Rahman et Shaytan
الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية
Genres
كانت مقابر عصر ما قبل الأسرات تقع بعيدا عن المناطق السكنية، وكان المدفن الواحد عبارة عن حفرة بيضاوية الشكل بعمق بضعة أقدام، يوضع فيها الميت في وضعية الانطواء بحيث يتجه رأسه نحو الغرب، وهي الجهة التي كان المصريون في العصور التاريخية اللاحقة يعتقدون بأنها مقر عالم الأرواح. وفوق القبر ترتفع تلة صغيرة من التراب أو الحجارة، وقد احتوت هذه المدافن إلى جانب الهدايا الجنائزية المؤلفة من أدوات العمل وأوعية الطعام ووسائل الزينة وما إليها، على تمائم سحرية على شكل حيوانات، من بينها التمساح والغزال والخرتيت والصقر، كما احتوت على دمى طينية لأشكال أنثوية تمثل - على الأغلب - الإلهة الأم للعصر الحجري الحديث، وقد تم تمثيل هذه الإلهة أيضا بطريقة الحز على الأوعية الفخارية، حيث تبدو في هيئة امرأة لها قرون البقر ومعها ابنها وحبيبها الذي صار فيما بعد إلها للخصب. كما قدمت لنا أوعية فخارية أخرى مشاهد تمثل طقس الزواج المقدس بين هذين الإلهين، ومشاهد راقصة كانت على ما يبدو جزءا من هذا الطقس المتجذر في منطقة الشرق القديم، والذي أعطتنا عنه اللقى الأثرية في وادي الرافدين الجنوبي أمثلة مشابهة. ومن الملفت للنظر وجود بعض المدافن الواسعة مخصصة لدفن نساء من ذوات المكانة الاجتماعية المميزة، تحتوي على هدايا جنائزية متميزة سواء من حيث النوع أم من حيث الكم، الأمر الذي يدل على المكانة العالية للمرأة في ذلك العصر، وتضلعها بمهام كهنوتية ذات صلة بعبادة الأم الكبرى.
خلال الفترة الانتقالية التي قادت إلى تكوين حضارة المدن في وادي النيل والتي ترافقت مع دخول جماعات آسيوية سيطرت على منطقة الدلتا ومنها على كامل مصر السفلى فالعليا، حصلت تغييرات عميقة في المعتقدات الدينية وفي بانثيون الآلهة، فقد تربع حوروس إله الشرائح الآسيوية الحاكمة على قمة البانثيون، يليه الإله سيت المعبود القديم للسكان الأصليين، والذي نرجح أنه هو نفسه الإله الابن الذي ظهر إلى جانب الأم المصرية الكبرى للعصر النيوليتي. ومرة أخرى فإن المدافن هي التي تعطينا الصورة العامة عن معتقدات وطقوس عصر السلالات الأولى، فيما بينا 3100 و2700ق.م.
خلال عصر السلالات الأولى نستطيع تمييز طريقتين في الدفن: الطريقة الأولى وهي المتبعة من قبل السكان الأصليين، وتظهر استمرارية لعادات الدفن القديمة التي كانت سائدة في عصر ما قبل الأسرات مع بعض التعديلات الطفيفة، أما الطريقة الثانية فهي التي اتبعها - على ما يبدو - القادمون الجدد، والتي أخذت الشرائح العليا من السكان الأصليين بتبنيها تدريجيا خصوصا في المناطق الحضرية والمدن الكبرى. فلقد تحول المدفن من حفرة صغيرة يعلوها مرتفع ضئيل من التراب أو الحجارة، إلى بناء مصمم على طريقة بيوت الأحياء، ويحتوي على عدد من الغرف أو الأجنحة، وذلك تبعا لمكانة صاحب المدفن، وبما أن هذا النوع من المدافن كان يرتفع في جزئه الأعلى قليلا عن سطح الأرض، فقد أطلق عليه علماء الآثار اسم المصطبة، وهي التسمية العربية المتداولة لأية بنية ترتفع قليلا عن الأرض، وقد ميز الآثاريون ثلاثة أنواع من هذه المدافن المصطبية: الأول خاص بالأسرة المالكة، والثاني بالحاشية والنبلاء، والثالث بعامة الناس.
