيد أنهم أنصار علي الذين قبضوا عليهم تلك الليلة في عين شمس فتحقق أن عمرا أشار بقتلهم غرقا في النيل فارتعدت أعضاؤه حتى كاد يقع من الجميزة وحدثته نفسه أن ينزل لنصرتهم. ولكن الخوف غلب عليه لعلمه أنه أعزل وإنهم جماعة كبيرة وكلهم مسلحون. فلبث برهة كأنها سنة وهو يرتجف من شدة التأثر وتنصت لعله يسمع صوت عبد الله أو يراه فلم يسمع شيئا ولم يكن يطنع أن يرى أحدا لشدة الظلام ولا هو يأمن أن ينجيه من أيديهم لكثرتهم وانفراده.
ولم يكن إلا بضعة دقائق حتى أصبح الكل في القارب ثم أداروا الدفة وهو ينظر إليهم ولم يقلعوا حتى ندم على سكوته وود لو أنه جاهر بنفسه لعله يستطيع نجدة أولئك المظلومين أو يقتل. ولكنه تذكر أن بقاءه حيا ضروري لإنقاذ الإمام علي فمكث برهة كأنه في حلم وهو يتردد بين الندم والأسف ويلتمس عذرا لسكوته حتى توارت السفينة عن بصره في لجج الظلام فأيقن أن عبد الله لا يلبث أن يبيت طعاما للأسماك إذا كان بين أولئك. وهو لابد أن يكون بينهم أنهم عصبة واحدة نالوا جزاء واحدا.
الفصل السابع والأربعون
الندم
فلبث هنيهة يفكر بما مر به فاشتدت به هواجسه حتى بكى ونزل من الجميزة وهو يلطم وجهه ويندب عبد الله ويبكي حاله ويوبخ نفسه لضعفه وتردده. فقال «أأرى عبد الله يساق إلى القتل ولا أنصره يا للجبانة ويا للخيانة ... كيف أتخلى عن رجل ذهب ضحية حبه لي ولولاي لم يأت هذه الديار ولا رأى ما رآه من البلاء ... آه يا ربي ما الفائدة من حياتي ....» ثم سكت هنيهة وهو يستجمع حواسه ويتأمل في موقفه فرأى أنه ارتكب خيانة عظمى. فقال «إني لا أستحق البقاء حيا ولابد من أن ألقي نفسي في هذا الماء لعلي ألقى فيه حبيبي عبد الله فتذهب بقايانا معا» قال ذلك وهم أن يلقي نفسه في النيل فشعر بقوة أوقفته بغتة وقد فكر في الإمام علي وما يحدق به من الخطر فقال «إذا قتلت نفسي إنما أقتل عليا معي ... نعم أقتله لأني إذا لم التمس الكوفة وأنبئه بعزم ابن ملجم ذهب قتيلا بذلك السيف المسموم ... آه يا خولة أين وعدك بإنقاذ عبد الله ... ولكن ما ذنبك وأنت لا تعلمين أنهم سيرعون في إغراقه قبل انبلاج الصباح ... إنه دهاء ابن العاص ومكره .... ولكنه سوف ينال نصيبه من أولئك المؤامرين ... يا ليتني أنبأته بالمؤامرة وجعلتها فدية لعبد الله ... ولكن قضي الأمر ولا خيرة في الواقع.»
الفصل الثامن والأربعون
خولة
ثم سكت وجعل يتأمل في ما حوله ولا يطاوعه قلبه أن ينظر إلى جهة مسير القارب فأراد أن يتحول إلى المكان الذي أتى منه فرأى شبحا مسرعا نحوه فخاف وتهيأ للدفاع إذا رآه يقترب منه. فلما اقترب الشبح إذا هو امرأة فعجب لقدومها وحدها في ذلك الليل ولكنه ما لبث أن تفرس في قيافتها حتى علم أنها خولة فخفق قلبه في صدره وغلب الخجل عليه لما رآه من جرأتها وقدومها في ذلك الليل وهي فتاة لعلمه أنه لا يحملها على القدوم إلا السعي في إنقاذ عبد الله. فحدثته نفسه أن يختبئ خجلا ولكن البغتة غلبت عليه فدنا منا وناداها. فحالما عرفت صوته صاحب فيه «أين عبد الله».
فأراد أن يجيبها فاختنق صوته وسبقته العبرات.
فدنت منه وهي تقول «سعيد ... هل رأيت أحدا جاء إلى هذا المكان وما الذي جاء بك إلى هنا».
قال «نعم رأيتهم يحملون أولئك الأسرى في قارب».
قالت «وأين هم ... أين ذهبوا بهم ... هل رأيت عبد الله .... هل هو معهم..».
قال «لقد حملوهم في القارب ولا أدري إذا كان عبد الله معهم لأني لم أسمع صوته ولا رأيته».
فصفقت بكفيها وقالت «لابد من أن يكون معهم. آه ما الحيلة الآن.. ما كنت أظن ابن العاص يعجل بقتلهم على هذه الصورة .. وكيف لم تحاول الدفاع عنهم ...».
فأجابها والاعتذار والخجل يتنازعانه وقال «لم أكن أعلم أن عبد الله معهم وهبي أني علمت فكيف استطيع إنقاذه وأنا فرد أعزل وهم جماعة مسلحون ....»
فصمتت خولة برهة ثم قالت «لقد فعلت حسنا فأبقيت على نفسك لإنقاذ الإمام علي لأن حياته موكولة إلى سرعة رجوعك».
فقال «وأنت ما الذي جاء بك وكيف عرفت بمسيرهم».
قالت «علمت ذلك من عبدنا وكنت قد دبرت حيلة أدخل بها على عمرو لأستمهله في قتل عبد الله باطلاعه على سر المؤامرة فعلمت أنه بعث بهم هذه الليلة لإغراقهم في النيل مخافة أن يترتب على قتلهم جهارا فتنة وهو يعلم أن أنصارهم كثار في الفسطاط. فأسرعت لعلي استطيع إنقاذ عبد الله بحيلة ... فلم يساعدني القدر ... وا أسفاه عليك يا عبد الله ... آه من أهل الظلم ... إن عمرا قد غلب عليا بحيلته فأخرج الخلافة من يده لجهل أبي موسى الأشعري ولكنه لن ينجو بنفسه من غائلة المؤامرين ...».
ثم دنت من سعيد وقالت «أنا أعلم أن فقدان عبد الله مصيبة علينا لأنه شهم ولكنه قضى ضحية واجباته على أننا نرجو أن نعوض عن خسارته بإنقاذ الإمام علي من خطر القتل فاركب إلى الكوفة على عجل وتمم المهمة التي جئت من أجلها. فها قد عرفت اسم المؤامر وإنه سار إلى الكوفة فأسرع ما استطعت قبل فوات الفرصة».
وكان سعيد مع شدة تأثره مما رآه تلك الليلة من الأهوال لا يغفل عما أبدته خولة من الحمية والجسارة وقد ازداد حبا لها وإعجابا بشهامتها ....
وفيما هو يفكر في ذلك ابتدرته قائلة «أعلم يا سعيد أني خرجت الليلة من بيت والدي تحت خطر القتل وأنا أحسبك في الدير كما تواعدنا وكنت عازمة على الذهاب إليك لأستحثك في سرعة المسير ثم أعود إلى والدي انتحل له سببا في خروجي. أما وقد التقينا هنا فإني استودعك الله وألتمس منك أن تسرع في الذهاب وإني عائدة إلى بيتنا وسأرسل إليك جملا مع عبدنا وآمره أن يسير في ركابك إلى الكوفة».
الفصل التاسع والأربعون
السفر العاجل
فأعجب سعيد بتدبيرها وثبات جأشها ورأى نفسه ضعيفا بين يديها ولم يستطع مخالفتها فقال لها «لا نلبث أن نتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود. وها إني خارج إلى جبل المقطم فهل يوافيني عبدك وجملك إلى هناك؟»
قالت «إنه سيوافيك حالا سر بحراسة الله واحذر أن تفوتك الفرصة. إن ابن ملجم قد سبقك إلى هناك ... هل فهمت ذلك؟» قالت ذلك ومدت يدها إليه فصافحها ويده ترتعش وقد نسي حاله لحظة ثم تذكر ما هو فيه من الأمور الهامة. وربما اضطرب قلبه بين يدي خولة ولكن حبه قطاما مازال غالبا عليه على أنه عول في باطن سره إذا نجح في مهمته أن لا يدع خولة تخرج من يده فيجعل لها مقاما في قلبه. فقال لها «أرجو أن تذكريني وتدعي لي بالتوفيق».
قالت وقد فهمت مراده «سر إني معك وإن كنت في الفسطاط وأرجو أن يجمعني بك يوم ينجو به الإمام من أيدي الظالمين وينال ما يستحقه من الاستقلال بالخلافة».
فاتخذ قولها تعنيفا له لافتكاره بالحب ونحوه وهو في مهمة أرفع منزلة من ذلك.
أما هي فأسرعت في وداعه وألحت عليه في سرعة المسير وأكدت له أن يلاقي عبدها والجمل وراء المقطم ثم تحولت بسرعة إلى الفسطاط.
فلما تركته وحده حول وجهه إلى النيل حيث كان القارب. وتأوه وتحسر وقال «استودعك الله أيها الصديق الحميم أستودعك الله أيها الأخ الحبيب لا غرق إذا ذهبت ضحية في سبيل نصرة أمير المؤمنين إنك إذا قضيت عزيزا وأنت حي ستلقى ربك باسما مفتخرا فادع لي أن ألقاه منتصرا على القوم الظالمين».
قال ذلك وتحول يلتمس جبل المقطم ولم يدركه حتى انبلج الصبح فلقي العبد وقد سبقه إلى هناك ومعه الجمل وسائر معدات السفر.
الفصل الخمسون
تمام الحيلة
فلنتركه سائرا يطوي البيداء ولنعد إلى قطام في الكوفة وما كان من دهائها ومكرها بعد سفره. فقد ذكرنا إرسالها عبدها إلى الفسطاط للوشاية بسعيد وعبد الله ثم خلت بلبابة فقالت لها «لقد تمت لنا الحيلة في قتل هذه المغرورين فإنهما مقتولان لا محالة. بقي علينا أن نعلم من هو المؤامر على قتل علي فإذا عرفناه نشطناه على قتله وساعدناه فإن قبيلتي كلها تنصره في ذلك».
فضحكت لبابة وقالت «إنه أمر سهل فإن عبدك ريحان ماهر بأساليب الدهاء مثل سيدته ولا نظنه وإلا عائدا إلينا بالخبر اليقين وإما تحريض ذلك المؤامر على القتل فهو أسهل وخصوصا إذا رأى هذا الوجه الجميل فإنه مفتتن به لا محالة فما عليك حينئذ إلا أن تعديه بالزواج وتجعلي قتل علي مهرا حلالا لك ... كيف رأيت رأيي».
فقالت قطام بورك فيك يا خالة والله إنك معبرة عن إحساسي. أما وعده بالزواج فهو أمر سهل علي ولا نظننا نحتاج في البحث عن ذلك الرجل إلى كبير مشقة فإنه إذا دنا الميعاد المضروب لابد من قدومه إلى الكوفة وإذا جاءها فلابد من أن يطلع أحدا من أهلي على عزمه لعلمه أننا على دعوته. فإذا عرفناه هان علي كل عسير.
صدق القائل «كل سر جاوز الاثنين شاع» فلم يدخل شهر رمضان حتى تحدث أهل الكوفة في حادث فظيع يخافونه على حياة أمير المؤمنين وكان الناس يتداولون ذلك الخبر همسا وهم لا يعبأون به لأنه غير مسند إلى شاهد ولا أحد عرف القائل. فضلا عن علم العقلاء منهم أن أمثال تلك الإشاعات جائزة في مثل ما كان فيه الإمام علي يومئذ. ولم يفت الإمام وأهل حاشيته شيء من تلك الإشاعة ولكنهم لم يعبأوا بها وحملها أهله وأصحابه على إشاعات ينشرها ذوو الأغراض. ومما تحسن الإشارة إليه أنك قلما ترى حادثا فظيعا لم تتقدمه الإشاعات المنبئة بقرب وقوعه. وهو سر لا مهمة ومهما يكن من الأمر فإن أهل الكوفة كانوا يتحدثون ببلاء يخافونه على أمير المؤمنين ولكن أكثرهم كانوا لا يكترثون.
ومضت أيام ودخل شهر رمضان فأصبحت قطام قلقة لتعرف من هو المؤامر على قتل الإمام علي لتنصره أو تحرضه. فلما اقترب نصف الشهر ولم يأت أحدا ولا سمعت بأحد ظنت المؤامرين عدلوا عن عزمهم تهيبا وفرقا واستبطأت عندها ريحان وقد كانت في انتظار قدومه لعلها تسمع منه شيئا عن أولئك المؤامرين ولكي تسأله عما آلت إليه حال سعيد وعبد الله. على أنها لم تكن تشك في وقوعهما في الفخ.
الفصل الحادي والخمسون
عود ريحان
وأصبحت قطام في الخامس عشر من رمضان والباب يقرع وكانت لبابة تبيت عندها بعد سفر ريحان. فنهضت لبابة فسمعت جعجعة جمل عرفت أنه جمل ريحان فأسرعت إلى الباب ففتحته فاستقبلها ريحان فقبل يدها وهو لا يزال بلباس السفر ودخل توا غرفة سيدته فلما رأته ابتسمت له ابتسامة عوضت عليه كل شقائه. فتقدم لتقبيل يدها وهو مشرق الوجه إشارة إلى نجاح مسعاه. فقالت إني أقرأ آيات البشر على وجهك وإن كان أسود اللون فاقصص علي تفصيل ما أتيته من آيات الدهاء والمهارة.
فقال وهو ينفض الغبار عن لحيته ووجهه «ركبت إلى الفسطاط فوصلتها يوم الخميس قبل وصول سعيد وعبد الله بيوم فسرت توا إلى الأمير عمرو بن العاص وقصصت عليه خبر القادمين وإن في الفسطاط جماعة من أنصار علي يجتمعون في عين شمس كل جمعة. فأمر رئيس شرطته أن يتهيأ للوقت المعين وخفت أن يهاجموا المكان قبل وصول سعيد وعبد الله ولكنهما وصلا في اليوم التالي وذهبا إلى المجتمع وقبضت الشرطة عليهم جميعا ولكنني لم أر سعيد في جملة الأسرى».
فقطعت قطام كلامه قائلة وهل قبضوا على جماعة كبيرة من أولئك الأنصار.
قال قبضوا على نحو عشرين وعبد الله معهم.
قالت وسعيد؟
قال لم أره وأظنه تأخر عن الاجتماع فلم يحضره فنجا بنفسه.
قالت وماذا فعلوا بالأسرى.
قال ساقوهم إلى النيل وأماتوهم غرقى في الليلة التي قبضوا عليهم فيها.
فأشرق وجه قطام ثم انقبض بغتة ولبابة تنظر إليها كأنها تتلذذ بالتأمل في ملامحها. فلما رأتها انقبضت همت بها وقالت ما بالك؟ ما الذي كدرك؟
قالت أن سعيدا لا يزال باقيا فأخاف أن يعرقل مساعينا.
قالت لبابة لا خوف منه لأنه كما تعلمين بسيط القلب سهل الانقياد تنطلي عليه الحيلة بسهولة. وأما عبد الله رفيقه فقد رأيت فيه دهاء ومكرا فالحمد لله على نجاتنا منه.
قالت صدقت ولكن سر المؤامرة عند سعيد فأخاف إذا جاء وأنبأ عليا به أن يحتفظ علي بنفسه فيذهب سعينا هباء منثورا.
فأطرقت لبابة برهة ثم التفتت إلى ريحان وقالت «هل عرفت الرجل المؤامر على قتل علي؟
قال علمت أنه من بني مراد واسمه عبد الرحمن بن ملجم.
فبغتت لبابة وصاحت أ ابن ملجم هو ...؟ لقد هان الأمر.
فقالت قطام وهل تعرفينه؟
قالت أعرفه جيدا وهو جريء قل أن يقدم على مثل هذا العمل سواه وإذا كان عبد الرحمن بن ملجم هو المؤامر فقد بلغنا المرام فإنه يحب الحسان ويستهلك في سبيل مرضاتهن ثم أدنت فمها من أذن قطام وقالت ولا أشك إذا رآك ألا خاطبك ثم تحولت إلى ريحان فقالت وهل رأيته قبل مجيئك؟
قل لا ولكني سمعت أنه سافر على هنا يوم وصولي الفسطاط وكنت أظنه وصل إليكم ولا أشك أنه إذا جاء قدم إليكم لأني آنست من خبر حزبنا هناك ما يدل على ذلك فهم يعتقدون فينا الكره الشديد لعلي وإننا نريد قتله وخروج الأمر من يده.
ولذلك فأنا لا أظن المؤامر إذا أتى الكوفة إلا مكاشفا بعض أسيادي من أخوتك أو أعمامك.
فقالت بالله ألا سرت إلى أهلي وبحت عن الرحل فإذا سمعت بخبره ائتني على عجل واحذر أن يعلم بأنك مرسل من قبلي لهذه الغاية وأنت فطين عاقل فلا توقع نفسك في ما تلام عليه.
وخرج ريحان ولم يبدل ثيابه فتبعته لبابة إلى حديقة البيت فوقفت به في ظل نخلة وهمست في أذنه قائلة «إذا لقيت الرجل قل له إن خالتك لبابة هنا وهي تريد أن تراك لأمر هام» وعجله بالمجيء واذكر له أني مقيمة في منزل سيدتك قطام واحتل في حديثك بحيث يفهم منك ما عليه سيدتك من الحسن والجمال وإني ربما ساعدته على الزواج بها. وأنت فطن عاقل لا تحتاج إلى تدريب في ذلك. فقبل ريحان يدها وهو يضحك ويهزرأسه كأنه يقول «يظهر أنك لا تعتقدين فطانتي ولولا ذلك لم يكن ثمت داع لهذا التصريح».
الفصل الثاني والخمسون
لبابة وابن ملجم
وانصرف ريحان وعادت لبابة إلى قطام وملامحها تدل على إعجابها بدهاء قطام وابتسمت وهي تقول لا ريب عندي أننا فزنا بما نريد وقلبي يحدثني أن عليا سيقتل ويشفى غليلنا منه على أهون سبيل.
أما قطام فظلت صامتة وقد أقطبت حاجبيها كانت تفكر في أمر ذي بال.
فقالت لها لبابة ما بالك يا قطام ما الذي حدث لك فأوجب هذا الاهتمام قالت إني خائفة يا خالة.
قالت ما الذي يخيفك؟
قالت إني خائفة من سعيد فقد قال لنا ريحان أنهم لم يقبضوا عليه في الفسطاط ولا يبعد أنه اطلع عل اسم المؤامر وميعاد القتل ولا أخاله إلا قادما بخبره إلى علي فإذا أخبره بأمره تعرقلت مساعينا وذهبا سعينا عبثا.
فقالت لبابة وما الرأي يا بنية؟
قالت لابد لنا من تدبير الأمر بالحكمة وتدارك الحادث قبل وقوعه.
قالت هات رأيك.
قالت أرى أولا أن نسعى في إمساكه عن الذهاب إلى علي. إذ قد يتراءى له أن يسير إليه خال وصوله الكوفة.
فقالت وهذا سهل فإننا نبعث ريحان فيلاقيه في مكان خارج الكوفة لابد له من المرور فيه فإما أن يؤخره عن دخول الكوفة أو أن يدعوه إلينا بحجة اشتياقك الشديد إليه!! ولا أشك أنه إذا سمع بشوقك نسي كل شيء وطار إليك. ومتى جاءنا استبقيناه بأي حيلة كانت وإذا لم يبق مختارا أبقيناه مجبورا. ما قولك؟
قالت أرى مثل رأيك ولكننا الآن في الخامس عشر من رمضان ولم يبق إلا يوم واحد قبل اليوم المعين فلابد من المبادرة في إرسال من يوقفه خارج الكوفة أو يستقدمه إلينا وريحان قد سار إلى أهلي وربما أبطأ علينا.
قالت لبابة دعي هذا إلي إني ذاهبة في أثر ريحان فأبعثه إلى خارج الكوفة وأبحث عن ابن ملجم بنفسي وذلك سهل علي لأني أعرفه شخصيا. قالت ذلك وتبرقعت وتناولت عكازها وخرجت تعدو ولا عدو الشباب .
وخلت قطام بنفسها فتأملت بما هي فيه من الأمور وراجعت في مخيلتها ما دبرته من الحيل في سبيل قتل الإمام فرأت أنها أحسنت بإرسال ريحان فإذا نجح في إيقاف سعيد ونجحت لبابة في استقدام ابن ملجم وتم لها إغراءه وتشجيعه نالت هي بغيتها وانتقمت لأبياها وأخيها. ولما تصورت وقوع ذلك انقبضت نفسها لفظاعة ذلك الأمر ولكن شوقها للانتقام هون عليها كل صعب.
وكانت قطام زكية الفؤاد متوقدة الذهن ولو أنها كانت حسنة الخلق رقيقة العواطف واستخدمت ذكاءها وفطنتها في سبيل الخير لأتت بأعمال يعجز عنها أعاظم الرجال ولكنها خلقت شريرة شديدة الانتقام فاستخدمت تلك الجوهرة الثمينة في سبيل الأذى. وذلك كثيرا ما يحدث بين الناس اليوم وغدا. فترى أناسا خصتهم العناية بذكاء ومهارة وصفاء ذهن فيصرفون تلك القوى في سبيل الشر ويوجهونها إلى الإضرار بالناس طوعا لمطامعهم أو رغبة منهم في انتقام أو نحو ذلك.
فأعملت قطام فكرتها بعد ما تهيأ لها من ضروب الحيل فوجدت أنه لا يزال ينقصها احتياط واحد لابد من تداركه. وذلك أن سعيدا ربما لا يلتقي بريحان لاختلاف في الطريق أو ربما التقى به ولم يصغ إلى قوله والتمس الذهاب إلى الإمام علي فأطلعه على سر المؤامرة. فلما تصورت ذلك خفق قلبها واضطربت حواسها ونهضت للحال وجعلت تمشي في غرفتها ذهابا وإيابا وتخرج منها إلى الغرفة الأخرى وهي تود أن تعود لبابة لتتداول وإياها في هذا الأمر وندمت على إرسالها في تلك المهمة قبل الافتكار في ذلك.
ولما تعاظم بلبالها خرجت إلى حديقة النخيل وكانت الشمس قد تكبدت السماء وانحسرت الأظلال واتفق وقوع شهر رمضان في تلك السنة (40ه) في ابان الشتاء لأنه يبدأ في العاشر من يناير (ك3)
1
وكان يوم خروج قطام إلى الحديقة يوما صحا جوه فحسن الخروج به إلى الخلاء في ساعة الظهر للاستدفاء بأشعة الشمس. فمشت بين النخيل مبتعدة عن السور الذي يلي الطريق إلى ما يلي البحيرة وهي لا تنتبه لما حولها من صرير أو تغريد أو نقيق ولم يكن همها إلا إتمام مرامها .
الفصل الثالث والخمسون
لقاء ابن ملجم
قضت في الحديقة ساعة وهي وحدها في كل تلك الدار فملت الشمس وحرارتها فعادت نحو البيت. وفيما هي عائدة سمعت أناسا يتكلمون عن بعد فوقفت على أرومة نخلة كانوا قد قطعوها للوقود منذ عامين والتفتت نحو الطريق فرأت شجين ولم تلبث أن عرفت أنهما لبابة ومعها رجل غريب الذي علمت أنه عبد الرحمن ابن ملجم. فحولت انتباهها إلى إتمام هذه الحيلة فدخلت البيت على عجل وكانت قد رأت لبابة تكلم عبد الرحمن وتشير إليها بإصبعها. ولما دخلت الغرفة عمدت إلى النقاب فأرسلته على رأسها وجلست على وسادة تعودت الجلوس عليها إذا استقبلت الزائرين من الغرباء. ولبثت صامتة تنتظر دخول لبابة وما عتم أن سمعت صوت ضحكتها قبل سماع خفق نعالها. وبعد قليل دخلت لبابة وحدها فاستقبلتها قطام استقبال المشتاق ودعتها إلى الجلوس.
فقالت: لا أجلس قبل أن أدعو رفيقا لي صحبته لزيارتك.
فقالت: أهلا بك وبرفاقك أجمعين فليدخل.
فصاحت لبابة للحال: ادخل يا عبد الرحمن.
وما أتمت كلامها حتى وقف في الباب رجل طويل القامة نحيف البدن خفيف اللحية أشمطها براق العينين بحيث يكاد الشرر يتطاير منهما وعليه العباءة والقفطان والعمامة وآثار السفر لا تزال بادية على نواتي وجهه وخصوصا الأنف فقد كان شديد الاحمرار. فخلع عبد الرحمن نعاله خارج الباب وحيا ودخل. فردت قطام التحية وهي تهم بالوقوف وأشارت إليه أن يجلس فجلس الأربعاء وسيفه مستعرض على حضنه وظهر من كيفية جلوسه أنه شديد الحرص على ذلك السيف كأنه يخاف عليه الضياع ففتحت قطام الكلام قائلة إلى من ينتسب ضيفنا؟
قال: إلى بني مراد.
قالت: والنعم والبركة.
فقالت لبابة: وهو عبد الرحمن ابن ملجم من القراء المشهورين قرأ على معاذ بن جبل
1 . أظنك سمعت به.
قالت: أنت تعلمين حالي يا خالة بل أنت أدرى مني بما هو شاغل بالي من الأحزان والمصائب فلم يبق لي عقل أذكر به شيئا غير مقتل أخي وأبي ... آه من الظلام أهل العدوان. قالت ذلك وأجهشت بالبكاء وما أسهل ما تستنزل به الدموع.
الفصل الرابع والخمسون
خطبة جديدة
وكان عبد الرحمن ينظر إليها من طرف خفي ويلاحظ ملامحها فافتتن بها أيما افتتان وكان قد سمع بجمالها وود لو أنها تكون له. ولما لقيته لبابة لم تذكر له شيئا مما عرفوه عن عزمه ولكنها قالت له: علمت بمجيئك الكوفة واعلم أنك تحب الحسان وأعرف واحدة منهن ليس أجمل منها في العراق. فجاء ولما رآها تحقق ما سمعه فانشغف بها ومن عجيب أمر هذا الرجل أنه مع عظم ما انتدب نفسه له من الأمر الهائل بقتل أمير المؤمنين وقرب اليوم المعين لم يشغله عن مغازلة الحسان شاغل. فلما سمع كلام قطام ورأى إجهاشها قال: وما الذي يحزن مولاتي؟ ألا أستطيع تفريج كربتها؟
فقالت لبابة: لا يخفى عليك ما أصابها على اثر واقعة النهروان فقد قتل والدها وأخوها رحمهما الله وهي لا يمضي يوم لا تذكر تلك المصيبة وتبكي ذينك الفقيدين ولكنني أريد أن أشغلها عن هذه الأحزان بمن يليق بها ....
ففهم عبد الرحمن أنها تلمح إلى خطبتها له فقال: إني والله أكون أسعد حظا من الجميع إذا تم لي ذلك.
فتجاهلت قطام وقالت: وما الذي تتمناه يا سيدي؟
قال: لقد جئتك خاطبا وأنت في أحزانك عساي أن أستطيع تفريجها فاطلبي مني ما تشائين مما تقر به عيناك.
فتنهدت قطام ثم قالت: إني لأعجب من تسرعك في الطلب ونحن لم نلتق قبل الآن.
فقطعت لبابة كلامها قائلة «نعم إنكما لم تلتقيا قبل ولكن لبابة تعرفكما جيدا وإذا أذنت مولاتي بكلمة فأقول إنكما إنما خلفتما لتعيشا معا».
فسكتت قطام فقال ابن ملجم «ومع ذلك فاطلبي ما تشائين فيكون لك».
فظلت قطام ساكتة برهة تتظاهر بالحياء والتردد إتماما للحيلة. ثم التفتت إلى لبابة كأنها تقول لها «إني استحي أن أقول» فقالت لبابة أنا أقول.. اجعل مهرها ثلاثة آلاف دينار وعبدا وقينة.
و لم تتم لبابة قولها حتى صاحت قطام «لا. لا يرضيني ذلك ولا مطمع لي في المال كما تعلمين» فقال عبد الله «اطلبي ما تريدين».
فتظاهرت بالتمنع وصبرت هنيهة كأنها تستخف بما اقترحه عليها من الطلب ثم قالت «إن مهري إنما هو قتل علي بن أبي طالب قاتل أبي وأخي».
فابتسم عبد الرحمن ونظر إليها ويده على قبضة سيفه وقال «إن ذلك وما قالته هذه الخالة سيكونان لك: ثلاثة آلاف دينار وقتل ابن أبي طالب وعبد وقينة. فإن مثلك لا يعز في سبيل نيلها مهر. واعلمي أني إنما جئت الكوفة لهذه الغاية انظري إلى هذا السيف (وجرده فلمع نصاله لمعانا شديدا) إني اشتريته بألف وسممته بألف لأقتل علي ابن أبي طالب به.
فابتسمت وقالت ولكنني أرجو أن يكون ذلك عاجلا لئلا تفوت الفرصة فقال إن موعدنا قريب لم يبق منه إلا يوم وليلة سأقتله في صباح 17 من هذا الشهر المبارك أي بعد غد فاطمئني.
قالت وكيف عينت اليوم والساعة ألا يستحسن أن يكون ذلك غدا؟
قال إن لذلك سببا سأذكره لك بعدئذ ولكنني أقول الآن إني مقيد في إنفاذ مهمتي في صباح ذلك اليوم.
فسكتت قطام وهي تتجاهل ما علمته من أمر المؤامرة.
وكانت لبابة عالة بغياب ريحان وأن لابد من زاد يتناوله الضيف فاستدعت عبدها في أثناء قدومها فجاء وأعد لهم طعاما تناولوه.
