Rahman et Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Genres
أما الشخصية الثالثة في الفكر الغنوصي فكانت مرقيون. أسس مرقيون خلال أواسط القرن الثاني الميلادي لكنيسة بديلة، شكلت أكبر تهديد للكنيسة الرسمية، واستمرت قوية لفترة طويلة بعد وفاة مؤسسها، خصوصا في الأطراف الشرقية لمناطق انتشار المسيحية مثل أرمينيا، وكانت وراء تعجيل الكنيسة في إقرار الأناجيل الأربعة وتثبيت المعتقد الرسمي في صيغته النهائية. يعتبر مرقيون أكثر الغنوصيين مسيحية، فهو رغم اتفاقه مع الغنوصية في كل طروحاتها الرئيسية، إلا أنه يؤكد في النهاية على عنصر الإيمان المسيحي ويعليه فوق العرفان الغنوصي، فالخلاص عنده يأتي بالإيمان وعن طريق يسوع المسيح بالذات ابن الله العلي لا ابن يهوه، وهذا ما استتبع عنده نكران الطبيعة الواحدة التي تجمع بين روح الإنسان وروح الله. فالإنسان نتاج صنعة الإله الخالق لا الإله المتعالي الخفي، ولكن الإله المتعالي قد أحب الإنسان وأشفق عليه فمد إليه يد الخلاص.
ينطلق مرقيون في تفكيره من مبدأ الفصل التام بين العهد القديم والعهد الجديد، فيؤسس لعقيدة مسيحية مستقلة عن التوراة تقوم على إنجيل لوقا فقط في شكله المشذب والمختصر من قبله، وعلى رسائل بولس الرسول. ذلك أن بولس، في رأي مرقيون، هو الذي فهم الإنجيل حق الفهم من دون بقية الرسل، بعد أن تجلى له المسيح على طريق دمشق وأوكل إليه مهمة التبشير بالإنجيل الحقيقي، فعارض منذ البداية المسيحية اليهودية التي كان بطرس وزملاؤه يدعون إليها. يرى مرقيون أن هذا العالم المادي الناقص والمليء بالشرور هو من صنع الإله يهوه، وإن إله العهد القديم هذا هو الذي خلق الإنسان وفرض عليه الشريعة التي كانت بمثابة لعنة، على حد تعبير بولس، ولكن يهوه هذا ليس الإله الأعلى، رغم أن جهله قد جعله في البداية يعتقد بوحدانيته، فلم يعلم بوجود قوة شمولية عظمى تتمثل في الله الخفي، الأب الأعلى إله المحبة. ولقد شعر الأب الأعلى بالشفقة نحو الإنسان فأرسل ابنه المسيح في هيئة يسوع الناصري ليخلص البشرية، ورآه الناس بينهم فجأة وهو يعلم ويبشر بملكوت الروح، فظنه بعض اليهود المسيح القومي المنتظر، كما أن الحواريين أنفسهم لم يفهموا المغزى الحقيقي لرسالته. ونظرا لجهل يهوه بقيمة المخلص فقد دفع به إلى الصلب، وهو لا يدري أن عمله هذا سوف يجلب عليه سوء المصير، لأن ابن الله قد حرر بموته الناس من سلطة يهوه ومن لعنة الناموس.