خلال حكم الأسرة الأولى، كانت المدافن الملكية عبارة عن بنية محفورة في الأرض الصخرية الصحراوية، ومقسمة من الداخل إلى عدد من الغرف بواسطة جدران من الآجر، أكبر هذه الغرف مخصص لجثمان صاحب المدفن، أما بقية الغرف فللهدايا الجنائزية المرافقة له، وفوق هذه البنية ترتفع بنية أخرى على شكل مصطبة مستطيلة تشبه بيوت تلك الفترة، ومزينة من الخارج بديكورات مماثلة لما كان للقصور، ويحيط بالبناء سور، وقد يوضع في غرفة خاصة، قرب السور، قارب خشبي ينتظر الميت لكي ينقله في رحلته إلى العالم الآخر. خلال حكم الأسرة الثانية جرى توسيع وتطوير المقابر المصطبية لتغدو أشبه بالقصر الملكي الحقيقي، فهناك قاعة استقبال، وغرف للضيوف وغرفة للمعيشة، وجناح للحريم، وحمامات ومراحيض، إضافة إلى غرفة النوم الرئيسية حيث يضطجع سيد القصر الملك المتوفى.
وتتسع بعض هذه المقابر الملكية لتستوعب خارج حدود السور عددا من المقابر التي تنتظم على طول أضلع المصطبة الأربعة، وتحتوي على جثث لرجال ونساء من حاشية الملك، وخدمه، وحرفييه الذين اصطحبوا معهم أدوات عملهم. وبما أن الدلائل الأثرية تشير إلى تزامن دفن هؤلاء الأتباع مع دفن صاحب المقبرة الرئيسية، فإن النتيجة التي يمكن استخلاصها هي أن الملك قد اصطحبهم معه إلى العالم الآخر، لكي يتابعوا خدمته هناك مثلما كانوا يفعلون في الحياة الدنيا، ويبدو أن هؤلاء قد تناولوا السم قبل دفنهم ثم نقلوا بعدها إلى الأماكن المعدة لهم، وقد بلغ عدد الضحايا التي رافقت الملك زر، من الأسرة الأولى، رقما يزيد على الخمسمائة بين رجال ونساء، ولكن مع نهاية حكم الأسرة الأولى يبدأ طقس دفن الأتباع بالاضمحلال تدريجيا إلى أن يختفي تماما مع نهاية حكم الأسرة الثانية وبداية ما يدعى بعصر المملكة القديمة.
تنسج مقابر على منوال المقابر الملكية من حيث التصميم العام، ولكنها كانت أصغر منها وأكثر تواضعا، أما مقابر العامة قد توسعت وتحولت من مجرد حفرة إلى غرفة صغيرة يوضع فيها المتوفى داخل تابوت خشبي، وتلبس جدرانها الداخلية بالآجر، بينما تتوزع الهدايا الجنائزية على أرضية الغرفة، وبقيت مقابر فقراء العامة على ما كانت عليه في العصور السابقة.
تكشف عادات وطقوس الدفن هذه عن اعتقاد المصريين بأن القوة الحيوية في الجسد الإنساني تستمر بعد الموت، وتبقى على صلة بالجسد وبالعالم الأرضي بطريقة ما. من هنا جاء اهتمامهم بجعل القبر أقرب ما يكون إلى بيت تسكنه الروح أو تعود إليه من وقت لآخر للتزود بالطعام، أو استخدام الأدوات وما إليها من الهدايا الجنائزية المودوعة فيه، والتي كانت تتفاوت في نوعيتها وكميتها حسب الوضع الاجتماعي للمتوفى. وبما أن هذه الهدايا الجنائزية كانت عرضة للنفاد، وخصوصا الطعام والشراب، فقد كان أهل المتوفى يعودونه على فترات منتظمة لوضع مزيد منها عند مدخل القبر، أو يدخلونها من فتحة خاصة معدة لهذا الغرض، وإضافة إلى ذلك كله فقد تم اللجوء إلى وسائل سحرية من شأنها تعويض ما ينفد من طعام وشراب دون حاجة إلى مدد خارجي، ومن هذه الوسائل كتابة قائمة سحرية بأسماء الأطعمة على نصب حجري صغير، من شأنها تحويل الأطعمة المذكورة إلى غذاء حقيقي يمد صاحب القبر باحتياجاته، أو رسم صور بعض الماشية التي كان المصريون يعتمدون عليها في غذائهم.