وما صدقت قطام أن خلت بلبابة لحظة فأشارت إليها أنها تحب مخاطبتها في أمر ذي بال على انفراد فاحتالت هذه على عبد الرحمن حتى التمس الخروج إلى السوق في شغل له وخلت قطام بلبابة للبحث عن تمام الحيلة.
الفصل الخامس والخمسون
مهمة ريحان
أما ريحان فإن لبابة أدركته في الطريق قبل عثوره على عبد الرحمن فأمرته أن يسرع في ملاقاة سعيد خارج الكوفة وألقت إليه من أساليب المكر والدهاء ما يكفل نجاح مهمته. فسارا أولا إلى ساحة كبيرة في وسط الكوفة تجتمع فيها الدواب من القوافل وغيرها. ولابد للقادم إلى تلك المدينة من المرور بها أو النزول فيها.
وقبل وصوله إليها سمع جعير الجمال وصهيل الخيل ولما وصل رأى الساحة غاصة بالدواب وبينها الناس في هرج بين راكب ونازل ورأى الأحمال ملقاة هنا وهناك فجعل يتفرس بالوجوه لعله يرى سعيدا أو أحدا من خدامه فلم ير أحدا. فجاء بيت سعيد فسأل عنه فعلم أنه لم يأت بعد. فخرج يلتمس الطريق خارج الكوفة وهو ينظر إلى لأفق لعله يرى هجاما أو فارسا. فمشى ساعتين ولم ير أحدا فوصل إلى شجرة كبيرة يستظل بها المسافرون للراحة قبل دخولهم المدينة ولابد لمن كان قادما من الشام أو مصر من المرور بها. فجلس هناك وعيناه شائعتان إلى عرض الأفق يفكر في حيلة تطلي على سعيد فيسبقيه هناك أو يسير به إلى بيت قطام. فغربت الشمس ولم يأت أحد وكان القمر بدرا فلم تكد تغرب الشمس حتى طلع البد وانعكست الأظلال من الشرق نحو الغرب. فاتكأ على حجر وعيناه تنظران إلى الأفق.
قضى ريحان هناك أوائل الليل وعيناه شاخصتان وقلبه يخفق وكلما رأى شبحا ظنه سعيدا فاشتد به البرد وهو يكابر ويتجلد. وحدثته نفسه أن يرجع فخاف أن يأتي سعيد في أثناء غيابه فيذهب سعيه هباء منثورا فالتف بثوبه. وبعد نصف الليل غلبه النعاس وهو يتجلد ولكنه لم يقو على سلطان النوم فأغمضت عيناه على أنه لم ينم طويلا فاستيقظ مبغوتا فأسف لما تولاه من الرقاد فنهض وهو يخاف أن يكون سعيد قد مر ولم يره. فوقف برهة يفكر في ماذا يعمل فصبر نفسه إلى الصباح فلم يأت أحد فخيل له أن سعيدا مر في أثناء نومه فعاد إلى الكوفة بأسرع من لمح البصر فبحث في ساحتها وسار إلى بيت سعيد فتحقق أنه لم يأت بعد فرجع إلى الشجرة وقضى معظم النهار تحتها أو حولها كأنه على جمر الغضا. وهو مع ذلك صابر لا يتذمر ولا يتضجر حتى غابت الشمس وطلع القمر. فقال في نفسه لم يبق إلا هذه الليلة فإذا لم يصل الرجل لم يبق ثمت حاجة إلى بقائي إذ يكون قد نفذ السهم وقتل علي. فازداد اضطرابه وتمنى أن لا يأتي سعيد فيتخلص هو من تدبير الحيل في أخذه إلى قطام وهو مع ذلك لا يرجو ذهابه معه لقرب ميعاد القتل.
ولم يدن العشاء حتى رأى جملين قادمين عن بعد وعليهما راكبان فاختلج قلبه واصطكت ركبتاه وزاده البرد ارتعاشا. فلما اقتبربا وقف وتقدم نحوهما فإذا هما سعيد وبلال عبد خولة وكانا ملثمين فعرف سعيدا من قيافته وأما بلال فلم يعرفه.
الفصل السادس والخمسون
ريحان وبلال
وكان سعيد قد قضى مسافة الطريق في قلق على الإمام وما صدق أنه أطل على الكوفة فانفرجت أزمته وعول أن يسير توا إلى منزل علي. فلما وصل إلى تلك الشجرة ترجل وترجل عبده على نية الاستراحة هنيهة ثم المسير. فاستقبله ريحان وسلم عليه فلما رآه سعيد استأنس به ورد السلام ثم قال له ما الذي جاء بك يا ريحان؟
قال «إن سيدتي منشغلة الخاطر لطول غيابك» وأشار إليه أن يدنو منه ليبث إليه ما اؤتمن عليه من السر. فدنا منه على انفراد وانشغل بلال بسياسة الجملين.
فقال ريحان «أن سيدتي قطاما تقرئك السلام وتقول لك لقد أطلت الغيبة عليها أنت وسيدي عبد الله».
فتنهد سعيد وقال «لا تذكر عبد الله فقد تركناه في مصر» قال ذلك وهو لا يريد أن يطارح العبد في مثل هذه الشؤون أنفة وترفعا فاكتفى بالسكوت فسكت ريحان عن سؤاله وهو يعلم أن عبد الله أغرق في جملة من أغرقهم عمرو بن العاص في النيل ولكنه قال «وماذا أقل الآن لسيدتي هل أنت قادم للمبيت عندنا الليلة فإنها قد أعدت لك كل وسائل الراحة».
فلبث سعيد برهة تتنازعه عوامل الشوق إلى قطام وبواعث العجلة إلى علي فرأى أن ميعاد القتل قد آن فإذا بات تلك الليلة في منزل قطام تمتع برؤيتها ويشف سماعه بحلو حديثها أصبح في الغد وقد قتل علي لأن المؤامر لا يتأخر عن فعلته إلى ما بعد صباح السابع عشر فقال «إذا ذهبت إليها الليلة أراها برهة ثم أسير إلى علي» قال ذلك والتفت إلى بلال فرآه مهتما في إعداد العشاء فناداه باسمه فجاء فلما سمع ريحان اسم بلال اختلج قلبه فى صدره ولما دنا منه وتفرس فيه عرف أنه عبد خولة وكان قد لقيه في الفسطاط وباح له بمهمته ولم يكن يخطر بباله يومئذ أنه سيأتي مع سعيد فارتبك في امره وحاول إخفاء حاله لئلا يراه بلال فيعرفه. أما بلال فلما دعاه سعيد أسرع إلى ما بين يديه فقال سعيد «ألا ترى أن نسير توا إلى الكوفة».
قال بلال «الأمر لمولاي ولكنني أعددت لك طعاما ألا تتناوله ونستريح هنيهة ثم نسير إلى حيث تشاء».
قال «ولكن بعض أهلي بعثوا في استقدامي للعشاء».
والتفت بلال إلى ريحان فرآه قد تقهقر إلى جزع الشجرة يتستر بظلها فلم ينتبه له وكان سعيد قد أنس ببلال في أثناء الطريق وأطلعه على حديث المؤامرة فاغتنم بلال تلك الخلوة فقال لسعيد «ألا ترى يا مولاي أن تتم مهمتنا التي جئنا بها من الفسطاط قبل كل شيء إني أخاف أن يكون ذهابنا إلى أهلك سببا في التأخير وهم ربما لا يعلمون الغرض الذي يدعونا إلى الإسراع وربما حدث لك بعد العشاء ما يؤخرك عن تلك المهمة أما إذا أنفذنا مهمتنا وأطلعنا الإمام على ما خبأه له أهل البغي تمضي إلى حيث تشاء هذا ما أراه والأمر لك. على أني قد أعددت لك الطعام الآن فإذا شئت أكلت ثم فعلت ما يتراءى لك».
فارتاح سعيد لهذا الرأي ولكنه أراد أن يخبر بلالا باطلاع ريحان على سر الأمر فقال له» ولا أخفي عليك أن هذا الهام (وأشار إلى ريحان) من جملة الساعين في ما نحن فيه».
فقال بلال «فهو يعذرنا إذا إذا رأى أننا نفضل المسير إلى منزل الإمام علي. تفضل الآن إلى المائدة وأنا أشتغل معه في تهيئة الجملين فإذا فرغت من الطعام سرنا جميعا».
الفصل السابع والخمسون
انكشاف الخديعة
قال ذلك وتحول نحو ريحان وكان ريحان واقفا بجانب الشجرة وهو يود أن لا يخاطبه أحد. وحدثته نفسه أن يرجع إلى الكوفة لئلا يراه بلال فينكشف أمره.
ولكنه ما لبث أن رأى بلالا يدنو منه ويكلمه فرد عليه بصوت منخفض وهو يتشاغل بإصلاح نعليه وشملته لا يرفع نظره إليه. فاستغرب بلال ذلك فتقدم إليه وناداه وقال «تعال يا أخي نمكث هنيهة ريثما يتناول مولاي طعامه ثم نسير معا».
فسكت ريحان ولم يجب ولكنه تظاهر بأنه أضاع عصاه وتحول للبحث عنها وبلال يتبعه ويعجب لما يبدو منه. فلما بعد ريحان عن ظل الشجرة بانت سحنته فتذكر بلال أنه يعرفه وفطن للحال أنه هو الذي أسر إليه بخبر مهمته إلى الفسطاط. فانتبه أن في الأمر خديعة وخصوصا لما رآه يحاول إخفاء وجهه. فتقدم إليه وأمسكه بيده وقال «تعال يا صاحبي نمكث هنا ريثما ينهض مولانا فنسير معا» فلم ير ريحان خيرا من أن يجتذب يده ويتظاهر بالغضب فتبعه بلال وهو يقول «يظهر أنك لم تعرفني يا صاح ألا تذكر أننا التقينا في الفسطاط».
فصاح ريحان «وأي فسطاط.. إني لا أعرف الفسطاط ولا أعرفك قبل الآن وليتني لم أعرفك فقد أضعت عصاي بسببك».
فسمع سعيد صياحه وكان قد جلس إلى الطعام فنظر إليهما عن بعد فرآهما يتحاوران فوقف ونادى عبد قطام قائلا «لا تغضب يا ريحان إن بلالا على دعوتنا».
فتهيأ لريحان غير السكوت والمجيء إليه لئلا تتأكد الشبهة عليه. ولكنه أصر على نكران ذهابه إلى مصر.
فلما دنا من سعيد قال له «ما بالك تخاصم بلالا».
قال «إني لا أخاصمه ولكنني أضعت عصاي وفيما أنا أبحث عنها جاءني بحديث لا أعرف له أصلا».
قال سعيد «وما ذلك يا بلال وما الذي قلته له».
قال «لم أق له شيئا ولكني تذكرت أني رأيته في الفسطاط منذ بضعة عشر يوما وهو ينكر ذلك كل الإنكار».
فلما سمع سعيد ذلك استغربه وقال «يحق له أن ينكر عليك ذلك لأنه لم يبرح الكوفة منذ شهر».
فأعاد بلال النظر إلى ريحان وتفرس في وجهه وقال «بل أنا على يقين مما أقول وقد لقيته هناك غير مرة ولكنه معذور في إنكاره لأن وجوده هناك عاد بأشر العواقب على سيدى ورفيقه ».
فبغت سعيد وكانت اللقمة في فيه فلم يعد يستطيع ازدرادها وكان يغص بريقه ووقف للحال وقال «ما تقول يا بلال أظنك تخلط في القول أن ريحان عبد قطام بنت شحنة وقد تركته هنا يوم سفري وأنا واثق بأنه لم يبرح الكوفة ولعل الذي رأيته في الفسطاط عبد آخر يشبهه».
الفصل الثامن والخمسون
يحاول عبثا
فلما سمع ريحان ما التمسه سعيد من العذر عنه اطمأن باله وقال بصوت هادئ «يظهر أنه غلطان كما قلت لأن البشر يتشابهون ولكنه سامحه الله جاءني مغضبا وأنا أفتش عن عصاي فأغاظني حتى سمع مني كلاما مؤلما فأنا أطلب إليه أن يعذرني على ما فرط مني» والتفت إلى بلال وهو يبتسم إيهاما بسلامة نيته.
أما بلال فكان في أثناء ذلك ينظر إلى ريحان ولا يزداد إلا اعتقادا بأنه هو الرجل الذي خاطبه في الفسطاط ونادته سيدته خولة في أثناء خطابه وقص عليها خبره كما مر. فلما آنس منه ذلك اللين ظل يتفرس فيه وهو صامت فلما أتم ريحان كلامه قال له بلال «ربما كنت مخطئا في ظني ولكني أسألك سؤالا أرجو أن تجيبني عليه».
قال «قل ما بدا لك».
قال «ألا تذكر أنك رأيت هذا الوجه» (وأشار إلى وجهه هو).
فتفرس فيه ريحان وهو يظنه يقول ذلك بسذاجة ثم قال «لا يا أخي لا أذكر أني رأيتك قبل الآن».
فقال «يا للعجب ولكنني واثق بأني لقيتك وخاطبتك فرأيت هذا الوجه وسمعت هذا الصوت. فالظاهر أنك سرت إلى الفسطاط قبل هذا العام».
قال «نعم إني سرت إليها منذ بضعة أعوام».
فضحك بلال وقال «ولكنك قلت الآن أنك لا تعرفها».
فارتبك ريحان في نفسه وعمد إلى المغالطة فقال «دعنا من هذه الأوهام ولا تشغل بالنا بما لا طائل تحته».
وكان سعيد في أثناء ذلك يسمع كلامهما والإخلاص لا يزال غالبا عليه.
أما بلال فخاف أن يترتب غلى سكوته ذهاب سعيد مع ريحان فقال لريحان «إذا كان الحال على ما تقول فعليك أن تساعدنا في إنفاذ المهمة التي نحن قادمون بها دعنا نذهب إلى منزل الإمام الآن».
قال «إننا أكثر رغبة منك في هذا السبيل ولكن الليل طويل فإذا ذهب معي مولاي إلى سيدتي قطام فتراه ثم يذهب إلى حيث شاء كان ذلك أوفق».
قال «فليذهب هو معك وأنا أمضي إلى منزل الإمام بالنيابة عنه».
فضاق ريحان ذرعا وظهرت البغتة على وجهه ولم ير له مخرجا من ذلك غير التظاهر بالغضب فقال «ولماذا هذه الظنون ألعلك تسيء الظن بنا ونحن أولى منك بهذا الأمر».
فتحقق بلال حينئذ أن ظنه في محله فقال «نعم إني أظن السوء بك وبسيدتك بعد هذا».
فخاف ريحان أن يفضي الأمر إلى انكشاف أمره فتظاهر بالغضب وقال «إني لأعجب من هذا الأحمق ونظهر أن مولاي صار على وقاحته فأنا ذاهب منذ الآن وافعلا ما تشاآن».
قال ذلك وتحول يعدو نحو الكوفة وظل سعيد وبلال صامتين كأن على رأسيهما الطير.
الفصل التاسع والخمسون
انقشاع الغشاوة
مضى ريحان وهما ينظران إليه لا يفوه أحدهما بكلمة. فلما توارى قال سعيد «ما الذي أراه يا بلال إني أحسب نفسي في حلم؟ ما الذي تقوله عن هذا العبد هل أنت متحقق أنك رأيته في الفسطاط؟»
قال «نعم يا مولاي إني شديد الوثوق بذلك وقد زادني وثوقا تناقض أقواله وتستره بعد ما اقترحته عليه».
قال «فلو كان قدم الفسطاط ما الذي يدعوه إلى التستر».
قال «يدعوه إلى التستر ما ارتكبه من الخيانة هناك. آه من هذا النذل يا ليتني قبضت عليه وأهرقت دمه قبل فراره من بين يدي. إنه وشى بكما لعمرو بن العاص».
فبغت سعيد وبدأت الغشاوة تنحسر عن بصيرته وتذكر ما قصته خولة عليه من حديث عبدها مع عبد آخر وشى بهما إلى ابن العاص. وإنه استغرب يومئذ أن يتصل خبرهما إلى الفسطاط وهما إنما قدما إليها سرا لا يعلم بهما أحد غير قطام ولبابة وهذا العبد. فانجلت لديه الواقعة وخطر له أن ريحان لا يسير إلى الفسطاط إلا بإيعاز سيدته وتذكر ما كان يؤانسه في ابن عمه عبد الله من الشك في قول قطام فندم على استسلامه لها وعض على سبابته وظل واقفا لا يبدي حراكا وبلال واقف بين يديه صامتا. ثم قال سعيد آه يا بلال نورك بخولة ونورك بلبن رضعته إنها والله كانت ملاكا سماويا بعثه الله لكشف تلك الخديعة. ولكن يا ويلاه قد نفدت حيلة قطام على عبد الله فمات غريقا .... ولكنها لن تنفد على الإمام علي فأحمد الله على انكشاف أمرها قبل انقضاء أجل المؤامرة.
ثم صمت وتذكر حبه قطاما وما بذله لها من الإخلاص وما أجرته عليه من الحيل فعظم الأمر لديه وأمست عواطفه تتراوح بين ما انغرس في قلبه من الحب وما انكشف له من الخديعة فلم يتمالك عن البكاء. ولكنه خجل أن يذرف الدمع بين يدي بلال فأشار إليه أن يهيئ الجمال وحول وجهه إلى الخلاء ومشى وقد أطلق لنفسه عنان البكاء وهاج به الأسف لما أصاب ابن عمه عبد الله من البلاء بسببه فجعل يندبه ويندب سوء حظه ويقول: «تبا لك يا قطام. أصحيح أنك أنفذت عبدك للوشاية بنا إلى ابن العاص ليقتلنا .... أين عهودك وأين وعودك أين ما سمعته منك من الرجوع عن قتل الإمام علي ... وا أسفاه عليك يا أخي وحبيبي عبد الله إنك ذهبت ضحية جهالتي ودهاء هذه المرأة.. آه يا قطام .... هل يوجد في الدنيا أناس قساة القلوب إلى هذا الحد (قتل الإنسان ما أكفره) أتسمحين بقتل محب استهلك في سبيل هواك وتقتلين بريئا حملته غيرته على السعي في إنقاذ أمير المؤمنين .... وتسمحين مع ذلك بقتل أمير المؤمنين وأنت تنظرين ... .... «آه لا يسمح لي الوقت أن أسير إليك فانتقم منك قبل الذهاب إلى الإمام ....»
ثم وقف بغتة وانتبه لنفسه كأنه أفاق من رقاد ونظر على ما حوله فإذا هو في ليلة مقمرة صفا هواؤها ورق نسيمها فجعل يراجع ما مر به من الأحوال والأهوال وتذكر حبه قطاما فغلب عليه حسن الظن بها فقال في نفسه «ولعل قطاما بريئة وربما كان ريحان صادقا وبلال مخطئا» فلما تصور ذلك انبسطت نفسه والمحب الغيور كثير الظنون إلا في ما يأول إلى الإضرار في حبيبه. على أنه ما لبث أن تدبر القرائن والحوادث حتى رجح التهمة.
وفيما هو يناجي نفسه التفت فرأى بلالا قد أعد الجملين وهم بالقدوم إليه فمسح دموعه وتحول نحوه وهو يقول في نفسه «لقد نفدت حيلتك في أخي عبد الله ولكنها لن تنفد في الإمام علي. ها أنني سائر الساعة إلى بيته وسأستعين به على قتلك وقتل تلك العجوز المحتالة وذلك العبد الشرير ....»
قال ذلك وركب جمله وركب بلال في أثره وسارا يلتمسان منزل الإمام علي.
الفصل الستون
منزل الإمام علي
وكان منزل الإمام علي بجانب المسجد بينهما باب السدة يدخل منه الإمام للصلاة. وكان للمنزل دار واسعة فيها المقاعد والمجالس لمن يفد عليه من العمال وأهل الأمصار. وبجوار المنزل ساحة واسعة فيها مرابط للخيل ومواقف للجماعات لا تبرح غاصة بجماهير الناس من دعاة الإمام وكلهم مستهلكون في نصرته معترفون بإمامته لا يرون أحدا أولى بها منه. وكان أهل العراق وغيرهم قد اجمعوا في تلك السنة على نصرته فبايعه منهم أربعون ألفا على الموت.
1
ولعله كان ينتظر الفراغ من صيام رمضان ليحمل على معاوية بذلك الجند العظيم لا يغتر بمثل ما مر به من الحيل في صفين وغيرها بعد أن رأى ما آل إليه ذلك من تأييد سلطان معاوية.
وكانت إذا دخلت مجلس الإمام في تلك الأثناء رأيت رؤساء القبائل يترددون عليه ولا حديث لهم إلا ما كان من اجتماع كلمتهم وما يتوقعونه من النصر وما يرجونه من إحقاق الحق وكبح جماح الطامحين للخلافة من غير أهل البيت.
ذلك كان شأن الكوفة في ذلك الشهر المبارك أما علي فلم يكن يشغله عن فروض الصوم والصلاة شاغل فإذا دبت الساعة وأذن المؤذنون تكاثف الناس في صحن المسجد لسماع كلامه بما فطر عليه من البلاغة وشدة الغيرة على الإسلام والمسلمين.
فإذا وقف على المنبر رأيت الناس سكوتا كأن على رؤوسهم الطير إعجابا بما يسمعونه من درر ألفاظه وبديع حكمه وبليغ آياته وهم يعجبون لما قام في أنفس المعارضين ممن تخلفوا عن بيعته وخصوصا الخوارج الذين اختلقوا لمعاداته أسبابا ما أنزل الله بها من سلطان.
فإذا فرغ من صلاة الغروب تحول إلى داره ومعه جماعة من الأمراء يتقدمهم أولاده وسائر أهله فيجلسون إلى الأسمطة للإفطار والقراء يتلون القرآن في جوانب الدار والكل يسبحون ويهللون حتى يخيل لك أنهم في موقف يتوقعون فيه الحساب.
وما فيهم من يخاف عقابا لما يعتقدونه من صدق دعوتهم وقيامهم بالحق المبين.
وكان الإمام إذا فرغ الناس من الإفطار وجلسوا للأحاديث رأيته أقلهم كلاما وأقصرهم عن التهديد وربما مكث ساعة أو بضع ساعات لا ينبس ببنت شفة كأنه يفكر في أمر ذي بال وربما كان تفكيره في ما يخشاه من سفك الدماء إذا حمل برجاله على الشام ونفوس الناس وديعة عنده يضن بها أن تذهب ضياعا ولا يضن بها أصحابها في سبيل نصرته.
الفصل الحادي والستون
ضمير ابن ملجم
كان ذلك شأنه خصوصا في أواسط رمضان وعلى الأخص في ليلة السابع عشر منه وهي الليلة التي بات فيها ابن ملجم يترقب انبلاج الصبح ليفتك بابن أبي طالب.
وفي تلك الليلة أسرع سعيد وعبده إلى منزل الإمام لينبئاه بعزم ذلك الرجل.
وما ظنك بابن ملجم تلك الليلة ... هل تظنه بات ساكن الجأش مطمئن الخاطر .... هل عرف الكرى جفاه .... كلا. لا نخاله قضى ليلته إلا قلقا مضطربا لهول ما عول عليه من الأمر العظيم. وما أعظم من أن يسفك دما بريئا دم رجل جمع إلى كرامة الخلافة شرف النسب وأحرز من العلم ما لم يحرزه أحد من المسلمين في ذلك العهد؟ أليس هو ابن عم الرسول وخليفته وصهره. أليس هو ذلك العالم التقي العادل المخلص الغيور على الإسلام والمسلمين؟ لا نظن ابن ملجم والحالة هذه قضى ليلته إلا على شوك القتاد لم يغمض له جفن وقد طال ليله. وربما حدثته نفسه بالرجوع عن عزمه فغلب عليه عهده لرفقائه وتعهده لخطيبته قطام بنت شحنة وخصوصا بعد أن أشركت معه في ذلك الفعل ابن عم لها يقال له وردان حرضته على الأخذ بناصره. ولقي هو رجلا من أشجع يقال له شبيب استحثه على ركوب ذلك المركب الخشن معه. فتواعد الثلاثة على العمل معا في فجر الغد. فهل تظنه بعد تلك العهود والمواثيق يصغى لنداء ضميره إذا كان له ضمير. ولو أصغى لما ارتكب ذلك المنكر.
على أنك لو سبرت غور قلبه في تلك الليلة وهو يتقلب في فراشه وسيفه المسموم على جنبه لرأيته يناجي نفسه ويدفع تبكيت ضميره بحجة أنه إنما عمد إلى ذلك دفعا لفتنة كان سببها تنازع علي ومعاوية وعمرو على السلطة والفتنة شر من القتل.
وكأن نفس الإمام علي حدثته نحو ذلك الزمن بخطر يتوقعه على حياته. فكان مذ دخل رمضان يتعشى ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند جعفر لا يزيد على ثلاث لقم ثم يقول «أحب أن يأتيني أمر الله وأنا خميص»
1
وأما في تلك الليلة فإنهم تعشوا جميعا في منزل الإمام وهو جالس على المائدة لا يأكل إلا قليلا وأولاده بين يديه ينظرون إليه ويعجبون لحاله.
وكان حاجبه قنبر رجلا من أهل الحبشة كهلا إذا نام علي بات عند بابه وكان في تلك الليلة أشد الجميع قلقا لم يتناول الإفطار ولا هدأ له بال. أكل الناس وهو جالس القرفصاء عند الباب وعيناه شاخصتان إلى الفضاء كأنه يتوقع قدوم قادم وهو لا يكلم أحدا ولا انتبه أحد لحاله ولو سأله بعضهم عن سبب قلقه لباح له بما اطلع عليه من الأسرار التي ظن نفسه اكتشفها وهم يبحثون عنها عبثا.
وبعد صلاة العشاء انفض المجلس فذهب كل إلى منزله. وناموا جميعا إلا قنبر فإنه لبث ساهرا وقد أخذ الاضطراب والقلق منه مأخذا عظيما. وما جلس للحراسة وهو يعلم أن الإمام لا يلتمس حرسا يحرسه
2
ولكنه جلس يفكر في أمر أذهب رقاده وألقاه في حيرة.
الفصل الثاني والستون
فخ جديد
أما سعيد وبلال فإنهما دخلا الكوفة وأسرعا يلتمسان دار الإمام علي وكان القمر بدرا (أو حوالي البدر) وقد تكبد السماء فأرسل أشعته على أمسية الكوفة وقد انقشعت الغيوم عن السماء على غير المعتاد في ذلك الفصل. فلما دخلا الكوفة رأياها ساكنة هادئة لانقضاء ميقات السهر. قد نام الناس وهو يتوقعون آذان السحر لينهضوا للسحور.
سار سعيد وهو يستحث جمله وقلبه يرقص طربا لما يتوقعه من نجاح مهمته وقد شكر الله لإطلاعه على حيلة قطام وفوات الوقت. فلما دنا من المسجد ترجل وقال لبلال خذ الجمل وسر به إلى ساحة الكوفة وامكث حتى آتيك.
فلم يسع بلالا غير الطاعة فتحول نحو الساحة. ومشى سعيد على قدميه وركبتاه تصطكان من شدة الاضطراب. وما صدق أنه أقبل على دار الإمام ولكنه رأى السكون سائدا عليها. فوقف هنيهة يفكر في السبيل الذي يدخل به الدار وأهلها نيام فلبث برهة يتردد وهو يخاف أن يستغشه أحد لقدومه في ذلك الوقت وهو لم يدخل تلك الدار من قبل ولا لقي الإمام عليا لقاء أهل الولاء. ولكنه لم ير بدا من الإقدام فمشى بخطوات المتردد حتى دنا من باب الدار فرأى شيخا جالسا لم يعرفه ولكنه سر به لعلمه أنه لا يخلو أن يكون من بعض رجال علي فيساعده في مهمته. على أنه لم يكد يقبل عليه حتى وقف ذلك الشيخ بغتة وتقدم نحوه وهو يقول «من القادم».
فقال سعيد وهو يتلجلج بكلامه «إني رسول إلى الإمام علي. ومن أنت؟»
قال «إني قنبر حاجب الإمام علي ومن أنت».
قال «إني سعيد الأموي أريد مقابلة الإمام علي».
فصاح قنبر قائلا «أأنت سعيد عالى معي..».
فسر سعيد لسرعة الإجابة ومشى في اثر قنبر حتى دخلا باب الدار وتحولا إلى حجرة فيها مصباح فدخل قنبر أولا وأيقظ اثنين كانا نائمين هناك وسعيد يتبعه بسذاجة ولم يكد يدخل الحجرة حتى رأى الرجلين قد أطبقا عليه وقيدا يديه ورجليه وهو واقف لا يبدي حراكا من شدة البغتة فلما رآهما يغلانه وقنبر واقف وقد تغيرت سحنته قال له «ما الذي تفعله ما هذه الوقاحة أين الإمام علي».
قال «لقد كذب فألك أيها الوغد اللئيم إنك لن ترى عليا حتى ترى الموت قبله».
فبغت سعيد وهو لا يعلم سببا لذلك العمل فقال «ما بالكم تستغشونني وقد جئتكم في مهمة أنقذ بها الإمام علي من القتل».
قال «اخسأ ولا تطل الكلام إنك أموي وتطلب أن ترى الإمام لقتله أتظن قتله أمرا هينا».
فقال «وكيف أريد قتله وأنا إنما جئت لإنقاذه من القتل».
فأمسكه قنبر بيده ويداه ترتعدان من شدة التأثر وقال له «أتظن حيلتك تنطلي علينا؟ أما كفى بني أمية ما فعلوه حتى جئتم تقتلون الإمام في منزله».
فبهت سعيد وقد جمد الدم في عروقه وقال «ما بالكم تسيئون بي الظن وأنتم لم تروا مني خيرا ولا شرا ألا تسمعون قولي ثم ترون رأيكم».
فقال قنبر «وما الذي نسمعه من قولك وأنت أموي وقد تعهدت بقتل الإمام علي مهرا لفتاة خطبتها من أهلها على هذا الشرط».
