Rahman et Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Genres
يتصور الحل الثالث وجود أصلين أزليين لا أصلا واحدا، وهما الله والمادة. فالله روح بحت ونور صرف، والمادة كثافة مطبقة وظلمة دامسة، ولشدة كثافة الظلمة في أسفل طبقاتها فقد تحولت إلى مادة، يتجاور عالم الظلمة وعالم النور منذ الأزل ويواجه كل منهما الآخر بصفحته، وفيما عدا ذلك لا حدود للنور من أعلاه، ولا من يمنته ولا من ميسرته، ولا حدود للظلمة أيضا من تحتها ولا من يمنتها ولا من يسرتها، ثم إن المادة أنجبت الشيطان الذي ليس أزليا في عينه رغم أن عناصره أزلية، وقد تولد الشيطان عن ظلمة كما تتولد العفونة من الأجزاء الرطبة، وتولدت أفلاك القوى الملائكية عن الله مثلما تشعل الشموع من مشعل متقد. وهذا هو حل المعتقد المانوي.
يؤكد الحل الرابع على الأصل الواحد للوجود، وعلى وحدانية الله وخيره وعدله، إلا أنه يعزو الشر إلى شخصية ما ورائية كبرى ذات أصل سماوي، تنشط في استقلال عن الله، وهذه الشخصية ليست أزلية بل مخلوقة من قبل الله الذي أعطاها الحرية منذ البدء، فقامت، وبكل وعي وحرية، برفض التبعية لخالقها والاستقلال عنه، ولما كانت غير قادرة على ممارسة دور الإله نفسه فقد قررت أن تلعب دور المعارض والمناقض لإرادته، وتعمل على إفساد خلق الله، لا سيما الإنسان الذي هو مركز الخليقة وسيد الأرض. وهكذا ظهر الشيطان وظهر الشر إلى الوجود وتأصل فيه منذ الأيام الأولى للتكوين. وهذا هو حل المعتقدين المسيحي والإسلامي.
أما لماذا سمح الله بظهور الشر على هذا النحو، فإن جواب الحل الرابع هو أن الله لم يسمح بظهور الشر بل سمح بالحرية، وليس الشر إلا ناتجا من نواتج الحرية. فالله ليس مسئولا عن الشر، وهو سيقاومه ويأتي به وبأصله إلى نهاية محتومة في لحظة مقررة من صيرورة الزمن. لقد كان الله قادرا على محق الشيطان لحظة عصيانه، ولكنه آثر الإبقاء على مبدأ الحرية الذي استنه لخلقه، وتركزت خطته في مقاومة الشيطان على الإنسان الذي أعطاه العقل والحرية أيضا، وعليه أن يستخدمها في محاربة الشر وعدم الإذعان لسلطته. إن دراما صراع الخير والشر عبر زمن البشرية، قوامها مواجهة بين حرية بدئية تحولت إلى جبرية أحادية عندما تبنى الشيطان الشر خيارا واحدا أبديا، وبين حرية ما زالت تنطوي على جوهر الخيار، وهي حرية الإنسان. قد يخطئ الإنسان ولكن خطأه لا يتحول إلى خيار نهائي وانحياز إلى معسكر الشيطان، ومن خلال جدلية هذه الحرية المفتوحة على كل الاحتمالات عليه أن يصل في النهاية إلى خيار وحيد ومطلق، بمعونة الله ونعمته.
وبذلك يتخذ معتقد التوحيد طابعا ثنويا على هذه الدرجة من الجذرية أو تلك، تتراوح بين ثنوية مطلقة تعتقد بقيام أصلين للوجود لا أصل واحد، وثنوية أخلاقية يقتصر فيها تناقض الرحمن والشيطان على المجال الأخلاقي والمجتمع الإنساني من دون بقية مظاهر الوجود. هذه المعتقدات سوف تكون موضع بحثنا فيما يأتي من فصول هذا الكتاب، فلقد وجدنا أنها تشكل مجموعة متميزة من تاريخ الدين الإنساني، قاسمها المشترك فكرة الشيطان التي ظهرت لأول مرة في تعاليم زرادشت (حوالي مطلع الألف الأول قبل الميلاد)، ثم تابعت ظهوراتها بتنويعات ومضامين مختلفة خلال أكثر من ألف عام تلت، ودخلت في صميم معتقدات يدين بها اليوم أكثر من نصف سكان المعمورة.
