عيد النيل
الصندل
قصر بيجة
طاهو
فرعون
الحب
ظل الحب
بنامون
خنوم حتب
نيتوقريس
الرئيس الجديد
الملكتان
قبس من نور
الرسول
الرسالة
طاهو يهذي
فترة الانتظار
الاجتماع
الهتاف
الأمل والسم
سهم الشعب
الوداع
نهاية طاهو
النهاية
عيد النيل
الصندل
قصر بيجة
طاهو
فرعون
الحب
ظل الحب
بنامون
خنوم حتب
نيتوقريس
الرئيس الجديد
الملكتان
قبس من نور
الرسول
الرسالة
طاهو يهذي
فترة الانتظار
الاجتماع
الهتاف
الأمل والسم
سهم الشعب
الوداع
نهاية طاهو
النهاية
رادوبيس
رادوبيس
تأليف
نجيب محفوظ
عيد النيل
لاحت في الأفق الشرقي تباشير ذلك اليوم من شهر بشنس، المنطوي في أثناء الزمان منذ أربعة آلاف سنة. وكان الكاهن الأكبر لمعبد الرب سوتيس يتطلع إلى صفحة السماء بعينين ذابلتين، أضناهما التعب طوال الليل.
وإنه لفي تطلعه إذ عثر بصره بالشعرى اليمانية، يتألق نورها في كبد السماء، فتهلل وجهه بالبشر، وخفق قلبه بالفرح، وسجد على أرض المعبد الطاهرة شكرا وزلفى، وصاح بأعلى صوته أن قد بدت صورة الرب سوتيس في أفق السماء، تحمل إلى الوادي بشرى فيضان النيل المعبود، وتسير بين يدي رحمته. وأيقظ صوته الجميل النيام، فهبوا من نومهم فرحين، وقلبوا وجوههم في السماء، حتى قرت أعينهم على النجم المعبود، فرددوا ترتيلة الكاهن، وأفعمت قلوبهم غبطة وامتنانا، ثم تركوا ديارهم مهطعين صوب شاطئ النيل، يشهدون أول موجة حاملة للخير والبركة. وردد جو مصر الهادئ صوت كاهن الرب سوتيس، وأذاع البشرى إلى الجنوب، للاحتفال بعيد النيل المقدس، فحزموا أمتعتهم، ونشطوا خفافا وثقالا من طيبة ومنف وهرمونت وسوت وخمونو، يولون وجوههم شطر آبو العاصمة، فنهبت العجلات الوادي، ومخرت السفن عباب الماء.
كانت آبو عاصمة مصر، يقوم بنيانها الشامخ على دعائم من الصوان، تؤلف بينها الكثبان الرملية، وقد غشاها النيل بطبقات من طميه الساحر، بثت فيها الخصب والخير العميم، وأنبتت أرضها السنط والتوت والنخيل والدوم، وكست سطحها البقول والخضروات والبرسيم. ونشرت فيه الكروم والمراعي، والجنان تجري من تحتها الأنهار، وترعاها القطعان، يطير في سمائها الحمام والطير، ويتضوع نسيمها بشذا العطر والأزهار، وتتجاوب في جوها أغاريد البلابل والأطيار.
فما هي إلا أيام معدودات، حتى ضاقت آبو وجزيرتاها؛ بيجة وبيلاق، بالنازحين، فامتلأت البيوت بالنازلين، وازدحمت الميادين بالخيام، وغصت الطرق بالغادين والرائحين، وانتشرت حلقات اللاعبين والمغنين والراقصين، وزخرت الأسواق بالعارضين والبائعين، وازدانت واجهات البيوت بالأعلام وأغصان الزيتون، وبهرت الأنظار جماعات من حرس جزيرة بيلاق بثيابها المزركشة وسيوفها الطويلة، وهرعت جموع القانتين المؤمنين إلى معبدي سوتيس والنيل، يوفون بالنذر، ويقدمون القرابين، واختلط غناء المنشدين بصياح السكارى الثملين .. وشاع في جو آبو الرزين فرح راقص، وطرب حار بهيج.
وجاء يوم العيد الموعود، وقصدت هاتيك الخلائق جميعا إلى هدف واحد، هو الطريق الطويل الممتد ما بين القصر الفرعوني والهضبة القائم عليها معبد النيل، فسخن الهواء بأنفاسهم الحارة، وناءت الأرض بحملهم، ويئس قوم لا عداد لهم من الأرض، فهبطوا إلى السفن، وأطلقوا الشرع، وطافوا بهضبة المعبد ينشدون أغاني النيل على أنغام المزمار والقيثار، ويرقصون على توقيع الدفوف.
ووقف الجنود صفين على جانبي الطريق العظيم شاهري الرماح، وقد نصبت على مسافات متباعدة تماثيل بالحجم الطبيعي لملوك الأسرة السادسة، آباء فرعون وأجداده، فرأى الأقربون تماثيل الفراعين؛ أسر كري، وتيتي الأول، وبيبي الأول، ومحتمساوف الأول، وبيبي الثاني.
وكان الجو يضج بأصوات القوم المختلفة، فيضيع تمييزها كما تضيع الأمواج في المحيط المصطخب، ولا يبقى منها إلا دوي هائل شامل، ولكن كانت تعلو أحيانا أصوات جهيرة، تخترق الضوضاء، وتبلغ الآذان، يهتف بعضها قائلا: «مجدوا الرب سوتيس الذي بشرنا بالخير.» ويصيح صوت آخر: «مجدوا النيل الرب المقدس الذي يجلب إلى أرضنا الحياة والخصب.» وبين هذا وذاك، ترتفع أصوات منادية على خمر مريوط، وأنبذة آبو، داعية إلى السرور والنسيان.
وكان جماعة من المشاهدين يتجاورون ويخلصون نجيا، تبدو على وجوههم آي النبل والنعيم، فقال أحدهم وهو يرفع حاجبيه متأملا متعجبا: كم من فرعون اطلع على هذه الجموع الحاشدة، وشاهد هذا اليوم العظيم! .. ثم ذهبوا جميعا كأنهم لم يكونوا ملء الصدور، ملء الأبصار والأفئدة!
فقال آخر: نعم ذهبوا ليحكموا عالما أجل من هذا العالم، كما سنذهب جميعا .. انظر إلى هذا المكان الذي أشغل .. كم من البشر سوف يشغله في الأجيال المقبلة، ويجدد الآمال والأفراح التي تخفق في صدورنا الآن .. ترى هل يذكروننا كما نذكرهم؟ - إننا أكثر من أن يذكرنا مذكر .. ألا ليت الموت لم يكن. - وهل كان يمكن أن يسع الوادي تلك الأجيال التي ذهبت؟ إن الموت طبيعي كالحياة .. وما قيمة الخلود ما دمنا نشبع بعد الجوع، ونشيخ بعد الشباب، ونسأم بعد المسرة؟ - فكيف يعيشون في عالم أوزوريس؟ - انتظر، ستعلم ذلك بعد حين.
وقال آخر باهتمام: هذه أول مرة يسعدني الرب برؤية فرعون.
فقال له صاحبه: أما أنا فقد رأيته يوم التتويج العظيم منذ أشهر في نفس المكان. - انظر إلى تماثيل أجداده الأماجد. - سترى أنه قريب الشبه بجده محتمساوف الأول. - ما أجمل هذا! - أجل .. أجل .. إن فرعون شاب جميل، لا نظير له في طوله الفارع، وحسنه الجاهر!
وتساءل أحد المتحدثين قائلا: ترى ماذا يخلف حكمه؟ .. أمسلات ومعابد، أم ذكريات غزو في الشمال والجنوب؟ - إن صدق حدسي فهي الثانية. - ولمه؟ - إنه شاب عظيم البأس.
فهز الآخر رأسه بحذر وقال: يقال إن شبابه من نوع جامح، وإن جلالته ذو أهواء عنيفة، يغرم بالحب، ويهوى الإسراف والبذخ، ويندفع في سبيله كالريح العاصفة!
فضحك المستمع ضحكة خافتة، وهمس قائلا: وهل في ذاك ما يدعو إلى العجب؟ ما أكثر المصريين الذين يغرمون بالحب ويهوون الإسراف والبذخ! .. فما بالك بفرعون؟ - صه .. صه .. أنت لا تدري من الأمر شيئا، ألم تعلم بأنه اصطدم برجال الكهنوت منذ اليوم الأول لتوليته العرش؟ إنه يريد المال لينفقه في تشييد القصور، وغرس البساتين، والكهنة يطالبون بنصيب الآلهة والمعابد كاملا. لقد منحهم آباء الملك نفوذا وثراء، والملك الشاب ينظر إلى هذا بعين الطمع. - حقا إنه محزن أن يبدأ الملك حكمه بالاصطدام. - أجل .. ولا تنس أن خنوم حتب، رئيس الوزراء والكاهن الأكبر، رجل حديدي الإرادة، شديد المراس. وهناك أيضا كاهن منف، تلك المدينة المجيدة التي لحقها الأفول على عهد هذه الأسرة الجليلة.
فارتاع الرجل لهذه الأخبار التي تصك أذنيه لأول مرة، وقال : إذن فلندع الأرباب جميعا أن تلهم الرجال الحكمة والأناة والرأي السديد.
