Rahman et Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Genres
إن مفهوم يسوع عن ملكوت الله هو عصر تتم فيه معرفة الناس الآب، ويمد إليهم يده لتخليصهم من الخطيئة الأولى ومن الموت ومن سلطان أمير الظلام. فالملكوت رابطة روحية تجمع المؤمنين إلى بعضهم وتجمعهم إلى خالقهم، بعد عصور الظلام التي باعدت بينهما. وإذا كان الملكوت قد حل بظهور المخلص، وموته الطوعي فداء للبشرية الخاطئة، فإن هذا الملكوت سوف يستمر ردحا من الزمن كاف لتنقية عناصر الخير من عناصر الشر، وحرمان الشيطان مما تبقى له من سلطة على العالم. عندما سيعود ابن الإنسان على غمام المجد في اليوم الأخير ليختتم الزمن ويفتتح الأبدية.
وعلى عكس ملكوت الرب اليهودي، فإن ملكوت يسوع يشمل جميع الأمم والشعوب. ولقد أكد في أكثر من قول له عدم أهلية اليهود لدخول هذا الملكوت، رغم اعتقادهم القديم بأنهم أصحابه الشرعيين: «وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت «أي اليهود» فيطرحون إلى الظلمة الخارجية» (متى، 8: 12). وأيضا: «لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره» (متى، 21: 43). وهو يقول لليهود صراحة بأنهم لم يعرفوا الله قط، وإن أباهم الحقيقي هو إبليس: «لستم تعرفونني أنا ولا أبي. لو عرفتموني لعرفتم أبي أيضا ... أنتم من أسفل، أما أنا فلست من هذا العالم. فقلت إنكم تموتون في خطاياكم ... أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا ... الذي من الله يسمع كلام الله، لذلك أنتم لستم من الله ... أبي هو الذي يمجدني الذي تقولون إنه إلهكم ولستم تعرفونه، وأما أنا فأعرفه» (يوحنا، 8: 18-24، و44-47، و54-55).
ولكن إذا كان ملكوت الله حاضرا هنا والآن، فكيف للإنسان أن ينتمي إليه ويخلص من ربقة الشيطان؟ إن ما تبقى من تعاليم يسوع تدور حول الإجابة عن هذا السؤال. وهي تدور حول أربعة عناصر هي: (1) الأخلاق. (2) الإيمان. (3) المحبة. (4) الشريعة الجديدة.
بعد أن ابتدأ يسوع يكرز ببشارة الملكوت، كان أول من انضم إليه أربعة هم: سمعان وأندراوس ويعقوب ويوحنا. وكان يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم ويشفي كل مرض، فتبعته جموع كثيرة، ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل وجلس، وهناك ألقى أولى مواعظه الأخلاقية، وهي المعروفة بموعظة الجبل، وفيها يحدد الخطوط العامة للأخلاقية المسيحية. الموعظة تشغل في إنجيل متى كامل الإصحاحات الخامس والسادس والسابع. وهذه مقتطفات منها: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون، طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله ... قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل، ومن قتل فإنه يكون مستوجبا الحكم. وأما أنا فأقول لكم إن من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجبا الحكم ... فإذا قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك عليك شيئا، فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولا اصطلح مع أخيك. قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه. سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا. ومن سخرك ميلا واحدا فامش معه ميلين اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم ... احترزوا أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروا إليكم ... وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء ... لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض، بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء ... لا تدينوا كي لا تدانوا، لأنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون، وبالكيل الذي تكيلون به يكال لكم ... اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم ... كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هذا بهم ... ادخلوا من الباب الضيق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليل هم الذين يجدونه.»
ولكن الأخلاق وحدها لا تكفي، بل لا بد من الإيمان بيسوع مسيحا ومخلصا: «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يوحنا، 3: 36). «الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن بابن الله الوحيد» (يوحنا، 3: 18). «من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حيا وآمن بي لن يموت إلى الأبد» (يوحنا، 11: 25-26). «فقالوا له: ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟ أجاب وقال لهم: هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي أرسله» (يوحنا، 6: 28-29). «الحق أقول لكم، إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية» (يوحنا، 6: 47). «الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هنالك فينتقل» (متي 17: 20).
ومع الأخلاق والإيمان هناك المحبة: «وصية جديدة أنا أعطيكم. أن تحبوا بعضكم بعضا. كما أحببتكم أنا تحبون أيضا بعضكم بعضا» (يوحنا 13: 34). «أيها الأحباء، إن كان الله قد أحبنا، هكذا ينبغي لنا أيضا أن نحب بعضنا بعضا ... الله محبة. ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه ... إن قال أحدكم إني أحب الله وأبغض أخاه فهو كاذب، لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن الله الذي لم يبصره» (رسالة يوحنا الأولى، 4: 11-20). وعندما سأل يسوع واحد ناموسي ليجربه قائلا: «يا معلم أية وصية هي العظمى في الناموس؟ قال له يسوع: تحب الله إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. والثانية مثلها، تحب قريبك كحبك لنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء» (متى، 22: 35-40).