فانذهل سعيد وأراد أن يدافع عن نفسه فرأى قنبر يستخرج من جيبه رقا فلما استخرجه دفعه إلى سعيد وجذبه بيده إلى المصباح وهو يقول له «اقرأ.. أليس هذا خطك؟»
فلما وقع نظر سعيد على الرق علم أنه الصك الذي كتبه لقطام يوم خطبها فأيقن أن قطاما هي التي أرسلت هذا الرق إلى دار الإمام لتوقع به. ورآها لفرط حيلتها قد محت اسمها عنه ووقعت اسم فتاة أخرى فصمت ولم يجب.
فاتخذ قنبر من سكوته حجة عليه فصاح فيه «أجب قل.. أليس هذا خطك؟»
فارتبك سعيد في أمره ولكنه مازال يرجو التخلص بما يحمله من النبأ الأكيد عن مكيدة ابن ملجم فقال له «هب أنه خطي ولكنني جئتكم بخبر المكيدة التي كادها بعض الناس على الإمام ألا تمهلوني ريثما أخبركم».
فلم يصبر قنبر على سماع كلامه وصاح فيه قائلا «وأي مكيدة أعظم من أن تتعهد بقتل الإمام ... امكث هنا الليلة وغدا لناظره قريب».
قال ذلك وخرج وأغلق الباب عليه.
الفصل الثالث والستون
بلال
فلما خلا سعيد في تلك الحجرة ظن نفسه في منام وجعل يفكر في أمره وفي دهاء قطام وكيف أوصلت هذه الورقة إلى هذا الرجل لإتمام حيلتها ولكنه لم يكترث بما عامله به قنبر وعول على مقابلة الإمام في الصباح باكرا وإطلاعه على سر الأمر.
وأما إيصال ذلك الصك إلى قنبر فإنما سعت فيه لبابة المحتالة بإشارة قطام بعد أن تداولتا في إتمام الحيلة مخافة أن يطلع سعيد على مكيدتها قبل وصوله إليها أو أن يذهب إلى منزل الإمام قبل المرور بها. فاستخرجت ذلك الصك وغيرت فيه ألفاظا رفعت بها الشبهة عنها وكلفت لبابة فأتت منزل قنبر في صباح ذلك اليوم بدعوى أنها دلالة تبيع الأقمشة وألقت إلى قنبر حديثا لفقته بحيث تثبت الشبهة على سعيد فلا يصغي أحد إلى كلامه. وكان أنصار علي قد سمعوا طنينا عن عزم بعض الناس قتل الإمام. فلما رأى قنبر الصك وعلم أن صاحبه أموي ربي في بيت عثمان وقام بنصرته لم يبق عنده شك بتهمته وخصوصا بعد أن رآه قادما قدوم اللص بعد منتصف الليل. فلما قبض عليه حبسه في تلك الحجرة إلى صباح الغد ليرى رأي الإمام به بعد أن يعود من صلاة السحر. وما علم ما خبأته الأقدار للإمام قبل إتمام تلك الصلاة.
أما بلال فإنه مكث بالجملين في ساحة الكوفة ينتظر قدوم سعيد. فلما أبطأ عليه انشغل باله ولكنه لم يظن سوءا لما يعلمه من سلامة نية سعيد. وفيما هو جالس يفكر في ذلك سمع آذان السحر فعلم أن عليا يخرج في تلك الساعة للصلاة فهرول نحو المسجد وهو على مقربة منه فدخله فرأى فيه قبة مضروبة علم أنها قبة بعض النساء ممن يجلسن لسماع الصلاة. فوقف وعيناه شائعتان لعله يرى سعيدا. فإذا برجال دخلوا وفيهم رجل ملثم وقد التف بعباءة يخفي تحتها سيفا فتفرس فيه عن بعد فرأى على وجهه أثر السجود فعلم أنه ابن ملجم
1
فارتعدت فرائصه وحدثته نفسه أن يصيح به ولكنه خاف على نفسه وهو لا يشك مع ذلك أن عليا اطلع على مكيدته ولا يلبث أن يدخل المسجد حتى يأمر بالقبض عليه ثم رأى ابن ملجم مشى ومعه رجل آخر هو شبيب نحو تلك القبة فكلما من فيها وكان فيها قطام بنت شحنة.
2
ثم مشى ابن ملجم حتى اقترب من السدة وبلال يراقبه بنظره ويتوقع سماع الأمر بالقبض عليه حالما يدخل علي.
وبعد هنيهة فتح باب السدة ودخل منها علي يمشي الهويناء وعمامته على رأسه تغطي صلعته وكان ذا بطن ولحية كثيرة الشعر ضخم العضل
3
وفي يده درة (سوط) كان يوقظ الناس بها للصلاة كل صباح. فمشى الإمام وابن النباح المؤذن بين يديه والحسن بن علي من خلفه. فلما دخل أنصت الناس وبلال ينظر إليه ولا يشك في أنه سينادي من يقبض على ابن ملجم. فإذا به قد وقف ونادي «أيها الناس الصلاة الصلاة».
الفصل الرابع والستون
مقتل الإمام
والتفت بلال إلى ابن ملجم فإذا هو لا يزال واقفا لكن رفيقه (شبيب) تقدم مسرعا وسيفه بيده ضرب به الإمام عليا فأصاب عضادة الباب وسقط السيف من يده فأجفل بلال وهم أن يسرع إلى علي يخبره بأمر ابن ملجم فإذا ابن ملجم قد أقبل على علي بأسرع من لمح البصر والسيف يبرق بين يده وضربه على جبهته وهو يقول «الحكم لله يا علي وليس لك ولأصحابك».
فصاح علي «فزت ورب الكعبة»ثم قال «لا يفوتنكم الرجل».
فتكاثف الناس على ابن ملجم فدفعهم بسيفه ففرجوا عنه فهجم عليه المغيرة بن شعبة وتلقاه بقطيفة فرماها عليه واحتمله وضرب به الأرض وقعد على صدره وانتزع السيف منه وإما شبيب فأفلت في الغلس وخرج من باب كندة.
وانفرط عقد الناس ونظر بلال إلى القبة المضروبة فرأى امرأة خرجت من تحتها وإذا هي قطام أسرعت وفرت في غمار الناس. فانذهل لما رآه ولكنه رجا أن لا تكون الضربة قاضية ثم تذكر أن سيف ابن ملجم مسموم فيئس من حياة الإمام.
وجعل يتفرس في الناس لعله يرى سعيدا فلم يقف له على أثر فتقدم في جملة من تقدم إلى السدة حيث كان علي مطروحا فإذا هو يقول «أحضروا الرجل عندي» فأحضروه فقال له علي «أي عدو الله ألم أحسن إليك».
قال «بلى».
فقال «فما حملك على هذا».
قال «شحذت سيفي هذا أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شر خلقه».
قال علي «لا أراك إلا مقتولا به ولا أراك إلا شر خلق الله» ثم التفت إلى من حوله وقال«النفس بالنفس إن هلكت فاقتلوه كما قتلني وإن بقيت رأيت فيه رأيي».
يا بني عبد المطلب لا ألفيتكم تخوضون دماء المسلمين تقولون قد قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن إلا قاتلي. انظر يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه ضربة بضربة ولا تمثلن بالرجل فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول «إياكم والمثلة ولو بالكلب عقور».
قال ذلك وابن ملجم مكتوف وكانت أم كلثوم ابنة علي واقفة بجانب أبيها فقالت لابن ملجم «أي عدو الله لا بأس على أبي والله مخزيك».
قال «على من تبكين والله إن سيفي اشتريته بألف وسممته بألف ولو كانت هذه الضربة بأهل مصر ما بقي منهم أحد».
ثم تقدم جندب بن عبد الله إلى علي وقال «إن فقدناك ولا نفقدك فنبايع الحسن».
قال علي «ما آمركم ولا أنهاكم أنتم أبصر».
الفصل الخامس والستون
لات ساعة مندم
ولما علم الناس أن سيف ابن ملجم مسموم تحققوا من دنو الأجل وخافوا الفتنة في من يخلف الإمام. فسأله جندب بن عبد الله ما سأله عمن يخلفه فأجابه علي بأنه لا يأمرهم ولا ينهاهم كما تقدم.
ثم نقلوه إلى داره ماشيا وهو يتوكأ على ولديه الحسن والحسين والدم يغشى جبينه وكان السم لم يفعل فعله بعد.
أما ابن ملجم فكان لثامه قد وقع عن وجهه وبانت سحنته وكان أسمر أبلج في جبهته أثر السجود
1
فساقوه إلى السجن ولو لم يوص أمير المؤمنين بأن لا يقتلوه إلا إذا مات هو إثر الضربة لقطعوه إربا إربا. ولكنهم اضطروا امتثالا لأمر الإمام أن يسوقوه إلى السجن ريثما تظهر لهم عاقبة ذلك الجرح.
أما بلال فإنه سار في إثر الجمع إلى منزل الإمام علي وقد تولته الدهشة لهول ما رآه في تلك الساعة ومما زاد أسفه وضاعف حزنه ما أصابه من الفشل بحبوط مسعاه ومسعى سيدته لأنه إنما كان يود نجاة الإمام من تلك المؤامرة إكراما لمولاته خولة وخصوصا بعد أن صحب عبد الله وسمع منه في أثناء الطريق ما حدثه به جده أبو رحاب من فضائل الإمام علي يتندر اجتماعها في رجل. وقد وردت في كلام أبي رحاب.
على أنه كان مع ذلك في شاغل عما كان فيه الناس بالغوغاء والانهماك بأمر الإمام وجرحه والتفكر بسعيد وحاله وقد عجب لفشل مهمته مع علمه أنه إنما أسرع بعد طول شقة السفر والسعي في منتصف الليل لينبئ القوم بذلك الخطر. فمشى بلال وهو يتفرس في الناس واحدا واحدا لعله يرى سعيد بينهم فلم يقف له على أثر. على أنه ما لبث أن رأى الجمع دخلوا المنزل وأدخلوا الإمام محمولا إلى غرفته وتفرق الباقون في صحن الدار جماعات تتحدث كل جماعة منهم بحديث ذلك الصباح ومدار أبحاثهم ما أصاب الإسلام في تلك الساعة مما لم يكن في الحسبان وما فيهم إلا من يقول «ليتني أشفي غليلي بضربة في عنق ذلك الباغي».
وفيما هو ينظر في وجوه الناس لعله يرى سعيدا إذا بقنبر حاجب الإمام علي قد خرج من الغرفة والدمع ملء عينيه وهو يقول «اقتلوني أيها المسلمون اقتلوني إني جنيت على أمير المؤمنين».
فنهض الناس والتفتوا إليه وهم لا يفهمون مراده فإذا به قد اخترق الجمع ومشى إلى الحجرة التي كان سعيد مسجونا فيها وفتحها وأخرج سعيدا منها وهو لا يزال مغلولا.
الفصل السادس والستون
الوصية
وكان سعيد لا يزال في تلك الحجرة وقد أقفلوها عليه ولم يدر ما أصاب الإمام عليا. فلما أخرجه قنبر على تلك الصورة ورأى الجمع متكاثفا هناك ظنه يريد به سوءا. فقال أروني الإمام عليا فأطلعه على دسيسة دبرها له أهل البغي ولا تظنوا بي سوءا.
فعلا صوت قنبر بالبكاء وقال «لقد نفذ السهم يا سعيد إنهم فتكوا بأمير المؤمنين».
فصاح سعيد «ومن فتك به».
قال «إن ابن ملجم ضربه ضربة قاتلة قتله الله».
فصاح سعيد «ويلاه واحسرتاه كيف يقتله وقد قطعت البراري والقفار سعيا في تلافي ذلك المصاب.. ألم أقل لك ذلك يا قنبر».
قال «إنك لم تفصح المقال وقد نفذ السهم وجرح الإمام جرحا لا أظنه ينجو منه ولو أصغيت لمقالك لنجا أمير المؤمنين ولكن وقع القضاء ولا مرد لقضاء الله».
ولم يتم قنبر كلامه حتى بكى سعيد وبكى الناس وعلا الصياح وهم مبهوتون ينظرون إلى قنبر يتوقعون منه تفصيلا.
أما هو فاشتغل بحل قيود سعيد بيده وهو يقول «قاتل الله تلك العجوز المحتالة إنها أغرتي بك وقد نجحت حيلتها».
فهم سعيد أن يقص عليهم حديثه على أثر ما رآه من رغبتهم في ذلك وإذا ببعض الناس يقول «إن الإمام قد شعر بالراحة وهو يخاطب ابنيه الحسن والحسين».
فتحول الجمع إلى غرفته كالسيل واغتنم بلال تلك الفرصة فدنا من سعيد كأنه يستفهمه عن سبب ذلك الفشل. فقص عليه الخبر باختصار ووعده بإتمام الحديث في فرصة أخرى. وسار مع الجمع إلى غرفة الإمام فلم يستطع الدخول إليها لتزاحم الأقدام. فأطل من نافذة فرأى عليا متوسدا فراشه وهو معصوب الرأس بمنديل يغطي الجرح وكانوا قد غسلوا الدم عن وجهه ولكن آثاره مازالت ظاهرة على بعض لحيته.
فتذكر سعيد جده أبا رحاب وما أوصاه به فلم يتمالك عن البكاء على أنه ما لبث أن سمع عليا يتكلم فوجه إليه انتباهه فرآه يخاطب ولديه الحسن والحسين وهما جاثيان عند رأسه وإمارات الكآبة والحزن ظاهرة عليهما وهما يتجلدان تجلد الرجال وقد أصاغا بسمعهما وحولا أعينهما إلى وجه والدهما الجريح والناس سكوت وكلهم آذان يسمعون ما يتلوه الإمام من الآيات البينات وهي آخر خطبة ألقاها. فإذا هو يقول «أوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تبكيا على شيء زوى عنكما وقولا الحق وارحما اليتيم وأعينا الضائع واصنعا للأخرق وكونا للظالم خصيما وللمظلوم ناصرا واعملا بما في كتاب الله ولا تأخذكما في الله لومة لائم».
ثم نظر إلى محمد بن الحنفية فقال «هل حفظت ما أوصيت به أخويك».
قال «نعم».
قال «فإني أوصيك بمثله وأوصيك بتوقير أخويك العظيم حقهما عليك وتزين أمرهما ولا تقطع أمر دونهما» ثم قال «أوصيكما به فإنه شقيقكما وابن أبيكما وقد علمتما أن أباكما كان يحبه» وقال للحسن «أوصيك أي بني بتقوى الله وإقامة الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة عند محلها وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بطهور وأوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ وصلة الرحم والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتثبت في الأمر والتعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش».
1
الفصل السابع والستون
موت الإمام ومقتل ابن ملجم
وما أتم وصيته حتى تعب من الكلام وما عهدناه يتعب من أمثاله في الوعظ والخطب ساعات متوالية. ثم أمر بتلك الوصية فكتبت ودفعت إلى الحسن ولم ينطق الإمام بعد ذلك إلا بقوله «لا إله إلا الله» حتى مات
1
فعلا الضجيج وزاد العويل والبكاء. ثم غسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وكفن بثلاثة أثواب ودفن.
أما سعيد فلما تحقق وقوع المصاب بموت علي تذكر قطاما وخبثها وقال في نفسه والله لم يقتله إلا هي ولولاها لم يقتل أمير المؤمنين.
وفيما هو يفكر في ذلك ويبكي جاء قنبر فقبض على يده وجره فسار في أثره وهو لا يدري ما يريد منه. وسار بلال في أثرهما حتى دخلوا سجن ابن ملجم وكان مغلولا هناك. فلما دخلوا عليه هم سعيد بالكلام فقال قنبر تمهل لنرى ما يقول هذا القاتل.
فلما رآهم ابن ملجم قادمين عليه ظل جالسا ولم يعبأ بهم ولكنه خاطب قنبر قائلا «أظنك جئت تدعوني إلى القتل لأن صاحبكم مات».
قال «إلى ذلك جئت ولكني أسألك عن هذا الرجل هل تعرفه» (وأشار إلى سعيد).
فقال «كلا».
وكان قنبر قد أراد أن يتحقق براءة سعيد وقد شك في اشتراكه مع ابن ملجم في تلك المؤامرة. فقال له «ألم يكن لهذا الأموي شركة معك في القتل ».
فتبسم ابن ملجم وقال «إنه أضعف من أن يقدم على ذلك. إني لا أعرفه».
فقال بلال «ولكنك ألا تعرف قطاما بنت شحنة؟»
قال «أعرفها وهي خطيبتي ودم ابن أبي طالب مهر لها».
فلم يتمالك قنبر عن أن صاح فيه «اخسأ يا لئيم إنك ستلقى حتفك قريبا قم إلى الموت».
فوقف لساعته ومشى وهو لا يكترث بما يتهدده من الأجل العاجل.
أما سعيد فلما سمع قوله أن قطاما خطيبته خفق قلبه غيظا من تلك المرأة وقال في نفسه إني والله سآخذ بالثأر منها بيدي.
وكان الحسن هو الذي أمر بإحضار ابن ملجم ليقتله عملا بوصية أبيه فلما حضر بين يديه نظر إلى ما حوله فرأى الناس ينظرون إليه بأعين تلتهب حنقا وكل يود أن يقتله بيده فلم يعبأ ابن ملجم بما يراه ولم يصبر حتى يخاطبه أحد منهم فنظر إلى الحسن وقال «هل لك في خصلة إني والله قد أعطيت الله عهدا أن لا أعاهد عهدا إلا وفيت به وإني عاهدت الله عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية أو أموت دونهما فإن شئت خليت بيني وبينه. فلك عهد الله علي إن لم أقتله ثم بقيت أن آتيك حتى أضع يدي في يدك».
فقال له الحسن «لا والله حتى تعاين النار».
2
وكان الناس قد جاءوا بالنفط والبواري والنار وقالوا «نحرقه».
فقال عبد الله بن جعفر وحسين بن علي ومحمد بن الحنفية دعونا نشتف أنفسا منه. فقطع عبد الله بن جعفر يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم ثم كحل عينيه بمسمار محمي فلم يجزع وجعل يقول «إنك لتكحل عيني عمك بمكحول محمص». وجعل يقرأ «اقرأ بسم ربك الذي خلق» حتى أتى على آخر السورة وإن عينيه لتسيلان على خديه ثم أمر به فعولج على لسانه ليقطعه فجزع فقيل له «قطعنا يديك ورجليك وسملنا عينيك يا عدو الله فلم تجزع فلما صرنا إلى لسانك جزعت».
فقال «ما ذاك من جزع إلا أني أكره أن أكون في الدنيا فواقا لا أذكر الله». فقطعوا لسانه ثم جعلوه في قوصرة فأحرقوه بالنار.
3
الفصل الثامن والستون
سر جديد
ولما اشتم سعيد رائحة القثر المتصاعد عن بقايا ابن ملجم اشتفى غليله ولكنه مازال قوله «إن قطاما خطيبتي وإن قتل علي مهر لها» يرن في أذنه وازداد تعجبا من دهاء تلك المرأة واستغرب أن يكون في النساء واحدة في مثل ذلك الدهاء وتذكر ما مر له معها من الوعود وما ارتكبته في سبيل الانتقام لوالدها وأخيها من الجرائم وكم قتل بسببها من الرجال وعبد الله ابن عمه في جملتهم. فلما تصور ذلك كاد يتقد غيظا وظل برهة وهو غارق في مثل هذه الهواجس لا ينتبه لما دار حوله من الأحاديث ولا فقه لاشتغال الناس في مبايعة الحسن ولم ينتبه حتى ناداه بلال فقال «ألا تخرج بنا يا مولاي من هذا المكان إن لي كلاما أقوله لك».
قال «هيا بنا» وتحولا ولم ينتبه لهما أحد لاشتغال الناس بالمبايعة.
وعاد توا إلى ساحة الكوفة حيث تركا الجملين وسارا من هناك إلى منزل سعيد وكانا في أثناء الطريق يلتقيان بأهل الكوفة مسرعين زرافات ووحدانا إلى منزل الإمام علي على أثر ما سمعوه من مقتله وهما لا يكلمان أحدا.
وكان سعيد لم يدخل منزله منذ ذهب إلى الفسطاط فلم يجد فيه أحدا لأن الخدم ساروا في جملة من سار إلى منزل الإمام. وكان التعب قد أخذ منه مأخذا عظيما لطول ما قاساه من السهر والقلق بعد سفره الطويل. فدخل الدار من باب خصوصي كان مفتاحه معه وترك بلالا يهتم بالجملين. وبدل ثيابه وهو غارق في بحار الهواجس يفكر في ما رآه من الأهوال وما يتوقعه بعد موت الإمام علي من اختلاف الأحوال.
فلما فرغ من تبديل ثيابه توسد وسادة يلتمس الاستراحة وهو يفكر في ما يتوقع سماعه من بلال ولكن التعب تغلب عليه وغلب عليه النعاس فنام. ودخل بلال عليه فرآه نائما فتوسد مقعدا في غرفة أخرى وجعل يستعد لمكاشفة سعيد بما يجول في خاطره من الشؤون حتى نام.
الفصل التاسع والستون
خولة وابن ملجم
وظلا نائمين إلى الغروب فأفاق سعيد من صوت الخدم وهو يفتحون الباب بعد عودتهم إلى البيت وقد بغتوا لما رأو سيدهم هناك على غير انتظار.
أما هو فعذرهم لغيابهم ودعا بلالا فوقف بين يديه فدعاه للجلوس فاستأذن في إغلاق الباب والاختلاء فأمر بعض الخدم فأضاء له مصباحا وضعه على مسرجة وخرج فأغلق بلال باب الغرفة وجلس إلى سعيد والاهتمام باد على وجهه.
فقال سعيد «تكلم يا بلال ما بدا لك».
قال «أيأذن لي سيدي أن أساله أولا ما الذي دعا إلى فشل مهمته».
فتنهد سعيد وقال «إن السبب قديم يا بلال لم أكن لأقصه عليك لو لم أؤانس منك ما آنسته من الغيرة والشهامة».
قال بلال «ولم يكن من شأني أن أسألك عنه لو لم ألحظ من خلال الوقائع ما يشف عن حقيقة السر ولعلي إذا اطلعت على حقيقة الحال أن آتيك بخبر جديد».
قال «لا أخفي عنك بعد ذلك أن السبب في فشلي امرأة أظنك سمعت اسمها في هذا الصباح من فم ابن ملجم».
قال «أظنها قطام بنت شحنة».
قال «نعم هي قبحها الله من داهية محتالة. إنها كانت سببا في قتل ابن عمي وقتل الإمام وابن ملجم. ولا يخفى عليك أن قتل الإمام لا يقتصر شره على مجرد قتل النفس ولكننا نخاف منه الفتنة. ولا ريب أنها أرادت أيضا أن تقتلني بوسيلة دبرتها» وقص عليه حديثه مع قطام مختصرا من أول معرفته بها إلى تلك الساعة.
فلما فرغ من كلامه غض بلال على أنامله وتحرق ثم تنهد وسكت.
فقال سعيد «ما يخطر لك يا بلال وما الذي يدعوك إلى التنهد».
قال «يدعوني إليه ندمي على ما فاتني من القبض على هذه المرأة في صباح هذا اليوم لأني رأيتها في قبتها بالمسجد وقد مر بها ابن ملجم ورفيقه فكلماها قبل إقدامهما على تلك الفعلة الشنعاء ولكنني كنت أظن عليا وا لهفي عليه قد علم منك بما ينويه ابن ملجم فلا يترك له فرصة لارتكاب ذلك المنكر ... وقد رأيت بنت شحنة خارجة من المسجد بعد أن تحققت نيل بغيتها بقتل الإمام فيا ليتني قبضت عليها ... ولكن ما قدر فقد كان. وقد قتل الإمام وقتل قاتله والأمر في ذلك لله. على أنني إذا عشت فإني منتقم لك وللإسلام من هذه الفاجرة. ومن غريب الاتفاق أن ابن ملجم هذا كان قد خطب سيدتي خولة من والدها ولكنها لم تكن تحبه ولا ترضى به».
ولم يكن بلال عارفا باطلاع سعيد على ذلك الخبر من خولة فلم يشأ سعيد أن يعترف له به فتجاهل وظل صامتا ليسمع بقية الحديث.
فقال بلال «ولا شك أن سيدتي خولة إذا سمعت بمقتل هذا الغادر فرحت لتخلصها من شراكه».
فقال سعيد «وما الذي كان يحملها على القبول به ألم يكن لها أن ترفضه».
قال «كلا يا مولاي لأن سيدي والدها هو الذي أطمعه بها ووعده بزفافها إليه أما هي فقد تحققت من قرائن مختلفة أنها كانت مصممة على رفضه ولو مهما كلفها ذلك من العناء».
الفصل السبعون
قلب خولة
فتذكر سعيد حديث خولة وتمثلت له صورتها كالملاك وتذكر ما آنسه فيها من الحمية والأنفة والشهامة وما شعر به نحوها من الميل يوم لقيها في الفسطاط وهو لا يزال مخدوعا بمواعيد قطام ومشغولا بأمر الإمام علي فلم يترك لقلبه يومئذ مجالا للحب فلما سمع ذكرها الآن تجددت ذكراها في ذهنه فمال لسماع أخبارها فظل على تجاهله فقال «أو هل أنت متحقق أنها كانت مصممة على رفضه ولو أغضبت والدها».
قال «نعم إني واثق بما أقول وقد لحظت شيئا آخر ....» وسكت وهو يبتسم.
قال «وما هو».
قال «ألم تلحظه أنت».
قال «كلا وما هو. قل».
قال «لحظت أنك وقعت من نفسها موقعا عظيما. ولحظت أيضا أنك لم تجهل ذلك.»
قال «كيف عرفت أني لم أكن أجهله».
قال «عرفته مما رأيت من خروجها إليك غير مرة بالليل التماسا لنجاتك وهي تستجهلني ولا تنتبه لملاحظتي. ولكنك كنت منشغلا يومئذ بلهفتك على إنقاذ الإمام علي من مخالب الموت ....»
فعجب سعيد لما ظهر له من اطلاع بلال على سره وتذكر أنه شعر بشيء منه يوم كان في الفسطاط وأن انشغاله بلهفته على الإمام وخوفه عليه مع تعلقه بقطام وعهودها حال بينه وبين تمكين علائق المودة مع خولة. فلما سمع ما سمعه من بلال ساعتئذ أحب أن يستطلع جلية الخبر فقال له «افصح عما في نفسك إني لم أفهم مرادك».
فقال بلال «إن مرادي واضح مما ذكرته لك وأقول باختصار إن سيدتي أسرت إلي يوم أمرتني أن أسير في ركابك إننا إذا أتممنا مهمتنا بكشف دسيسة ابن ملجم وأنقذنا الإمام عليا أن أطلعك على رغبتها في عودك إلى الفسطاط لأنها تكون قد نجت من خطبة ابن ملجم وتكون أنت قد فرغت من مهمتك ولا أدري ما تنويه هي في رجوعك؟»
ففهم سعيد ما وراء ذلك فقال له «أما رجوعي إلى الفسطاط فلا يخلو من الخطر علي لأني إنما جئت منها فرارا من القتل. فإذا عدت إنما أعرض نفسي لما هو شر من القتل وابن العاص لا يعفو عني على أني أكره أن أرى الفسطاط بعد أن فقدت فيها ابن عمي رحمه الله ...» وسكت هنيهة وتنهد ثم قال «هل أنت واثق بميلها إلي فإني والحق يقال قد آنست في خولة من الحمية وعزة النفس مع الاستهلاك في نصرة الإمام ما جعل لها في نفسي مقاما رفيعا. ولا أكتمك ما خالج ضميري يومئذ من الميل إليها ولكني كنت عالق القلب بقطام أخزاها الله إنها خدعتني ...».
فقطع بلال الكلام عليه قائلا «هذه الخائنة يا مولاي إني والله أكره أن أسمع ذكرها لأني أشعر بقصوري وجهلي اللذين سببا نجاتها وهي والحق يقال أصل هذا الشر العظيم ... ولكنها انتقمت لوالدها وأخيها فارتكبت أعظم إثم حدث في الإسلام فقتلت ابن عم الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) ولكني سوف أذيقها حتفها وأسفك دمها ولو كلفني ذلك بذل النفس» قال ذلك وهو يحرق أسنانه حقا وأسفا.
فقال سعيد «وما ظنك بها الآن. هل هي باقية في الكوفة؟»
قال «لا أظنها تبقى هنا بعد ما ارتكبته وقد فضح أمرها وعلم الخاص والعام أنها شريكة في القتل».
قال «وإلى أين تظنها خرجت».
قال «لا أدري وسأبحث عن ذلك في صباح الغد أما الآن فلنعد إلى ما كنا فيه فإنك إذا لم ترجع معي إلى الفسطاط احسبني مقصرا بالواجب علي. وخولة يا مولاي يندر مثالها بين البنات جمالا وتعقلا وإنفة ولولا والدها وتشيعه لمعاوية لأتت بما لم يأته أعاظم الرجال. ولكنه كثير التشيع لابن أبي سفيان كما قد علمت وهو وسيدتي خولة يحسبانني ساذجا لا أفهم الأمور ولذلك فكثيرا ما كانا يختلفان أمامي ويختصمان على أمور استدل منها على ذلك».
الفصل الحادي والسبعون
حب جديد
فأحس سعيد بتجدد عواطفه نحو خولة وتاقت نفسه إلى الحصول عليها ولكنه استثقل الذهاب إلى الفسطاط مخافة الوقوع في قبضة عمرو بن العاص. ثم تذكر بغتة أن المؤامرين كانوا قد أقروا على قتله وقتل معاوية في مثل ذلك اليوم فقال «ألم أخبرك أن اثنين آخرين تآمرا على قتل ابن العاص ومعاوية أيضا».