فقال الآخرون بإخلاص صادر من الأعماق: آمين .. آمين.
ولاحت من أحد الواقفين التفاتة إلى النيل، فلكز صاحبه بمرفقه قائلا: انظر أيها الصديق إلى النهر .. لمن يا ترى هذه السفينة الجميلة الآتية من جزيرة بيجة، كأنها الشمس صاعدة من الأفق الشرقي؟
فعطف صاحبه رأسه نحو النهر، فرأى سفينة عجيبة، لا بالكبيرة ولا بالصغيرة، خضراء اللون كأنها جزيرة معشوشبة تطفو على سطح الماء، تبدو مقصورتها على البعد متعالية، وإن قصرت العين عن رؤية ما بداخلها، ولاح في أعلى صاريها شراع متموج عظيم، وانتظمت جانبيها حركة مجاديف بديعة تنبعث من مئات الأيدي .. فاستولت الحيرة على الرجل، وقال: عسى أن تكون لموسر من أهل بيجة.
وأصغى إلى حوارهما رجل قريب، فحدجهما بنظرة إنكار، وقال لهما: أراهن أيها السيدان أنكما ضيفان.
فضحك الرجلان معا. وقال ثانيهما: صدقت يا سيدي المحترم؛ فنحن من طيبة واثنان من الآلاف التي ناداها العيد المجيد فلبت هارعة إلى العاصمة من جميع البلدان .. هل تكون هذه السفينة الجميلة لكبير من رجالكم البارزين؟
فابتسم الرجل ابتسامة غامضة، وقال وهو يشير لهما بإصبعه محذرا: طبتما نفسا أيها السيدان الكريمان، ليست هذه السفينة لرجل من رجالنا، ولكنها امرأة .. أجل هي سفينة غانية حسناء يعرفها حق المعرفة جميع أهل آبو وجزيرتيها بيجة وبيلاق. - ومن عسى أن تكون هذه الحسناء؟ - رادوبيس .. رادوبيس الفاتنة، ملكة النفوس والأهواء جميعا.
وأشار الرجل بيده نحو جزيرة بيجة، واستدرك: وهي تقيم هناك في قصرها الأبيض الساحر .. هدف العشاق والمعجبين، حيث يستبقون إلى نيل عطفها، واستدرار رحمتها .. وعسى أن يسعفكم الحظ برؤيتها، صانت الأرباب قلبيكما عن التلف.
واتجهت أنظار الرجلين وسواهما من الواقفين إلى السفينة مرة أخرى، وقد بدا على الوجوه الاهتمام الشديد. وكانت السفينة تدنو من الشاطئ، رويدا رويدا، والزوارق توسع لها طريقها على عجل، وكلما عبرت ذراعا اختفت شيئا فشيئا وراء الهضبة المقام عليها معبد النيل، ومضى يغيب عن الأبصار مقدمها ثم مقصورتها، فلما أن اطمأنت إلى المرفأ لم يكن يرى منها سوى أعلى صاريها وقمة شراعها المتموج، كأنه علم الحب يظل القلوب والنفوس.
ومضت فترة وجيزة، ثم رئي أربعة من النوبيين قادمين من الشاطئ يوسعون في البحر المتلاطم طريقا، يسير في أثرهم أربعة آخرون يحملون على الأكتاف هودجا جميلا فاخرا، لا يحوزه إلا الأمراء والنبلاء، جلست فيه غادة حسناء، تستند في طراءة إلى وسادة، وتتكئ على نمرقة، بساعد بض، وتمسك في يمناها بمروحة من ريش النعام، تلوح في عينيها الجميلتين نظرة ناعسة حالمة، تصوبها إلى الأفق البعيد في كبرياء سامية، تقتحم الخلق أجمعين.
وكان الركب الصغير يسير على مهل، ترمقه العيون من كل صوب، حتى بلغ الصف الأول من المشاهدين، وهناك مالت المرأة إلى الأمام قليلا بجيد كالغزال، ونثرت من فمها الوردي كلمات تاقت نفوس إلى سماعها، فتوقف العبيد عن السير، ولزموا أماكنهم كأنهم تماثيل من البرنز، وارتدت المرأة إلى جلستها الأولى، واستغرقت فيما كانت فيه من الأحلام، ولبثت تنتظر الموكب الفرعوني الذي لا شك جاءت لمشاهدته.
وكان ما يرى منها نصفها الأعلى، فاستطاع المجدودون أن يشاهدوا شعرها الأسود الحالك السواد، ينتظم على رأسها الصغير في أسلاك من الحرير اللامع، ويهبط على كتفيها في هالة من الليل كأنه تاج إلهي، ينبلج في وسطه وجه مشرق مستدير، عانقت فيه أشعة خدين كالورد اليانع، وفما رقيقا مفترا كأنه زهرة من الياسمين في الشمس في خاتم من القرنفل، وعينين دعجاوين صافيتين ناعستين، تلوح فيهما نظرة يعرفها الحب معرفة المخلوق لخالقه، فما رئي وجه قبل هذا اختاره الجمال سكنا ومسقرا.
وقد فتن الناس منظرها كافة، وحرك قلوب الشيوخ الفانية، فصوبت إليها من جميع الجهات نظرات نارية، لو عثرت في طريقها بصوان لأذابته، ورمقتها أعين النساء شزرا ومقتا، وسرى الهمس بين المحيطين بها، وانتقل الحوار من فم إلى فم. - يا لها من امرأة فاتنة! - رادوبيس .. يسمونها ربة الجزيرة! - هذا جمال قهار، لا يمكن أن يعصاه قلب. - هو اليأس لمن يرى. - صدقت، فما وقعت عليها عيناي حتى قامت في نفسي ثورة جامحة، ونؤت بأعباء ظلم فادح، وأحسست بتمرد شيطاني، وصدت نفسي عما بين يدي، وغلبني على أمري الخذلان والخزي الأبدي. - هذا أمر محزن .. لكأني بها صورة للسعادة حقيقة بالعبادة. - هي شر وبيل! - نحن أضعف من أن نحتمل مثل هذا الحسن القاهر. - ألا رحمة للعاشقين! - ألا تعلم أن عشاقها هم صفوة رجال المملكة؟ - حقا؟ - إن حبها فرض على علية القوم، كأنه واجب وطني. - لقد شيد المعمار النابغة هني قصرها الأبيض. - وأثثه بآيات منف وطيبة آني حاكم جزيرة بيجة. - مرحى .. مرحى! - وصنع تماثيله، ونحت جدرانه، المثال النابغة هنفر. - نعم، وأهدى تحفه الثمينة القائد طاهو، رئيس الحرس الفرعوني. - إذا كان جميع هؤلاء يتنافسون في حبها فمن السعيد الذي تستخلصه لنفسها؟ - سل عن السعيد في هذه المدينة الشقية. - لا أظن أن هذه المرأة تعشق أبدا. - من أدراك؟ .. عسى أن تعشق عبدا أو حيوانا. - كلا .. إن جمالها هو القوة الجبارة .. وما حاجة القوة إلى الحب؟ - انظر إلى نظرة عينيها الرفيعة القاسية .. إنها لم تذق الحب بعد.
وكانت امرأة تصغي إلى هذا الحديث، فضاق صدرها.
وقالت بجفاء: ما هي إلا راقصة .. تربت في بؤر الفساد والمجون، ووهبت نفسها منذ الطفولة للخلاعة والغواية، وأجادت فن المساحيق، فتبدت في هذا المظهر الخلاب الكاذب.
فكبر هذا الكلام على أحد الرجال المفتونين فقال: معاذ الرب يا سيدتي، ألم تعلمي بعد أن جمالها الرائع ليس كل ما وهبتها الآلهة من ثراء؟ .. وأن توت لم تبخل عليها بنور الحكمة والعرفان؟ - بخ .. بخ .. من أين لها بالحكمة والعرفان، وهي تنفق عمرها في إغواء الرجال؟ - قصرها يستقبل كل مساء جماعة ممتازة من الساسة والحكماء والفنانين، فلا عجب أن تكون كما يشاع عنها من أعمق الناس فهما للحكمة، وأدراهم بالسياسة وأذوقهم للفن.
وسأل سائل: كم عمرها؟ - يقولون إنها بنت ثلاثين. - لا يمكن أن تجاوز الخامسة والعشرين. - ليكن عمرها ما تشاء، فهذا الحسن يانع قاهر، يقسم أن لن يلحقه الذبول أبدا!
وعاد السائل يسأل باهتمام: ما منشؤها، وما أصلها؟ - علم هذا عند الأرباب .. وكأني بها وجدت منذ الأزل في قصرها الأبيض بجزيرة بيجة! •••
وشقت الصفوف المتراصة بغتة امرأة غريبة، كانت منحنية الظهر كالقوس، تتوكأ على عصا غليظة، منفوشة الشعر بيضاءه، طويلة الأنياب صفراءها، مقوسة الأنف، حادة البصر، يشع من عينيها نور مخيف يرسل من تحت حاجبين كثيفين أشيبين، وكانت ترتدي جلبابا واسعا طويلا، يضيق عند وسطها بمنطقة من الكتان .. وصاح الذين رأوها: ضام .. الساحرة ضام!
