فبدت الدهشة على سوفخاتب، وقال باهتمام وأسف صادق: أحقا أنك تجد في الأمر جدا؟ .. أم أنك ضقت بدعابتي ذرعا؟
فقال طاهو بسرعة: لا هذا ولا ذاك أيها المعظم، ولكن يسوءني فقط أن نختلف دائما.
فابتسم كبير الحجاب، وقال بهدوئه الطبيعي: لن يزال يجمعنا رباط وثيق هو الإخلاص لصاحب العرش!
قصر بيجة
غاب الموكب الفرعوني عن الأنظار، ورفعت تماثيل ملوك الأسرة السادسة، فاندفع الناس من جانبي الطريق، فتلاطمت أمواجهم، واختلطت أنفاسهم، كأنهم بحر موسى الذي انشق له طوعا، وانقض على أعدائه كاسرا، فأمرت رادوبيس عبيدها بالعودة إلى السفينة. وكانت نشوة الحماس التي انبعثت في قلبها لدى ظهور فرعون ما تزال تلتهب في قلبها نارا وتندفع إلى أطرافها دما حارا. وكانت صورته لا تفارق مخيلتها، لشبابه الغض، ونظراته المتعالية، وقده الرشيق، وعضلاته المفتولة.
وكانت رأته قبل ذلك في يوم التتويج العظيم منذ شهور قلائل، وكان يقف في عجلته كما وقف اليوم فارع الطول جاهر الجمال، مرسلا بناظريه إلى الأفق البعيد، وقد تمنت يوم ذاك كما تمنت اليوم لو عطف إليها عينيه.
ترى لماذا؟ .. ألأنها تطمع في أن يفوز جمالها بما هو أهله من التكريم؟ أم لأنها تود في أعماقها لو تراه في هيئة البشر بعد أن رأته في قداسة الأرباب المعبودة؟ كيف السبيل إلى فهم هذا التمني؟ .. على أنه مهما كانت حقيقته، فقد تمنت صادقة، وتمنت مخلصة مشوقة.
لبثت الغانية مستغرقة في غمرات أحلامها، فلم تعن بالالتفات إلى الطريق المزدحم الذي يجتازه ركبها الصغير بشق الأنفس، ولم تلق أدنى انتباه إلى الآلاف من الخلق الذين يكادون أن يلتهموها، بنهم وشراهة. وصعد بها إلى السفينة ونزلت من الهودج في المقصورة، واطمأنت إلى عرشها الصغير، وهي في شبه غيبوبة تسمع ولا تعي، وتنظر ولا ترى .. وانسابت بها تشق وجه النيل الرزين، حتى رست إلى سلم حديقة قصرها الأبيض، عروس جزيرة بيجة. وكان القصر يرى عن بعد في نهاية الحديقة اليانعة التي تنتهي معارجها إلى سيف النيل، تحوط به أشجار الجميز، ويحنو عليه النخيل، كأنه زهرة بيضاء نبتت في أحضان تلك الجنة الوارفة. فهبطت أدراج السفينة، ووضعت قدمها على أولى درجات الحديقة، وصعدت سلما من المرمر المصقول، يمتد بين سورين من الجرانيت، تنتصب على الجانبين مسلات عالية نقشت عليها أشعار رقيقة لرامون حتب، إلى أن بلغت أرض الحديقة السندسية.
واجتازت بوابة من الحجر الجيري نقش اسمها على واجهتها باللغة المقدسة، وقام في وسطها تمثال لها بالحجم الطبيعي، نحته هنفر، وأفنى فيه دهرا جميلا من أسعد أيام حياته، يمثلها جالسة على عرشها الجميل الذي تستقبل عليه المقربين، ويكشف في روعة فنية رائعة عن جمال الوجه، وتكعب الثديين، ورشاقة القدمين. ثم خلصت إلى ممر وسيط اصطفت على جانبيه الأشجار تعانقت أعالي أغصانها، فظللت عليه سقفا من الأزهار والأوراق الخضراء، وفرشت أرضه بالحشائش والأعشاب، وكانت توازيه عرضا من اليمين والشمال ممرات جانبية قدت على نفس الصورة، تنتهي ذات اليمين إلى سور الحديقة الجنوبي، وذات الشمال إلى سورها الشمالي. وكان هذا الممر ينتهي إلى الكرمة المتفرعة المتسلقة على أعراش من عمد رخامية، تنبسط إلى يمينها غابة من الجميز، وتمتد إلى يسارها غابة من النخيل أقيمت فيها هنا وهناك بيوت القردة والغزال، وانتشرت في جنباتها المترامية التماثيل والمسلات.
وانتهت بها قدماها إلى بركة واسعة من ماء غير آسن، ينطلق على شطآنها نبات اللوتس، ويسبح في سطحها الإوز والبط وتغني في جوها الأطيار، وقد انتشر شذا العطر وأريج الزهر وغردت البلابل.
Page inconnue