أما عن شريعة يسوع الجديدة، فإن يسوع، وهو يعلن إنجيل الملكوت، يفتتح نظاما دينيا جديدا كل الجدة. فالشريعة والأنبياء أمر ينتهي مع يوحنا المعمدان (لوقا، 16: 16). ورغم أن يسوع قد قال: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل»، وهو قول ينبغي عدم أخذه بحرفيته، فقد ألغى يسوع شريعة العهد القديم بجرة قلم عندما قال: «السبت إنما جعل لأجل الإنسان لا الإنسان لأجل السبت» (مرقس، 2: 27)، وذلك في رده على الفريسيين الذين رأوا تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون بين الزروع لسد جوعهم. وعندما احتج الفريسيون على يسوع لأن تلاميذه لا يصومون، قال لهم إن خمر الإنجيل، وهي شريعة يسوع، لا يمكن صبها في أوعية قديمة هي شريعة العهد القديم: «ليس أحد يخيط رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، وإلا فالملء الجديد يأخذ من العتيق فيصير الخرق أردأ، وليس أحد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف» (مرقس، 2: 21-22). وعندما دخل يسوع المجمع «وكان هناك رجل يده يابسة، فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت. قال للرجل الذي له اليد اليابسة: قم في الوسط، ثم قال لهم: هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو قتل؟ فسكتوا، فنظر حوله إليهم بغضب حزينا على غلاظة قلوبهم، وقال للرجل: مد يدك، فمدها، فعادت صحيحة كالأخرى » (مرقس، 3: 1-5). وعندما رأى اليهود أن بعضا من تلاميذه يأكلون بأيد غير مغسولة، لاموه على عدم تقيدهم بالشرعية. فقال لهم: «ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن ينجسه، لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الإنسان ... لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة» (مرقس، 7: 14-21)، وفي قوله المشهور: «أريد رحمة لا ذبيحة» (متى، 9: 13) يقوض مؤسسة القربان اليهودي في شريعة موسى، ويعلن سدى الطقوس التوراتية مؤسسا لطقوس تقوم على القلب لا على الدم. لقد تجاوز موسى ولم يعد للهيكل اليهودي ما يسوغ بقاءه. وهذا ما يعلن عنه صراحة في خطابه للمرأة السامرية التي ظنت أنه نبي يهودي: «قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي. آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. قال لها: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، وأما نحن فنسجد لما نعلم.» ثم يتابع فيقول إن الخلاص لا يتم قبل التخلص من اليهود: «... لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق» (يوحنا، 4: 19-23).
لقد كان اليهود يحملون نير الشريعة، أما المؤمنون الجدد فيحملون نير المسيح، وهو نير هين وخفيف. قال يسوع: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم، لأن نيري هين وحملي خفيف» (متى، 11: 28-30). ففيما عدا الصلاة اليومية البسيطة التي تؤدى كل يوم لمرة واحدة بكلمات قليلة، لم يؤسس يسوع إلا لطقسين اثنين هما العماد والإفخارتسيا (= القربان المقدس).
لم يكن طقس العماد، أو المعمودية، بالطقس الجديد. فقد كان يوحنا المعمدان يعمد بالماء من أجل التوبة وغفران الخطايا، وكان يسوع من بين من تقدموا للاعتماد على يديه، جاعلا نفسه بين الخطأة كأي إنسان آخر، لكي يحمل خطيئة العالم على كاهله ويموت فيما بعد لأجل خلاص هذا العالم. ولكن المعمودية المسيحية التي فرضها يسوع تتخذ معنى إضافيا، فهي علامة الميلاد الجديد وبوابة الدخول إلى كنيسة المسيح. إنها بالنسبة للعهد الجديد بمثابة الختان في العهد القديم، كلاهما علامة على العهد. كما أنها شرط الخلاص، مثلها مثل الإخلاص والمحبة والإيمان: «الحق أقول لكم، إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله ... وبعد هذا جاء يسوع وتلاميذه إلى أرض «مقاطعة» اليهودية، ومكث معهم هناك، وكان يعمد» يوحنا 3.
أما طقس الإفخارتسيا فقد أسس له يسوع في عشائه الأخير مع تلاميذه. والكلمة يونانية، وتعني من حيث المبدأ العرفان بالجميل وإبداء الشكر. وفي العهد الجديد استخدمها يسوع عند افتتاحه تناول الطعام، فهي نوع من صلاة الشكر لله على نعمه: «وأخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ» (يوحنا، 6: 11)، ثم أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين ورفع نظره إلى السماء وبارك وكسر وأعطى الأرغفة للتلاميذ» (متى، 14: 19). وفي مشهد العشاء الأخير نقرأ في إنجيل متى: «ولما كان المساء اتكأ مع الاثني عشر ... وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبر وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلا اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد، الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» (متى، 26: 26-28). ونقرأ عند يوحنا: «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير ... من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه» (يوحنا، 6: 54-56). بهذا الطقس يتم اتحاد المؤمنين بالمسيح. ومن خلال آلامه وموته وقيامته يعبرون معه من عالم الخطيئة عالم الشيطان إلى عالم الحرية والسعادة، عالم الرحمن، من عبودية الموت إلى رحاب الأبدية.
Page inconnue