فلم تبالهم، وسارت بقدميها الهزيلتين. كانت تدعي الاطلاع على الغيب، وكشف الستار عن المستقبل، وكانت تسخر قوتها الخارقة لقاء قطعة من الفضة، وكان المحيطون بها بين خائف منها ومتهكم بها. والتقت الساحرة في طريقها بشاب حدث، فعرضت عليه أن تقرأ له صفحة الغيب، ولم يمانع الشاب، وكان في الحقيقة ثملا يترنح في سيره، لا تكاد تحمله ساقاه، فدفع لها بقطعة من الفضة، وهو يرنو إليها بعينين نصف نائمتين، وسألته بصوتها الأجش: كم عمرك يا غلام؟
فأجابها وهو لا يعي ما يقول: اثنتا عشرة كأسا.
وعلا ضحك الساخرين، فاهتاجت المرأة غضبا ورمته بالقطعة التي نفحها بها، واستأنفت مسيرها الذي لا ينتهي. واعترض سبيلها شاب آخر ساخر وسألها بقحة: ماذا ينتظرني من الحادثات يا امرأة؟
فنظرت إليه مليا وهي مغيظة محنقة، ثم قالت له: أبشر .. ستخونك امرأتك للمرة الثالثة.
وضحك الناس وصفقوا لها، وانزوى الشاب خجلا، وقد رد السهم إلى صدره. وسارت الساحرة حتى بلغت هودج الغانية، وطمعت في سخائها فتوقفت بإزائه، وصاحت تحدث صاحبته وهي تبتسم ابتسامة كريهة: أيتها السيدة المحروسة بالعناية! هل أقرأ لك الطالع؟
ولم يبد على الغانية أنها سمعت صوت الساحرة، فصرخت العجوز: مولاتي!
وانتبهت إليها رادوبيس فيما يشبه الذعر، ثم عطفت عنها رأسها سريعا وقد لمسها الغضب، وقالت لها العجوز: صدقيني ما من إنسان في هذا الجمع الحاشد يحتاج إلي اليوم حاجتك!
فتقدم منها أحد العبيد، وحال بينها وبين الهودج، وكاد الحادث على تفاهته يثير اهتمام القريبين، ولكن سمع صوت بوق شديد يخترق الفضاء، ووضع على أثره الجند المصطفون على جانبي الطريق الأبواق في أفواههم، ونفخوا فيها نفخا طويلا متصلا، فعلم الناس جميعا أن الركب الفرعوني بدأ تحركه، وأنه عما قليل يغادر فرعون القصر في طريقه إلى معبد النيل، فنسي الجميع ما كانوا فيه وشخصوا إلى الطريق بأعناق مشرئبة، وحواس مرهفة.
ومضت دقائق طويلة ثم بدأت طلائع الجيش تسير صفوفا متراصة على أنغام الموسيقى الحربية تتقدمها حامية بيلاق بعددها المتنوعة، تسير وراء علمها المتوج بصورة الباز، فكانت الجنود تقابل في كل مكان بالهتاف والتصفيق.
وقفتها بعد حين قليل فرقة المشاة حاملي الرماح والتروس، تتأثر موسيقاها، وعلمها المزدان بصورة الرب حورس، وقد استقامت الرماح في صورة هندسية دقيقة، فرسمت في الهواء خطوطا متوازية طولا وعرضا.
وجاءت فرقة الرماة الكبرى حاملي القسي والسهام، واستغرق مسيرها فترة طويلة من الزمن، يتقدمها علمها الموسوم بصولجان العرش.
ثم سمع من بعيد دوي وصلصلة وصهيل خيل، ولاحت للأنظار فرقة العجلات تنطلق عشرة عشرة في صفوف متوازية دقيقة كأنما رسمت بالقلم، يجر العجلة جوادان مطهمان، ويقوم على ظهرها فارسان؛ سائق مزود بالسيف والمزراق، ورام مدرع يمسك قوسه بيد ويحمل جعبته بيد، فذكر المشاهدون لمرآها غزو النوبة وطور سيناء، وخالوا أنهم يرونها تنتشر في السهول والوديان كالنسور المنقضة، والعدو يتشتت أمامها، وقد أذهله الرعب، وأحاط به الهلاك، فاشتعل الحماس في عروقهم نارا، وشق هتافهم السماوات.
وبدا للناظرين الموكب الفرعوني المهيب، تتقدمه العجلة الفرعونية، وتتبعها مباشرة أهلة من العجلات خماس خماس، تحمل الأمراء والوزراء وكبار رجال الكهنوت والقضاة الثلاثين وقواد الجيش وحكام الأقاليم، واختتم الموكب بذيل من الحرس الفرعوني على رأسه القائد طاهو.
ووقف فرعون في عجلته منتصب القامة، مهيب الطلعة كأنه تمثال من الجرانيت لا يميل يمنة ولا يسرة، ويصوب بصره إلى الأفق البعيد غير ملتفت إلى الخلق جميعا، ولا إلى هتافهم الصاعد من أعماق القلوب.
وكان يضع على رأسه تاج مصر المزدوج، ويقبض بيد على السوط الملكي، وبالأخرى على العصا المعقوفة، وقد ارتدى فوق لباسه الملكي كساء من جلد النمر احتفالا بالعيد الديني.
وأفعمت القلوب حماسة وسعادة، فتعالى الهتاف، فكاد لشدته أن يفزع الطير المحلق في السماء. وأثار الحماس رادوبيس نفسها فدبت بها حياة فجائية، وأضاء وجهها بنور بهيج، وصفقت يداها الرخصتان.
وأفلت من بين الأصوات الهاتفة صوت يصيح على عجل: «ليحي صاحب القداسة خنوم حتب.» فردد هتافه عشرات الأصوات، وأحدث هتافه انزعاجا وأهاج ضجة شديدة، وتلفت الناس يبحثون عن الجسور الذي هتف باسم رئيس الوزراء على مسمع من فرعون الشاب، والجماعة التي ناصرت هذا التحدي العجيب!
ولم يترك الهتاف أثرا ظاهرا، ولم يبد على أحد من حاشية الملك أدنى تأثر، وتابع الموكب سيره حتى بلغ هضبة المعبد، فتوقفت العجلات جميعا، وتقدم إلى عجلة فرعون أميران يحملان وسادة من ريش النعام مكللة بغطاء من نسيج ذهبي، فترجل الملك عليها. ونفخ في الصور، فأدى الجند التحية العسكرية، وصدحت موسيقى الحرس بنشيد النيل المعبود، وصعد فرعون درجات الهضبة في تؤدة وجلال، يتبعه وجوه مملكته من الأمراء والوزراء والحكام، ولدى باب المعبد العظيم وجد الكهنة في استقباله سجدا. ولما أعلن كبير الحجاب سوفخاتب وصول الملك، وقف رئيس كهنة المعبد وأحنى ظهره، وأخفى عينيه بيديه، وقال في صوت خافت: يتشرف خادم الرب المعبود النيل، بإزجاء تحية العبودية والإخلاص إلى مولاي سيد القطرين، ابن رع ورب المشرقين.
فأعطاه فرعون العصا المعقوفة، فقبلها الكاهن في إجلال عميق، وقام الكهنة واصطفوا صفين موسعين لفرعون، فسار تتبعه حاشيته إلى ساحة المذبح المحاطة بالأعمدة الشاهقة من كل جانب، وطافوا بالمذبح، وكان الكهنة يحرقون البخور، فينتشر أريجه في جو المعبد، وتتنفسه الرءوس المنعكسة إجلالا وقنوتا. وأحضر بعض الحجاب ثورا ذبيحا، ووضعوه على المذبح قربانا وزلفى، ثم تلا فرعون هذه الكلمات التقليدية: «مثلت في رحابك أيها الإله المقدس بعد أن طهرت نفسي. وقدمت القربان زلفى إليك، فامنن بالخير على أرض هذا الوادي الطيب، وأهله الآمنين.»
ورددت الكهنة الدعاء في صوت عال مؤثر، يفيض بالإيمان والتقوى، رافعين رءوسهم إلى السماء، باسطين أيديهم في الهواء. وردد الحاضرون جميعا الدعاء، وسرى الصوت إلى خارج المعبد، فسارع الناس في ترديده، وما هي إلا هنيهة حتى لم يبق لسان لم يلهج بدعاء النيل المقدس، ثم سار الملك وفي معيته كاهن المعبد، ويتبعهما رجال المملكة إلى بهو الأعمدة ذي الصحون الثلاثة المتوازية، ووقفوا صفين بينهما الملك وخادم الرب، ثم رتلوا نشيد النيل المعبود بأصوات متهدجة، تختلج بخفقات القلوب، فيرن صداها في جو المكان القاتم المهيب.
وصعد الكاهن الدرجات المؤدية إلى البهو الخالد، واقترب من باب قدس الأقداس، وأبرز المفتاح المقدس، وفتح الباب العظيم وانتحى جانبا، وركع ساجدا يصلي. وتبعه الملك ودخل الحجرة المقدسة حيث يرقد تمثال النيل في السفينة الإلهية، وأغلق الباب، وكان المكان واسعا، شاهق السقف، شديد الظلمة، قوي الأثر، وعلى مقربة من الستار المسدل على تمثال الآلهة أقيدت الشموع على مناضد من الذهب الوهاج. ونفذت هيبة المكان إلى قلب الملك الكبير، فوهنت حواسه، وتقدم في إجلال إلى الستار المقدس وأزاحه بيده، وأحنى ظهره الذي لا ينحني أبدا، وسجد على ركبته اليمنى ولثم قدم التمثال، وكان ما يزال مهيبا، ولكن غابت عن وجهه آي مجد الدنيا وكبريائها، واكتست صفحته بلون باهت من الخشوع والتقوى .. وصلى فرعون صلاة طويلة، واستغرق في العبادة ناسيا مجده التالد وعظمته الدنيوية.