قال «بلى أخبرتني ولكنني لا أخاف على ابن العاص الوقوع في تلك الشراك».
قال «وما الذي ينجيه منها وهو لا يدري بما نووه له ... فإذا كان المؤامر على قتله قد قتله هان علي الدخول إلى الفسطاط ويكون ذلك أهون إذا قتل أيضا معاوية في الشام».
فقال بلال «إن البحث عن ذلك يحتاج إلى وقت ولابد لنا من التربص ريثما نسمع الأخبار وأن نسير للبحث عنه بأنفسنا».
قال سعيد «لا صبر لي على التربص ولا أظنك تصبر عليه. فأرى أن تسير أنت على عجل إلى الفسطاط تستطلع جلية الواقع وتعود بالخبر اليقين. وإذا جعلت طريقك بالشام جئت بالخبرين معا».
قال «ذلك إليك يا سيدي. وأنت ماذا تعمل؟»
قال «إني أود البقاء هنا للبحث عن تلك الخائنة قطام لعلي أتوفق للانتقام منها وإذا لم أتوفق إلى ذلك عشت منغص العيش طول عمري. آه كيف يهنأ لي عيش وهذه المرأة حية وقد فعلت ما فعلته معي ... قتلت ابن عمي وأمير المؤمنين وكادت تقتلني!»
قال «بالله دع أمر الانتقام إلي فإني أريد أن أشفي غليلي منها ومن عبدها الذميم ريحان لا أراحه الله ... ولكني أرى سفري إلى الفسطاط أدعى إلى العجلة ... فما العمل».
فأعجب سعيد بحماسة بلال وزاد ميلا إليه وإلى سيدته ولبث برهة يفكر في حاله وهو يزداد شعورا بالانعطاف إلى خولة ويردد في ذاكرته ما آنسه فيها من الخلال الحميدة والغيرة نحوه وكيف كان التقاؤه بها سببا في نجاته من القتل ليلة ذلك الاجتماع. فضلا عما رآه فيها من الغيرة على أمير المؤمنين. ولكنه لم يكد ينتقل بفكره إلى عاقبة ذلك السعي وحبوط تدابيره في إنقاذه حتى هب حسمه وتمرمر في داخله على أنه لم ير حيلة في ما مضى فقال «لقد قضي الأمر يا بلال ولم تبق لنا حيلة في ملاقاة ما مضى فاذهب أنت إلى الفسطاط وعرج في طريقك إلى الشام ثم عد إلي بالخبر اليقين عن عمرو ومعاوية. وأما أنا فإني باق هنا أبحث عن قطام وعجوزها وعبدها وإذا أنت عدت من سفرك افتقدني في هذا المنزل وسنرى ما يكون».
قال «وخولة؟ ماذا أقول لها».
قال «قل لها إني لا أقدر أصف شوقي إليها وإن ما عندي أضعاف ما عندها ولها مني عهد الله إن هي رضيت بي أن لا ألتفت إلى سواها والأيام بيننا».
قال «أما رضاها فأنا الضمين لك به ...» وسكت بلال وقد أبرقت أسرته سرورا بما سمعه. ثم أقطب وجهه بغتة وقال «ولكن هب أن ابن العاص مازال حيا ووالدها كما تعلم شديد التشيع له فلا أظنه يأذن بزفافها إليك اختيارا فما الحيلة؟»
قال «ذلك راجع إلى اختيارها ومتى عدت إلي بالخبر نتدبر الأمر في حينه أما الآن فينبغي أنلا نضيع الوقت. امض إلى الفسطاط على عجل وعد إلي بالخبر اليقين وعلى الله الاتكال».
فأخذ بلال يهتم بالرحيل وسعيد صامت يفكر في ما حدث له من الهواجس الجديدة. وأصبح الحصول على خولة شغله الشاغل ولكن فشله في إنقاذ الإمام ثار في خاطره حب الانتقام من قطام. فصمم على الفتك بها إما بيده وإما بمساعدة الحسن بعد تبوءه عرش الخلافة.
الفصل الثاني والسبعون
خولة في الفسطاط
فلنترك سعيدا وبلالا في حالهما ولنعد إلى خولة في الفسطاط. فقد تركناها عائد في ذلك الليل إلى منزلها وكان والدها كما علمت قد حبسها في ذلك البيت على طريق عين شمس. فلما أخرجها سعيد منه كما رأيت وسارا إلى الدير ثم خرجت هي وحدها لم تر خيرا من أن تتظاهر بالبكاء والخوف. فهرعت إلى منزل والدها باكية وكان هو لا يزال غائبا لانشغاله بمقابلة عمرو بن العاص بشأن الذين قبض عليهم في ذلك الدهليز فلما فرغ من أمرهم وحرض ابن العاص على إغراقهم سار إلى محبس ابنته فرأى الباب مفتوحا وليس هناك أحد. فاستغرب الأمر وعاد توا إلى منزله فرأى خولة جالسة في غرفتها تبكي. فتجاهل سبب بكائها وقال لها «ما بالك يا خولة».
قالت «كيف تتركني وحدي في ذلك البيت ألم تخف علي أبناء السبيل».
قال «ألم تري أني أقفلت الباب وأوصدته خوفا عليك من ذلك».
قالت «كيف تفعل بي هذا الفعل ألعلي عاصية أمرك»واستغرقت في البكاء.
فتحركت فيه عاطفة الأبوة وظنها تقول ذلك في سذاجة فقال لها «وكيف خرجت».
قالت «لما رأيت نفسي حبيسة هناك خفت على حياتي فجعلت أناديك وأستغيث بك ثم سمعت قرقعة وضجيجا ووقع حوافر كثيرة فازداد خوفي فصحت واستجرت فقيض الله لي بعض الناس فتح الباب بالعنف فخرجت وهرولت إلى البيت وأنا ارتعد من شدة الإضطراب».
فطيب خاطرها ولامها على خوفها ولكنه سر لظنه بانطلاء حيلته عليها. ومازال يهون عليها حتى تظاهرت بالرضاء فتركها وخرج وهو يظنها عازمة على الرقاد ثم سمعت خولة لغط الناس في المدينة فانتبهت إلى الجند لا يلبثون أن يبتغوا بيت الغفاري فإذا رأوا سعيدا هناك قبضوا عليه فخرجت لإنقاذه كما تقدم. وقبل خروجها أوصت عبدها أن يوصد الباب وإذا سأل والدها عنها أن يقول له إنها نامت وأوصدت الباب وراءها لشدة ما اعتراها من الخوف في ذلك المساء. فبات والدها تلك الليلة وهو يحسبها نائمة أما هي فبعد إنقاذها سعيدا عادت إلى غرفتها وهي لا تزال مضطربة فلم تستطع رقادا وجعلت تفكر في طريقة تنقذ بها عبد الله ولم تمكث قليلا حتى سمعت لغطا في دار والدها وفهمت من خلال اللغط أن عمرا عول على إغراق أسراه تلك الليلة في النيل وسمعت والدها يضحك سرورا بذلك القرار. فأسفت أسفا شديدا ولبثت برهة تفكر في ماذا تعمل حتى حدثتها نفسها لشدة التأثر أن تخرج في أثر الخارجين لعلها تستطع إنقاذ عبد الله. فاستغفلت والدها وكان قد ذهب إلى فراشه وخرجت وأوصدت الباب وراءها كالمرة الأولى وبلال نائم أمام عتبته وسارت تلتمس ضفة النيل حيث ظنت أنهم ساقوهم وهي عزلاء لا سلاح معها ولكنها إنما اندفعت إلى الخروج بحميتها. فالتقت هناك بسعيد ودار ما دار بينها وبينه ووعدته بإرسال عبدها ليصحبه إلى الكوفة كما تقدم. ثم عادت وحدها.
فلما أشرفت على المنزل رأته هادئا وأهله نيام فانسلت إلى الدار فرأت عبدها بلالا نائما فأيقظته فهب من رقاده مذعورا وكانت تعلم باستهلاكه في مرضاتها فدعته إلى غرفتها فتبعها فلما خلت به قالت «أتدري لماذا دعوتك».
قال «كلا يا مولاتي ولكنني رهين أشارتك».
قالت «أتطيعني يا بلال».
قال «كيف لا وأنا عبدك ورهين إشارتك».
قالت «أعلم ذلك ولكنني أريد أن أعهد إليك أمرا خطيرا فهل أنت مستعد للقيام به حتى الموت».
قال «إن الموت هين في سبيل مرضاتك. قولي يا سيدتي مري بما تشائين فقد قضيت عمري في خدمتك وأنا أتوقع مهمة ترضيك ولو إلى القتل».
قالت «أسمعت ما حدث اليوم في عين شمس وما فعل ابن العاص بالمجتمعين هناك».
قال «نعم وقد ارتكب أميرنا فيه أمرا عظيما وقتل كثيرين».
قال «أما سرك ما فعله ابن العاص بأولئك العلويين».
قال «إذا كان ذلك سرك فإنه يسرني».
قالت «وما ظنك بي».
قال «لا أظنك راضية عن ذلك لعلمي أنك على غير دعوة الأمويين وإن يكن سيدي مستهلكا في سبيل التشيع لهم».
قالت «وكيف عرفت ذلك».
قال «أنت تحسبينني ساذجا وقد قضيت في خدمتك أعواما طوالا واطلعت على مكنونات قلبك وأنت لا تعلمين. وأما الآن وقد دفعتني إلى التصريح فأقول لك إني أعلم غرضك ولا يفتني شيء مما تقاسينه في سبيل الدفاع عن الإمام علي.. وخصوصا في الأمس وأنت لا تعلمين إلا أني أحرس هذا الباب الموصد وأكتم خروجك منه عن والدك».
فاستغربت خولة قوله ولكنها سرت بما سمعته منه وقالت «وما مرادك بما حدث بالأمس».
قال «أتظنين أني غافل عما قاسيته في سبيل إنقاذ ذلك الشاب الغريب الليلة وقد كان في جملة من خيف عليهم الوقوع في شراك ابن العاص فأنقذته بغيرتك».
فتحققت أنه كان يراقب حركاتها وسكناتها. فتهلل قلبها سرورا فقالت «أما والحال على ما أرى فأخبرك أن ذلك الشاب مسافر الآن إلى الكوفة وأريد منك أن تذهب إليه بالجملين إلى سفح المقطم فإذا التقيت به هناك سر في ركابه إلى الكوفة واحذر أن يدري بك أحد أو أن تذكر ذلك لأحد».
ولم تتم كلامها حتى تحول مسرعا يهم بإعداد الجملين فاسترجعته وقالت «قف يا بلال بورك فيك واسمع كلمة أخرى أقولها لك».
فعاد وقال «لبيك يا مولاتي قولي ما تشائين».
قالت «إنك ذاهب مع هذا الشاب إلى الكوفة لإنقاذ الإمام علي من القتل وستعلم تفصيل ذلك منه. وأما الآن فيكفيني أن أوصيك به خيرا وإذا أنتما فرغتما من تلك المهمة أرجع به إلينا فإني أكره ابن ملجم الذي يريد والدي أن يجعله خطيبا لي ... هل فهمت؟»
فضحك بلال وهز رأسه ولسان حاله يقول «فهمت».
فقالت «سر بحراسة الله وكنت أود أن أزيدك بياتا ولكن الوقت ضيق فاذهب وعد سالما بإذن الله واحذ أن تبوح لأحد بما سمعته أو رأيته».
فخرج وهو يلتفت إليها كأنه عاتب على ما ظهر من ضعف ثقتها بأمانته ولكنه كان يبتسم فرحا بما كلفته به. فأعد الجملين وخرج إلى سفح المقطم وصحب سعيدا كما تقدم.
الفصل الثالث والسبعون
نفوذ الحيلة
أما هي فلما خرج بلال عادت إلى غرفتها وأوصدت الباب وراءها واستلقت في فراشها وقد تعبت مما قاسته في ذلك اليوم من المشاق وكان يجب أن تنام لو لم يشغل خاطرها ما شغله من الأمور الهامة. ويتخلل ذلك شعور داخلي جديد لولا الحشمة واهتمامها بإنقاذ الإمام لصرحت به. ألا وهو انعطافها إلى سعيد لما آنست فيه من الرغبة في إنقاذ الإمام علي واستهلاكه في سبيل ذلك مع ما في قلبها من النفور الشديد من ابن ملجم حتى كرهت والدها من أجله وأجل تشيعه للأمويين.
وقضت بقية تلك الليلة لم يغمض لها جفن وهي تارة تفكر في سعيد وقلبها يخفق انعطافا له وخوفا من فشل مهمته. فجعلت تقدر الوقت اللازم لسفره إلى الكوفة فرأت أنه إذا أسرع لا يفوته الوصول إليها قبل الأجل المسمى للقتل. وكان يعترض تسلسل أفكارها خوف مما ربما يطرأ عليه في الطريق فيعيق وصوله فترتعد فرائصها فرقا من قتل الإمام. وفي قتله ضربتان كبيرتان الأولى موته والثانية عود ابن ملجم إليها. ولكنها كانت تتعزى بأن ابن ملجم إذا ظفر بقتل الإمام لا ينجو هو من القتل. ثم تحول ذهنها إلى والدها وخروج عبدها بالجملين وأعدت أعذارا تنتحلها في سبب خروجه فلم تجد خيرا من أن تدعي فراره إلى حيث لا تعلم.
وكان والدها قد أفاق في أثناء الليل وهي غائبة فجاء غرفة ابنته ليرى حالها فرأى الباب موصدا فسأل العبد عن ذلك «فقال أن سيدتي باتت مبغوتة وقد تولاها الخوف على غير المعتاد في تلك الليلة فأوصدت الباب وأوصتني أن أنام خارجا».
فقال والدها في نفسه «مسكينة خولة يظهر أن رعبها من ذلك الحبس لا يزال مؤثرا عليها» وعاد إلى فراشه وهو مقتنع بصدق ما قاله العبد.
وفي الصباح جاء الغرفة فرأى الباب لا يزال موصدا ولكن بلالا ليس أمامه فقرعه فنهضت خولة وفتحته وهي تتظاهر بالذهول لملول استغراقها في النوم. فأمسكها والدها بيدها ووضع يده على كتفها وهو يقول «ألعلك لا تزالين خائفة يا بنية».
قالت «كلا يا سيدي إني تحت جناحك في أمن وطمأنينة».
فقال «بورك فيك تعالي نتناول الطعام» ثم نادى بلالا فلم يجبه أحد فقال «أين بلال».
قالت «لا أدري لعله خرج إلى السوق في غرض».
فصبر هنيهة فلم يحضر فأرسل بعض الخدم في أثره فلم يقف له على خبر. ثم علم بضياع الجملين ولما انقضى معظم النهار ولم يعد بلال ولا الجملين أشكل عليه أمره فقالت خولة «يظهر أنه أخذ الجملين وفر» فبعث الناس في أثره إلى ضواحي المدينة فلم ينبئه أحد بخبره فصدق فراره.
الفصل الرابع والسبعون
خولة ووالدها
أما خولة فلما تحققت انطلاء الحيلة على والدها عادت إلى هواجسها وتذكرت المهمة التي سار فيها سعيد وأخذت تفكر في أمره وهي خائفة أن يتأخر في الطريق عن الوقت المعين لقتل الإمام فيذهب سعيها هباء منثورا. ولكنها كانت مع ذلك مطمئنة الخاطر بنجاتها من ابن ملجم لعلمها أنه وإن فاز بقتل الإمام علي فلا ينجو من سيوف أشياعه وهم كثار في الكوفة.
على أنها باتت منشغلة الخاطر على سعيد بعد أن فرغت من تدبير الحيل في إرساله لأنها لم تتحقق وقوعها من نفسه مثل وقوعه من نفسها وودت لو يسرع عبدها بلال بالرجوع لترى ما تم. ولكنها حسبت الأيام الباقية ريثما يرجع فرأت الأجل لا يزال بعيدا فصبرت نفسها ولبثت تنتظر ما يأتي به القدر.
وبعد مضي أيام من ذلك جاء والدها ذات مساء بعد عودته من حانوته وعلى وجهه أمارات البشر فتوسمت في طلعته خبرا جديدا فمالت إلى استطلاع ما في خاطره لعلها تعلم منه شيئا يهمها. فلما جلسا إلى المائدة احتالت في اجتذاب حديثه فذكرت له ما مر في تلك الأثناء من القبض على أولئك العلويين وتفننت في استرضائه فابتسم واللقمة ملء فيه وكأنه يريد أن يقص عليها قصة بعد أن يزدرد تلك اللقمة. فكفت هي عن الطعام ولم تستطع صبرا على سماع الحديث.
فلما ابتلع اللقمة تنحنح ومسح شاربه ولحيته والتفت إليها وقال وهو لا يزال يبتسم «لقد عودتني يا خولة أن أحاذر الكلام بين يديك في ما أخشى إفشاءه» فتظاهرت بالاستغراب وقالت «إني لأعجب يا أبتاه من سوء ظنك بي مع علمك إني فتاة محتجبة في هذا البيت لا أعرف من أهل الدنيا أحدا سواك فكيف تقول إنك تحاذر أن تذكر بين يدي ما تخاف إفشاءه. أي سر بحت به إلي فأفشيته».
قالت ذلك وكادت تجهش بالبكاء.
فتأثر والدها من منظرها ولكنه عاد فابتسم وقال لها «لم أقل إنك تبوحين بالسر ولكنني ...» وسكت.
فقالت «ولكن ماذا يا أبتاه إنك والله ظالمني بظنونك ويسوءني أن لا يكون لي نصيب من الثقة حتى ولا من والدي الذي لا أعرف أحدا سواه».
قال «لا أخفي عنك يا بنيتي أنني كنت ولا أزال أعتقد أنك ميالة إلى الأعداء .... و... ... ....»
فابتدرته وهي تتظاهر بالبغتة والاستغراب وقالت «وأي أعداء تعني .... أعوذ بالله من هذه التهم ... كيف تقول ذلك ... ... وتنحت عن المائدة وتظاهرت بالإعراض».
فقال «اعترف لك إني أراك ميالة إلى حزب العلويين وأنت تعلمين أن عليا حاربنا وقتل منا جماعة كبيرة في النهروان وغيرها.. ولا ألومك لانعطافك نحوه لأنني كنت أيضا مثلك وقد كنت في جملة المتشيعين له. ولكنني أصبحت بعد واقعة صفين ناقما عليه لما ارتكبه في مسألة الحكمين بحيث أخرج الخلافة من يده وجعل لمعاوية يدا دونه ....»
الفصل الخامس والسبعون
خبر جديد
فأدركت أنها إذا أقرت بحقيقة ميلها ألقت نفسها في تهلكة فلم تر خيرا من المبالغة في الإنكار وقالت «وما أدراك إني مازلت على القديم إذا كنت قد عدلت عنه ومن أكون أنا حتى أخالفك في مثل ذلك».
قال لو لم تكوني كذلك لما كان ثمت داع لتمنعك على القبول بابن ملجم زوجا وأنت تعلمين أن هذا الرجل قد عاهد نفسه على القيام بعمل لم يقدم عليه احد غيره من المسلمين في هذا العصر. إنه كما تعلمين قد تعهد بقتل علي ....»
فأجفلت عند سماعها ذلك التعريض وحدثتها نفسها أن تبوح بحقيقة ميلها ولكنها خافت ضياع الفرصة وهي إنما افتتحت الحديث لتستطلع ما في نفس والدها فأنكرت تهمته كل الإنكار وقالت «إن ما تنسبني إليه من أمر ابن ملجم ظلم يا مولاي فإني لم أرفض هذا الرجل وهو لا يزال خطيبي متى عاد من رحلته هذه. وكيف تقول إني لم أقبل به وأنا لم أفه بكلمة في هذا الموضوع».
فضحك والدها وهو يتشاغل بتقطيع فخذ من الضأن بين يديه وقال وهو ينظر إلى تلك الفخذ «نعم إنك لم تفوهي بكلمة ولكنني فهمت من مجمل حالك أنك غير راضية به» وكان قد أتم تقطيع اللحم فقدم لها قطعة فأبت أن تتناولها وأعرضت دلالا وحنقا.
فقال لها «خذي كلي يا خولة ولا يسوءك قولي إذا كان صحيحا».
قالت «وهو إنما ساءني لآني أراني به مظلومة وأظنك بناء على هذه الظنون قد عاملتني معاملة العدو فحبستني في ذلك البيت المظلم سامحك الله».
قال «لقد أذكرتني حديث تلك الليلة وما كان فيها من الأهوال وهو الأمر الذي جئت لأقص خبره عليك ولكنني لا أقول كلمة قبل أن تصدقيني الخبر هل أنت على ولاء والدك تأتمرين بأمره. أما ماذا؟»
فتظاهرت بالغضب وقالت إني لا أراك بهذه الظنون إلا تريد أن تبعثني على الشكوك وتلجئني إلى الانحراف وأنا لا علم لي بما وراء هذا البيت ولا أبغي من هذه الحياة غير مرضاتك».
فمد يده وهو لا يزال قابضا على قطعة اللحم وقال لها خذي إذا هذه اللقمة وأصغي لما أقوله لك».
فتناولت خولة اللقمة من يده وقالت «تفضل» ووضعت اللقمة في فيها وهي لا تعرف كيف تمضغها لانشغال خاطرها بما ترجو سماعه من والدها فإذا هو يقول «اعلمى خولة ولا أزيدك علما أن أميرنا حفظه الله علم منذ أيام باثنين أتيا من الكوفة لمخابرة بعض كبار العلويين الذين كانوا يجتمعون سرا في خرائب عين شمس فبعث جندا من شرطته فقبض عليهم وهم في مجتمعهم تحت الأرض ألا تعلمين ذلك؟»
قالت «لحظت شيئا منه بعد حدوثه».
الفصل السادس والسبعون
عبد الله حي
قال «فاعلمي أنا وجدنا في جملة المقبوض عليهم في تلك الليلة واحدا من ذلك الاثنين اسمه عبد الله. وأما الثاني فإنه نجا ولا ندري من هو والظاهر أنه لم يكن في ذلك الاجتماع لأنه عمره كان طويلا. أما الأول فإنه سيق في جملة من سيق تلك الليلة إلى دار الإمارة. وربما بلغك أن الأمير عمرا رأى أن يقتل أولئك المقبوض عليهم وقد كنت أنا في جملة من أشار عليه بذلك مخافة الفتنة إذا ظلوا أحياء. فأمر عمرو بإغراقهم في الليل وعبد الله معهم وقد عدت أنا من حضرة الأمير وهم يتهيأون لإرسالهم إلى النيل وعلمت في الغد أنهم أغرقوهم».
فلم تر خولة بحديثه شيئا لم تكن تعرفه ولكنها علمت أن الحديث لم يتم فصبرت نفسها وتظاهرت بخلو الذهن من هذا الموضوع وهي تبدي الاستغراب.
أما هو فقال «وما زلت أعتقد أنه أغرقهم جميعا إلى اليوم وأنا في منزل الأمير فرأيت في بعض جوانبه غرفة مقفلة كنت كلما جئته في هذه الأثناء أراها مغلقة فلم أهتم بشأنها فلما كان عصر هذا اليوم دخلت على الأمير وأنا عائد من عملي فذكرت له أمر ابن ملجم ومهمته وطفقنا نتحدث في ما عسى أن يكون من أمره في الكوفة. فلما وصلنا إلى ذلك رأيته يبتسم وتوسمت في وجهه خبرا فرغبت إليه أن يطلعني على ما حدث وأنت تعلمين ما لي من الدالة عليه. ولكنني رأيته يتردد في الأمر فألححت عليه فقال لي «أتعلم من هو المقيم في هذه الغرفة».
قلت «لا يا مولاي لا أعلم وليس من شأني السؤال عما في منزل الأمير».
فضحك عمرو حتى رقصت لحيته وقال «إني حبست فيها رجلا سينقذ حياتي من القتل».
فعجبت لقوله واستغربت ما يشير إليه ولبثت انتظر الإفصاح فقال لي «اعلم يا صاحبي أني حبست في هذه الغرفة عبد الله الأموي الذي كان قدومه سببا بمقتل العلويين منذ أيام».
فلما سمعت خولة ذكر عبد الله علمت أنه رفيق سعيد وخفق قلبها فرحا بنجاته من القتل ولكنها استغربت سبب تلك النجاة على أنها ظلت متجاهلة وهي تتوقع سماع تتمة الحديث ووالدها يتشاغل عن إتمامه بالمضغ والابتلاع وكان أكولا.
فلما خلا فمه من الطعام عاد إلى الحديث فقال «فاستغربت ما يقوله وقلت ما الذي عساه أن ينجيك به من الموت» فأخبرني قائلا «إن ابن ملجم خطيب خولة الذي قلت لي أنه عازم على قتل علي إنما هو مؤامر رجلا آخر على قتلي وإنهما تواعدا على قتل علي وعمرو في يوم واحد» قال عمرو - «فلما قال لي عبد الله ذلك استغشيته ولم أصدق قوله لغرابته ولعلمي أن ابن ملجم من رجال دعوتنا وخصوصا بعد أن خطب ابنتك فقلت في نفسي لو صح حديث هذا الأموي لما خفي ذلك الحديث عنك وأنت لو علمته ما كتمته عني فلم أر خيرا من أن استبقيه وأحبسه في منزلي ريثما يأتي الأجل المضروب لقتل هذه الاثنين وهو يوم 17 رمضان فإذا تحققنا قوله أفرجنا عنه وإلا ضربنا عنقه».
قال والد خولة «فلما سمعت قول عمرو استغربته كل الاستغراب وخفت أن يكون عمرو قد ساء الظن بي فأقسمت له الأيمان المغلظة إني لم أكن عالما بغير عزم ابن ملجم وسألت عمرا هل عرف اسم المؤامر على قتله. فقال أن ذلك الأموي لم يكن يعرف الاسم. ولم أعد أعرف يا خولة كيف أؤكد له صدق إخلاصي له مخافة أن يبقي على سوء ظنه بي فبالغت في إظهار الغضب من ابن ملجم وقلت له إني لو عرفت خداع هذا الرجل ما رضيت به صهرا وأنا منذ الآن محرمه من خولة فلما قلت له ذلك التفت إلي وقال «لا يكفيني هذا الوعد وأنا أعرف خولة وأعرف مقامها وطالما كنت أريدها لإحد أولادي وأما الآن فإني أطلب إليك إذا صدق هذا الأموي بقوله أن تكون ابنتك خولة عروسا له لأن الرجل أموي وكان على دعوتنا ولكن بعض الناس أغروه على التشيع لعلي».
الفصل السابع والسبعون
عريس جديد
فلما وصل إلى ذلك الحد علمت خولة أن عبد الله لا يزال حيا واطمأن بالها عليه وعلمت أنه لم يذكر خبر المؤامر الثالث على قتل معاوية مخافة أن يرسل عمرو بخبره إلى الشام فينجو معاوية منه.
ولكنها لما سمعت ذكر خطبتها له أطرقت حياء وتظاهرت بالسكوت وقلبها يختلج فرحا بنجاتها من ابن ملجم. ولكنها تذكرت حبها سعيدا. وما بعثت إليه مع عبدها بلال فاحتارت في أمرها. على أنها لم يسعها إلا كتمان كل ذلك والتظاهر بالاستغراب فقالت وهي تهز رأسها استغرابا «أصحيح أنهم تآمروا على قتل عمرو وأيضا إنها لصدفة غريبة».
قال «بالحقيقة إنها صدفة يندر مثالها ولكن ما قولك باقتراح عمرو عنك».
فسكتت ولم تجب.
فقال «ما معنى سكوتك وأنت تعلمين أننا لا نستطيع رد ذلك الاقتراح».
قالت «دع ذلك الآن فإنه ليس بالأمر المهم وما خولة إلا جارية حقيرة لا تستحق هذا الاهتمام ولنصبر إلى الأجل المسمى لنرى ما يكون».
فقال «إننا صابرون ولكنني أرجو أن يكون خطيبك الجديد أهلا لك وليس مثل ابن ملجم الخائن على أني أدركت من خلال حديث عمرو أن عبد الله رجل صادق وهو مع ذلك أموي ربي في منزل الخليفة عثمان ولكنهم أغروه على التشيع لعلي ثم عاد إلى ما كان عليه. واذكر أني رأيته ليلة قبضوا عليه فإذا هو شاب في مقتبل العمل وأظنك سترتاحين إليه».
فظلت خولة ساكتة فحسب والدها سكوتها قبولا فسكت وكانوا قد فرغوا من الطعام فنهض ونهضت خولة فغسلت يديها والتمست غرفتها وهي تفكر في ما سمعته من والدها وتحسب نفسها في حلم.
فلما خلت بنفسها تذكرت سعيدا وحبها له وجعلت تتقاذفها الهواجس وهي تخاف أن يحملها عمرو على الاقتران بعيد الله قبل أن تعلم مصير سعيد في مهمته إلى الكوفة وقد أعجبت بدهاء عبد الله لأنه باح بخبر المؤامر على قتل عمرو وكتم أمر المؤامر الثالث. وهو معذور في ما أباح به إنقاذا لحياته. ولكنها خافت أن لا تتم نبوءته فلا يأتي المؤامر في الأجل المعين فيقتل عبد الله. على أنها كانت إذا تصورت صدق نبوءته ونجاته من القتل يخفق قلبها لاضطرارها عن ذلك إلى القبول بعبد الله زوجا وهي تحب سعيدا. فهاجت أشجانها وارتبكت في أمرها وجعلت تبحث عن طريقة تنجو بها من هذا التردد فلم تر خيرا من الصبر لما يأتي به القدر.
الفصل الثامن والسبعون
نجاة عمرو
أما عبد الله فكان قد جنح إلى هذه الحيلة أملا بالحياة وهو مع ذلك يخاف أن يتأخر المؤامر عن الوقت المعين لسبب من الأسباب فيذهب سعيه عبثا.