ولكي تتعرف الروح على بيتها في كل مرة وتستخدم محتوياته، كان لا بد من الحفاظ على الشكل الخارجي لجثمان صاحب المقبرة، بطريقة تجعله أقرب ما يكون إلى شكله في الحياة الأولى، وهذا ما دفع المصريين منذ مطلع عصر الأسرات إلى إجراء التجارب الأولى في هذا المجال. لقد كانت العوامل الطبيعية كفيلة في الماضي بحفظ جثث الموتى الذين كانوا قبل عصر الأسرات يدفنون في حفر ترابية سطحية، لأن الجو الجاف وندرة المطر والتربة الرملية كانت تعمل على التجفيف السريع للأنسجة العضوية ومنعها من التحلل، بحيث إن بعض جثث ذلك الزمن كانت عند اكتشافها في العصر الحديث تحتفظ بجزء لا بأس به من الشعر والجلد الملتصق على الهيكل العظمي، غير أن الانتقال إلى بناء المقابر المصطبية ولجوء العامة إلى تلبيس جدران قبورهم بالآجر ، قد أدى إلى عزل الجثة عن الرمل الحار الذي كان يمتص رطوبة الأنسجة، وبالتالي إلى تفسخها السريع، وهذا ما دفع إلى التفكير بوسائل اصطناعية تحافظ على ما يشبه الشكل الحي لصاحب القبر.
كانت أولى تقنيات التحنيط تهدف إلى الحفاظ على الشكل الخارجي للجثة قبل تحللها، وذلك بلفها بطبقات من قماش الكتان الناعم المشبع بمحلول قابل للتصلب بعد الجفاف، فكان القماش المبلل يلصق بإحكام فوق الجمجمة والوجه وبقية الأعضاء، حتى إذا جف منه المحلول صارت الجثة إلى ما يشبه التمثال الجصي، ولإضافة لمسة من الحيوية على الشكل، يجري بعد ذلك تلوين الشعر وملامح الوجه، وتحديد الخطوط الخارجية للأعضاء، وبذلك يتم إنتاج نسخة خارجية مماثلة للجثة الآيلة إلى التفسخ تحت هذه القشرة الخارجية، ونظرا للوقت الذي تستغرقه هذه العملية وارتفاع تكاليفها، فقد كان استخدامها وقفا على مدافن الأسرة المالكة وكبار النبلاء، والتي احتوت في بعض الأحيان على تمثال خشبي كامل للمتوفى، لتحل محل الصورة المحفوظة بالطريقة السابقة إذا تعرضت للفناء بطريقة ما. أما التحنيط الحقيقي للجثة فلم تكتمل تقنياته إلا نحو نهايات المملكة القديمة في أواخر الألف الثالث قبل الميلاد.
على أن الاعتقاد بحياة ما وراء القبر عند المصريين، في هذه الفترة المبكرة، لم يكن يعني أن جميع أرواح الناس سوف تخلد خلود الآلهة في عالم نوراني سماوي، أو في جنة لا ألم فيها ولا مرض ولا شقاء، لأن مثل هذا الخلود كان وقفا على الفرعون وحده، باعتباره إلها وإنسانا في آن معا، وعلى من يختاره الفرعون بنفسه لكي يخصه بخلود مماثل لخلوده، أما بقية شرائح الشعب فإن حياة ما بعد الموت بالنسبة إليها لم تكن إلا استمرارا شبحيا للحياة الأرضية، يغنيها أو يفقرها مراعاة طقوس الدفن وعناية أهل الميت بروحه بعد الموت، وهذا ما نستدل عليه من مدافن الحقبة التالية ووثائقها الأثرية والكتابية، وهي حقبة المملكة القديمة التي امتدت من حوالي عام 2700 إلى حوالي عام 2200ق.م. وكانت بمثابة ذروة الحضارة المصرية والعصر الذهبي لها.
Page inconnue