ولما بلغ النهاية لثم القدم المقدسة مرة أخرى، وقام واقفا وأسدل الستار الكريم، وانسحب إلى الباب ووجهه إلى الرب، حتى تنفس هواء البهو الخارجي ثم أغلق الباب.
وحيا القوم فرعون بالدعاء، وساروا وراءه إلى بهو المذبح، وتبعوه إلى خارج المعبد، وعرجوا جميعا إلى حافة الهضبة المطلة على النيل. ورآهم الأهلون المتجمعون فوق أسطح السفن، فتعالت أصواتهم بالهتاف، ولوحوا بالأعلام والغصون.
ودعي رئيس الكهنة إلى إلقاء الخطبة التقليدية، فنشر بين يديه ورقة طويلة من أوراق البردي، وتلا بصوت قوي النبرات: «السلام عليك أيها النيل، يا من يعم فيضه الوادي مبشرا بالحياة والسعادة. إنك لتسكن الغياهب أشهرا، فإذا أصخت إلى توسلات عبادك، ولان قلبك الكبير رحمة بهم، خرجت من الظلمات إلى النور، وانسبت في بطن الوادي زاخرا، فتبعث في الأرض الحياة، وسرعان ما تهتز النباتات طربا، وتفض الصحراء تحت بساط سندسي، وتزدهر البساتين، وتغني المغارس، وتصدح الطير، وتهتف القلوب بنشوة الفرح ، فيكسى العاري، ويطعم الجائع، ويروى الصديان، ويتزوج الأعزب، وتتلفع أرض مصر بالسعادة والمجد .. تعاليت والمجد لك .. تعاليت والمجد لك.»
ورتل كهنة المعبد أنشودة النيل على نغم القيثارة والمزمار والناي، وعلى توقيع الدفوف في ألحان عذبة وأنغام شجية.
ولما أن ضاعت الأنغام في تضاعيف الفضاء، تقدم الأمير ناي من فرعون وأسلم إليه قرطاسا مختوما من البردي، يشتمل على دعاء النيل المعبود، فأخذه الملك ورفعه إلى جبينه، ثم تركه يهوي إلى النيل فحملته أمواجه المتدافعة في صخب صوب الشمال.
وهبط فرعون أدراج الهضبة، وركب عجلته، ورجع الموكب كما أتى تحف به العظمة ويحوطه المجد، وتهتف له قلوب الملايين من الرعايا المخلصين، وقد أهاجهم الحماس، وأسكرتهم نشوة الطرب.
الصندل
عاد الموكب الملكي إلى السراي الفرعونية، وظل الملك يحافظ على جلاله وهدوئه، إلى أن خلا إلى نفسه، فتبدى الغضب على وجهه الجميل بصورة وحشية، وجبت لها قلوب الجواري اللائي يخلعن ثيابه، فانتفخت أوداجه وتصلبت عضلات جسمه، وكان سريع الانفعال شديد الغضب، لا تطمئن نفسه حتى تنزل العقاب الصارم بمن أثارها، وكان يدوي في أذنيه الهتاف الأخرق، فيظنه إنذارا جريئا موجها إلى رغباته، فيشتد به الغضب وينذر بالويل والثبور.
وكان عليه أن ينتظر ساعة كاملة، قبل أن يستقبل رجال مملكته الرسميين، الذين جاءوا من أقصى البلاد للاشتراك في عيد النيل، ولكنه لم يستطع صبرا، فهرع كالريح الهوج إلى جناح الملكة، واقتحم بابها بعنف. وكانت الملكة نيتوقريس جالسة بين وصيفاتها، تلوح في عينيها الصافيتين آي السلام والطمأنينة، فلما رأى الوصيفات الملك، وشاهدن الغضب يصرخ في وجهه، وقفن مرتبكات مضطربات، وانحنين له وللمملكة، وانسحبن مسرعات لا يلوين على شيء .. ولبثت الملكة جالسة هنيهة، ترمقه بعينين هادئتين، ثم قامت في جلال، ودنت منه، ثم شبت على أطراف قدميها وقبلت كتفه وقالت: أغاضب أنت يا مولاي؟
كان يحس بالحاجة القصوى إلى إنسان يطلعه على النار الموقدة في دمائه، فارتاح إلى سؤالها وقال بشدة: كما ترين يا نيتوقريس!
وكانت الملكة تشعر شعورا قويا بعد درايتها بأخلاقه، بأن واجبها الأول هو أن تذهب عنه حدة الغضب إذا أهاجه، فقالت بهدوء وهي تبتسم إليه: الحلم أحرى بالملك.
ولكنه هز كتفيه العريضين استخفافا وقال: أتوصينني بالحلم أيتها الملكة؟ إنه لثوب زائف يتقنع به الضعفاء.
فقالت الملكة في تألم ظاهر: مولاي .. لماذا تضيق بالفضائل ذرعا؟ - أحقا أنا فرعون؟ .. وهل حقا أتمتع بشبابي وقوتي؟ .. فكيف إذن أريد، ولا أستطيع نيل ما أريد؟ .. كيف تنظر عيناي إلى أراضي مملكتي فيتصدى لي عبد ويقول: لن يكون هذا لك؟
فوضعت يدها على ذراعه، وأرادت أن تجذبه إلى الديوان، ولكنه تخلص منها، ومضى يذرع الحجرة جيئة وذهابا، غاضبا ساخطا، فقالت بلهجة تنم على الأسف العميق: لا تصور الأمور لنفسك على هذا النحو .. واذكر دائما أن الكهنة رعاياك المخلصون، وأن أراضي المعابد كانت منحا تنازل عنها أجدادنا ولكنها اكتسبت صفة الحقوق الكاملة، وأنت تريد يا مولاي أن تستردها، فمن الطبيعي أن يقلقوا.
قال الملك الشاب بحدة: أريد أن أشيد قصورا ومقابر، وأن أتمتع بحياة سعيدة عالية، ولا يقف في سبيل رغباتي إلا أن نصف أراضي المملكة في أيدي أولئك الكهنة .. أيجوز أن تعذبني رغباتي كالفقراء؟ ألا سحقا لهذه الحكمة الفارغة، أوتعلمين ماذا حدث اليوم؟ .. لقد هتف نفر منهم في أثناء سير الموكب باسم ذلك الرجل خنوم حتب، أرأيت أيتها الملكة؟ .. إنهم يتحدون فرعون عينا لعين!
فاستولت الدهشة على الملكة، واصفر وجهها الوديع، وتمتمت بكلمات غير مسموعة، فقال الملك بلهجة ساخرة مريرة: ماذا دهاك أيتها الملكة؟
أحست بلا شك بانزعاج واستياء، ولولا أن الملك غاضب إلى حد الثورة لما حاولت أن تخفي غضبها، ولكنها تسلطت على انفعالاتها بإرادة من حديد، وقالت بهدوء: دع هذا الحديث إلى وقت آخر؛ فإنك على وشك استقبال رجال مملكتك وعلى رأسهم خنوم حتب، وينبغي أن تقابلهم المقابلة الرسمية الكاملة.
فنظر فرعون إليها نظرة غامضة، وقال بسكينة مخيفة: إني أعرف ما أريد، وما ينبغي أن أفعل.
وفي الوقت المحدد، استقبل الملك رجال مملكته في البهو الرسمي العظيم، واستمع إلى خطب الكهنة، وآراء حكام الأقاليم، ولاحظ كثيرون أن الملك «لم يكن راضيا»، وحين تفرق الجمع استبقى الملك رئيس وزرائه وحده واختلى به زمنا غير يسير، وملكت الحيرة النفوس، ولكن لم يجرؤ أحد على التساؤل، ثم ظهر رئيس الوزراء، وحاول كثيرون أن يقرءوا صفحة وجهه، لعلهم يعثرون على بينة، ولكن وجهه كان جامدا كالصخر لا يبين.
وأمر الملك مستشاريه المقربين، سوفخاتب كبير الحجاب وطاهو رئيس الحرس، أن يسبقاه إلى موضع سمرهم على شاطئ بركة الحديقة، ودار في الممرات المعشوشبة، يبدو على وجهه الأسمر ارتياح، كأنه أرضى الغضب العنيف الذي طالبه بالثأر منذ حين قليل، فمشى الهوينى يستروح الشذا الطيب الذي تبعث إليه به الأشجار تحية وسلاما، وينقل ناظريه بين الأزهار والثمار، ثم اتخذ سبيله إلى البركة الغناء، فوجد رجليه في انتظاره؛ سوفخاتب بجسمه النحيل الطويل، ورأسه الأشيب، وطاهو بجسمه القوي الفولاذي الذي تربى على متون الخيل والعجلات.
