Voyageurs musulmans au Moyen Âge
الرحالة المسلمون في العصور الوسطى
Genres
ولا عجب فإن هذا الرحالة لم يكن سائحا عابرا؛ بل أقام في مصر نحو أربع سنوات ودون مشاهداته بدقة وإسهاب، فوصف الحياة العقلية وتحدث عن الأزهر ودار الحكمة وجامع عمرو، وعن العلماء والفقهاء ودعاة الفاطميين.
واستطاع أن يدرس الحياة الاجتماعية عن كثب. فذكر مثلا أنه لم يعرف بلدا يستمتع بمثل ما ظفرت به مصر من الأمن والهدوء، وأن الصناع والعمال فيها يمنحون أجورا مرضية، فيقبلون على العمل بسرور وانشراح، على عكس ما في الأقطار الأخرى من السخرة وما إلى ذلك؛ كما أن مرتبات القضاة كانت كبيرة جدا، ليتم الاطمئنان إلى عدالتهم وبعدهم عن المؤثرات المختلفة ولتقل حاجتهم إلى الناس.
ولاحظ ناصر أن التجار في مصر كانوا يبيعون بأثمان محددة، وإذا ثبت على أحدهم الغش فإنه يركب جملا، ويوضع في يده جرس يدقه ويطاف به في البلد ويرغم على أن يصيح بأعلى صوته: «لقد غششت وها أنا ألقى عقابي. جزى الله الكاذبين!» وكتب كذلك أن البقالين والعطارين وبائعي «الخردة» كانوا يأخذون على عاتقهم إعطاء الزجاج والأواني الخزفية والورق لوضع ما يبيعونه فيها؛ فلم يكن على المشتري أن يبحث عما يجعل فيه ما يقتنيه.
ومما ذكره أن ركوب الخيل كان وقفا على الجند والمتصلين بالجيش، على حين كان سائر الأهلين ينتقلون على حمير ذات سروج جميلة. وكان في الفسطاط والقاهرة نحو خمسين ألف حمار للتأجير؛ يشاهد المرء عددا كبيرا منها عند مداخل الشوارع والأسواق.
وأطنب ناصر خسرو في التدليل على ثروة البلاد ورخائها، ووصف مدينة القاهرة وصفا شائقا، وقدر أنها في ذلك الوقت (فيما بين سنتي 449-441 هجرية/1047-1050م) كانت قد نمت عمارتها، وأصبح فيها ما لا يقل عن عشرين ألف دكان، كلها ملك للخليفة. وكثير منها يؤجر بعشرة دنانير في الشهر، وليس بينها إلا القليل تبلغ أجرته في الشهر دينارين. وكان في القاهرة من الخانات والحمامات عدد وافر جدا، وكلها ملك للخليفة أيضا والقصر الملكي وسط المدينة، بينه وبين الأبنية المحيطة به فضاء يفصله عنها. وأسواره عالية فلا يستطيع أحد رؤيته من داخل المدينة، وهو يبدو من خارجها كالجبل. ولم يكن بالقاهرة سور محصن، ولكن أبنيتها كانت أعلى من الأسوار المحصنة، وفي كل منها خمس طبقات أوست؛ فكأنها القلاع الضخمة. وكانت البيوت مبنية بناء نظيفا محكما وكانت مفصولا بعضها عن بعض بحدائق ترويها مياه الآبار.
وانتقل ناصر خسرو بعد ذلك إلى وصف مدينة الفسطاط جنوبي القاهرة، حيث كانت الحركة التجارية فأسهب في الكلام على عظمتها وبيوتها الشاهقة وجوامعها الكبيرة وحدائقها الغناء وصناعتها الزاهرة، ووصف الثروة في أسواقها والازدحام فيها، وقال: إن الحوانيت مملوءة بالسلع المختلفة والأقمشة الثمينة والذهب وسائر الحلي، حتى إن المشتري لا يجد فيها محلا يجلس فيه.
وذكر هذا الرحالة في مواضع عديدة من حديث رحلته قصصا تشهد بالتسامح الديني الذي عرف عن العصر الفاطمي، وباطمئنان المسيحيين واليهود إلى عدل الخليفة وحكومته. ومن ذلك قصة تاجر مسيحي كان من أغنى الأثرياء في مصر؛ فلا يستطيع أحد أن يحصي أرزاقه وأملاكه وماله من السفن. وقد دعاه الوزير ذات يوم وأخبره أن الخليفة أقلقه، وأهمه ما حل بالشعب من الضيق بسبب قلة المحصول ذلك العام، ثم سأله عن مقدار القمح الذي يمكنه أن يبيعه أو يقرضه، فأجاب التاجر بأن عنده من القمح ما يكفي مدينة مصر (الفسطاط) ست سنوات. وقد أعجب ناصر خسرو بما عرف عن الخليفة والحكومة من العدل الذي يسمح لمثل ذلك الرجل أن يمتلك مثل هذه الثروة، وأن يصدق القول بشأنها بدون أن يخشى مصادرتها أو ضياع حقه في جزء منها.
وامتاز ناصر خسرو بما عرف عن الإيرانيين من الذوق الفني الجميل؛ حتى أصبحت ملاحظاته وآراؤه عن الآثار والفنون في رحلته مرجعا أساسيا للمشتغلين بالفنون الإسلامية. فنراه يتحدث عن مراكز الصناعات والفنون المختلفة، ويصف المساجد، والقصور والخانات وغير ذلك من مفاخر العمارة الإسلامية. وتحدث ناصر عن مدينة تنيس، وأعجب بما كان ينسج في أي مكان آخر قصب يوازيه في الجودة والجمال، وبقماش الأبوقلمون، الذي يتغير لونه باختلاف ساعات النهار، ويصدره المصريون إلى بلاد الشرق والغرب. كما أعجب بالكتان الذي كان ينسج في أسيوط ويبدو للعين كأنه الحرير.
وأشار إلى صناعة الخزف في العصر الفاطمي؛ فقال : إن المصريين كانوا يصنعون أنواع الخزف المختلفة، وإن الخزف المصري كان رقيقا وشفافا، حتى لقد كان ميسورا أن ترى من باطن الإناء الخزفي اليد الموضوعة خلفه. وكانت تصنع بمصر الفناجين والقدور وسائر الأواني، وتزين بألوان مختلفة تختلف باختلاف أوضاع الآنية.
وكان ناصر خسرو شديد الإعجاب بسوق القناديل - بجوار جامع عمرو - فقال: إنه لم يعرف مثله في أي بلد آخر، وإن التحف النادرة والثمينة كانت تحمل إليه من أصقاع العالم كله. وترجع هذه التسمية إلى أن سكان هذا الحي كان لكل منهم قنديل على باب مسكنه. والطريف أن ما وصل إلينا من التحف الفنية الفاطمية يؤيد تماما ما كتبه ناصر خسرو في هذا الميدان. وقد فصلنا الكلام على ذلك في كتابنا «كنوز الفاطميين».
Page inconnue