فقالت بهدوء: وكم تكون نهاية أسيفة للقائد الوطني طاهو!
فنظر إليها طويلا بعينين جامدتين، وكان يشعر في تلك اللحظة الفاصلة بيأس مميت وقنوط خانق، ولكن غضبه لم ينفجر، وقال بلهفة باردة قاسية: ما أقبحك يا رادوبيس! .. أنت صورة بشعة مشوهة، ومن يحسبك جميلة أعمى لا يبصر. إن صورتك قبيحة لأنها صورة مميتة، ولا جمال بلا حياة، لم تنبض الحياة بصدرك قط، ولم تدفئ قلبك أبدا .. أنت جثة وسيمة القسمات، ولكنها جثة. لم يبد الحنان في عينيك، ولا انفرجت شفتاك عن ألم، ولا خفق قلبك بالعطف. نظرتك جامدة وقلبك قد من حجر .. أنت جثة ملعونة، وينبغي أن أكرهك، وأن أكرهك ما حييت .. وأنا أعلم أنك ستطغين كيف شاء لك شيطانك، ولكنك ستصرعين يوما محطمة النفس، وهذه نهاية كل شر .. لماذا أقتلك إذن .. لماذا أحمل تبعة قتل جثة ميتة؟
نطق طاهو بهذه الكلمات ثم ذهب.
ولبثت رادوبيس تنصت إلى وقع قدميه الثقيلتين، حتى غمرها سكون الليل.
ثم رجعت إلى النافذة. كان الظلام شاملا، والنجوم ساهرة في مأدبتها الأبدية، والسكون مخيما رهيبا، فخالت أنها تستطيع أن تسمع خلجات قلبها الدفينة.
كان ما بها قويا عنيفا بالحرارة والقلق، يقسم إن جسمها جسم نابض بالحياة، لا جثة هامدة.
فرعون
وفتحت عينيها فرأت ظلمة. ترى أما يزال الليل جاثما، وكم ساعة استطاعت أن تخلد فيها إلى السكينة والنوم؟ ولبثت دقائق لا تعي شيئا مطلقا ولا تذكر شيئا، كأنها جهلت الماضي كما تجهل المستقبل، وكأنما ابتلعت شخصيتها ظلمة الليل الحالكة. وأحست هنيهة بذهول وضيق، ثم ألفت عيناها الظلمة فبهتت وخفت وطأتها، واستطاعت أن ترى ضوءا خفيفا يشع من خصائص النوافذ فتبينت أثاث المخدع، ورأت المصباح المدلى المكفت بالذهب، وولج الشعور حواسها، فذكرت أنها ظلت يقظة لا يذوق جفناها نوما حتى غمرها الفجر بموجه الأزرق الهادئ، وأنها ارتمت عند ذاك على السرير، فاختلسها النوم من عواطفها وأفكارها، وعلى ذلك تكون في نهار اليوم الثاني، أو في مسائه.
وذكرت حوادث الليلة الماضية، وعادت إلى مخيلتها صورة طاهو وهو يرغي ويزبد، ويئن من اليأس ويتوعد بالمقت، يا له من رجل عنيف! إنه لرجل جبار شديد الغضب، وحشي الغرام، ولا عيب فيه إلا أن حبه عنيد مثابر، شديد التغلغل. وتمنت صادقة لو ينساها أو يمقتها، إنها لا تجني من الحب سوى المشقة. الكل يتلهف على قلبها، وقلبها زاهد نافر، كحيوان غير أليف. وكم اضطرت إلى خوض مواقف مؤثرة ومآس أليمة وهي كارهة، ولكن المآسي كانت تتبعها كظلها، وتحوم حولها كخواطرها، فلوثت حياتها بالقسوة والآلام.
ثم ذكرت ما قال طاهو عن فرعون الشاب من أنه يرغب في رؤية صاحبة الصندل، وأنه سيدعوها حتما إلى حريمه العامر .. آه! .. إن فرعون شاب ملتهب الدماء، جنوني الشباب. كما قيل لها، فليس عجيبا أن يقول طاهو ما قال، ولا مستحيلا أن تصدق أقواله، ولكن عسى أن تأخذ الحوادث مجرى جديدا، إن ثقتها بنفسها لا حد لها.
Page inconnue