وحاول كلا الرجلين أن يقرأ صفحة وجه الملك بإمعان ليستكنه باطنه ويطمئن على السياسة التي يشير باتباعها نحو الكهنة، وكانا سمعا الهتاف الجريء الذي عد في جميع الدوائر تحديا لسلطة فرعون، وكانا يتوقعان له رجعا شديدا في نفس الملك الشاب، وعلما بعد ذلك باستبقاء فرعون لرئيس وزرائه بعد انتهاء التشريفات، فخفق قلباهما، وأشفق سوفخاتب من عواقب غضبة الملك؛ لأنه كان ينصح دائما بالتؤدة والأناة والصبر، وبمعالجة مشكلة الأراضي بمنتهى الاعتدال، أما طاهو فكان يرجو أن يدفع غضب الملك إلى الانضمام إلى رأيه، فيصدر أمره بنزع أملاك المعابد وينذر الكهنة إنذارا نهائيا.
وجعل الرجلان المخلصان ينظران إلى وجه مولاهما، يرجوان، ويكابدان قلقا أليما، ولكن فرعون كتم عواطفه، وطالعهما بوجه كأبي الهول. وكان يعلم بما تضطرم به نفساهما، وكأنه رغب في أن يمد لهما حبل الوساوس، فجلس على أريكة في هدوء، وأمرهما بالجلوس، وسرعان ما عاودت وجهه هيئة الجد والاهتمام، فقال: يحق لي اليوم أن أغضب وأن أتألم.
وفهم الرجلان ما يعني، ورن في أذنيهما الهتاف الجريء مرة أخرى، فرفع سوفخاتب يديه تألما وإشفاقا، وقال بصوت متهدج: تعالى مولاي عن دواعي الألم والغضب!
وقال طاهو بقوة: لا يجوز أن يألم مولاي وفي المملكة سلاح لا ينثلم، ورجال يفتدونه بالأرواح، حقا إن هؤلاء الكهنة على علمهم وخبرتهم يتنكبون سبيل الرشاد، ويركبون رءوسهم، ويعرضون أنفسهم إلى تهلكة لا قبل لهم بها.
فأحنى الملك رأسه ناظرا إلى ما تحت قدميه، وقال: إني أتساءل: هل قوبل أحد من آبائي وأجدادي طوال عهد حكمه بمثل ما قوبلت به اليوم من هتاف، وما مضى على جلوسي سوى بضعة أشهر؟
فالتمعت عينا طاهو بنور خاطف مخيف، وقال بيقين: القوة يا مولاي .. القوة يا مولاي .. كان أجدادك المقدسون أقوياء، يحققون إرادتهم بعزيمة كالجبال، وسيف كالقضاء، كن مثلهم يا مولاي، لا تتردد ولا تركن إلى الحلم، واضرب إذا ضربت ضربة شديدة لا تعرف الرحمة، تذهل الجبار عن نفسه، وتخنق في صدره أوهى الأمل.
ولم يرق هذا الكلام في عيني الشيخ الحكيم سوفخاتب، وذعر من حماس قائله، وأشفق من عواقبه، فقال: مولاي .. إن الكهنة منبثون في أقطار المملكة كالدم في الجسم، منهم الولاة والقضاة والكتاب والمربون، وسلطانهم على القلوب مبارك بيد الأرباب منذ القدم، وليس لدينا من قوة حربية سوى الحرس الفرعوني وحامية بيلاق، فالضربة القاسية قد تأتي بعواقب غير محمودة.
ولم يكن طاهو يؤمن بغير القوة، فقال: وما عسى أن نفعل أيها المشير الحكيم؟ .. أنستوصي بالصبر حتى يقتحمنا عدونا، ونرد في عينيه إلى الهوان؟ - ليس الكهنة بأعداء لفرعون، ومعاذ الرب أن يوجد لفرعون من شعبه عدو، فالكهنة طائفة مخلصة أمينة، وما نأخذ عليهم إلا أن امتيازاتهم أكثر مما يقتضي الحال، وأقسم إني ما يئست يوما من إيجاد الحل الموفق الذي يحقق رغبة مولاي، ويحفظ للكهنة حقوقهم.
وكان الملك يستمع إليهما في هدوء، وعلى فمه العريض ابتسامة غامضة، فلما أتم سوفخاتب كلامه، قال بهدوء وهو يرمقهما بعينين ساخرتين: أريحا نفسيكما أيها الرجلان المخلصان؛ فقد أطلقت سهمي.
واستولت الدهشة على الرجلين، ونظرا إلى الملك في إشفاق وأمل وخوف. وكان طاهو أدنى إلى الأمل، أما سوفخاتب فامتقع وجهه وعض على شفتيه، وانتظر صامتا سماع الكلمة الفاصلة . وقال الملك بلهجة نمت عن الزهو والتشفي: تعلمان أني استبقيت الرجل بعد انصراف الناس جميعا، ولما أن خلا المكان ابتدرته قائلا: إن الهتاف باسمه تحت سمعي وبصري عمل حقير خئون. وأكدت له أني لا أعدم الهاتفين من شعبي النبيل الأمين، فرأيته يضطرب ويبهت، ويحني رأسه الكبير على صدره الضيق، وفتح فمه ليتكلم، ولعله كان يريد أن يعتذر بصوته الهادئ البارد.
وقطب الملك جبينه، وصمت لحظة، ثم استطرد قائلا بعنف: ولم أتركه يعتذر، فقطعت عليه بإشارة من يدي، وصارحته بكلام صارم، مؤكدا له أنه من تفاهة العقل أن يظن مثل ذاك الهتاف يردني عن رأي اعتزمته، ثم أخبرته بأن نيتي انتهت إلى ضم أملاك المعابد إلى أراضي التاج، وأنه لن يترك للمعابد منذ اليوم إلا ما يقوم بحاجتها من الأراضي والنذور.
وكان الرجلان يصغيان بكل حواسهما إلى حديث الملك، أما سوفخاتب فكان ممتقع اللون، منكفئ الوجه، يعاني مرارة الخيبة، وأما طاهو فكان متهللا فرحا، كأنه يستمع إلى لحن جميل، يتغنى بمجده وعظمته، واستدرك الملك قائلا: لا شك أن قراري أذهل خنوم حتب، وأخرجه عن طوره، فبدا عليه الجزع، وتوسل إلي قائلا: إن أراضي المعابد هي أراضي الأرباب، وإن خيراتها تعود في الغالب إلى الشعب والفقراء، وينفق في وجوه التعليم والتربية الخلقية، وحاول أن يفيض، ولكني أوقفته بإشارة من يدي، وقلت له: إن هذه هي إرادتي، وإن عليه تنفيذها دون إبطاء، وآذنته بانتهاء المقابلة.
فلم يتمالك طاهو أن صاح فرحا: باركتك الأرباب جميعا يا مولاي!
فابتسم الملك ارتياحا، ولاحت منه نظرة إلى وجه سوفخاتب في ساعة خذلانه، فأحس نحوه بعطف وقال: أنت رجل مخلص يا سوفخاتب، ومشير نصوح .. فلا يحزنك أن خولف رأيك.
فقال الرجل: لست يا مولاي من قوم مغرورين، يغضبون أشد الغضب إذا خولفت نصيحتهم، لا خوفا من العواقب، ولكن ذودا عن كرامتهم، حتى ليبلغ الغرور بأحدهم أن يتمنى لو يقع شر كان أنذر به، ليعرف من لا يعرف قدره .. أعوذ بالرب من شر الغرور، فما يدفعني إلى محض النصيحة سوى الإخلاص وما يحزنني حين مخالفتها سوى الإشفاق من صدق حدسي، وما أتمنى على الرب من شيء إلا أن يكذب رأيي، ليطمئن قلبي.
وكأن فرعون أراد أن يطمئنه، فقال: لقد نلت بغيتي، ولن ينالوا شيئا مني؛ فمصر تعبد فرعون، ولا ترضى عنه بدلا.
فأمن الرجلان على قول مولاهما بإخلاص، ولكن كان سوفخاتب مضطربا، يحاول عبثا أن يقلل من خطورة الأمر الذي أصدره فرعون، ويذكر في ضيق صدر أن الكهنة سيتلقون الأمر الشديد وهم مجتمعون في آبو، فيتسع لهم المقام لتبادل الرأي، وتباث الشكوى، فيعودون إلى ولاياتهم وقد أطبقت أفواههم على التذمر والحزن، وإنه ليعلم علم اليقين من هم الكهنة وما هو نفوذهم على القلوب والعقول .. ولكنه لم يبن عن آرائه؛ لأنه وجد الملك فرحا راضيا ضاحك الثغر، فأشفق من تعكير صفوه، وبسط صفحة وجهه، ورسم على شفتيه ابتسامة راضية.
وقال الملك بسرور: لم أشعر بمثل نشوة الظفر هذه منذ اليوم الذي انتصرت فيه على قبائل المعصايو جنوب النوبة في حياة أبي، فلنشرب نخب هذا الفوز السعيد.