وظل عمرو أيا لا يخرج للصلاة فلما كان فجر 17 رمضان شكا من بطنه فلم يخرج واتفق خروج خارجة بن أبي حبيبة صاحب شرطته للصلاة وهو لا يعلم بخبر المؤامرة ولا أمره عمرو بالخروج ولو علم بخروجه لمنعه. على أنه لم يكن يحسب المؤامر يأتي لقتله في الفجر وهو يصلي بل كان يحسب أنه يراقب خروجه في أثناء النهار إلى بعض الأماكن. ولكن منية خارجة عاجلته فخرج في فجر ذلك اليوم إلى الجامع ليصلي في الناس ولم يكد يبدأ بها حتى هم به رجل من الوقوف وهو يحسبه عمرا فضربه بالسيف فقتله
1
فقبضوا عليه وساقوه إلى عمرو فلما رآه عمرو بغت وصاح به «ويلك قد قتلت صاحب شرطتي قتلت خارجة بن أبي حبيبة» فأجابه الرجل بقلب لا يهاب الموت «والله إني كنت أحسبه أنت».
فقال له عمرو «أردتني وأراد الله خارجة. من أنت يا غادر».
قال «إني عمرو بن بكر».
قال «وممن أنت».
قال «من تميم».
فقال اقتلوه فقتلوه وقد أسفوا لمقتل خارجة ولكن المقدر كان لا يمحى.
أما خولة فإنها باتت ليلة 17 رمضان على مثل الجمر وهي تتوقع أن تسمع خبرا جديدا في اليوم التالية ولم تكن تتوقع أن يفعل المؤامر فعلته في الفجر فأصبحت وقد ضجت الفسطاط بخبر خارجة وجاءها أبوها فأخبرها به ولسان حاله يقول «لقد صحت أقوال عبد الله فتأهبي للاقتران به».
أما هي فإنها تحققت وقوع المحظور ولم تعد تدري ماذا تفعل وندمت لأنها لم تخرج من بيت والدها سرا قبل ذلك اليوم على أنها لم تكن من الجهة الأخرى موقنة ببقاء سعيد علي عهدها أو أنه رضي بها. وكانت لما لقيته في الفسطاط لم تتحقق ميله نحوها. فوقعت في حيرة ولكنها كانت من الجهة الأخرى في قلق على الإمام علي لا تدري هل نجا كما نجا عمرو أم ذهب فريسة ابن ملجم وودت لو أن عبدها يعود في ذلك اليوم بالخبر اليقين لتعلم كيف تتصرف.
الفصل التاسع والسبعون
ضياع قطام
فلنعد إلى سعيد وبلال في الكوفة فقد تركا بلالا يتأهب للقدوم على الفسطاط وسعيد يفكر في ماذا يفعل بعده وكان قد أمره بالذهاب إلى الفسطاط على أن يبقى هو هناك حتى يعود إليه بالخبر عن عمرو. ثم رأى أن المسافة بعيدة ربما لا يصبر عليها فقال له «لقد أمرتك بالرجوع إلى الكوفة ولكنني أرى الأجل بعيدا فإني شاخص إلى دمشق فإذا سرت إلى الفسطاط واطلعت على ما جريات الأحوال وافني إلى دمشق فإني أكون هناك في انتظارك في المسجد بعد عشرين يوما سواء تمكنت من الفتك بقطام الخائنة أم لا ولكنني أكون قد اطلعت على مصير معاوية».
فودعه بلال ومضى وصبر هو إلى الغد فخرج إلى الكوفة يلتمس بيت قطام فرآه مقفرا ليس فيه أحد فوقف عند باب الحديقة وجعل يتأمل بنخلاتها وطرقاتها ويفكر في ما مر له هناك من الأهوال وما طلى عليه من خيانة قطام غير مرة فشعر بضعفه وتذكر آخر مرة زار بها في ذلك المنزل ومعه ابن عمه عبد الله فأسف لفقده وازداد به الميل للانتقام من قطام ففكر في أمرها وفي المكان الذي عساها أن تكون قد انصرفت إليه فخطر له أن تكون قد سارت إلى أهلها في جوار الكوفة فخرج للبحث عنها فلم يقف لها على خبر فمل البحث وخاف أن يقضي الأجل الذي ضربه لبلال فيعود إليه في دمشق ولا يجده فخطر له أن قطاما ربما سارت إلى دمشق تلتجئ إلى معاوية بعد أن نجحت في قتل مناظره علي فسار يلتمس دمشق على ناقة تسابق الرياح.
أما قطام فكانت في الليلة التي وصل بها سعيد إلى الكوفة قد علمت بقدومه من ريحان إذ عاد إليها بما دار بينه وبين بلال عند خولة وحكى لها ما فضحه بلال من سره وكيف كان ذلك سببا في انكشاف أمره لدى سعيد فلم يعد يصدقه ويذهب معه إلى منزلها فحنقت على بلال وعلى سيدته ومازج ذلك الحنق غيرة من خولة. لأن قطاما اللعينة مع كرهها لسعيد لم تكن تصبر على من يحبه وخصوصا لما علمت أن خولة كانت عونا على عرقلة مساعيها في قتل الإمام علي فأضمرت لها السوء ولكنها شغلت عنها تلك الليلة بما كانت فيه من انتظار الفتك بعلي وكن ابن ملجم بائتا عندها. فلما كان الفجر خرجت هي وعجوزها وعندها ضربت قبتها في المسجد كما تقدم وفي ذلك من الجرأة والوقاحة ما فيه ولم تكن تخاف انكشاف حيلتها ولو تعمد سعيد أن يكشفها لما دبرته من الحيلة في إيصال الصك بعد تحويره إلى قنبر حاجب الإمام علي مع لبابة المحتالة كما علمت.
الفصل الثمانون
نجاة معاوية
فلما قتل الإمام علي على ما تقدم رأت ابن ملجم مقبوضا عليه وكانت تتوقع له ذلك من ذي قبل ففرت بعبدها وعجوزها إلى مكان خارج الكوفة وقد شفت غليلها بقتل الإمام. ولكنها مازالت ناقمة على سعيد وزادت نقمتها عليه بعد ما علمته من أمر خولة فعولت على اللحاق بالفسطاط لتشي بها إلى عمرو بن العاص لاعتقادها أنه يقدر خدمتها له حق قدرها لأنها أنبأته بمجتمع العلويين. وهي لا تشك أنها بمجرد وشايتها على خولة وإنها من أنصار علي يقتلها عمرو وإذا كان لا يزال حيا. وإذا كان قد قتل فتدبر حيلة أخرى. فلما خطر لها ذلك استشارت لبابة سرا فاستحسنت رأيها وحرضتها على المسير إلى الفسطاط واستشارت ريحان فقال لها أني في ركابك رحلت أو أقمت فأثنت على غيرته بألفاظ ملؤها التمليق والرياء وأصبحت في اليوم التالي تلتمس الفسطاط على أن تمر بدمشق وتستطلع حال معاوية وما كان من أمره بعد 17 رمضان حتى إذا كان قد نفذ السهم وقتل معاوية تحمل ذلك الخبر إلى عمرو وتحرضه على التماس السلطان لنفسه.
فلما وصلت دمشق سمعت أن المؤامر على قتل معاوية واسمه البرك بن عبد الله التميمي الصريمي قعد لمعاوية في فجر 17 رمضان في مسجد دمشق. فلما خرج معاوية للصلاة شد عليه بالسيف فوقع السيف في اليته
1
فسيق البرك إلى معاوية فقال لمعاوية أن عندي خبرا أسرك به فإن أخبرتك فنافعي ذلك.
فقال له معاوية نعم.
قال إن أخا لي قد قتل عليا هذه الليلة.
فقال «فلعله لم يقدر على ذلك».
قال «بلى إن عليا ليس معه أحد يحرسه»فأمر به معاوية فقتل وجعل يطبب جرحه
فلما علمت قطام بنجاة معاوية لم يبق لديها إلا الشخوص على الفسطاط للإيقاع بخولة.
الفصل الحادي والثمانون
عبد الله في دار الأمير
أما عبد الله فإنه مكث في محبسه وقلبه واجف مما قد يطرأ من تغيير خطة المؤامر. وقد خطر له الاحتياط من ذلك فلما باح لعمرو بالسر اشترط عليه أن لا يطلع أحدا عليه لأنه إذا شاع وعلم المؤامر به ربما غير خطته فيقدم الميعاد أو يؤخره فيظهر ذلك من عبد الله مظهر الكذب. وهذا الذي دعا عمرا لكتمان أمر المؤامرة عن كل واحد حتى صاحب شرطته. وأما والد خولة فقد كان من أكثر الناس تقربا من عمرو وأعظمهم غيرة عليه فكان عمرو يساره في مثل هذه الشؤون ولولا رغبته في معاتبته على خيانة صهره ابن ملجم ما كشف له الأمر.
فلما كان ليل 17 رمضان أخذ القلق من عبد الله مأخذا عظيما لعلمه أنه ليلته بين الحياة والموت. فأصبح ذلك اليوم وهو لا يزال محبوسا لا نافذة في محبسه يطل منها أو يسمع ما يجري على أنه سمع لغطا لم يفهم منه شيئا صريحا فتربص حتى جاءه الخفير بالطعام على جاري العادة فاستفهمه فطمأنه باختصار فسر ولبث إلى مساء ذلك اليوم.
وبعض العشاء جاء بعض رجال عمرو إلى محبس عبد الله فتحه ودخل عليه فحل قيوده ودعاه إلى الأمير فمشى في أثره وقد انبسط وجهه لما كان من نجاته بعد أن كان في عداد الأموات. فقاده الرجل إلى قاعة في صدرها عمرو بن العاص على وسادة وفي يده درة (سوط) يلاعبها بين أصابعه وليس في القاعة أحد سواه. فلما أشرف عبد الله على القاعة نزع حذائه في الخارج ودخل توا إلى مجلس الأمير وهم بتقبيل يده باحترام فأمسكه ابن العاص بيمينه وأجلسه إلى جانبه وهو يقول بصوت منخفض «لقد كانت نجاتنا على يدك فوجبت علينا كرامتك ولكن للأسف أن صاحب شرطتنا وقع في الشراك التي كانت منصوبة لنا ولو علمنا الساعة أو المكان المعينين لتلك الفعلة الشنعاء لاستطعنا تدراكها أو لو اطلعت خارجة على سر الأمر فربما كان نجا بنفسه ولكني لا أظنه كان يستطيع ذلك وهو لا يعلم الزمان والمكان المعنيين.
فقال عبد الله «اعلم يا مولاي أن كتمان هذا الأمر تتوقف عليه حياتي إذ لو شاع خبر اطلاعك على هذا السر لغير المؤامر خطته فربما أخر موعده أسبوعا أو شهرا فكنت أنا المقتول بدلا من خارجة لأنك تسيء الظن بي فتقتلني. ومع ذلك فهو القضاء يجري إلى حيث لا نعلم».
ولم يتم كلامه حتى دخل بعض الخدم يقول «إن في الباب أبا خولة».
فقال عمرو «أدخلوه».
فرجع الخادم ودخل أبو خولة وهو صاحبنا والد خولة ولم يكن هو من مصاف الأمراء ولا من القواد الأنداد حتى تكون له تلك المنزلة عند عمرو ولكنه نال تلك الحظوة خصوصا بعد أن اطلع عمرا على عزم ابن ملجم قتل علي. ثم مازال يتردد على دار عمرو ويبذل ما في وسعه لخدمته فعده عمرو من أصحابه.
فلما دخل أبو خولة القاعة حيى وقبل أن يجلس قال له عمرو أغلق الباب ومر الخدم أننا لا نريد أحدا يدخل علينا. ففعل ودخل. فدعاه عمرو إلى جانبه وعرفه بعبد الله وأعجب أبو خولة بعبد الله لأنه كان شابا جميلا مع نباهة وذكاء وسر لما دبره عمرو من مصاهرته له. وأما عبد الله فكان لا يزال خالي الذهن من ذلك.
فلما جلس الثلاثة التفت عمرو إلى عبد الله وقال له «لقد عرفتك بصاحبنا أبي خولة ولم أتم لك المعرفة فأزيدك علما أنه من أعز أصدقائي وقد كتمت أمر المؤامرة عن كل أحد سواه ولكنني اشترطت عليه شرطا أظنه يعود عليك بالمنفعة وقد فعلته مكافأة لك على خدمتك لي».
فوقف عبد الله متأدبا وقال «يأذن لي مولاي بكلمة».
قال «قال».
قال «لا أرجو أن تحسب لي فضلا بما بحت لك به فإنى والحق يقال إنما فعلته استبقاء لحياتي فلا تظنني أغش نفسي».
الفصل الثاني والثمانون
عبد الله وخولة
فأعجب عمرو بحرية ضمير عبد الله وقال له «لم تزدني بهذا التبرق إلا رغبة في مكافأتك إن ابن العاص لا يجهل قدر الرجال ولا هو ساذج لا يفهم أنك لو لم تقع بين يديه وتشعر بقرب الأجل ولا ترى لك مخرجا بغير هذا الإفشاء لما فعلته. ولكنني مع ذلك أشعر بجميل لك علي فأريد مكافأتك عليه وخصوصا بعد أن رأيت من صدق لهجتك ما أكد لي أنك لو كنت من أنصارنا لكان لنا بك نعم النصير وأنت على ما بلغني أموي فليس تشيعك للعلويين معقولا..» قال ذلك وفي صوته غنة استفهام كأنه يستفهم عن سبب تشيعه فسكت عبد الله. ففهم عمرو أنه يريد الكتمان فغير الحديث وقال له «ولكنك لم تسألني عن المكافأة التي أعددتها لك».
قال «قلت لك أني لا أستحق مكافأة فمهما أكرمتني به كان فوق ما استحق».
قال عمرو «هل أنت متزوج».
قال «كلا يا مولاي».
قال «أعلم يا عبد الله أن في الفسطاط فتاة يتحدث بجمالها وتعقلها أهل هذه المدينة هي ابنة صاحبي هذا (وأشار إلى والد خولة) ولا أخفي عنك أنها كانت مخطوبة لعبد الرحمن بن ملجم وهو أحد المؤامرين على قتل عمرو ولعي ولا ندري ما كان من أمره اليوم فإنه موعد القتل ...».
ولما قال عمرو ذلك تذكر عبد الله ما كان قادما من أجله مع سعيد وكيف فشلت مهمتهما فأحس كأنك تصب ماء غاليا على ظهره ولكنه تجلد وصبر نفسه إلى آخر الحديث فأتم عمرو كلامه قائلا أن خولة هذه كانت مخطوبة لابن ملجم على أن يقترن بها بعد عودته من الكوفة ولا ريب أن ذلك الخائن كان عالما بتواطئ عمرو بن بكرة على قتلي فكتم ذلك في قلبه وسار ولم يطلعني على شيء منه فاعتبرته شريكا في قتلي فأحرمته من خولة ولي دالة على والدها لأنها بمنزلة ابنتي وقد طلبت منه أن تكون لك عروسا ومتى رأيتها تتحقق أننا قد زوجناك زهرة الفسطاط وخيرة بناتها. ثم التفت عمرو إلى أبي خولة وقال «ولا تظننا فرطنا بخولة فإن هذا الشاب من سلالة الأمراء ويكفي أنه أموي وبينه وبين الخليفة معاوية نسب قريب. أما ابن ملجم الخائن إذا عاد إلينا فلا أبقاني الله إن أبقيته حيا. ولكنني لا أظنه إلا مقتولا في دار ابن أبي طالب فاز في مهمته أو لم يفز» قال ذلك والغضب باد على وجهه.
ففرح عبد الله بما ناله من الحظوة في عيني عمرو وارتاح لما بلغه عن خولة ولكنه مازال منشغل الخاطر على ابن عمه سعيد وما كان من أمره بعد أن فارقه في مسجد الفسطاط يوم اجتماع عين شمس. حدثته نفسه أن يسأل عمرا عنه مخافة أن يكون قد وقع في أيدي رجاله ولكنه لبث ساكنا يتردد وقد نسي اقتراح عمرو. فظنه عمرو غير راض به فقال له «ما بالك لم تجب ألعلك لم ترض خولة والله إني أرضاها لأعز أبنائي».
فابتدره عبد الله قائلا «عفوك يا مولاي كيف لا أرضى بما رضيته أنت لي وما سكوتي إلا لأني اعتبرت اقتراح الأمير أمرا نافذا لا خيرة لي فيه فماذا أجيب. أما إذا تعطفت في سؤالي فإني راض ولكني أرجو أن تكون هي راضية بهذا الرجل الغريب».
فقال أبو خولة «إن خولة جارية بين يدي مولانا الأمير وما يرضاه لها لا مندوحة لها عنه وإنا وهي طوع إرادته».
الفصل الثالث والثمانون
تتمة الحديث
واستولى السكون على تلك الجلسة لحظة ثم التفت عمرو إلى عبد الله فقال «وقد كنت أظنكما اثنين جئتما معا إلى الفسطاط ولكنني لم أر سواك».
ولم يتم عمر كلامه حتى علت البغتة على وجه عبد الله ونظر إلى عمرو قائلا «وهذا هو الأمر الذي شغل بالي في أثناء حديث مولاي. إن رفيقي هو ابن عمي بل هو أخي وقد كلفت برعايته جئنا معا إلى هذه المدينة ولكنني يممت عين شمس وحدي وتركته في المسجد على أن استطلع المكان وأعود إليه فقبضوا علي ولم أعد أعرف شيئا عنه إلى الآن فهل عثر أحد من الشرطة عليه فقتلوه».
قال عمرو «لم أسمع عنه شيئا ولا أخبرني أحد بخبره والظاهر أنه نجا بنفسه لما سمع بما وقع لكم في ذلك الاجتماع».
فاطمأن بال عبد الله على سعيد ولكنه ظل مشتاقا لاستطلاع حقيقة حاله. فود لو أنه يسير حالا إلى الكوفة فيستطلع كل شيء ويتحقق ما وقع للإمام علي ولكنه خجل من إبداء رأيه وهو في مجلس عمرو فكيف يتظاهر برغبته في شؤون علي مع علمه بما بينهما من المنافسة. فرأى أن يجعل السبب في إسراعه البحث عن ابن عمه فقال «لقد أوضحت لمولاي ما أنا فيه من انشغال البال على ابن عمي هذا فهل يأذن لي الأمير بالانصراف إلى الكوفة استطلع حاله ثم أعود وأكون في خدمتك إلى الممات فقد أوليتني جميلا لا أنساه لك».
قال عمرو «ويكون ذلك بعد كتابة الكتاب. فإذا عقدنا لك على خولة وصرت من أصهارنا سر إلى حيث شئت».
وكان عمرو لفرط دهائه وحسن سياسته قد أدرك أن رجلا حرا صادقا مثل عبد الله لا يفرط فيه. لأنه إذا أخلص الخدمة كان نفعه عظيما. فلم ير لتقييد قلبه خيرا من أن يبادئه بالجميل وأن يزوجه بنت صاحبه وهو يحسب خولة على دعوته فإذا كانت هي زوجته حببت إليه الرجوع إلى حزب الأمويين لاسيما وهو لا يعلم بعد هل نجح ابن ملجم بمهمته في الكوفة أم لا. فلما اقترح على عبد الله كتابة الكتاب قبل السفر قبل عبد الله وأطاع فضرب عمرو أجلا لذلك أسبوعا وقال «فتقيم عندنا في أثناء ذلك ضيفا كريما فإذا آن الزمن عقدنا لك على خولة ثم تنصرف للبحث عن ابن عمك».
فوقف عبد الله ثم جثا بين يدي عمرو يهم بتقبيل يده وقال «لقد غمرتني بفضلك فما أنا مستطيع الشكر على نعمتك» والتمس الخروج فأذن له.
وخرج أيضا أبو خولة وهو يكاد يطير فرحا لما آنس من كرامة عمرو. وسره النصيب الجديد لابنته فسار توا إلى البيت وكانت خولة جالسة هناك على مثل الغضى تتقاذفها الهواجس بعد أن تحققت نجاة عمرو وعلمت بما فرضه من زواجها بعبد الله وهي مع حبها له تفضل البقاء على حب سعيد وهو أول من وقع في نفسها موقع الحبيب في أحوال قضت بذلك. فلما كان المساء وأبطأ والدها في الرجوع إلى البيت انشغل انشغل بالها ولبثت تنتظر عودته بفارغ الصبر لعلمها أنه لابد من مروره بعمرو على أثر ما كان من نجاته في ذلك اليوم. وحسبت لإبطائه ألف حساب. وأشد ما خافته من ذلك الإبطاء أن يكون سببه المداولة في أمرها وأمر عبد الله وهي لا تريد ذلك.
الفصل الرابع والثمانون
البشارة غير السارة
فلما انقضى العشاء ومضى بعده ساعتان قرع الباب وعلمت أنه قرع والدها فدق قلبها دقات متسارعة وعلت وجهها صفرة الوجل فظلت مستلقية على الوسادة في غرفتها ولم تمض برهة حتى فتح باب الدار. فتحول والدها توا إلى غرفتها فقرعها فنهضت لتفتح له وركبتاها تصطكان من الاضطراب. فلما فتحت له الباب دخل والمصباح في يده فوضعه على مسرجة وجلس إليها وعلى محياه أمارات البشر والسرور وهو يحسب نفسه جاءها ببشرى عظيمة. فرآها مضطربة الحواس قلقة الخاطر مع أنها كانت تحاول التجلد ولكن القلق والاضطراب غلبا عليها فقال لها «ما بالك يا بنية ما الذي يزعجك».
قالت «لا يزعجني شيء ولكنني قلقت لغيابك وأنا وحدي في هذا البيت لا أرى فيه أحدا غير الخدم».
قال وهو يبتسم «لقد دنا الوقت الذي لا تكونين فيه وحدك».
فتجاهلت مراده وقالت «يظهر أنك علمت بما أقاسيه من الوحدة فعولت على أن لا تتركني وحدي».
فضحك لسذاجتها وقال لها «ليس هذا قصدي يا خولة ولكني أذكرك باقتراح الأمير الذي أطلعتك عليه منذ بضعة أيام فإنه قد تم اليوم بعد أن صدق قول عبد الله الأموي فجمعني عمرو به الليلة في داره فرأيته شابا جميلا عليه مهابة الأمراء وقد ترين الشجاعة والأنفة تتحليان في وجهه. ويكفي أن عمرا سحر به وبالغ في إطراءه أمامي. فهذا هو خطيبك ومتى كتب الكتاب طبعا لا تكونين وحدك».
ولم يتم كلامه حتى صغ وجهها احمرار الخجل وظلت صامتة ثم أخذ العرق ينسكب عن جبينها كاللؤلؤ المنثور وهي مطرقة لا تفوه بكلمة.
ولم يكن سبب اضطرابها مجرد الخجل كما ظن والدها ولكنها أصبحت آلة تتقاذفها الهواجس حائرة بين أن تطيع عواطفها أو تطيع والدها وأميرها. ولو أنها لم تبعث إلى سعيد بخبر حبها له مع بلال لكانت المعضلة أقرب إلى الحل وإذا رفضت عبد الله رفضا باتا تغضب عمرا ووالدها. وهي مع ذلك لا تدري مصير سعيد ولا ما آلت إليه مهمته بعد خروجه من الفسطاط مع بلال ولم تر حلا غير الاصطبار فصبرت حتى يعيد والدها السؤال فتستمهله.
أما هو فلما آنس فيها ذلك الاضطراب حمله محمل الخجل وهو عادي في الفتيات في مثل هذه الحال. فوضع يده على شعرها المسدول على كتفها وقال لها «لا تخجلي يا بنية إن والدك يخاطبك وليس أحد سواه وقد تم الأمر على يد الأمير وهو شرف كبير لنا كما تعلمين».
فأجابت وهي لا تزال تنظر إلى الأرض وقالت «وهل ضرب لذلك أجلا».
قال «لقد ضرب أجلا لذلك أسبوعا».
قالت «فليكن ثلاثة أسابيع على ما أرى».
قال «ما الداعي إلى هذا التأجيل فإني أخاف أن يغضب عمرو. فأطيعيني وأنا حامل تبعة ذلك. فإن عبد الله يندر مثاله وأنا أفتخر بمصاهرته وليس هناك محل للاعتراض» قال ذلك وفي كلامه نغمة الجفاء على عادته معها إذا أراد الإصرار على أمر فخافت إذا جادلته أن لا تحسن العقبى فسكتت ثانية وأظهرت الارتياح فلما رآها كذلك قال لها «بورك فيك يا بنية وبعد أسبوع تكون كتابة الكتاب وتتم معدات الزواج».
فظلت ساكتة وقد عولت على اتخاذ وسيلة أخرى للتأجيل.
الفصل الخامس والثمانون
الخطبة الجديدة
أما عبد الله فإنه خرج من محبسه يلتمس مكانا يقيم فيه ولم يكد يخرج من دار الأمير حتى أدركه بعض رجال عمرو وناداه فعاد. فقال له «وإلى أين».
قال «إني ألتمس مكانا أقيم فيه».
قال «لقد أوصانا الأمير أن نعد لك منزلا في داره فإنك ضيف عليه».
فازداد عبد الله امتنانا من عمرو وفرح بتلك الدعوة لأنه غريب لا يدري كيف يذهب وتبع الرجل الذي كلمه إلى غرفة فيها فراش وغطاء وبعض الآنية وسأله هل يحتاج إلى طعام فاعتذر وسار توا إلى فراشه.
ولما خلا بنفسه جعل يفكر بنجاته وصورة ابن عمه سعيد لم تبرح من مخيلته طول ذلك الليل. على أنه اطمأن على حياته ولكنه مال بكليته إلى استطلاع خبر مهمته ليدري ما تم للإمام علي.
وكانت ذكرى خولة تعترض هواجسه وود لو يراها ليستطلع ما يكون من حظه معها ولكنه لما تذكر إطناب عمرو بها تحقق لياقتها على أنه مازال مشتاقا لرؤيتها ولما أصبح سار إلى المسجد صلى الصبح وهو يتوقع أن يرى والد خولة لعله يدعوه إلى منزله فيتخذ ذلك وسيلة لرؤية خولة ولو خلسة. وكان والد خولة قد مر بالجامع في ذلك الصباح عمدا لهذه الغاية فلقيه فسلم عليه ودعاه للعشاء فقال له «إني في ضيافة الأمير ولا يليق بي قبول الدعوة إلا بعد استئذانه».
فقال «أنا استأذنه عنك».
قال «حسنا» وافترقا. فمشي عبد الله في شوارع الفسطاط وأسواقها فمر ببيت خولة وهو لا يعرفه. وكانت خولة قد أصبحت في ذلك اليوم وهي لا تزال قلقة البال فخرجت تمشي في الدار فوقع نظرها على عبد الله وهو مار ولم تكن رأته قبل ذلك الحين ولكنها استنتجت من لباسه وقيافته مع مشابهته سعيدا أنه هو عبد الله خطيبها فاختلج قلبها في صدرها ونفرت لأول وهلة ولكنها أرادت أن تتبين حاله فتفرست فيه وهو ماش فرأته معتدل القوام رشيق الحركة فارتاحت لرؤيته وسرت به لمشابهته بسعيد ولكنها ما لبثت أن نفرت منه لما ذكرت أنه سيحرمها من حبيبها ومازالت تتبعه بنظرها حتى توارى وهو لم ينتبه.
الفصل السادس والثمانون
الزيارة الأولى
عادت خولة إلى غرفتها وهي منقبضة النفس وقضت نهارها لم تذق طعاما ولما كان الغروب آمن زمن رجوع والدها من شغله وكان الخدم قد أعدوا المائدة له ولضيفه وخولة لا تدري. وما عتم أن دخل الدار وتنحنح على جاري عادته كأنه ينبه أهل المنزل إلى مجيئه. فتظاهرت خولة بارتياحها لقدومه ولكنها عولت على التمارض على أنها ما لبثت أن رأت مع والدها شابا عرفت أنه عبد الله فخفق قلبها وغلب عليها الاضطراب وتوارت في غرفتها وقد بردت أطرافها.
وأما والدها فإنه ذهب بضيفه إلى غرفة الضيوف فتركه هناك وجاء إلى خولة فرآها مستلقية في الفراش وقد امتقع لونها فتحفزت للنهوض وهي تتظاهر بالضعف. فقال «ما بالك يا خولة».
قالت «لا بأس علي غير أني أشعر بانحطاط وانحرف لا أدري سببه».
فدنا منها وهمس في أذنها قائلا «ليس ثمت داع إلى الانحطاط وقد جاءنا ضيف عزيز».
قالت وهي تتجاهل «مالي وللضيوف إني لا أستطيع النهوض ولا يطلب مني ملاقاة الضيوف».
قال «إننا لا نكلفك ملاقاتهم ولكن هذا الضيف أصبح من أقربائنا ولا بأس من ملاقاته عملا بأمر الأمير عمرو بن العاص».
فقالت «ولكنني منحطة القوى. دعني أنام الآن وسألاقيه في فرصة أخرى وأنا صحيحة إن شاء الله».
قال «ولكنني كنت أظنك أكثر رغبة مني في رؤيته بعد أن قصصت عليك أمر خطبته لك. أيليق بنا بعد هذه الخطبة أن نظهر له هذا الجفاء».
فتحيرت خولة ولم تدر بماذا تجيبه وهي تخاف غضبه لما تعلمه من سوء خلقه وسرعة حمقه فظلت صامتة.
فأمسكها بيدها وأنهضها فوقفت بالرغم عنها وسارت في أثره وهي مطرقة فلما وصلا باب الغرفة وقف بها وقال لها «ضعي خمارك على رأسك وانزعي هذا الذبول واستقبلي الرجل بما يليق بأمثالك لئلا يبلغ عمرا عنا ما يدل على مخالفة رأيه فنقع تحت طائلة غضبه».
فرأت خولة من الحكمة أن تتجلد وتصبر لئلا يحمق والدها فيسمعها ما يكدرها فخفت إلى خمارها فوضعته على رأسها وأصلحت ثيابها بما يليق أن تقابل به الضيوف وخرجت في إثر والدها حتى دخلا على عبد الله.