ننتقل الآن إلى تقديم نموذج عن الميثولوجيا الغنوصية التي عرض المعلمون أفكارهم من خلالها، وهي ميثولوجيا شديدة الغموض والتعقيد وذات دلالات رمزية بعيدة الأغوار. ونموذجنا هنا هو الكتاب المعروف بعنوان «منحول يوحنا» أو «كتاب يوحنا السري» المنسوب إلى يوحنا الإنجيلي. ولكننا نرى من المفيد قبل ذلك عرض وتبسيط بعض مصطلحات الميثولوجيا الغنوصية، فالآلهة بالمفهوم الغنوصي أقرب إلى مفهوم الشياطين في بقية الميثولوجيات، وهي تنتمي إلى العالم المادي وتشكل جزءا لا يتجزأ منه، وتدعى أراكنة، جمع أركون «أو أرخون» وتعني حاكم. يحكم فوق هؤلاء الأركون الأعظم يهوه الملقب بساكلاس أي الأحمق، وسمائيل أي الأعمى. أما في المستوى الروحاني الأعلى فلا وجود لآلهة بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، بل لأفلاك قوة تدعى أيونات، جمع أيون، وإذا كانت هذه الأيونات تدخل في علائق مع بعضها البعض، فما ذلك إلا من دواعي أسلوب القصص الميثولوجي، لا يستثنى من ذلك فلك القوة الأعلى، فهذا الفلك ليس إلها وإنما هو مفهوم مجرد عن المبدأ الكلي والحقيقة النهائية.
ولدينا مفهوم مركزي من التصورات الميثولوجية الغنوصية هو «صوفيا»، أي الحكمة. وصوفيا هي آخر أفلاك القوى الروحانية في ترتيب الصدور عن مركز النور الأسمى، ولكن أهميتها تأتي من كونها حلقة الوصل بين الأفلاك الروحانية وما يناظرها في الأسفل من عوالم المادة والظلام، وهي التي أنجبت الأركون الأعظم، كبير الآلهة يهوه. ونستطيع أن نعثر على بذور فكرة صوفيا في مقاطع من سفر الأمثال التوراتي وفي سفر حكمة سليمان أيضا. نقرأ في سفر الأمثال عن الحكمة قولها: «الرب حازني في أول طريقه قبل ما عمله منذ البدء. منذ الأزل مسحت، من الأول من قبل أن كانت الأرض. ولدت حين لم تكن الغمار والينابيع الغزيرة، قبل أن أقرت الجبال، والتلال ولدت، إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أتربة المسكونة، حين هيأ السماوات كنت هناك، وحين رسم دائرة على وجه الغمر العظيم ... لما رسم أسس الأرض كنت عنده صانعا، وكنت كل يوم لذته، فرحة دائما قدامه» (الأمثال، 8: 22-30).
أي إن الحكمة-صوفيا كانت بمثابة الزوجة الروحية للخالق وقد شاركته في فعاليات الخلق. وفي سفر حكمة سليمان: 8، هنالك مطابقة بين الحكمة والروح القدس، ويشار إليها على أنها دفق مجد الرب ومرآة فعالياته الخلاقة ومنبع النور الأبدي. وفي التيار الغنوصي السوري، الذي يعتبر سمعان السامري من أقوى ممثليه، فإن صوفيا هي فكرة الآب الأعلى الأولى، والروح القدس، وأم الجميع، وقد هبطت صوفيا من العوالم الروحانية نحو الأسفل حيث أنجبت ملائكة المادة الذين خلقوا العالم.
ولدينا مفهوم مركزي آخر في الميثولوجيا الغنوصية هو «الإنسان القديم»، الذي هو ابن الله العلي وصورة الإنسان الكامل التي تعيش في عالم المثل الأعلى، بالمفهوم الأفلاطوني. وفي لحظة معينة من تاريخ العالم، نزل هذا الإنسان المؤله الذي يدعى أيضا بابن الإنسان فتجلى في هيئة يسوع الناصري، ولكن دون أن يلبس جسدا ماديا حقيقيا، ثم عاد في النهاية إلى عالم النور الأسمى الذي انبثق عنه. هذا الإنسان القديم هو النموذج الذي خلق آدم على صورته، فعندما كان الأراكنة يهمون بخلق الإنسان الأول من تراب الأرض، أطل الإنسان القديم من الأعلى فانعكست صورته على صفحة الماء، ولما رآها الأراكنة راحوا يصنعون آدم على صورة ما رأوه.