وجاءت الجواري بإبريق من خمر مريوط وكئوس ذهبية، وصببن الخمر، وقدمن كئوسا مترعات إلى الملك والرجلين المخلصين، فشربوا في صفاء وهناء وعلوا في نشوة، وجعل سوفخاتب يذب عن قلبه الخواطر المقلقة، ليركز حواسه في رحيق مريوط، ويشارك الملك والقائد سعادتهما، وكانوا جلوسا صامتين تتبادل أعينهم المودة والصفاء، والبركة من تحتهم يستحم في مائها الطرب شعاع الشمس المائل، والأشجار من حولهم ترقص أغصانها على شدو الأغاريد، وتنبثق الأزهار من بين أوراقها انبثاق الخواطر السعيدة من غيابات النفوس .. واستسلموا إلى يقظة ناعسة زمنا غير يسير حتى انتبهوا على حادثة غريبة انتزعتهم من أحلامهم بعنف؛ إذ سقط شيء في حجر الملك من عل، فانتفض واقفا، وتبعه الرجلان، فسقط الشيء عند قدميه، وإذا به صندل ذهبي، ونظروا إلى أعلى دهشين، فرأوا نسرا هائلا يحلق في سماء الحديقة فوق رءوسهم ويبعث في الفضاء صرصرة مخيفة، ويصليهم نظرات ملتهبة من عينين متقدتين، ثم ضرب بجناحيه الهواء ضربة عنيفة حلق بها في آفاق بعيدة.
وعادوا بالنظر إلى الصندل، والتقطه الملك بيده، وجلس يتأمله بعينين مبتسمتين تلوح فيهما آي الدهشة. ونظر الرجلان إلى الصندل بغرابة، وتبادلا نظرات الإنكار والدهشة والارتياب.
ومضى الملك في تأمله، ثم غمغم قائلا: هذا صندل امرأة، بلا ريب، ما أجمله وما أثمنه!
وتساءل طاهو وعيناه تلتهمان الصندل: ترى هل خطفه النسر؟
فابتسم الملك قائلا: لا يوجد في حديقتي شجر يتساقط منه نبت طيب كهذا.
وقال سوفخاتب: يعتقد العامة يا مولاي أن النسر يتعشق الحسان، وأنه يخطف من العذارى من تهوي إليها نفسه، ويطير بها إلى قمم الجبال، فلعل هذا النسر عاشق هبط منف وابتاع الصندل لحبيبته، ثم خانه الحظ فأفلت من بين مخالبه، وسقط عند قدمي مولاي.
وجعل الملك يتأمله مسرورا منفعلا، ويقول: ترى كيف خطفه؟ .. أخشى أن يكون لإحدى ساكنات السماء.
فعاد سوفخاتب يقول باهتمام: أو لإحدى ساكنات الأرض يا مولاي، خلعته مع ثيابها على شاطئ بركة، وتعرت تستحم، فجاء النسر وخطفه. - ورمى به إلى حجري .. يا للعجب، لكأني به يعلم بحبي للحسان!
فابتسم سوفخاتب ابتسامة ذات معنى، وقال: أسعدت الآلهة أيامك يا مولاي.
وتبدت الأحلام في عيني الملك، وابتسمت أساريره، ولان جبينه، وتوردت وجنتاه، وكان ينظر إلى الصندل لا تفارقه عيناه، ويسائل نفسه: ترى من صاحبته؟ وما صورتها؟ وهل هي جميلة كصندلها؟ وكيف لا تدري أن صندلها سقط في حجر الملك؟ وما شأن الأقدار التي نصبته هدفا له؟ وعثر بصره بصورة منقوشة على باطنه، فقال وهو يشير إليها: ما أجمل هذه الصورة! .. إنه فارس وسيم، يقدم قلبه هدية على يده المبسوطة.
ووقعت هذه العبارة من قلب الرجلين موقع الانتباه الشديد فالتمعت أعينهما بنور خاطف، وتطلعا إلى الصندل باهتمام عظيم، وقال سوفخاتب: هل يتنازل مولاي عن الصندل لحظة؟
فأعطاهه، ونظر إليه كبير الحجاب، كما نظر إليه طاهو، ثم رده الرجل إلى الملك وهو يقول: صدق حدسي يا مولاي .. هذا صندل رادوبيس غانية بيجة الشهيرة.
فتساءل الملك قائلا: رادوبيس .. يا له من اسم جميل! .. من عسى أن تكون صاحبته؟!
وساور القلق قلب طاهو واختلجت عيناه فقال: هي راقصة يا مولاي يعرفها أهل الجنوب جميعا.
فابتسم فرعون وقال: ألسنا من أهل الجنوب؟ حقا إن الملوك قد تخترق أعينها سجف الأفق القصي، وتعمى عما يقع عليه ظلها.
واشتد القلق بطاهو، فقال وقد امتقع لونه: إنها امرأة يا مولاي قد طرق بابها رجال آبو وبيجة وبيلاق.
وكان سوفخاتب يعلم بما يساور قلب صاحبه من المخاوف، فقال وهو يبتسم ابتسامة غامضة ماكرة: على أية حال هي صورة أنثوية يا مولاي، جعلتها الآلهة آية على قدرتها وإعجازها.
فردد الملك ناظريه بين الرجلين وقال مبتسما: وحق الرب سوتيس إنكما لأخبر أهل الجنوب بها.
فقال سوفخاتب بهدوء: إن بهو استقبالها يا مولاي ملتقى أهل الرأي والفن والسياسة. - حقا إن الجمال عالم ساحر، يطالعنا كل يوم بالمعجزات، هل هي أجمل من رأيت؟
فقال سوفخاتب باطمئنان: هي الجمال عينه يا مولاي، هي فتنة قهارة، وعاطفة لا تقاوم. لقد صدق الفيلسوف هوف وهو من أصدقائها المقربين إذ قال يوما: إنه من أخطر الأمور في حياة الرجل أن تقع عيناه على وجه رادوبيس.
وتنهد طاهو يائسا، وحدج كبير الحجاب بنظرة خاطفة فهم معناها، ثم قال: إن جمالها يا مولاي جمال شيطاني رخيص، لا تضن به على طالب!
فضحك الملك بصوت عال، وقال: كلاكما يغريني وصفه.
فقال سوفخاتب: ألا فلتروك سماء مصر بأجمل ما تظل من السعادة يا مولاي.
ونزع خيال الملك به إلى النسر، فتولاه عجب ساحر، أضفى عليه ما سمعه نسيجا رقيقا من الفتنة والأحلام، فتساءل وكأنه يحادث نفسه: ترى أأحسن النسر في اختيارنا هدفا له أم أساء؟
واختلس طاهو نظرة عاجلة من وجه مولاه المكب على ما بين يديه، وقال في حيرة: ما هي إلا مصادفة يا مولاي. وما يؤسفني إلا أن أرى هذا الصندل الملوث بين يدي مولاي المعبودتين.
ولحظ سوفخاتب صاحبه بنظرة ساخرة متشفية، وقال بهدوء: مصادفة؟ .. إن هذه الكلمة يا مولاي مهضومة الحق، يظن بها التخبط والعمى، ومع هذا فهي المرجع الوحيد لأغلب السعادات وأجل الكوارث؛ فلم يبق للآلهة إلا القليل النادر من حادثات المنطق، كلا يا مولاي، إن كل حادثة في هذا العالم لا شك موكلة بإرادة رب من الأرباب، ولا يجوز أن تخلق الآلهة الحادثات - جلت أو تفهت - عبثا أو لهوا.
فجن جنون طاهو، وكظم بقوة تيار غضب جنوني كاد أن يجرف هدوءه في حضرة الملك، وقال لسوفخاتب بلهجة تنم عن اللوم والتعنيف: أتريد أيها المعظم سوفخاتب أن تشغل بال مولاي، في هذه الساعة الجليلة، بأمثال هذه الأوهام؟
فقال سوفخاتب بهدوء: إن الحياة جد ولهو، كما إن اليوم نهار وليل، والرجل الحكيم من لا يذكر في أوقات جده أسباب لهوه، ولا يعكر صفو لهوه بأمور جده، فمن أدراك أيها القائد؟ فلعل الآلهة لسابق علمها بحب مولانا الجمال، أرسلت إليه هذا الصندل على يد النسر العجيب.
وقلب الملك عينيه في وجهيهما واستضحك قائلا: أدائما على اختلاف أيها الرجلان؟ كما تشاءان، ولكن كان ينبغي أن أجد في طاهو الرجل مغريا بالهوى، وفي سوفخاتب الشيخ زاجرا عنه، وعلى أية حال لا مندوحة لي من الميل مع رأي سوفخاتب في الحب، كما ملت إلى رأي طاهو في السياسة.
وقام الملك واقفا، فقام الرجلان، وألقى نظرة على الحديقة الواسعة وهي تودع الشمس المائلة نحو الأفق الغربي، وقال وهو يهم بالمسير: أمامنا ليلة عمل شاقة، فإلى الغد، ولسوف نرى.
وذهب فرعون والصندل في يده، فانحنى الرجلان في إجلال.
ووجدا نفسيهما منفردين مرة أخرى، فوقف كل منهما بإزاء صاحبه؛ طاهو بجسمه الطويل وصدره العريض وعضلاته الفولاذية، وسوفخاتب بجسمه الدقيق النحيل وعينيه الصافيتين العميقتين وابتسامته الجميلة العظيمة.
وكان كل منهما يحس بما اختلج في صدر صاحبه، فيبتسم سوفخاتب، ويقطب طاهو جبينه. ولم يستطع القائد أن يودع الحاجب بغير قول ينفس به عن صدره الكظيم، فقال: غدرت بي أيها الصديق سوفخاتب، بعد أن لم تطق منازلتي وجها لوجه.