الفصل السابع والثمانون
الزفاف الكاذب
وكان عبد الله قد لحظ من إبطاء أبي خولة في غرفتها أنه يستدعيها فأصبح مشتاقا إلى رؤيتها وهو لا يطمع أن يرى وجهها دفعة واحدة لما كان يتوقعه من حيائها ولكنه قنع بأن يرى قامتها ومجمل حالها. فلما أشرفت على الغرفة وتبين جمالها واعتدال قوامها انفتح قلبه لها وحمد الله لتوفقه إلى مثلها بعد نجاته من الموت. فدخلت وحيت بما يجدر بمثلها في مثل هذا المقام وجلست على وسادة بجانب والدها. وكان عبد الله يسارق اللحظ إليها فلا يزداد إلا إعجابا. ولم تمض تلك الليلة حتى علق بها ووقعت من نفسه موقعا ساميا لما آنسه من جمالها مع ما بدا له من ذكائها وتعقلها في أثناء الحديث مما يندر مثاله في أمثالها من ربات الخدور فخرج بعد العشاء وقلبه منشغل بخولة وقد ندم لتأجيل الاقتران.
قضى عبد الله في مثل ذلك بقية الأسبوع وهو يتردد على بيت خولة ويزداد تعلقا بها. ولم يصدق أن آن يوم الزفاف. فدعاه عمرو إليه وقال «أريد أن أعقد لك عليها في داري وتقيمان عندنا حتى يتراءى لكما مفارقتنا» فعل عمرو ذلك التماسا لما عزم عليه من استجلاب عبد الله إلى جانبه. فسر عبد الله بذلك وأثنى على الأمير ولما كان الوقت المعين زفت خولة إلى عبد الله وكتب كتابها عليه على جاري العادة يومئذ وعبد الله أكثر الناس سرورا بهذا النصيب ولولا ما يجول في خاطره من أمر سعيد وغيابه مع قلقه على حال الإمام علي لعد نفسه من أسعد خلق الله لأنه آنس في خولة ما طالما تاقت إليه نفسه في النساء من التعقل والرزانة مع الجمال والذكاء.
ولما فرغوا من العرس وانفض الاجتماع أدخلوا العروسين إلى غرفة خاصة بهما.
الفصل الثامن والثمانون
كشف النقاب
فلما خلا عبد الله بخولة تقدم لنزع الغطاء عن وجهها فأمسك النقاب ورفعه فإذا بها قد أعادته إلى ما كان عليه. فظنها تداعبه على سبيل المزاح فضحك وقال لها «يظهر أنك لا تحبين عبد الله».
قالت وهي مطرقة «يعلم الله أني لا أكرهه».
فمد يده إلى النقاب ثانية وحاول رفعه فمنعته. فاشتبه في أمرها فأمسك يدها وقال لها بلهجة الجد ونغمة المحب العاتب «ما بال خولة تمنعنا مما أحله لنا الشرع ودعانا إليه القلب».
وكانت خولة واقفة بجانب الفراش فابتعدت عنه وأسندت ظهرها إلى الحائط وهي تبالغ في إرسال النقاب وظلت مطرقة ولم تبد جوابا.
فاستغرب عبد الله سكوتها وتمنعها على هذه الصورة وظن في الأمر خديعة فأظهر الجد وتبعها وهو لا يزال قابضا على يدها حتى وقف بجانبها وقال لها «ما الذي أراه يا خولة؟ ما الذي تحدثك به نفسك؟ إن كنت إنما تفعلين ذلك لمجرد الحياء فهو غلو لا محل له وقد عقد كتابنا بحضور أمير مصر ونخبة الأعيان والأمراء. وإن كنت رضيت بي مكرهة وأنت تحبين سواي قولي».
فلما قال ذلك رفعت رأسها إليه وجذبت يدها من يده بلطف وقالت «نعم إني أحب سواك ولكنني قلت لك إني لا أكرهك بل أحبك محبة الأخ لا محبة الزوج».
فبغت عبد الله وعلته الدهشة وكاد الغضب يغلب عليه لو لم يصبر نفسه ريثما ينكشف له سبب تمنعها. فنظر إليها نظر الغاضب وقال «لقد رأيت منك العجب وأعجب ما أراه احتقارك إياي بما لم أكن أتوقعه منك بعد أن كتب الكتاب. هلا كشفت لي عن سبب ذلك؟»
قالت وقد أمسكت النقاب وأزاحته عن وجهها «إني لا أعتبر هذا الحجاب واجبا بيني وبيك ولا أنا خائفة من اطلاعك على ما في ضميري ولكني أسألك سؤالا إذا أجبتني عليه بحت لك بسر الأمر».
فمال بكليته إليها وقد أعجبته جسارتها وحريتها ولم يزده كشف النقاب إلا احتراما لها فقال «اسألي فإني مجيبك».
قالت «كيف رضيت بعقد قرانك وابن عمك غائب».
فقال «وأي ابن عم تعنين».
قالت «أعني ابن عمك سعيدا الذي جئت معه إلى الفسطاط ألا يهمك أن تعرف ما آلت إليه حاله؟»
الفصل التاسع والثمانون
استطلاع السر
فاستغرب ذلك منها ولم يكن يعلم اطلاعها على شيء من ذلك فقال «من أين لك أن تعرفي ابن عمي وما جئت من أجله الفسطاط».
فتنهدت وقالت «عرفته بقدر من الله إني أعجب من نسيانك تلك المهمة التي جئتما من أجلها. هل تظن الإمام عليا نجا من القتل؟»
فازداد عبد الله استغرابا ونسي ما كان يعد به نفسه من قربها وهاجت به أشجانه وتذكر ابن عمه فقال «لقد أذهلتني يا خولة بما سمعته منك فأفصحي عما في ضميرك وأخبريني كيف عرفت ابن عمي وما العلاقة بينه وبين تمنعك الليلة؟»
قالت «أتعدني بالكتمان وحفظ الذمام».
قال «نعم أعدك وعدا صادقا فأفصحي إن لم يبق لي صبر على هذه الرموز».
فتنهدت وعلت وجهها حمرة الخجل وهمت بالكلام فارتج عليها وعبد الله يتأمل ملامحها ويراقب ما يبدو منها وظل صامتا فلم يسمع منها شيئا. فقال«لها بالله لا تطيلي السكوت فقد نفذ صبري قولي ما بدا لك فرجي كربتي».
قالت «أقول ولا أخشى لوما أني أحببت سعيدا قبل أن أراك وهو أحبني على ما أظن وحبنا مؤسس على اشتراكنا في الاستهلاك بسبيل الإمام علي. قد سار سعيد غد الليلة التي أغرق بها عمرو أصحاب عين شمس وهو يظنك في جملة الغرقى ولا أظنه إذا عرف بقائك حيا إلا طائر من الفرح» وقصت عليه حديثها مع سعيد من أوله إلى آخره.
ولم تكد خولة تتم حديثها حتى استولت الدهشة على عبد الله وخيل له أنه في منام ولما تحقق أن خولة تحب سعيدا وقد آنس منها ذلك الثبات في حبه أحس لساعته أنه لم يبق له حق في زواجها وازدادت هي رفعة في عينيه فقال لها «اعلمي يا خولة أني من هذه الساعة أعدك أختا لي وإني مساعد لك على اقترابك من سعيد فإنه بمنزلة أخي. وقد أوصيت بكفالته وصية مقدسة ولقد أحسنت بما بسطته لي من حقيقة حالك وعليه فإني مسافر في الغد إلى الكوفة لأبحث عنه واستطلع ما تم للإمام علي مع ذلك الغادر».
الفصل التسعون
الوفاق التام
فابتدرته خولة قائلة «لا تعجل يا عبد الله إن ذهابك ذاهب عبثا لأننا لا نلبث بعد قليل أن نسمع الخبر من عبدي بلال الذي رافق سعيد إلى الكوفة فقد أوصيته بالعودة حالا وأظنه يصل إلينا بعد أيام ونرى ما يكون. وأما الآن فاكتم ما دار بيننا واجعل أنك زوجي ريثما ترى ما يكون.
فالتفت عبد الله إليها وقد ازداد إعجابا بحميتها وثبات جأشها وقال «إني أهنئ أخي سعيدا بهذا النصيب وأرجو أن يكون قد نجا من مكائد أولاد الحرام» أراد بذلك قطاما فإنه مازال يسيء الظن بها وقد أدرك أنها هي التي وشت بهما إلى عمرو بن العاص.
فقالت «إني أتوقع رجوع بلال لأسمع منه ما آلت إليه حال الإمام علي ومعاوية هل نجا أحد منهما. أما عمرو فقد نجا والفضل في ذلك راجع إليك».
فقال «ولكنك تعلمين أني إنما بحت بذلك لعمرو التماسا للبقاء ولم أذكر له المؤامرة على قتل معاوية لئلا يبعث إليه بمن يحذره فينجو».
قالت «إني لم ألمك قط ولكن هذه إرادة المولى فالآن لابد من التربص فامض إلى فراشك وإني متوسدة هذا البساط».
قال «لا والله إنك لا تبيتين إلا على الفراش وأنا أولى بهذا البساط».
وباتوا تلكا لليلة وقد سرت خولة بنجاتها مما كانت تخافه. وأما عبد الله فإنه بات معجبا بخولة كل الإعجاب وقد أسف لخروجها من قبضته بعد أن عرف فيها هذه الخصال. ولكنه لم يأسف لأنها ستكون نصيب أخيه. وقضيا تلك الليلة بأمثال هذه الهواجس ولم يناما إلا قليلا.
وأصبحا في اليوم التالي والناس لا يعلمون إلا أنهما زوج وزوجة وظلا مقيمين في دار الأمير حتى قدرت خولة دنو الوقت الذي كانت تتوقع رجوع بلال فيه فالتمست المضي على بيت والدها مخافة أن يأتي بلال في أثناء غيابها فيطرده والدها أو يتهدده ولا يراها هناك فيعود من حيث أتى.
فوافقها عبد الله واستأذنا عمرا في الذهاب إلى هناك فأذن لهما فاستقبلهما والدها بالترحاب.
الفصل الحادي والتسعون
قدوم بلال
ولم يمض يومان على مكثهما في بيت خولة حتى قدم بلال وكان وصوله الفسطاط في أثناء النهار ووالد خولة في حانوته. ودخل بلال الفسطاط متنكرا فمر بحانوت سيده ونظر إليه خلسة فإذا هو هناك فهرول إلى البيت ودخل توا إلى غرفة سيدته بلا استئذان فوجد عندها شابا لا يعرفه و رآها بجانبه كأنها جالسة إلى شقيق أو قرين.
فبغت لذلك ولكنه اشتغل بما آنسه من ترحابها به. فقالت له «أغلق الباب وادخل».
ففعل ودنا منها وهو ينظر إلى عبد الله شذرا فأدركت خولة ما يجول في خاطره فقالت له «لا تسيء الظن إن هذا أخي بعهد الله فاقصص علينا خبرك سريعا وقل لنا أول كل شيء كيف فارقت الإمام عليا؟»
فسكت ولم يجب.
فألحت عليه وقد علتها البغتة.
فأجابها بصوت مختنق «أن عليا قد ذهب ضحية ذلك الخائن».
فصفقت خولة كفا بكف وصاحت «وا لهفي عليك يا أبا الحسن» وقال عبد الله مثل ذلك ثم قالت «وماذا جرى لابن ملجم» قال «أنه قتل شر قتلة لعنه الله».
فقال عبد الله «وكيف فارقت سعيدا».
قال «فارقته بخير وعافية وقد سار للبحث عن تلك الخائنة اللعينة».
قال عبد الله «أوتعني قطاما؟»
قال «نعم وما أدراك أني أعنيها وكيف عرفتها يا مولاي؟»
قالت خولة «ألم تعلم من هو هذا الشهم؟»
قال «كلا».
قال «ألم يذكر سعيد أمامك أنه فقد ابن عمه هنا».
قال «بلى».
قالت «هذا هو ابن عمه عبد الله».
فبهت بلال وغلب عليه البكاء من الفرح وصاح «أن حي يا مولاي ... آه من لي بمن يحمل هذه البشرى لابن عمك. والله إني حاملها إليه الساعة بعد أن أسر إلى سيدتي كلاما أوتمنت عليه».
الفصل الثاني والتسعون
إبلاغ الرسالة
فالتفت إليه وقالت «قل يا بلال ليس على عبد الله سر وهو أخي كما قلت لك قل كيف فارقت سعيدا».
قال «فارقته يا مولاتي وهو مشتاق لرؤيتك ولم يأت معي مخافة أن يكون أميرنا نجا من المكيدة فلا يأمن منه على حياته. وقد علمت وأنا مار في الفسطاط الساعة أنه نجا وقتل غيره خطأ ولا أدري كيف حال سيدي والدك معك فلا آمن عليكما منه».
قالت «اعلم يا بلال أن عمرا نقم على ابن ملجم ورضي عني وهو يحبني حبه لأولاده أما سعيد فلا هو يعرفه ولا والدي رآه فإذا جاء لم يكن عليه بأس وشأنه في الفسطاط شأن كل غريب يدخلها. فاقصص علينا خبر ابن ملجم والإمام وكيف قتلا؟»
وأمرته بالجلوس فجلس متأدبا وقص عليهما الخبر بتفاصيله. فلما بلغ إلى حديث قطام وما أرادته من قتل سعيد هاجت في نفسها حاسة الغيرة والانتقام وقالت «قبح الله هذه المرأة إني أعرفها وأسمع بدهائها فكيف انطلت حليتها على سعيد؟»
فابتدرها عبد الله «إني والله توسمت فيها الشر منذ رأيتها» وقص عليها ما كان من أمره معها. فانكشفت لهم الحقيقة وشكرا الله على نجاة سعيد ولكنهما أسفا على مقتل الإمام علي ثم استدركت في حديثها فقالت «وهل سمعت شيئا عن معاوية ومقتله؟» قال «لقد مررت بدمشق في طريقي فعلمت أنه نجا أيضا. وقص عليها خبره كما سمعه فعجبت لمجاري القضاء كيف سمحت بمقتل الإمام علي وبقاء معاوية وعمرو؟!»
فقال عبد الله «وأين سعيد الآن؟»
قال «هو في انتظاري بدمشق فإذا أمرت مولاتي عدت إليه حالا وجئت به على عجل وأرجو أن يكون قد ظفر بتلك الخائنة وانتقم منها وإذا لم يظفر هو بها لست تاركها حتى انتقم منها فقد هاجت دمي بما ارتكبته من الخيانة».
قالت خولة «بورك فيك يا بلال فعليك الآن أن تستقدم سعيدا على عجل».
فقال «وهل آتي به إلى هذا البيت؟»
فاستصوبت خولة سؤاله لأن مجيئه إلى بيت والدها قد يوجب العراقيل. فنظرت إلى عبد الله كأنها تستفتيه في الأمر فأشار إليها أنه يريد البحث في ذلك سرا.
فالتفتت إلى بلال وقالت له «أخرج الآن قبل أن يأتي والدي وهو ناقم عليك لاعتقاده أنك فررت بالجملين من داره وانتظر عبد الله في المسجد الليلة وهو ينبئك بما تفعله».
الفصل الثالث والتسعون
العزم على الكوفة
فخرج وبقي عبد الله وخولة على انفراد فقالت خولة «وما العمل يا عبد الله أخاف إذا جاء سعيد وأردنا فسخ عقدنا أن ينفتح علينا باب للأخذ والرد ونحن نود كتمان الأمر فما الرأي؟»
قال «أرى أن نلتمس من عمرو الخروج من الفسطاط والذهاب إلى الكوفة فقد كنت التمست منه السفر فأخرني إلى ما بعد كتابة الكتاب. فهم لا يعرفون الآن إلا أنك امرأتي والرجل يذهب بامرأته إلى حيث شاء. فإذا سرنا إلى الكوفة وأوصينا بلالا أن يوافينا بسعيد إلى هناك تنازلت له عنك وعقد له عليك ولا رقيب علينا ولا واش. وإذا طاب لنا العود إلى الفسطاط عدنا بعد ذلك وإلا فإننا نمكن في الكوفة إلى ما شاء الله».
فصمتت خولة برهة وهي تفكر في الأمر فرأت رأي عبد الله مصيبا فقالت «نعم الرأي رأيك ولكنني تعودت الفسطاط وألفت الإقامة في وادي النيل ولي فيه الأهل والأصدقاء فإذا أتيح لي البقاء فيه كان ذلك أفضل لي وأبقى».
قال «لا أنكر عليك ذلك وهو ميسور لك فيما بعد وأما الآن فلا أرى خيرا من الذهاب إلى الكوفة».
قالت «وأخشى مع ذلك أن لا يأذن والدي بذهابنا إلى هناك إذ هو عالق بي وليس له سواي فلا أخاله إلا ملحا عليا بالإقامة هنا».
قال «إننا نطاوله ونماطله حتى يأذن بانصرافنا ولو بعد حين ونوصي بلالا أن يخبر سعيد بالتربص في الكوفة ريثما يأتيه ولو أبطأنا».
قالت «افعل ما بدا لك والله الموفق في كل حال».
قال «فلنعد الآن إلى دار الأمير ومتى كنا عنده كان خروجنا من الفسطاط سهلا لأنه هو الذي وعدني بإخلاء سبيلي للبحث عن ابن عمي سعيد فأذكره بوعده ولا أظنه إلا مؤذنا بانصرافي معك».
قالت «ولكننا نبيت الليلة هنا ونصبح إلى دار الأمير».
قال «حسنا» ولما كان العصر خرج إلى المسجد فوجد بلالا في انتظاره فأوصاه أن يذهب بسعيد إلى الكوفة ويتربص به هناك حتى يأتيا إليهما.
فانبسط وجه بلال وابتسم ثم قال «إن هذا ما كنت أرجوه من مولاي لأنني إذا كنت في الكوفة توقفت إلى الانتقام من قطام اللعينة».
فضحك عبد الله وقال «وأوصيك إذا أنت ظفرت بها أن لا تعفو عن عجوزها لبابة فإنها قهرمانة شريرة».
قال «لا توص حريصا» ثم ودعه وانصرف.
الفصل الرابع والتسعون
دعوة غريبة
أما عبد الله فلما رأى نفسه بباب المسجد والصلاة قائمة والناس يدخلون أفواجا دخل في جملة الداخلين فرأى عمرا على المنبر يعظ الناس وهم صامتون فوقف حتى فرغ عمرو من خطابه وانقضت الصلاة فتحول للخروج. ولم يكد يتحول من صحن المسجد حتى اعترضه بعض الشرطة قائلا «تمهل يا مولاي إن الأمير يستوقفك لأمر يريد أن يخاطبك بشأنه».
قال «وأين هو الأمير؟»
قال «كان في المسجد كما رأيته وقد تحول الآن إلى داره من باب في المحراب».
قال «وهل هو يريد مقابلتي الآن؟»
قال «نعم».
فانشغل بال عبد الله لذلك الطلب وخاف أن يكون مبنيا على مخاطبته بلالا إذ ربما كان أحد عارفا بمهمته أو غير ذلك. ولكنه مشى حتى أقبل على مجلس عمرو وكان إذا وصل المجلس دخل بلا استئذان. فلما هم بالدخول اعترضه الحاجب قائلا «تمهل ريثما نستأذن لك» فوقف عبد الله ودخل الحاجب ثم عاد فاستفهم عن الجوانب فقال «أن الأمير يريد الخلوة بك على انفراد الليلة فإذا أتيت في العشاء تعال وحدك».
فاستغرب عبد الله ذلك الشرط وأشكل عليه المراد منه فاستزاد الحاجب إيضاحا هل المراد أن يأتي وحده بمعنى أن لا تكون خولة معه.
قال «أظن هذا هو مراده فإنه قال ليأت وحده لكلام سألقيه إليه على انفراد».
فعظم الأمر على عبد الله وحسب لذلك ألف حساب. ولم تكن الشمس قد مالت إلى الغروب فعاد إلى البيت والهواجس تتقاذفه وظهرت عليه أمارات الانقباض فلما أقبل على خولة ورأت على وجهه آيات الاضطراب ابتدرته قائلة «ما بالك يا عبد الله ما الذي غير وجهك إني أراك متغيرا وأرى في وجهك انقباضا قل رعاك الله ما أوجب ذلك».
قال وهو يحاول التجاهل «ليس في شيء مما تقولينه لكن يظهر أني تعبت من سماع العظة في المسجد ومللت مسافة الطريق وليس ذلك من الانقباض في شيء وكيف ينقبض عشيرتك وأنت مصدر السعادة وينبوع الهناء؟»
فلم تقتنع بقوله ولكنها سكتت على أن تستطلع السر بعد قليل بلباقة. وغيرت الموضوع فقالت «وهل رأيت بلالا؟»
قال «نعم وقد أوصيته بما يقوله لسعيد».
قالت «وهل سافر؟»
قال «أظنه يستريح الليلة خارج الفسطاط ويقلع في الغد باكرا».
وفيما هما يتحادثان جاء والدها فدخلوا جميعا وعلى وجه والدها ظواهر الغضب وكانت خولة تعرف غضبه بمجرد النظر إلى وجهه. فلما رأته كذلك زاد اضطرابها وجعلت تفكر في سبب غضب الاثنين. فخطر لها أنهما تخاصما ولكنها لم تكن تجد سببا لذلك. ولم تجسر على سؤال والدها ولا أرادت الإلحاح على عبد الله في الاستفهام فتركت ذلك إلى ساعة الاختلاء به.
وبعد قليل مدت المائدة فجلسوا إليها وليس فيهم من يتكلم كلمة إلا ما تدعوا إليه الحال من طلب شيء أو الاستفهام عن شيء يتعلق بالطعام ونحوه.
الفصل الخامس والتسعون
غرفة عمرو
وكان عبد الله لما جلس إلى المائدة لم يغير ثيابه كالعادة فلما نهضوا عن العشاء أخبر خولة ووالدها إنه منصرف في حاجة تقتضي غيابه ساعة. وكأن طلبه هذا جاء طبق ما يرجوه أبو خولة فلم يسأله عن سبب ذهابه ولا استدعى سرعة رجوعه.
فازدادت خولة حيرة وظلت ساكنة ولم يخطر لها أن لذهاب عبد الله علاقة بما بدا لها في وجهه من الانقباض. ولكنها رافقته إلى باب الدار وتوسلت إليه أن لا يطيل الغياب. فأجابها أنه لا يدري ساعة رجوعه لأنه لا يعلم ما يكون من دواعي تأخره ولم يشأ أن يبوح لها بسبب ذهابه ولا ترك لها فرصة للاستفهام فودعها وخرج وهو يسرع في مشيته وأفكاره تائهة في ما عساه أن يكون غرض عمرو من دعوته على هذه الصورة.
ولما وصل دار عمرو خفق قلبه مخافة أن يسمع من الحاجب خبرا جديدا يزيد قلقه فلم يكلمه الحاجب إلا بقوله أن الأمير ينتظرك في غرفته الخصوصية.
فمشى عبد الله إلى تلك الغرفة وهو يقدم قدما ويؤخر أخرى حتى وصل إلى الباب فإذا هو مغلق فقرعه ووقف ينتظر فتحه ثم سمع خطوات تسرع نحو الباب تتخللها همس لم يفهم منه شيئا. وبعد هنيهة فتح الباب فإذا عمرو نفسه يفتحه بيده فبغت لما رآه أمام عينيه وعلى وجهه دلائل الغضب. فحياه عبدا لله فلم يزد عمرو على قوله «وعليك السلام» وسار إلى صدر الغرفة فتبعه عبد الله وهو ينظر إلى جوانب المكان لعله يرى فيها أحدا. فلم يجد فالتبس عليه الأمر لما سمعه من الهمس وهو واقف خارجا. ولكنه رأى في بعض جدران الغرفة بابا عليه ستار وهو يعلم أن ذلك الباب يستطرق إلى غرفة أخرى فظن بعض نسائه كانت عنده فلما علم بقدومه صرفها من الباب الآخر واستقبله.
وكان عبد الله يفكر في ذلك وهو ماش في ثرا عمرو حتى جلس عمرو على مقعده فوقف عبد الله بين يديه ينتظر أمره بالجلوس فأشار إليه فجلس على وسادة بالقرب منه وهو ينتظر ما يقوله وقد نفد صبره.
الفصل السادس والتسعون
الاستنطاق
فصبر عمرو لحظة وفي يده درة (سوط) يلاعبها بين يديه كأنه يتشاغل بها عن قلق يخامر ذهنه ففتح عبد الله الحديث قائلا «كيف حال مولاي الأمير وما الذي يأمر به عبده فقد لبيت دعوته وأنا راج أن يكلفني أمرا أقضيه له جزاء لبعض ما له علي من الفضل».
فالتفت إليه عمرو وهو يمشط لحيته بأنامله وقال «إنما دعوتك لأسألك سؤالا واحدا وأرجو أن تصدقني في الجواب عليه مما أحسني أجزلته لك من الجميل وألقيت عليك بعد أن رأيت الموت رأي العين».
فوقف عبد الله احتراما وقال «يعلم الله أني لا أنسى جميلا أوليتني إياه بإغضائك عن جريمة اقترفتها ثم بإنعامك علي بحياتي وهي خير هبة فكيف لا أصدقك؟»
قال ذلك وقلبه يخفق خوفا من سماع ما قد يكون سبب نقمته عليه.
وأقعده عمرو قال «بلغني اليوم من مطلع على أحوالك أنك إنما جئت الفسطاط مع رفيقك سعيد للفتك بي هل ذلك صحيح؟»
فنهض عبد الله ثانية وقال ولهجة الصدق بادية على وجهه «كلا يا مولاي إن ما بلغك من ذلك محض افتراء».
قال «وما الذي جاء بكما إذا؟»
قال «أما وقد سألتني عن ذلك فاسمح لي أن أقول الحق وأرجو تثق بصدق قولي».
قال «قل الصدق ولا تبال فلا بأس عليك إلا إذا رأيت في كلامك عوجا فلا تلم إلا نفسك».
قال «أقسم برأس الأمير إني لا أقول غير الصدق ولكن حديثي طويل فهل أبسطه كله».
قال «أجبني أولا على سؤالي مختصرا فإذا رأيت ما يدعو إلى التفصيل طلبته. سألتك عما دعاكما إلى المجيء للفسطاط والاجتماع بتلك الزمرة المعادية».
قال «إنما جئت للبحث عن المؤامر على قتل الإمام علي».
قال «ولماذا؟»
قال «لكي أبذل جهدي في زجره وإنقاذ الإمام من الموت».
قال «كيف تفعل ذلك وأنت أموي على ما أعلم».
قال «لقد ألجأتني يا مولاي إلى بعض التفصيل ألا تعرف جدي أبا رحاب».
قال «بلى أعرفه وقد سمعت بوفاته قريبا».
قال «نعم إنه مات وقد كان إلى يوم مماته يكره عليا ويدعو إلى قتله ولكنه في يوم مماته استحلفني واستحلف ابن عمي سعيدا أن لا نبغي شرا لعلي بل إذا رأينا سبيلا إلى الدفاع عنه أن نفعل. فلما سمعنا بالمؤامرة علمنا أن المؤامر على قتل علي من أهل مصر ولكنا لم نعلم من هو فجئنا للبحث عنه وردعه بالتي هي أحسن. ولم تر سبيلا لمعرفته إلا بواسطة أصحاب عين شمس لأنهم على دعوة علي».
فقال «ألم تكن عالما أيضا بمؤامرة رفيق ابن ملجم على قتلي؟»
قال «بلى ولولا ذلك لم استطلع اطلاعك عليه».
قال «وكيف أنك لم تطلعني عليه حال قدومك ألا تعلم أنك تعد بذلك مؤامرا على قتلي؟» قال ذلك ولحيته ترقص من شدة التأثر ولسان حاله يقول لقد حججتك وغلبتك وأكدت خيانتك.
فقال «نعم أعلم ذلك ولكن حلمك قد وسعني من قبل وعفوت عما مضى وغمرتني بإنعامك فإذا رأيت أن تعود إلى مطالبتي به كان لك الأمر ولكنني لا أخال الأمير عمرو بن العاص إذا عفا عن مذنب أن يرجع عن عفوه».
فلما سمع عمرو كلامه أفحم وسكت.
وشعر عبد الله عند ذلك بقوة انبثت فيه وتارت الحمية في رأسه فهم أن يستأنف الكلام فابتدره عمرو قائلا «ولكن بلغني أنك عرفت خولة قبل أن أخطبها لك وأنها كانت عالمة بخبر تلك المؤامرة فكيف لما ذكرتها لك ليلة الخطبة تجاهلتها».
فارتبك عبد الله في الجواب وكاد يعثر لو لم يثبت جأشه وقد عول على الصدق فقال «حاشاي ياي مولاي أن أخدعك فإني ورأسك وكل غال عندي لم أكن أعرف هذه الفتاة قبل أن ذكرتها لي وأمرت بأن تكون زوجتي».
فقال «وما تقول في سابق اطلاعها على خبر المؤامرة؟»
فتحير عبد الله في الجواب ولكنه فقه لباب يتخلص منه فقال «ذلك ليس لي أن أجيب عنه فإن خولة جاريتك وهي تجيب عن نفسها. ادعها إلى ما بين يديك واسألها ولا أشك في أنها تقول الصدق ولكنني أرغب إلى مولاي أن يخبرني عمن وشى بنا إليه لعلنا نكذبه بين يديه».
قال «سأجمعكم جميعا وأسمع احتجاجكم جهارا فإذا سمعت أقوالكم جازيت كلا بما يستحقه. اذهب الآن إلى فراشك عندنا وغدا لناظره قريب» قال ذلك ونظر نحو الباب ونادى «يا غلام» فدخل رجل فقال له «خذ عبد الله إلى غرفة يبيت فيها الليلة هنا واتني به غدا متى دعوته».