في كتاب منحول يوحنا الذي أقدم ترجمتي الملخصة له فيما يأتي ،
3
يحاول المؤلف تقديم إجابة على سؤالين: الأول ما هو أصل الشر؟ والثاني كيف نستطيع الخلاص من عالم الشر هذا؟ وهو يصوغ نصه متبعا جنس الأدب الرؤيوي الذي عهدناه لدى مؤلفي الأسفار المنحولة. في البداية نجد يوحنا وقد انتابته الحيرة عقب حوار بينه وبين أحد الفريسيين، فيترك المعبد وينعزل في جبل يتأمل في مسائل الإنجيل. في أحد الأيام تقع له رؤيا هائلة، فتنشق السماء وتهتز الأرض ويشع من الأعلى نور غامر ليس من هذا العالم، فيرتجف فرقا ويسقط على وجهه، ولكن صوتا من داخل النور يناديه قائلا: «يوحنا لماذا تشك؟ لا تكن ضعيف الإيمان لأني معك دائما، أنا الآب وأنا الأم وأنا الابن، أنا الموجود أبدا. جئتك لأكشف لك حقيقة ما هو كائن وما كان وما سيكون، فتعرف ما هو ظاهر للأعين وما هو خاف عنها، وأكشف لك عن سر الإنسان الكامل. فارفع وجهك وتعال فاسمع وتعلم ما أقوله لك اليوم، لكي تنقله لأترابك من سلالة الإنسان الكامل القادرين على الفهم.» «الروح وحدة غير متجزئة لا يحكم فوقه أحد. إنه الله الحقيقي أبو الجميع، الروح القدس، الخفي الذي يهيمن على الكل، الموجود بقيوميته، القائم بنوره، الذي لا تدركه الأبصار، الروح ليس إلها أو كائنا يتمتع بصفات وخصائص محددة. إنه البداية التي لا تسبقها بداية، لم يكن لأحد وجود قبله فيحتاج إليه. الروح لا يحتاج الحياة لأنه سرمدي، ولا يطلب ما دونه لعدم وجود نقص فيه يتطلب التكميل. إنه وراء الكمال، إنه النور، إنه بلا حدود ولا أبعاد، لعدم وجود شيء قبله يحدده. خفي، لم ولن يراه أحد. دائم وموجود أبدا. بلا أوصاف لأن أحدا لم يفهم كنهه فيصفه، بلا اسم لعدم وجود أحد قبله يطلق عليه الاسم. ليس واسعا وليس ضيقا، ليس كبيرا وليس صغيرا، ليس ماديا وليس غير مادي، ليس بكم وليس بكيف، ليس كيانا ولا غير كيان، ليس زمنيا بل وراء الزمن، ليس موجودا ولكنه وراء الوجود، قائم في نفسه ولنفسه. وحده الذي يقيم ضمن نوره الذي يحيط به . إنه نبع الحياة والنسور الأعظم الباهر.»
بعد ذلك يتابع الصوت تعليم يوحنا ويشرح له كيفية صدور ما سوى الله عن الله، وكيف تشكلت أولا أفلاك القوى الروحانية من منبع النور الأسمى، وهي الأيونات «ومفردها أيون». فكانت الفكرة الأولى أول ما ظهر، ثم تحولت صورتها إلى شبه إنسان، هو الإنسان القديم، بعد ذلك ظهرت المعرفة الأولى، فالديمومة، فالحياة الخالدة. ثم إن الفكرة الأولى «وتدعى باربيللو» نظرت إلى أعماق النور العظيم، فحملت وأنجبت شرارة من نور هي المولود البكر للنور الأعظم، المسيح المعمد بطيبة الروح الخفي، فوهبه الأب العقل والإرادة والكلمة، وجعل الحقيقة طوع بنانه، وأعطاه سلطانا على بقية الأيونات، بعد ذلك ظهرت الأفلاك الأدنى مرتبة وأعطيت لها أسماؤها ومراتبها وصولا إلى فلك الحكمة صوفيا عروس الإنسان القديم.
Page inconnue