فرفع سوفخاتب حاجبيه إنكارا، وقال: يا له من كلام بعيد عن الحق أيها القائد! ما لي أنا والحب؟ ألم تعلم بأني شيخ فان ، وأن حفيدي سنب طالب في جامعة أون؟ - ما أسهل تزوير الكلام عليك أيها الصديق! ولكن الحقيقة تهزأ بلسانك اللبق الحكيم .. ألم يمل قلبك الفتي يوما إلى رادوبيس؟ ألم يسؤك أن تهبني عطفا لم تظفر به أنت؟
فرفع الشيخ يديه يستعيد من كلام القائد، وقال: إن خيالك لا يقل عن عضلات ساعدك الأيمن، والحق أنه إذا كان قلبي مال إلى هذه الغانية يوما، فعلى طريقة الحكماء المبرأة من الطمع! - أما كان يجمل بك ألا تفتن خيال مولانا بحسنها إكراما لي؟
فبدت الدهشة على سوفخاتب، وقال باهتمام وأسف صادق: أحقا أنك تجد في الأمر جدا؟ .. أم أنك ضقت بدعابتي ذرعا؟
فقال طاهو بسرعة: لا هذا ولا ذاك أيها المعظم، ولكن يسوءني فقط أن نختلف دائما.
فابتسم كبير الحجاب، وقال بهدوئه الطبيعي: لن يزال يجمعنا رباط وثيق هو الإخلاص لصاحب العرش!
قصر بيجة
غاب الموكب الفرعوني عن الأنظار، ورفعت تماثيل ملوك الأسرة السادسة، فاندفع الناس من جانبي الطريق، فتلاطمت أمواجهم، واختلطت أنفاسهم، كأنهم بحر موسى الذي انشق له طوعا، وانقض على أعدائه كاسرا، فأمرت رادوبيس عبيدها بالعودة إلى السفينة. وكانت نشوة الحماس التي انبعثت في قلبها لدى ظهور فرعون ما تزال تلتهب في قلبها نارا وتندفع إلى أطرافها دما حارا. وكانت صورته لا تفارق مخيلتها، لشبابه الغض، ونظراته المتعالية، وقده الرشيق، وعضلاته المفتولة.
وكانت رأته قبل ذلك في يوم التتويج العظيم منذ شهور قلائل، وكان يقف في عجلته كما وقف اليوم فارع الطول جاهر الجمال، مرسلا بناظريه إلى الأفق البعيد، وقد تمنت يوم ذاك كما تمنت اليوم لو عطف إليها عينيه.
ترى لماذا؟ .. ألأنها تطمع في أن يفوز جمالها بما هو أهله من التكريم؟ أم لأنها تود في أعماقها لو تراه في هيئة البشر بعد أن رأته في قداسة الأرباب المعبودة؟ كيف السبيل إلى فهم هذا التمني؟ .. على أنه مهما كانت حقيقته، فقد تمنت صادقة، وتمنت مخلصة مشوقة.
لبثت الغانية مستغرقة في غمرات أحلامها، فلم تعن بالالتفات إلى الطريق المزدحم الذي يجتازه ركبها الصغير بشق الأنفس، ولم تلق أدنى انتباه إلى الآلاف من الخلق الذين يكادون أن يلتهموها، بنهم وشراهة. وصعد بها إلى السفينة ونزلت من الهودج في المقصورة، واطمأنت إلى عرشها الصغير، وهي في شبه غيبوبة تسمع ولا تعي، وتنظر ولا ترى .. وانسابت بها تشق وجه النيل الرزين، حتى رست إلى سلم حديقة قصرها الأبيض، عروس جزيرة بيجة. وكان القصر يرى عن بعد في نهاية الحديقة اليانعة التي تنتهي معارجها إلى سيف النيل، تحوط به أشجار الجميز، ويحنو عليه النخيل، كأنه زهرة بيضاء نبتت في أحضان تلك الجنة الوارفة. فهبطت أدراج السفينة، ووضعت قدمها على أولى درجات الحديقة، وصعدت سلما من المرمر المصقول، يمتد بين سورين من الجرانيت، تنتصب على الجانبين مسلات عالية نقشت عليها أشعار رقيقة لرامون حتب، إلى أن بلغت أرض الحديقة السندسية.
واجتازت بوابة من الحجر الجيري نقش اسمها على واجهتها باللغة المقدسة، وقام في وسطها تمثال لها بالحجم الطبيعي، نحته هنفر، وأفنى فيه دهرا جميلا من أسعد أيام حياته، يمثلها جالسة على عرشها الجميل الذي تستقبل عليه المقربين، ويكشف في روعة فنية رائعة عن جمال الوجه، وتكعب الثديين، ورشاقة القدمين. ثم خلصت إلى ممر وسيط اصطفت على جانبيه الأشجار تعانقت أعالي أغصانها، فظللت عليه سقفا من الأزهار والأوراق الخضراء، وفرشت أرضه بالحشائش والأعشاب، وكانت توازيه عرضا من اليمين والشمال ممرات جانبية قدت على نفس الصورة، تنتهي ذات اليمين إلى سور الحديقة الجنوبي، وذات الشمال إلى سورها الشمالي. وكان هذا الممر ينتهي إلى الكرمة المتفرعة المتسلقة على أعراش من عمد رخامية، تنبسط إلى يمينها غابة من الجميز، وتمتد إلى يسارها غابة من النخيل أقيمت فيها هنا وهناك بيوت القردة والغزال، وانتشرت في جنباتها المترامية التماثيل والمسلات.
وانتهت بها قدماها إلى بركة واسعة من ماء غير آسن، ينطلق على شطآنها نبات اللوتس، ويسبح في سطحها الإوز والبط وتغني في جوها الأطيار، وقد انتشر شذا العطر وأريج الزهر وغردت البلابل.
ودارت حول البركة نصف دورة كاملة، فصارت أمام الحجرة الصيفية، ووجدت في استقبالها جماعة من الجواري انحنين لها إجلالا، ثم وقفن ينتظرن أوامرها، وأسلمت الغانية نفسها إلى أريكة مظللة تستريح .. ولم يطل بها المقام فانتفضت واقفة، وقالت لجواريها: كم ضايقتني أنفاس القوم الحارة .. وكم أرهقني الحر .. اخلعن ثيابي؛ فقد تقت إلى مياه البركة الباردة.
فدنت الجارية الأولى من سيدتها، ورفعت بخفة خمارها الموشى بالذهب نسيج منف الخالدة.
ثم تقدمت اثنتان فخلعتا العباءة الحريرية، فكشفتا عن قميص شفاف انحسر عما فوق النهدين وما تحت الركبتين، ثم تبعتهما جاريتان فسحبتا بيدين رقيقتين القميص السعيد، وروعتا الدنيا بجسد طليق، خلقته الآلهة جميعا، وادعاه كل لقدرته وفنه!
واقتربت جارية أخرى وحلت عقدة شعرها الفاحم، فانساب على جسدها، وغشاه من الجيد إلى الرسغين، وانحنت على قدميها وخلعت صندلها الذهبي ووضعته على حافة البركة. ومشت الغانية تتهادى، وهبطت درجات البركة المرمرية على مهل، ومضى الماء يغمر القدمين، فالساقين، فالفخذين، ثم ألقت بجسمها في الماء الهادئ يأخذ منه عطرا ويعطيه بردا وسلاما. واستسلمت لمداعبة الماء في رخاوة، ولعبت فيه ما شاء لها الهوى والمرح، وسبحت طويلا تارة على بطنها، وتارة على ظهرها، وثالثة على أحد جانبيها.
وما كانت لتعير شيئا اهتماما لولا أن صك أذنيها صراخ فزع يرسله جواريها، فتوقفت عن السباحة، والتفتت إليهن، فراعها أن رأت نسرا هائلا يحلق من علو قريب من شاطئ البركة، ويرف بجناحيه، ففرت من بين شفتيها صرخة فزع، وغاصت في الماء تنتفض فزعا ورعبا، وتصبرت بجهد جهيد، وحبست أنفاسها طويلا حتى أحست بالاختناق، ونفدت قدرتها فرفعت رأسها في خوف وحذر، ونظرت فيما حولها وهي تخشى، فلم تر شيئا، فنظرت إلى السماء فوجدت النسر يولي بعيدا يوشك أن يلج باب الأفق، فسبحت إلى الشاطئ على عجل، وصعدت الأدراج مسرعة مضطربة، ووضعت قدمها في إحدى زوجي صندلها، ولكنها لم تجد الأخرى، وبحثت عنها طويلا ثم سألت: أين الأخرى؟
فأجابها الجواري في قلق: خطفها النسر!
وتبدى الأسف على وجهها، ولكنها لم تجد متسعا من الوقت لإعلان سخطها، فدلفت إلى الحجرة الصيفية، والجواري من حولها وبين يديها يجففن جسدها الغض، تنحدر عليه نقط الماء كأنها لؤلؤ ينتشر على أديم عاج. •••
ولدى الغروب تأهبت لاستقبال الضيوف، وما أكثرهم في أيام العيد التي تجذب الناس إلى الجنوب من كل صوب! فارتدت أجمل ثيابها، وازينت بأفخر حليها، ثم تركت المرآة إلى بهو الاستقبال، تنتظر القادمين وقد آن موعدهم.