قال سمعا وطاعة وخرج عبد الله والحاجب يسير أمامه حتى دخل به غرفة في دار الأمير التمس المبيت فيها ولكنه لم يغمض له جفن طول ذلك الليل.
الفصل السابع والتسعون
الجلسة الخصوصية
ولما أصبح عبد الله تحير في هل يخرج إلى الأمير أم ينتظر أمره. ولبث جالسا حتى كان الضحى وإذا بالحاجب قد جاء يدعوه إلى مجلس الأمير في غرفة خاصة غير مجلسه الاعتيادي فمشى وهو يفكر في ماذا عسى أن يكون من أمر تلك الجلسة ومن هو الواشي وهل تستطيع خولة الدفاع عن نفسها بما يضمن نجاتها؟.
ولاحت منه التفاتة إلى ساحة الدار فرأى هناك عبدا تذكر أنه رآه ولم يلبث أن عرفه فإذا هو ريحان عبد قطام فاختلج قلبه في صدره وقال في نفسه إنها والله وشاية هذه الخائنة وأظنها أرسلت عبدها إلى عمرو كما أرسلته في المرة الماضية لعنها الله.
ومازال ماشيا وهو يفكر في ذلك وقد تغير سحنته من عظم التأثر فرأى الحاجب دخل بابا فدخل هو في أثره فإذا هو مقبل على قاعة في صدرها الأمير عمرو بن العاص كأنه جالس للقضاء وعليه جبة بيضاء وعلى رأسه عمامة كبيرة وقد قعد الأربعاء على وسادة من الدمقس وفي يده الدرة والسبحة معا. فتقدم عبد الله توا إليه فحياه ولم يلتفت إلى سواه. فأمره بالجلوس ببرود ظهر الفرق بينه وبين مقابلاته الأولى. فجلس عبد الله في بعض جوانب الغرفة وأرسل نظرة فرأى إلى جانبه عمه أبا خولة وعن يسار عمرو ثلاث نسوة قد أرسلن النقاب على رؤوسهم فلا يظهر منهن غير العيون من ثقوب فيه. فعرف منهن خولة ولم يكن يجسر على التفرس بالآخريين حياء. فجلس وهو يسترق اللحظ ويفكر فخطر له أن إحداهن قطام جاءت هذه المرة لقضاء حيلتها بنفسها. ثم ما لبث أن عرف الأخرى فإذا هي لبابة العجوز فتحقق أنهما وشيتا به وبسعيد. وكانت قطام قد أبطلت الحداد على والدها وأخيها بعد قتل الإمام علي فارتدت كساء من الحرير المزركش بالقصب صنع بلاد فارس أحمر اللون ناصعه لا يستطيع لبسه الأغنياء وكان نقابها مزركش الأهداب بما يدل على بذخ وترب. وتصور عبد الله جمالها وفصاحتها وحيلتها فعلم أنها غلبت على رأي عمرو أقنعته أن عبد الله وخولة يستوجبان القتل أو نحوه فأخذ يتأهب للجواب.
ومضت برهة والكل صامتون وعمرو ينظر إلى الأرض والدرة في يد كأنه ينكث البساط بها ويده الأخرى على لحيته يلاعب شعرات منها بين أنامله والاهتمام باد بين حاجبيه. ثم رفع بصره ونظر إلى الباب ونادى غلامه فدخل فقال له «لا تستأذن لأحد بالدخول علينا ولا تدع أحدا يقترب من هذا الباب».
قال سمعا وطاعة وخرج.
ثم التفت عمرو إلى أبي خولة وقال «أهذا جزاء التفاتي إليك يا أبا خولة؟»
فوقف أبو خلولة وقد بغت وقال «وما ذلك يا مولاي. إني لا أعرفني إلا مخلصا لك خادما لمقاصدك».
قال «ربما كنت كذلك ولكن خولة هذه (وأشار إليها) تواطئ الناس على قتلي وتسعى في إنقاذ ابن أبي طالب».
فلما سمع أبو خولة قوله مشى مسرعا حتى أمسك ابنته وقال «إني لا أعرفها إلا جارية من جواري مولاي فإذا ارتكبت شيئا من ذلك فإني أذبحها بين يديك ودمها هدر لك» قال ذلك وجذبها كأنه يريد إيقافها وتقدميها إلى عمرو. أما هي فظلت جالسة ولم تبال.
فقال له عمرو «عد إلى مكانك ودعها تدافع عن نفسها فإني لا أريد أن أعاقبها إلا بعد المحاكمة فإذا صح ما قيل عنها كان القتل أخف قصاص لها».
فلما سمع عبد الله تلك اللهجة الشديدة اختلج قلبه في صدره وخاف عاقبة تلك الجلسة ولكنه تجلد وصبر.
الفصل الثامن والتسعون
دعوى قطام
ثم التفت عمرو إلى خولة وقال «ما تقولين يا خولة؟»
فوقفت وقالت بصوت رائق وجأش ثابت «ماذا أقول يا سيدي وأنا لا أعرف التهمة التي وشى بها إليك الواشون. فإذا سمعتها ذكرت لك الحقيقة ولك الأمر بعد ذلك فإذا استوجبت القتل فما أنا خير ممن قتل من رجال الإسلام في هذه الفتنة».
فعجب عمرو لتلميحها إلى أعظم ما حدث في تلك الأثناء فقال لها «مالك ولهذا الكلام يا خولة قولي ما جوابك على سؤالي؟»
قالت «إذا كان الأمير حرسه الله قد جعل دمي حلالا إن ثبتت التهمة علي فليس أقل من أن أسمع نص الدعوى الموجهة إلي».
قال «لقد صدقت وإني مطاوعك في جرأتك حتى تبدي كل ما لديك من أساليب الدفاع ولا أظنك أخيرا إلا مقرة بجنايتك لأنها ثابتة ثبوت النور في النهار اجلسي واستريحي».
فجلست.
فقال عمرو ووجه حديثه إلى قطام «ما قولك يا قطام بخولة وما تعرفينه عنها».
وكانت قطام كما بينا في فصل سابق لما ارتاح بالها من أمر علي وقتله وعلمت مما دار بين خادمها وبين بلال خادم خولة أنها تحب سعيدا وهي التي وجهت عبدها معه واستحثته في الوصول إلى علي قبل انقضاء الأجل المضروب لقتله. فحملتها الغيرة وهاجها حب الانتقام وطاوعها خلق السوء الذي فطرت عليه أن تأتي الفسطاط تشي بخولة وسعيد وهي لا تشك أنها تثبت الجناية عليهما فتتقرب بذلك من عمرو فتنال حظوة في عينيه فتقيم عنده مكرمة أو يتزوجها أحد أبنائه وكان عمرو يعرفها من ذي قبل. فأسرعت إلى الفسطاط ومعها عجوزها وعبدها فوصلت بالأمس وأسرعت إلى عمرو وبشرته بمقتل الإمام علي ووشت إليه بخولة وإنها كانت مواطئة لسعيد على إنقاذ الإمام علي وإنهما كان يعلمان خبر المؤامرة على عمرو وسكتا عنها وقد كان في إمكانهما لو أخلصا الخدمة لعمرو أن يطلعاه عليها فأعارها عمرو أذنا مصغية وبعث إلى عبد الله كما تقدم. ثم رأى من الحزم أن يجمع الجميع ويسمع جدالهم ومدافعتهم قبل إبداء الحكم.
فلما قالت خولة قولها في تلك الجلسة والتمس عمرو من قطام أن تبسط التهمة نهضت ومشت خطوتين نحو الأمير وثوبها المزركش يجر وراءها تيها وبذخا. ثم وقفت وقالت بلسان طلق فصيح «أما ما يسألني الأمير عنه فلا احتاج في إثباته إلى دليل. وتفصيل الأمر أن مولاي الأمير يعلم إخلاصي له ورغبتي في خدمته حتى أني حالما سمعت بمجتمع العلويين في عين شمس بعثت إليه رسولا يخبره خبر ذلك الاجتماع. ولو لم أجد من أبعثه في تلك المهمة لجئت بنفسي. ولم أذكر هذا الشاهد الصغير إلا دليلا على إخلاصي. أما خولة واطلاعها على خبر المؤامرة فأمر لا شك فيه لأني أعلم علم اليقين أن سعيدا ورفيقه هذا (وأشارت إلى عبد الله) لما قدما الفسطاط كانا عالمين بخبر تلك المؤامرة وقد سمعت ذلك منهما بأذني. وهما إنما أتيا للاجتماع مع العلويين وبعثت يومئذ عبدي يخبر ذلك إلى مولاي الأمير فلما عاد عبدي أخبرني أن جند الأمير قبضوا على العلويين وأن عبد الله وسعيدا في جملتهم ولم يكن يعلم أن سعيدا نجا بمساعدة خولة هذه. أما أنا فإني عرفت ذلك لما عاد سعيد إلى الكوفة مسرعا لاطلاع علي بن أبي طالب على خبر المؤامرة غيرة منه عليه وقد ترك حياة الأمير عمرو بن العاص في خطر القتل. وكان رفيقه في عودته بلال خادم خولة هذه فإنه صحبه إلى الكوفة. فالتقى بهما هناك عبدي ريحان واتضح له من خلال الحديث أن بلال وخولة عالمين بسر الأمر. ولما لم ينجح مسعاهما في إنقاذ الإمام علي قنعا بان يكون مولاي حرسه الله قد أصيب بما أصيب به ذاك. ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه من مخالب الموت وحرسه بعين عنايته فترى يا مولاي مما قدمته أن خولة كانت عالمة بخبر المؤامرة كما كان يعرفها عبد الله وسعيد فلو كانت مخلصة لمولانا الأمير ما كتمتها عنه».
فقال عمرو «وما الذي يؤكد لنا أن سعيدا وعبد الله لما أتيا الفسطاط كانا عالمين بالمؤامرة على قتلي؟»
وكانت لبابة العجوز صامتة إلى تلك الساعة فلما طرح عمرو هذا السؤال ابتدرته هي قائلة «لا شك أنهما كانا عالمين بها لأنهما أخبرانا بها ليلة سفرهما إلى الفسطاط».
الفصل التاسع والتسعون
دفاع خولة
وكانت قطام تتكلم وخولة مطرقة تفكر بماذا تجيب. أما عبد الله فإنه لعن الساعة التي أتت بها تلك الخائنة وخاف على خولة أن تتلعثم أو تفحم لأن الأدلة قوية.
أما والد خولة فلم يكد يسمع حديث قطام حتى استشاط غضبا وصاح في خولة بأعلى صوته «الله عليك يا خائنة لقد\ فهمت الآن تلاعبك ونفاقك» ثم التفت إلى قطام وقال «وأي متى لقي عبدك عبدي مع ذلك الرجل في الكوفة».
قالت «ليلة 17 رمضان».
فأطرق برهة ثم اقترب من خولة وجذبها بيدها إلى وسط القاعة وقال لها بنغمة الانتهار «لقد انكشف لي القناع وعلمت سبب فرار بلال كما تزعمين. أرسلته مع حبيبك ليساعده على إنقاذ أبي تراب (علي بن أبي طالب) وقالت لي أنه فر بالجملين والظاهر أنه أخذهما معه ليركب هو ورفيقه عليها» ثم التفت إلى عمرو وقال «إن ابنتي يا سيدي تستحق القتل اقتلها أو دعني أقتلها بين يديك».
فوقف عبد الله للحال وقد ثارت فيه الغيرة على خولة وهو يظن سكوتها خوفا أو ارتباكا لأنه لم ير ملامحها من وراء النقاب فأمسك أباها بيده وقال برزانة وسكينة يخاطب عمرا «ألتمس من مولاي الأمير الذي أمر أن تكون خولة زوجة لي أن يوقف أباها عند حده فهو الآن لا يملك من أمرها شيئا. أما إذا اقترفت هي ذنبا تستوجب عليه قصاصا فالأمر فيه لمولاي وليس لأحد سواه».
وكان عمرو قد اقتنع بثبوت الجريمة على خولة ولكنه أحب أن يسمع دفاعها ورأى عبد الله يتكلم بحق وعدل فقال لأبي خولة «دع خولة فأنت كما قال عبد الله لا تملك من أمرها شيئا».
فتنحى أبو خولة وهو يلهث ويدمدم ولحيته ترتعش في صدره. وتنحى أيضا عبد الله وخولة لا تزال واقفة. أما قطام فول أزاحت خمارها لبان الابتهاج على وجهها فنجاح مهمتها.
فقال عمرو «ما بالك يا خولة لا تدافعين عن نفسك. أليس ما قالته قطام عنك صحيحا؟ هل كنت عالمة بخبر المؤامرة على قتلي؟»
قالت «نعم».
قال «وهل ساعدت سعيدا على إنقاذ الإمام علي فأرسلت معه خادمك وجمليك».
قالت «نعم كل هذا صحيح».
فتعجب عمرو وسائر الحضور من صراحة إقرارها وقد كانوا يتوقعون إنكارها وتلعثمها أو على الأقل سكوتها. فلما رآها تجيب بهذه الصراحة قال لها «وكيف تظهرين هذه الغيرة على صاحب الكوفة (علي) مع علمك أن والدك لا يريد ذلك ثم لا يخطب ببالك أن تخبري والدك بخبر المؤامرة على قتلي لكي يطلعني عليه. ألا تعلمين أن عملك هذا يعد خيانة تستوجبين عليها القتل. وها أني لا زال أطيل بالي عليك لأسمع دفاعك فأخبريني أولا كيف تكونين على غير ما يريده والدك وأمير بلادك؟ ثانيا: كيف تسعين لإنقاذ علي بن أبي طالب ولا تسعين في إنقاذ أمير مصر؟»
وقبل أن تهم خولة بالجواب اعترضتها قطام قائلة «أرى مولاي الأمير يتعب نفسه بما لا طائل تحته. هل بعد إقرارها الصريح من باب للنجاة؟ لا دواء لهذه الخائنة إلا القتل».
فقالت خولة وهي تنظر إلى قطام شذرا «سوف يتضح لنا من هي الخائنة وقد يجدر بك التأدب في حضرة الأمير فإنه أعلم منك بقواعد الأحكام».
الفصل المائة
صدق اللهجة
ثم وجهت خولة خطابها إلى عمرو قائلة «أرجو من الأمير أن يطلق للساني الحرية لأقول كل ما يجول في خاطري».
قال «قولي ما بدا لك».
قالت «أما سبب مخالفتي والدي في رأيه وتحزبي للإمام علي رحمه الله فهو لأني صادقة مخلصة في فكري وقولي وهو المنحرف المتقلب. وما كنت لأصف والدي بهذا العيب لو لم يضطرني إلى ذلك
قال عمرو «وما معنى هذا؟»
قالت «يعلم مولاي الأمير أن والدي ربي في نعم الإمام علي وأنا في حجره مع اعتقادنا أنه ابن عم الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) وأنه عل الحق في أعماله».
فأراد والدها أن يقطع حديثها فاعترضه عمرو وألزمه السكوت فقالت «فلما كانت واقعة صفين كان والدي في جملة من خالفه في أمر التحكيم من الخوارج. فهو الذي انحرف عنه. أما أنا فظللت على رأيي ولا أزال عليه إلى اليوم».
فقال عمرو وهو معجب بجسارتها «ولكن عليا شارك الجهال في قتل الخليفة عثمان فقتلوه ظلما ونحن إنما قمنا نطالب بدمه».
قالت «أما مقتل الخليفة عثمان فأرجو من مولاي الأمير أن لا يلجئني إلى الخوض في شأنه لأني ربما اضطررت إلى ما أتجنب ذكره».
قال «وما الذي يخيفك بعد ما أبديته من الجرأة؟»
قالت «يخيفني غضب الأمير لأمر هو داخل فيه».
قال «قولي كل ما يبدو لك ولا تخافي ».
قالت «أما مقتل الخليفة عثمان رحمه الله فلا أظن مولاي عمرا إلا من جملة الراضين به».
فبغت عمرو وقال «وكيف تقولين ذلك يا خولة».
قالت «ألم يكن مولاي في جملة المحاصرين لعثمان؟ ألم يقل له قد ركبت يا عثمان أمورا ركبناها معك تب يا عثمان وارجع إلى الله
1
فأسمعك هو كلاما جارحا. ثم لما قال لك إني تائب قلت له رأيناك تتوب ثم تعود».
قال «وهل يؤخذ من ذلك أني كنت أريد قتله؟»
قالت «كلا ولكنه يدل على أنك كنت ناقما عليه».
قال «إنما كنت ناقما ليرجع عن أعماله ويبقى على خلافته».
قالت «لو كان هذا هو قصدك فقط لما فرحت بقتله؟»
فانذهل عمرو من سعة اطلاعها على خفايا الأمور ولكنه لم يستطع إلا استفهامها فقال «وكيف تقولين أني فرحت وما دليلك على ذلك؟»
قالت «دليلي قريب إذا أمنني الأمير قلته».
قال «قولي».
قال «ألم تكن في فلسطين يوم قتل عثمان؟ فكنت إذا لقيت الراعي حرضته على قتله؟ ألم تحرض عليا وطلحة والزبير عليه؟ فلما جاءك رجل أخبرك بمقتل عثمان ألم تقل أنا عبد الله إذا حككت قرحة تكأتها؟»
2
فلما سمع عمرو قولها استغرب جرأتها وغضب لتصريحها بأمور كان يود كتمانها ولكنه سبق فأمنها وكان داهية يحول معاني الكلام كيف شاء فقال لها «لقد أعجبني دفاعك يا خولة ولكننا لسنا في معرض الدفاع عن علي أو عثمان ولا يهمنا انحرافك أو انحراف والدك وإنما نحن في اطلاعك على خبر المؤامرة على قتلي ثم سكوتك إلى آخر ساعة ووالدك بين يدي كل يوم فكأنك اشتركت مع المؤامر» قال ذلك وهو يحسب نفسه قد غلبها وسد عليها أبواب الدفاع. وكان أشد الناس خوفا عليها عبد الله وقد خيل له أنها لم تعد تستطيع دفاعا بعد إقرارها السابق.
أما هي فهمت بالكلام فإذا قطام تقول «إني لأعجب من حلم الأمير وما الذي يرجوه من دفاعها عن ذنب اعترفت به صريحا».
فلم تعبأ خولة بقول قطام ولكنها أجابت عمرا قائلة «إني لا أنكر عليك عظم هذا الذنب بالنظر إلى ما كنت ترجون من قيامي بأمر الخوارج وموافقة والدي على تأييد أمركم والتصديق على دعواكم ودعوى معاوية وإنكم على الحق. وقد قدمت لمولاي بأني فعلت ذلك وأنا على دعوة الإمام علي فذنبي من هذا القبيل لا يعد شيئا بالنظر إلى ما تستوجبه هذه المرأة (وأشارت إلى قطام) التي إنما جاءت بهذه الوشاية غيرة عليك وضنا بحياتك فاتهمتني بالخيانة لأني على زعمها كنت عالمة بخبر المؤامرة ولم أخبرك بها فما الذي منعها هي عن إخبارك بذلك يوم أرسلت عبدها عبد السوء للوشاية بأصحاب عين شمس. فإذا كانت هذه المرأة صادقة في دعواها ألم تكن هي أولى مني بإطلاع الأمير على ذلك الأمر؟ اسألها وانتظر في جوابها».
الفصل الحادي والمائة
فشل الظالمين
فانتبه عمرو كأنه في سكرة وصحا منها بغتة فرأى خولة مصيبة بدعواها فالتفتت إلى قطام لفتة استفهام فلم يسمع منها جوابا. فقال ها «ما تقولين يا قطام لماذا لم تخبريني بخبر تلك المؤامرة؟»
فارتبكت في أمرها ولكنها أجابت وهي مبغوتة وقالت «لأني لم أكن عارفة بخبرها يومئذ».
فتبين عمرو التلاعب في كلامها ولكنه أراد تحقق ذلك فقال لها «ولكنك قلت الآن إنك سمعت خبر المؤامرة منهما فهل سمعته قبل إرسال عبدك إلينا أو بعده».
فانخدعت قطام بسؤاله فأجابت على الفور «لم أسمعه إلا بعد سفر عبدي وكنت عازمة على إرسال غيره فلم أتمكن لمشاعل خصوصية انتابتني».
فتقدم حينئذ عبد الله وهو يكاد يرقص فرحا بخذلان قطام وقال «ولكن عبدك يا مليحة لم يسافر من الكوفة إلا بعد سفرنا لأنه إنما قدم الفسطاط ليخبر الأمير بخروجنا من الكوفة».
فأشار عمرو إليه فسكت وعاد هو إلى السؤال فقال «وزد على ذلك أن هذه العجوز تقول إنكما سمعتما ذلك الخبر منهما ليلة سفرهما فما تقولين بذلك».
فغلب الحنق على قطام فقالت «هذه عجوز حمقاء غلب عليها الخرف فلا يعتد بقولها».
فغضبت لبابة لعقوق قطام وإهانتها إياها على هذه الصورة وهي تعتقد فضلها عليها فقالت لها «وأنا لم أقل ذلك إلا بعد قولك ... تبا لك من امرأة خائنة. كيف تقولين إن الخرف غلب علي وأنت إنما غلب عليك النفاق».
فاشتد حنق قطام ولم تعد تعي ما تقول لفشلها وخجلها فقالت «اخرسي يا مجنونة ولا تتكلمي بين يدي».
فقالت لبابة «بل أنت مجنونة وأنت الخائنة وإذا لم تلزمي حدك أطلعت الأمير على كل سرائرك وفضحت أمرك».
فقالت «وماذا عسى أن تقولي وأنت خادمة لا يعتد أحد بأقوالك».
وكانت لبابة قد تحققت وقوع قطام في شر أعمالها فأرادت أن تخلص نفسها وتنجو بحياتها فلم تر ذريعة أهون عليها من إيقاع قطام بإباحة أسرارها بالإقرار. ولا غرابة في ذلك فإن من كان مثلها ميت الضمير سيئ الخلق لا ذمام يزجرها ولا عقل يعقلها يسهل انقلابها من الشيء إلى ضده فقالت «على الفور إن أسرارك كلها تحت قدمي هذه وإذا أذن مولاي الأمير كشفت له كل شيء».
فسرت خولة وعبدالله لذلك الخصام. أما عمرو فرأى لحسن سياسته وتعقله أن خولة ممن يحرص على بقائهم وأنها إذا كانت على دعوته لا يخشى انقلابها. وأما قطام فإنها إذا أخلصت له اليوم لا يأمن أن تخونه في الغد فقال للعجوز «قولي يا خالة ما تعرفينه».
فأخذت لبابة تتلو حديث قطام مفصلا من أوله إلى آخره والكل مصغون صامتون ففضحت أسرارها فتحقق عمرو أن إرسالها عبدها إليه لم يكن حبا به ولا نصرة لحزبه بل انتقاما من سعيد وعبدالله. وتبين لديه أن هذين إنما اندفعا للدفاع عن علي بوصية جدهما أبي رحاب واتضح له جليا أن قطاما خائنة لا يوثق بقولها ولا يعتمد عليها وأن بقاءها في قيد الحياة شر على العالمين. ولم يكن اعتقاده بلبابة بأحسن من اعتقاده بقطام لأنه رأى خيانتها رأي العين فصمم على التخلص من كليهما.
وكانت قطام في أثناء حديث لبابة واقفة وقوف الصنم وقد جمد الدم في عروقها واصطكت ركبتاها. وكانت في أول حديث لبابة تهم بتكذيبها وعمرو يسكتها ثم سكتت من تلقاء نفسها. فلما فرغت لبابة من حديثها نادى عمرو «يا غلام» فجاء فأمره أن يسوق قطاما وعجوزها إلى غرفة يسجنهما فيها.
الفصل الثاني والمائة
العفو العام
فلما خرجت قطام ولبابة من المكان عاد السكوت إلى الجلسة وكل في مكانه وعمرو غارق في بحار التأمل فكر في خولة وشهامتها وصدق مودتها فرأى أنها إذا كانت على دعوته لا يخشى ضرها بل قد تكون أكبر عون له إذ يندر مثلها بين النساء وغلب على اعتقاده أنها بعد مقتل الإمام علي لم يبق لها سبيل لنصرته فتفضل أن تكتسب رضاء عمرو. وخصوصا إذا عفا عنها وعن زوجها عبد الله.
وبعد السكون هنيهة خاطبها قائلا «والآن ما قولك يا خوله ما الذي نفعله بك».
قالت «لا أبالي يا مولاي بعد أن بسطت لك الحق أن تفعل بي ما تفعله. فقد صدقتك القول بصراحة لا أظن أحد يتجرأ على مثلها. فإذا أمرت بقتلي فإن لا أزيد عدد الموتى ولا أقلل عدد الأحياء. ولا فائدة من بقائي ولا ضرر من مماتي وقد قلت لك في أول حديثي أنه قد قتل واندرج تحت التراب من لا أقاس بأنملة من أنامله. فهل أنا أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان أم أنا خير من ابن عم الرسول (
صلى الله عليه وسلم ) فإذا شئت اقتلني وأرحني من حياة لا عدل فيها ولا حق ... ولكنني أطلب إليك إذا قتلتني أن لا تعفو عن تلك الخائنة الغادرة» قالت ذلك ودمعت عيناها.
فتأثر عمرو من صدق لهجتها وثبات جأشها فقال لها «وإذا عفوت عنك» قالت «وإذا عفوت فالعفو من شيم الكرام وتكون حياتي هبة من عندك».
فتقدم عبد الله للحال وجثا بين يدي عمرو قال «أرغب إلى مولاي كما وهبني حياتي أن يهبني حياة هذا الملاك الطاهر فنكون كلانا هبة من فضله».
وكان والد خولة لا يزال واقفا وقد سحر بما أبدته ابنته من الحمية والشهامة وقد خجل لأنه لم يكن صادقا في إخلاصه لعلي مثلها. فلما رأى عبد الله يلتمس العفو لابنته تقدم هو أيضا وقبل يدي عمرو وقال «لقد كنت يا سيدي أشد نقمة منك على خولة ولكنني أراها والله خيرا مني وأراني أصغر منها فالتمس لها العفو أيضا» قال ذلك ونادى خولة فدنيت فقال لها «قبلي يد الأمير واستغفريه» ففعلت وتصافح أبو خولة وعبد الله وعادوا إلى مقاعدهم وقد تذكر عبد الله ابن عمه سعيدا وعلاقته بخولة فقال في نفسه إنها فرصة لا ينبغي ضياعها فخاطب عمرا قائلا «أما وقد وهبتنا حياتنا جزاء لصدق لهجتنا فلا يسعني والحالة هذه إلا أن أتم الصدق بكشف سر لا يزال مكتوما».
الفصل الثالث والمائة
كشف السر
فلما قال ذلك علمت خولة أنه سيتكلم بشأن سعيد فخفق قلبها وغلب الحياء عليها فانزوت في بعض جوانب الغرفة.
أما عمرو فقال لعبد الله «قل ما بدا لك».
قال «أنت تدعوني الآن زوج خولة وما أنا والله إلا أخوها».
فبغت عمرو وأبو خولة وقال عمرو «كيف لا وقد كتبت كتابك عليها».
قال «نعم إنها زوجتي بالكتاب ولكنها بكرا وقد آخيتها فهي أختي بعهد الله والرجل لا يتزوج أخته».
فازداد استغراب عمرو وقال «وكيف ذلك أفصح يا عبد الله».
قال «لأن خولة أحبت ابن عمي سعيدا قبلي ولابد أنكم لحظتم ذلك من خلال حديث قطام ولكنني لم أعلم ذلك إلا بعد كتابة الكتاب ونظرا لحبي الشديد لابن عمي وقد كفلته بوصاية جدي أبي رحاب أمسكت نفسي عن خولة وآخيتها. واعترف لمولاي الأمير أننا تواطأنا على الخروج من الفسطاط إلى الكوفة بحيلة وسعيد ينتظرنا هناك فأزف خولة إليه».
فلما سمع عمرو كلامه ازداد إعجابا بشهامته وصدق مودته ونظر إلى أبي خولة كأنه يستطلعه رأيه في الامر فإذا هو لم يكن أقل إعجابا بتلك الشهامة ولكنه لم يتمالك عن أن نهض وضم عبد الله إلى صدره وقبل رأسه وقال «بورك فيك من صديق صادق فإذا صارت خولة أختا لك فاقض لها ما أنت قاض».
فقال «إذا أمر مولاي بعثنا سعيد وهو في الكوفة مع بلال العبد فيقدمان إلينا فيكتب الأمير كتابه بأمره».
فقال عمرة «إن ذلك لك على الرحب والسعة» وأمر غلامه أن يمد عبد الله بما يريد مما يتعلق باستقدام سعيد.
فجهز عبد الله رسولا وكتب إلى سعيد يستقدمه ويبسط له واقعة الحال وأوصى الرسول أن يجعل طريقه بدمشق لأن سعيدا كان فيها فلعله لا يزال هناك.
واستاذن أبو خولة وابنته بالانصراف إلى بيته فأذن لهما فخرجا وخولة تفكر في قطام وكانت قبل هذه الجلسة تريد الانتقام منها ولكنها لما رأت ما كان من فشلها ازدادت حمأة انتقامها.على أنها تذكرت أن بلالا أقسم أن يقتلها ناهيك عن حقد سعيد عليها فعولت أن تستعطفه لكي يعفو عنها ويكتفي بما أصابها من الفشل والإهانة. وأما عبد الله فاستبقاه عمرو عنده بقية النهار وبات تلك الليلة ضيفا في دار الأمير قد ارتاح باله من كل قبيل. ولكنه كان يفكر في قطام وما أصابها من البلاء وكيف سيقت إلى السجن مهانة وقد انكشف أمرها وافتضح سرها فخفت نقمته عليها واكتفى بأن تبقى مسجونة حتى يرى ما يكون من أمرها بعد قدوم سعيد.