ونحن عندما نتحدث هنا عن الشيطان، وهو مفهوم متأخر نسبيا في تاريخ الدين، فإننا نميز بينه وبين الكائنات الما ورائية الشريرة التي لم يخل منها معتقد ديني قط. فالشيطان ليس كائنا شريرا بل هو المبدأ الكوني للشر، والمصدر الما ورائي الذي يصدر عنه كل شر معاين وجزئي وملموس، إنه يشغل مكان المركز في المعتقدات الثنوية، لا من حيث مكانته النسبية أمام الله، وإنما من حيث تأثيره على المجتمع الإنساني وصيرورة التاريخ، فالتاريخ يستهل بسقوط الإنسان الأول من الفردوس ، وينتهي بيوم الحساب الأخير، وليس الزمن الفاصل بين البداية والنهاية إلا عصر اختبار للإنسانية في مواجهة قوى الشر.
رغم أن المبدأ الكوني للشر سيكون في بؤرة هذه الدراسة، إلا أن مجال البحث سوف يتسع ليشمل ما يمكن أن ندعوه بلاهوت التاريخ، أي الاعتقاد بأن صيرورة الزمن الدنيوي وفعالية الإنسان فيه هما ناتج لتدخل المشيئة الإلهية وتكشف عن القصد الإلهي في عالم البشر والطبيعة والمادة، وبذلك يتحول تقصينا لفكرة الشيطان في معتقد ما إلى تقص أشمل، يطال جوهر هذا المعتقد في مسائل الخلق والتكوين ومراحل الزمن التالية وصولا إلى اليوم الآخر وانقضاء الدهر، فالحياة الثانية: أي تقص لمفهوم ذلك المعتقد عن التاريخ، بداياته وأواسطه ونهاياته، وطبيعة فهمه لله والعالم والإنسان، وللعلاقة بين أركان هذا الثالوث الذي تدور حوله كل الأيديولوجيات الدينية، فبدون الشيطان الذي شبك الشر إلى نسيج العالم الحسن والطيب لم يكن ثمة تاريخ، وبدون ما تلا ظهور الشيطان من صراع بين الخير والشر لم يكن ثمة صيرورة تدفع عجلة الزمن إلى غايته الأخيرة المتمثلة في القضاء على الشر واستعادة خلق الله حسنا وطيبا كما كان عند البدايات.
سوف نخصص الفصل الأول والثاني لتقديم شروحات حول المصطلحات الواردة في عنوان الكتاب، فنعرف بمصطلح الثنوية الكونية في الفصل الأول، وبلاهوت التاريخ أو المفهوم الديني للتاريخ في الفصل الثاني، في الفصل الثالث نتقصى الأصول البعيدة لمفهوم الثنوية الكونية وبذور فكرة الشيطان، والتي وجدناها في الديانة المصرية القديمة وضمن العبادة الأوزيرية بشكل خاص. في الفصل الرابع ندرس الديانة الزرادشتية التي أسست للاهوت الشيطان ولاهوت التاريخ. في بقية الفصول نتابع دراسة الديانات التوحيدية المشرقية، فنستجلي في معتقداتها مفهوم التوحيد وظلاله الثنوية، ومنعكس ذلك على مفهومها للتاريخ بشكل رئيسي. كما سنتوقف عند تيارات روحية ذات صلة بموضوعنا مثل الغنوصية، والأسفار التوراتية المخفية (أو غير القانونية) التي أحدثت ثورة صامتة ضمن الفكر التوراتي الرسمي، ومهدت الطريق أمام المسيحية.
أما بخصوص المنهج، فقد حاولت قدر الإمكان التزام فينومينولوجيا الدين، وهو منهج ظاهراتي وصفي يعتمد وصف الظاهرة الدينية المعنية، وسبر معناها من داخلها، بمعزل عن الأفكار والمواقف الشخصية المسبقة. فالباحث الفينومينولوجي لا يصدر في دراسته عن موقف بعينه، ولا يتعدى وصف ما يتبدى له إلى إصدار حكم قيمة عليه، إنه أقرب إلى المشاهد المتفحص منه إلى القاضي الذي يجد من واجبه التوصل إلى قرار بخصوص ما هو حسن وما هو رديء، استنادا إلى لائحة تشريعية بعينها،
1
إضافة إلى ذلك، فقد عمدت إلى معالجة الموضوعات وترتيب أفكارها داخليا بطريقة تسهل مقارنة بعضها ببعض، رغم أني لم ألجأ إلى المنهج المقارن إلا في الحدود الدنيا وفيما يتعلق ببعض التفاصيل، ولسوف يجد القارئ نفسه في النهاية أمام حصيلة تسلم نفسها للمقارنة دون جهد.
Page inconnue