سقط على بعد أمتار قلائل من سرير سلطان، ثم أطلق على صدره رصاصتين أخريين.
أهل الكهف
لا يدري متى خلد للنوم، عندما استيقظ كانت الشمس على هامات الأشجار، ولأنه ينام في موقع فضاء أصابته أشعة الشمس من اتجاهات عدة، قربه على بعد ثلاثة أمتار ترقد جثة الذئب، قذرة متضخمة وعنيدة، حوله خارج السياج كانوا جميعهم على ما يبدو ذكورا، يحيطون خصورهم بقلائد من الخرز وأنياب الحيوانات المتوحشة ويخفون ما بين السرة وما فوق الركبة بقليل، بجلود أو أردية من النباتات، من أعناقهم تتدلى التمائم، يقفون حول السياج حاملين حرابا لها مقابض طويلة من القنا، البعض يحمل سهاما، البعض يحمل فئوسا وأسلحة بدائية، ينتعلون جلودا سميكة، ربما كانت مصنوعة من جلد فرس البحر أو الجاموس، سود مثله، غير أن قامتهم عالية بعض الشيء وأجسامهم نحيفة متناسقة تشع قوة ورشاقة كأنهم نمر، تقاطيع وجوههم وسيمة قاسية حادة، بدا من الواضح لديه أنهم محاربون من قبيلة بدائية تقيم بمقام ليس ببعيد، سمعوا إطلاق الرصاص أو رأوا لهب النار بالليل، يستطيع أن يؤكد لنفسه أنهم ليسوا أكلة لحوم البشر؛ «الكا» تقيم بعيدا جدا عن هذا الموضع حسب وعيه بجغرافية المكان السكانية، ربما كانوا من قبيلة «لالا».
لكن السؤال الساخن الآن هو: ماذا سيفعلون بي؟ هل سيرمونه بالحراب إذا خرج من ناموسيته ظنا منهم أنه سيبادرهم بالهجوم؟ هل أبدأ أنا بإطلاق النار؟ رصاصتان في الهواء ترعبهم فيهربون فزعا، ثم أهرب أنا بدوري أم أنتظر لأرى رد فعلهم؟ لا، لا، يكون ردي متأخرا بعد فوات الأوان، تريث يا سلطان تيه، تريث، أترى ما سيكون تصرف الصادق الكدراوي إذا كان في ورطتي؟ أإذا كنا معا؟ لا بد أنه سيختلق فعلا يجعلهم يرمون أسلحتهم ويعانقوننا واحدا واحدا، ومن ثم يأخذوننا إلى مساكنهم ويؤمنون لنا الطعام والشراب، ثم يكرموننا بأجمل فتاتين في القرية كعادة كثير من القبائل البدائية في كرمها للضيف. لكن أين الصادق الكدراوي؟ أطلق الرصاص في الهواء، انتظر ... تريث، لا تفعل شيئا، إن كثيرا من القبائل البدائية لها طبع مسالم، أطلق، لا تنطلق، كانوا صامتين كأنهم يستنبطون ما يدور في ذهنه.
بعيدا عن ذهن سلطان تيه كان الصباح جميلا ومشرقا، طيور زرقاء ذات مناقير حمراء ترك على أغصان شوكة، تغرد نغما خفيفا حلوا ثم تطير فجأة نحو الغرب، من بعيد يأتي نشيد المغني؛ طائر صغير الحجم له ذيل طويل، به لونان، في الغالب الأزرق والأبيض، كان نشيده الحلو يعمق براءة الصباح، يزيده بهاء.
سلطان تعلم التفاؤل بسماع المغني منذ أول صباح عانقه بالدغل ولو أنه لم يره غير مرة واحدة نسبة لاختبائه بين أوراق الأشجار العريضة، بعيدا عن وعيه المشوش بالمأساة إيقاع الطبل الآتي من عمق المسافة جميل أيضا، يحتاج لكي يتبول، يعلو صوت الطبل، يقترب، كلما دنا أكثر اتضح صوت الجوقة التي تتبع الإيقاع والنشيد، بأسرع مما توقع ظهرت طلائعهم بين الأشجار الغزيرة.
عندما دخلوا الأرض الفضاء عدهم واحدا واحدا من داخل ناموسيته، كانوا عشرين شخصا من بينهم امرأة جميلة سوداء، تلبس رداء جيد الصنع من الجينز، صدرها عار، عليه ثديان نزقان، تتدلى ما بينهما تميمة كبيرة الحجم من العاج، من بينهم رجل أبيض البشرة يلبس مثلهم، أشقر، عيناه خضراوان كقط، في الحق كانت له عين واحدة، الأخرى مفقوءة، يبدو كما خيل لسلطان تيه أن هذا الأبيض حواري، الحواري كما يعرفه سلطان تيه ليس من الجن بل هو مولود نتيجة طفرة وراثية من أب وأم أسودين، الطفرة هي نتيجة تفاعلات كيميائية أو فيزيائية في الجينات، وهذا بالضبط ما تعلمه من أستاذ الأحياء بالثانوي، لكن قفزت في وعيه مسألة مستر ومسز جيني، يكون هذا من مخلفاتهما؟
انفجر الصمت بوصول القادمين، أخذ الجميع في شرب شيء أتى به القادمون في قرب كبيرة من الجلد وأوعية من القرع والفخار، كانت رائحة المشروب ذكية أثارت فيه شهية الشرب، شهية الشرب كشهية الموت، تبدأ بأكلان في القلب، لا تنتهي إلا بنهاية الجسد.
لا يأبهون به كأنه لم يكن، هو يهتم بكل تفاصيل فعلهم؛ خصلات الأشقر المجنونة، أسنة رماحهم، أطيارهم الراكة على شوكة، ذئبهم أو ذئبه لا فرق، طبلهم الذي صمت ونام على شجرة عرديب طفلة، سمائهم الزرقاء ذات السحيبات البيض الخفيفات، هو نفسه أسيرهم القابع تحت ناموسيته يرغب الموقف ويؤسس لفعل إما أن ينجيه، أو أن يميته، أو أن يخوزقه، والعياذ بالله من الخازوق! لوقوعه في مسافة ما بين النجاة والموت.
وقفت الجماعة لشخص قادم احتراما، ظهر من بين الأعشاب يمتطي حمارا وحشيا أليفا، يلبس رداء ثقيلا حول خصره، تتدلى على جانبي الحمار وعلى صدره تمائم وعقود ، على كتفه فراء ناعم يغطي كثيرا من صدره، من الواضح أن القادم ذو شأن، كان كبيرا في العمر، بدا عليه التعب والإرهاق، برفقة جماعة راجلة وحامرة أيضا. جلس الجميع في دائرة في أحد طرفيها القادم الكهل.
Page inconnue