وفي الصباح التالي بعث عمرو إليه ليتناول الطعام معه فذهب وفي أثناء الطعام تحدثا بحديث قطام وعجوزها فذكر عبد الله ما يجول في خاطره من الشفقة عليها فقال له عمرو «إنه والله حلم لم يسبقك إليه معن.. وما ظنك بخولة هل تقول قولك؟»
قال «لا أظنها إلا على رأيي لا تواطؤ».
الفصل الرابع والمائة
الجريمة والفرار
فأحب عمرو أن يجرب ذلك فبعث إلى خولة فلما جاءت سألها عن رأيها في قطام فقالت مثل قول عبد الله تقريبا.
فقال لهما عمرو «إني والله لأعجب من هذا التوارد وإنه دليل صريح على طيب عنصركما وقد كنت لو أردتما قتلها قتلتها لأنها شريرة تستحق الشنق. فأرى إذا أن أسجنها في سجن مظلم لتذوق جزاء ما جنته يداها».
ثم نادى غلامه فحضر فأمره أن ينقل قطام إلى سجن مظلم وأن يأتي بالعجوز إليه فذهب الغلام ثم عاد وعلى وجهه أمارات البغتة.
فقال له عمرو «ما وراءك هل فعلت ما قلته لك؟»
قال «كلا يا مولاي».
وقال «لماذا؟»
قال «لأني وجدت الغرفة مفتوحة وليس فيها غير جثة المرأة العجوز».
قال عمرو «وقطام؟»
قال «لم أقف لها على أثر».
فصاح عمرو «تبا لتلك اللعينة الخائنة هيا بنا لتفحص الأمر بنفسنا» قال ذلك وأسرع لساعته وتبعه عبد الله وخولة حتى أتوا باب الحجرة التي كانت قطام مسجونة فيها. فإذا بتلك العجوز المسكينة صرعاء هناك لا حراك لها. فأرسل عمرو إلى طبيبه ليتفحص سبب وفاتها فجاء وبعد الفحص قال إنها ماتت خنقا بعنف بعد جهاد ودفاع لأنه رأى في فيها حجرا ملفوفا بمنديل كان القاتل سد به فاها لئلا تستغيث فيسمعها الخفراء فينكشف أمره.
فقال عمرو «ومتى كان ذلك؟»
قال «أظنه وقع في منتصف الليل أو ونحوه».
فحول عمرو انتباهه إلى باب الحجرة وتأمل خلعه فتبين له أنه خلع من الخارج لأنه رأى آثارا معالجته بادات من الخارج. فقال «يظهر أن قطام ليست وحدها القاتلة لان يدا عالجت الباب وفتحته فمن فعل ذلك يا ترى؟»
وكانت خولة لما رأت لبابة مائتة وقطام قد نجت أسفت لما كانت تبغيه من العفو عنها وتضاعفت نقمتها عليها ولو حضرت بين يديها في تلك الساعة لقتلتها بيدها.
وكان عبد الله يشارك عمرا بالبحث فلما رآه يبحث عمن خلع الباب انتبه لساعته وقال «لقد كشفت الغامض وعرفت القاتل إنه ريحان عبد قطام فقد شاهدته في دار الأمير بالأمس قبل المحاكمة ولم أسمع الأمير أمر بالقبض عليه وأنه احتال بخلع الباب وساعد سيدته على قتل العجوز انتقاما لها أو خوفا من لسانها».
فصاح عمرة للحال «لقد أصبت كبد الحقيقة إنه ذلك العبد بعينه ثم أمر بالجثة فحملت ودفنت وعاد الجميع آسفين لنجاة تلك الخائنة من بين أيديهم ولكنهم عزوا أنفسهم بصفاء المودة بينهم وخصوصا خولة عبد الله فإنهما كانا يتوقعان قدوم سعيد ولا ينغص عيشهما إلا فرار قطام ومقتل الإمام علي أن عمرا عول على البحث عنها ومعاقبتها».
الفصل الخامس والمائة
غوطة دمشق
أما بلال فلما بعثه عبد الله ليتربص مع سعيد في الكوفة سار إلى دمشق فرأى سعيدا بانتظاره هناك فحكى له ما قر القرار عليه واستنهضه للمسير إلى الكوفة فاستمهله يومين ريثما يقضي بعض الحوائج. وفي أصيل اليوم الثاني حملا أحمالهما وخرجا على جمليهما على أن يبيتا تلك الليلة في غوطة دمشق ويصبحا في اليوم التالي على طريق الكوفة.
وفي خروجهما من باب المدينة لقيهما رسول عبد الله القادم لاستقدامهما إلى الفسطاط وهو يعرف بلالا فأوقفه ودفع الكتاب إلى سعيد فقرأه سعيد وهو لا يصدق لعظم ما هاله من الفرح للقبض على قطام مع رضاء عمرو وما توسمه من شوق خولة إليه.
أما بلال فتأسف للقبض على قطام في غيابه مخافة أن يعفو عن قتلها أو أن يقتلها أحد سواه وهو يود أن يقتلها بيده ليشفي منها غليله.
فقال سعيد للرسول «كنا خارجين الآن إلى الغوطة لنبيت فيها ونصبح إلى الكوفة فأرى بعد أن حملنا أحمالنا أن نظل في طريقنا إلى الغوطة فنبيت هناك ونصبح في الغد نلتمس الفسطاط» فساروا جميعا حتى وصلوا بعد الغروب إلى بحيرة صغيرة حولها أشجار التفاح والمشمش والسفرجل والخوخ تتخللها أشجار الحور وقد علت نقنقة الضفادع يتخللها حفيف الأشجار وصفير الصراصير وهبوب الريح وتغريد الطيور مما يشرح الصدر ويندر مثاله في غير تلك الغوطة.
فحطوا احمالهم واشتغل بلال ورفيقه بإعداد العشاء مما حضر ولا يحلو الطعام هناك إلا بالفاكهة.
وكان بلال يعرف صاحب ذلك البستان وقد نزل عنده ليلة قدومه من الفسطاط فترك سعيدا والرسول ومشى بين الأشجار تحت جنح الظلام يلتمس بيت البستاني. ولم يمش برهة حتى أخطأ الطريق لتكاثف الأشجار وجعل يتلمس في مسيره وهو لا يزداد إلا ضلالا وبعدا حتي أصبح بينه وبين رفاقه ميل وبعض الميل وهو لا يدري فوقف يتفرس من بين الأشجار لعله يرى نورا أو يتبين المنزل من وراء الأفق. ولبث برهة يعمل فكرته ويحاول أن يعرف الجهة التي ترك فيها رفاقه لكي يعود إليهم ولو بلا شيء.
وفيما هو يفكر وقد هدأ الجو وسكنت الطبيعة لا يسمع فيها غير نقنقة الضفادع عن بعد وإذا بصوت أجفله وهو جعير جمل عقبه جعير جمل آخر فعلم أن القادمين ركب أمسى عليهم المساء قبل الوصول إلى المدينة. فمكث ينتظر وصولهم ليخاطبهم ويستفهم منهم عن الطريق. وكان قد أسند ظهره إلى شجرة فتطاول بعنقه وتنصت ليتحقق الجهة التي سمع الصوت منها فسمع لغطا وكلاما استلفت انتباهه فأصاخ بسمعه فإذا بقائل يقول «دعنا ننزل هنا يا ريحان فإذا أصبحنا دخلنا دمشق لأني أخاف أن يستغشونا إذا دخلناها في الظلام ... ألا تظننا في أمان هنا؟»
وسمع الجواب «نعم يا مولاتي».
فاقشعر بدن بلال عند سماعه ذلك الصوت وقد أدرك لأول وهلة أنه صوت قطام وخصوصا لما سمعها تخاطب ريحان بما يمازجه خوف. وتحقق للحال أنها آتية فرارا من سجن الفسطاط.
الفصل السادس والمائة
النزول
وكانت قطام لما أرسلت إلى سجنها قد حقدت على لبابة كما قد علمت. ونظرا لما فطرت عليه من اللؤم والقساوة لم يكن أهون عليها من قتل لبابة ولم تعبأ بما كان لها في خدمتها من تعب. وكان ريحان يومئذ واقفا في دار الإمارة فلما رأى سيدته ولبابة سائرتين مخفورتين علم أنهما في ضيق فراعى القوم ببصره حتى عرف الحجرة التي حبسوهما فيها. وعمل فكرته لإنقاذهما. وكانوا عند أول وصولهم الفسطاط قد نزلوا في دار الإمارة فاحتال في إخراج الجمال والأمتعة إلى مكان خارج الفسطاط. ولما توسط الليل غافل الناس وجاء إلى سجن قطام وقد تهيأ لمعالجة الباب. فسمع لغطا فإذا هو خصام احتدم بينها وبين خادمتها. فاستعجل في فتح الباب بالعنف ودخل فلما رأته قطام أشارت إليه أن يساعدها على قتل لبابة فصاحت هذه «تبا لك يا ظالمة يا فاجرة إني أتوب إلى الله عما ارتكبت في سبيلك من الذنوب. وأما أنت فلا نجاك الله من عواقب آثامك و....» فابتدرها ريحان حالا فسد فاها وخنقها وخرج بسيدته من باب كان قد عرفه واسترضى بوابه. فلما بعد عن الفسطاط تحول بها إلى مأمن كان قد أعده عند موقف الجمال. فركبا وهي تثني على شهامته. فخيرها في الجهة التي تسير فيها فاختارت دمشق لأن فيها أناسا من أهلها قد هجروا الكوفة بعد واقعة النهروان وفشل الخوارج وأقاموا في دمشق.
فسارا حتى أتيا الغوطة في تلك الليلة بعد وصول رسول عبدالله ببضع ساعات كما قد رأيت. وكان بلال لما تأكد أنهما قطام وريحان لم يعد يعلم كيف يفرح.
وقال في نفسه لقد أجاب الله سؤالي. والله إني سأذيقهما الموت بيدي هذه. وجس منطقته فرأى الخنجر فيها. فلبث مستظلا بالشجرة ليرى ما يكون منهما. فإذا هما قد سارا خطوات قليلة حتى أتيا إلى قناة لانحدار مائها خرير وبجانب القناة شجرة من الصفصاف يستظل بها المارة في أثناء النهار. فتحولا عن الجملين وضرب ريحان القبة كالعادة وأوقد النار ثم قال لمولاته «استريحي يا سيدتي ريثما ألاقي البستاني وآتي إليك ببعض الزاد والفاكهة وأنت هنا في مأمن».
قالت «سر ولا تطل الغياب».
قال «حسنا» وانصرف.
الفصل السابع والمائة
على الباغي تدور الدوائر
وكان بلال واقفا ينظر إليه. فلما رآه توارى نظر إلى قطام على بصيص النار فإذا هي قاعدة وقد كشفت عن وجهها وعنقها وشمرت عن ساعديها ثم رآها نهضت وضفائرها مدلاة على كتفيها وظهرها وفي أطراف الضفائر دنانير معلقة إذا تصادمت أثناء المشي سمع لها رنين. ومشت إلى حافة القناة ودمالجها وخلاخلها تخض خشيشا. فخاف بلال إذا أبطأ أن تفوته الفرصة فوثب عليها وهي تهم بالجلوس على حافة القناة وأمسك بطوقها وجذبها إليه فوقعت على قفاها فجثا على صدرها. فصاحت «ريحان» وقبل أن تتم كلامها وضع بلال قبضته في فيها وقال لها «لم يبق لك في هذه الحياة إلا دقائق قليلة فاعلمي قبل أن تفارقيها أني بلال خادم خولة وسعيد وإني منتقم للإمام علي» فأشارت بعينها إنها تريد الكلام فاستل الخنجر وصوبه إلى عنقها وقال لها «تكلمي بهودء وإذا رفعت صوتك أغمدت هذا الخنجر في عنقك».
قالت «ارحمني يا بلال وأشفق على حياتي».
قال «لا يرحمني الله إن رحمتك وأنت قد ضافرت ابن ملجم وحرضته على قتل الإمام علي. وأردت قتل شابين من خيرة الشبان. ولكن حيلتك لم تبطل فيهما وأخيرا جئت الفسطاط لإغراء أميرها على خولة. كيف أرحمك يا خائنة».
قالت «ذلك قد مضى يا بلال وأنا تائبة فاعف عن قتلي ولك كل ما أملكه».
قال «هل يتوب الهر!! وإما العفو عن قتلك فوالله لو عرفت قصاصا أعظم من القتل لقاصصتك به لأن القتل قليل على فاجرة خائنة مثلك».
فهمت أن تجيبه فأدرك أنها تماطله ريثما يعود ريحان.
فقال لها «اعلمي يا قطام أني قاتلك انتقاما للإمام علي» قال ذلك وأغمد خنجره في عنقها وأسرع فاحتز رأسها وترك الجثة ولها شخير ما زال يرن في أذنيه إلى مسافة بعيدة وكان لما رأى تلك القناة قد عرف الطريق المؤدي إلى مقر سعيد فانسل بين الأشجار وقد أمسك الرأس من جدائله وتركه يتدلى والدم يقطر منه.
الفصل الثامن والمائة
الفاكهة الغريبة
فلما وصل بلال إلى سعيد والرسول الجديد كانا قد استبطآه وانشغل خاطرهما عليه. فلما سمعا وقع أقدامه صاح سعيد فيه قائلا «أين الفاكهة يا بلال لقد أبطأت وغلب علينا الجوع».
فلم يجبه بلال ولكنه ظل ماشيا حتى وقف أمامه ورمى الجمجمة بين يديه وقال «هذه فاكهتي».
فأجفل سعيد ونظر فإذا هو رأس قطام بأقراطه وضفائره واستغرب أمره فسأله عن تفصيل الخبر.
فقال «ليس هذا وقت السؤال هلموا بنا نخرج من هذه الغوطة الآن فإذا أمننا من عيون الحكومة أخبرتكم الخبر».
فنهضوا وهم إلى تلك الساعة لم يذوقوا طعاما وركبوا جمالهم واستحثوها جهد طاقتهم وهم تارة يصعدون تلا أو ينزلون غورا وآونة يغوصون في الماء وطورا يدوسون الأشواك أو تتصادم رؤوسهم وأكتافهم بغصون الأشجار حتى انتصف الليل فانتهوا إلى سهل قليل الأغراس وقد بعدوا عن دمشق فواصلوا السير إلى الفجر فتحققوا أنهم آمنوا العيون.
فجلسوا للاستراحة على مصطبة بالقرب من عين ماء جارية وسعيد في شوق شديد إلى سماع تفصيل مقتل تلك المرأة.
فقص بلال حديثه وقلبه يرقص من شدة الفرح وإتماما لأسباب سروره استخرج الجمجمة من جراب كان قد خبأها فيه ووضعها على المصطبة بين يدي سعيد.
وكان شعرها قد تجبل بالدم والعينان مطبقتان والشفتان مفتوحتان عن أسنان كاللؤلؤ ومسحة الجمال لا تزال في محيا تلك المرأة مع صفاء اللون واصفراره وما تلطخ به من الدماء.
الفصل التاسع والمائة
الموت عبر الأحياء
فمد سعيد يده إلى جبين تلك الجمجمة ولمسه فإذا هو بارد كالثلج فقال «آمنت بالله كأنه سبحانه وتعالى قد كتب لي أن لا ألمس هذا الجبين إلا وهو ميت مع شدة رغبتي في لمسه منذ أعوام» ثم وجه خطابه إلى الجمجمة وقال «أأنت قطام بنت شحنة وقد طليت دهاءك ومكرك على مئات من الرجال. أيتها العينين فتنت ابن ملجم كما فتنتني. وبهاتين الشفتين عقدت له على نفسك إذا قتل الإمام كما عقدت لي. إنك ستلاقينه عاجلا وستلاقيان عليا في مكان لا تخفى فيه خافية. في مكان تنال فيه كل نفس جزاء ما صنعت إن خيرا وإن شرا».
ثم التفت إلى بلال وقال «ماذا نعمل بهذا الرأس؟»
قال «نحمله إلى الفسطاط لأضعه بين قدمي خولة ذلك الملاك الطاهر».
قال «لا أظنها تسر بهذا المرأى ولا أنا سررت به. زد على ذلك أن هذه الجمجمة لا تصل الفسطاط إلا بعد أن تنتن وتتصاعد عنها رائحة تنفر منها النفس».
فأطرق بلال هنيهة وهو يتأسف لعدم استطاعته حمل الرأس إلى خولة ثم قال «فأسمح لي إذا أن أحمل علامة منه».
قال «وما هي تلك العلامة؟»
قال «أقطع منه الأذنين وفيهما الأقراط وأقص هذا الشعر وفيه الضفائر الذهب».
قال «لك ذلك فافعله».
فاشتغل بلال في ذلك على أن يستريحوا هناك وتناولوا الغداء ويعزموا على الفسطاط.
الفصل العاشر والمائة
إذا سقط اللئيم لا يلقى نصيرا
أما ريحان فإنه عاد من عند البستاني بعد قليل وقد أعد كل ما ترتاح إليه سيدته من الفاكهة والأطعمة وأمر البستاني أن يشوي بعض اليمام. ولما دنا من الخيمة سمع شخيرا كشخير النائم وكانت قطام إذا نامت شخرت وهو يعرف فيها ذلك. فقال في نفسه يظهر أنها لم تتمالك عن النوم من شدة التعب. ودنا منها فإذا هي بجانب القناة والظلام حالك والنار التي أوقدها قد خمدت فلم ينتبه لحالها فقال في نفسه لأنيرن الشمع وأعد المائدة ريثما تفيق فأنار الشمعة ولاحت منه التفاتة إلى سيدته فرآها تتحرك فأقبل إليها فإذا هي تختلج اختلاج النزاع وقد أصبحت جثة بلا رأس ورأى دمها قد عكر القناة. فبغت ولطم وجهه ووقف لحظة يفكر في من عسى أن يكون قد فعل ذلك فقال في نفسه «لا يخلو أن يكون ذلك قد حدث بإيعاز عمرو بن العاص والقاتل قد فر الآن ولا سبيل إليه. فإذا أنا صحت وجمعت الناس لا أظن التهمة إلا واقعة علي».
فتحير في أمره ثم تذكر ما ارتكبته قطام من الفظائع كأنه يحاول أن يلتمس لنفسه عذرا إذا تخلى عنها. فرأى أنها ارتكبت عظائم تستحق القتل على كل واحدة منها.
وتذكر ما وراءها من المال الكثير والمصاغ الثمين وإنه هو وحده يعرف مخبآتها في الكوفة. فطمع في اكتساب ذلك الميراث وصمم على اغتنام الفرصة فهم بما عليها من الحلي واستخرج الأساور والدمالج من يديها والعقود من عنقها وجمع ما في جيوبها وصناديقها من غالي الثمن وخفيف الحمل. وتركها تخبط بدمها ولسان حاله يقول «ذلك هو جزاء القوم الظالمين» ودخل الشام في الصباح التالي فاشترى أثوابا تنكر فيها وقصد الكوفة واستخرج ما خبأته قطام هناك من الأموال وابتاع لنفسه ضيعة أقام فيها إلى آخر حياته.
وأما البستاني فكان قد أعد الطعام وحمله وفيه الخبز والفاكهة في سل وجاء إلى موضع الخيمة وهو مسرور بتلك الضيفة لأنهاه كانت كريمة تعطي الناس بسخاء. ولكنه ما وصل الخيمة حتى رأى الحال كما ذكرنا وليس هناك إلا جثة قطام وكانت قد همدت وسكن شخيرها واختلاجها. فلا تسل عن رعبه لما رآها في تلك الحال فقال في نفسه «لابد من جماعة أقوياء تجرأوا على هذا العمل وقد فعلوا ما فعلوا ونجوا بأنفسهم وإذا أنا أظهرت هذه الجثة جلبت لنفسي البلاء فما لي إلا أن أحتفر لها حفرة أخفيها فيها» فاشتغل بالحفر وهو يحاذر أن يراه أحد أو يسمع خبط معوله. ثم دفن الجثة وأخفى آثار الدماء وحمل كل ما بقي من الأمتعة إلى بيته وساق جملا باقيا هناك وكتم تلك الحادثة ومازالت مكتومة إلى الآن.
الفصل الحادي عشر والمائة
الوصول إلى الفسطاط
أما وفد الفسطاط فلما أشرفوا على المدينة من سفح المقطم ظهر لهم جامع عمرو في وسط المدينة كالبدر بين الكواكب فاستعجلوا الرسول الجديد بالذهاب إلى عبد الله لينبئه برجوعهم وأوصوه أن لا يذكر له خبر قطام.
أما عبد الله فكان قد خلا له الجو وصفا له قلب الأمير ولكنه مازال منشغل الخاطر في أمر سعيد وكلما تذكر فرار قطام من سجنها انقبضت نفسه وكلما لقي خولة تحادثا بما مر بهما وذكرا سعيدا والتمسا سرعة وصوله وعبد الله يدبر أسلوبا يخبره به عن حقيقة حاله مع خولة.
وفيما هو جالس ذات صباح في غرفته بدار الأمير إذا برسوله قد أقبل وعليه علائم السفر فصاح به «ما وراءك».
قال «ورائي سيدي سعيد وبلال».
قال «وأين هما؟»
قال «تركتهما في سفح المقطم قادمين وجئت لأبشركم».
قال «أهلا بالقادمين» ونهض لساعته وخرج على فرس أسرج له ولم يكد يخرج من الفسطاط حتى التقى بسعيد وبلال على جملين فترجل بلال للحال وهم بيد عبد الله فقبلها.
فقال عبد الله «بورك فيك يا أسمر وبورك بشهامتك» وهم سعيد أن يترجل فأشار إليه عبد الله أن يبقى على جمله لينزلا معا في دار الإمارة.
فمشوا وسعيد يبتسم فقال له عبد الله «ما الذي يضحكك».
قال «يضحكني أننا ذاهبون إلى دار عمرو بن العاص وقد كنا بالأمس نحاذر أن يسمع بنا أو يرانا».
قال «لله في خلقه شؤون» ثم قال بصوت خافت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد «لو أراد الله نجح مسعانا ونجا الإمام علي كرم الله وجهه لما همنا النزول في هذه الدار».
فقال سعيد «لا تذكرني بذلك الحادث الفظيع فقد شهدته بنفسي ورأيت ابن ملجم اللعين بأم عيني يضرب الإمام بذلك السيف المسموم وقد كانا بيننا وبين إنقاذه لحظة لو أراد الله لعجلها. ولكن الآجال مرهونة بأوقاتها».
قال «ولكن الله سيجزي الظالمين وأما نحن فقد صرنا الآني من حاشية ابن العاص وهو والحق يقال من دهاة العرب وكرامهم وكبار قوادهم».
الفصل الثاني عشر والمائة
المداعبة
وتحادثا في أمثال ذلك حتى اقتربا من الدار فقال عبد الله «لم أسمعك تذكر خولة.. هل نسيتها؟»
فابتسم سعيد وقال «كيف أنساها وأنا إنما جئت ألتمسها».
قال «وماذا تلتمس منها».
قال «لا أدري».
قال «أظنك تدري وإلا فاعلم أن خولة الآن قرينتي زوجني بها عمرو وكتب كتابي عليها بأمره».
فضحك سعيد وهو يظن ابن عمه يمازحه ....
فتظاهر عبد الله بالجد وقال «يظهر لي أنك لم تصدق قولي فأقسم بالله وتربة أبي رحاب أن خولة قد زفت إلي وكتب العقد على يد الأمير. وإذا كنت لا تصدقني فاسأل كل من في هذه الدار عن ذلك».
فغلبت الشهامة على سعيد ولم يسعه إلا أن قال «وما يمنع أن تكون زوجة لك بورك لك فيها. ألست أخي ورفيقي وابن عمي».
قال ذلك وهو لا يزال يشك بما يسمعه لعلمه بأخلاق عبد الله.
ووصلا إلى الدار فترجلا وساروا توا إلى غرفة عبد الله وبعثا إلى عمرو بقدومهما أن يستقبل سعيد في غرفة خاصة وبعث إلى خولة ووالدها فلما جاءا أقبل عمرو إلى تلك الغرفة وقد اجتمع فيها الجميع وبلال واقف خارجا فلما دخل عمرو تقدم سعيد لتقبيل يده والسلام عليه فرحب به ودعاه للجلوس.
فقال سعيد «إذا أذن مولاي فليأمر عبده بلالا بالدخول ليحضر هذه الجلسة».
فأمر بدخوله فانزوى في بعض جوانب الغرفة متأدبا وفي يده جراب من جلد.
وكان سعيد ينظر إلى خولة من تحت النقاب ويفكر في ما سمعه من عبد الله وهو يتردد بين الشك واليقين.
فلما استتب بهم الجلوس خاطب عمرو سعيدا قائلا «أظنكم تتوقعون أن تروا قطاما سجينة».
فقال سعيد «نعم يا مولاي».
قال «ولكنها فرت من السجن وزادت ذنبها عظما بقتل خادمتها. وكنا قد أردنا استبقاءها مسجونة. أما الآن فإذا ظفرنا بها لا قصاص لها عندنا غير القتل».
الفصل الثالث عشر والمائة
جائزة مئة دينار
فلم يتمالك سعيد عن الابتسام وقد ندم لأنه لم يصرح بالأمر لما سأله عنه عمرو وهم بالكلام فاعترضه بلال مستأذنا. فسكت. فتقدم بلال إلى عمرو وجثا بين يديه والجراب بيده وقال «استعطف مولاي أن يأذن لي بكلمة أقولها».
قال «قل».
قال «كيف ترجون القبض على قطام وأنتم لا تعرفون مقرها».
قال «نطمع الناس في البحث عنها بمال كثير».
قال «بكم تسمح نفس الأمير لمن يقبض عليها».
قال «نعطيه مئة دينار».
قال «اتشترط أن يؤتى بها حية».
قال «لا فرق جاء بها حية أو ميتة».
قال «وإذا جاء بخبر قتلها».
قال «نقبل منه بشرط أن يأتينا بما يثبت قتله إياها».
فأخذ بلال يحل الجراب وهو يقول «فليأمر مولاي الأمير بمن يدفع لي مئة دينار» وما تم قوله حتى أفرغ الجراب بين يدي الأمير ففاحت الرائحة وظهر الشعر الملطخ بالدماء وبلال يبحث فيه بإصبعه حتى وجد الأذنين وفيها الأقراط.
فأجفل عمرو وسائر الحضور لذلك المنظر واشمأزت نفوسهم من تلك الرائحة الكريهة وصاح فيه عمرو «ويلك ما هذا؟!»
قال «هذا هو شعر قطام ملطخا بدمها. وهذه أذناها وأقراطها. وإذا احرجتموني جئتكم برأسها فإن إنما تخليت عنه إجابة لأمر مولاي سعيد» قال ذلك ووقف وهو يشير برأسه إلى سعيد.
فقال سعيد «نعم يا مولاي أنا أشهد أن بلالا قتل قطام وحده واحتز رأسها وجاءني به وهو ينوي حمله إليكم فأشرت عليه أن يكتفي بهذه العلامة تخلصا من نتانة تلك الرمة».
وكان الحضور قد بهتوا وهو ينظرون إلى الشعر والأذنين فأشار عمرو إلى بلال أن أحمل هذه الأقذار من هنا فأعادها إلى جرابه وتنحى.
فقال له عمرو «لك علينا مئة دينار».
فحني رأسه شكرا وامتنانا وقال «إني أشكر مولاي الأمير على نعمته ولكنني أعترف له بأني لم أقتل هذه الخائنة طمعا بجائزة وإنما قتلتها انتقاما للحق» وأراد أن يفصل ما أجمله فانتبه أنه لا يجوز ذكر الإمام علي هناك فاكتفى بما قاله.
ونهض عبد الله فقال «بورك فيك يا بلال» فاقصص علينا الخبر إذا أمر الأمير.
فقال عمرو «اقصصه».
فقصه من أوله إلى آخره.
الفصل الرابع عشر والمائة
الطلاق والزواج
فأثنى الجميع على شهامته وخصوصا خولة. وتذكرت أن والدها كان ناقما عليها من أجله فاغتنمت تلك الفرصة لاكتساب رضاه عنهما فقال «يا بلال تقدم بإذن الأمير وقبل يدي سيدك» وأشارت إلى والدها. فتقدم بلال للحال وقبل يده فأثنى عليه فعاد إلى موقفه. وكان الحديث قد انقضى ولم يبق غير الانصراف.
فوقف عبد الله والتفت إلى عمرو وقال «أشهد أيها الأمير أن امرأتي هذه طالق مني ثلاثا» وأشار إلى خولة.
فانتبه سعيد لما كان سمعه منه فتحقق أنه كان معقودا له عليها. فعلته البغتة.
ولحظ عمرو فيه ذلك فقال «طب نفسا يا سعيد إن خولة لا تزال بكرا وإنما طلقها عبد الله صورة كما تزوجها صورة» والتفت إلى أبي خولة وقال له «إني أخطب خولة منك لسعيد».
فقال أبو خولة «هي جاريتك يا مولاي فافعل بها ما تشاء».
فخجلت خولة لتلك المفاوضة بين يديها وأطرقت.
وأمر عمرو فكتب الكتاب في الحال وهنأهما بذلك القران وأمر لبلال بالمال الذي وعده به وانصرف الجميع إلى بيت خولة بعد أن ودعوا عمرا وشكروا صنيعه.
وبعد أيام استأذن عبد الله سعيدا في الذهاب إلى مكة للقيام مع أهله وتدبير تركة جده فأذن له بالرغم عنه. فانصرف وودع خولة ووالدها والأمير عمرا وسار إلى مكة واقترن هناك بابنة عم له وعاشوا جمعيا عيشا لا يشوبه من الغصص إلا الافتكار بمقتل الإمام علي. وزاد تنغيصهم ما سمعوه بعد ذلك من تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان. فخرجت الخلافة من أهل البيت وصارت إلى بني أمية. وإنما فعل الحسن ذلك حجبا للدماء ولم يتول الخلافة إلا ستة أشهر فانتقل كرسيها من الكوفة إلى دمشق وما زال فيها إلى انقضاء دولة بني أمية.
Page inconnue