وكان البهو آية من آيات الفن والعمارة، بناه المعمار هني، وجعل صورته على هيئة بيضاوية، وشيد جدرانه من الجرانيت كبيوت الأرباب، وكساه بطبقة من الصوان ذات ألوان تسر الناظرين، وكان سقفه مقببا تزينه الصور والتهاويل، وتتدلى منه المصابيح المكفتة بالذهب والفضة.
وزخرف الجدران المثال هنفر، وتنافس العشاق في تأثيثه بإهداء المقاعد الوثيرة والدواوين الفاخرة، والرياش الجميلة. وكان عرش الغانية أبدع هذه التحف جميعا؛ فهو من العاج الثمين على قوائم من سن الفيل، وقاعدته من الذهب الخالص المحلى بالزمرد والياقوت، وقد أهداه إياها حاكم جزيرة بيجة.
ولم يطل انتظار الغانية، فدخل عبد من عبيدها، وأعلن قدوم السيد عانن تاجر سن الفيل. ودخل الرجل على الأثر يهرول في ثيابه الفضفاضة، ويزهو بشعره المستعار، يتبعه عبد يحمل صندوقا من العاج المطعم بالذهب، وضعه على كثب من كرسي الغانية، ورجع من حيث أتى. وانحنى التاجر على يد رادوبيس، ولثم أناملها، فابتسمت له، وقالت بصوتها الحلو: أهلا بك أيها السيد عانن. كيف حالك؟ أهكذا لا نراك إلا كل دهر طويل؟!
فضحك الرجل سعيدا مسرورا، وقال: ماذا أصنع يا مولاتي؟! .. هي حياتي التي اخترتها أو التي فرضتها الأقدار علي، أن أكون أخا سفر، جواب أرض، تتقاذفني البلدان، فأقضي نصف عامي في بلاد النوبة، ونصفه الثاني ما بين الجنوب والشمال، أشتري وأبيع، وأبيع وأشتري، لا أعرف لحياتي مستقرا!
فنظرت إلى الصندوق العاجي وهي لا تزال تبتسم وسألته: وما هذا الصندوق الجميل؟ أخال أنه هدية من هداياك النفيسة؟ - ليس الصندوق بالذات، ولكن ما فيه .. هو سن فيل مفترس، أقسم التاجر النوبي الذي ابتعته منه أن صيده كلفه أربعة من رجاله الأشداء، فحفظته في مكان أمين، ولم أعرضه على الطالبين . ولما ألقيت عصا الترحال في تنيس، دفعت به إلى أيدي صانعيها المهرة، فبطنوه بقشرة من خالص الذهب، وطلوه من الخارج، فصار كأسا لا يشرب منها إلا الملوك .. وقلت لنفسي: أحرى بتلك الكأس التي كلفت نفوسا غالية، أن تهدى إلى من تبذل في سبيلها النفوس العزيزة رخيصة وهي راضية.
فضحكت رادوبيس ضحكة رقيقة، وقالت: شكرا لك أيها السيد عانن .. إن هديتك على نفاستها لا تعدل بجمال حديثك!
فطرب أيما طرب، ورنا إليها بعين ناطقة بالإعجاب والتوسل، وقال بصوت خافت: ما أجملك! .. ما أفتنك! .. كلما عدت من سفر طويل أجدك أجمل وأفتن مما تركتك، وكأني بالزمان لا عمل له إلا السمو بحسنك الفاتن.
وكانت تصغي إلى إطراء حسنها، كمن يصغي إلى نغمة معادة، فطاب لها أن تتهكم به فسألته: كيف حال أبنائك؟!
فأحس بشيء من الخيبة، وصمت لحظة، ثم انحنى على الصندوق ورفع غطاءه، فبدا الكأس نائما على جانبه، ثم قال وهو يرفع رأسه إليها: ما ألذع سخريتك يا سيدتي! ومع هذا فلن تجدي شعرة بيضاء برأسي، وهل يستطيع من تقع عيناه على وجهك أن يحتفظ في قلبه بأدنى حرارة لامرأة سواك؟!
فلم تجبه، وما تزال تبتسم، ثم دعته للجلوس فجلس قريبا منها. واستقبلت على أثر ذلك جماعة من التجار وكبار المزارعين، منهم من يتردد على قصرها كل مساء، ومنهم من لا تراه إلا في الأعياد والمناسبات، فرحبت بهم بابتسامتها الفاتنة، ثم رأت المثال هنفر يلج باب البهو بقامته الرشيقة، وحنجرته الناتئة، وشعره المفلفل، وأنفه الأفطس، وكان من الرجال الذين تستخف ظلهم، فأعطته يدها، ولثمها الرجل في حب عميق. وقالت تداعبه: أيها الفنان الكسول.
ولم يرض هنفر عن هذا الوصف فقال: لقد انتهيت من عملي في زمن قصير. - والحجرة الصيفية؟ - هي الباقية بلا زخرف، وإنه ليؤسفني أن أقول لك بأني لن أزخرفها بنفسي.
فبدا التساؤل على وجه رادوبيس، فقال الرجل: سأرتحل بعد غد إلى بلاد النوبة؛ لأن أمي مريضة، وقد بعثت إلي رسولا يبلغني رغبتها في رؤيتي، فلم أر بدا من السفر . - خففت الأرباب عنها وعنك.
فشكرها هنفر وقال: لا تظني أني نسيت الحجرة الصيفية؛ ففي الغد يأتيك أنبغ تلاميذي بنامون بن بسار، ويقوم بزخرفتها على أكمل الوجوه، إني أثق به ثقتي بنفسي، ولعلك ترحبين به وتشجعينه.
فشكرته على عنايته بها، ووعدته خيرا.
واطرد تيار القادمين، فجاء المعمار هني، وقفاه آني حاكم الجزيرة، وتبعهما بعد حين قليل الشاعر رامون حتب. وكان آخر من أتى الفيلسوف هوف، الذي كان في يوم من الأيام أستاذ جامعة أون الأكبر. وقد عاد أخيرا إلى آبو مسقط رأسه، بعد أن نيف على السبعين من عمره، وكانت رادوبيس لا تفتأ تداعبه، فقالت له وهي تستقبله: ما لي إذا رأيتك أشتهي أن أقبلك؟
فقال الرجل بهدوء: لعلك يا مولاتي من هواة التحف القديمة. •••
ودخلت جماعة من الجواري يحملن أواني من الفضة ملئت طيبا، وباقات من أزهار اللوتس، فدهن رءوس الحاضرين وأيديهم وصدورهم بالطيب، وأهدين إلى كل منهم زهرة من اللوتس.
وقالت رادوبيس بصوت عال: ألم تعلموا بما حدث لي اليوم؟
فتطلع إليها الجميع بانتباه، وساد الصمت، فقالت باسمة: نزلت أستحم ظهر اليوم في البركة، فهبط نسر بغتة وخطف فردة صندلي الذهبي، وطار بها.
فبدت الدهشة والابتسامة على الوجوه، وقال الشاعر رامون حتب: إن رؤيتك في الماء عارية تهيج الطيور الكاسرة!
وقال عانن بحماس: أقسم بالرب سوتيس على أن النسر كان يتمنى لو يخطف صاحبة الصندل.
فقالت رادوبيس آسفة: كم كان عزيزا لدي!
فقال هنفر المثال: من المحزن حقا أن يضيع شيء تمتع بلمسك أياما وأسابيع، وما مصيره في النهاية إلا السقوط، وقد يسقط في حقل ناء فتطؤه قدم ريفية بسيطة!
فقالت رادوبيس بحزن: مهما يكن مصيره، فلن يعود إلي!
وكان الفيلسوف هوف يعجب لحزن رادوبيس على صندل تافه، فقال يعزيها: على أية حال إن خطف النسر لصندلك فأل حسن، فلا تحزني.
فسأله أحد الأعيان المبرزين: وماذا ينقص رادوبيس من السعادة، وجميع هذه الوجوه من عشاقها؟
فرد عليه الفيلسوف قائلا: وهو يحدجه بنظرة ساخرة: ينقصها أن تتخلص من بعضهم!
ودخلت جماعة أخرى من الجواري يحملن أباريق الخمر وكئوس الشراب الذهبية، ودرن بها على الحاضرين كلما لاح العطش على واحد منهم روينه بكأس مترعة، تطفي الظمأ في الفم، وتوقد النار في القلوب. وقامت رادوبيس على مهل، وسارت إلى الصندوق العاجي، ورفعت الكأس العجيبة، ومدت بها يديها إلى الساقية وهي تقول: لنشرب نخب السيد عانن لهديته الجميلة، وعودته السالمة.
فشربوا جميعا هنيئا، وشرب عانن كأسه حتى الثمالة، وأرسل إلى الغانية نظرة امتنان وشكران، ثم التفت إلى صاحب له وقال: أليس من كبريات النعم أن يجري ذكر اسمي على لسان رادوبيس؟
فأمن الرجل على قوله، وتنبه عند ذاك الحاكم آني إلى وجود السيد عانن، وكان يعرفه، ويعلم بأنه كان في رحلة في الجنوب، فقال له: عود سعيد يا عانن، كيف كانت سفرتك هذه المرة؟
فأحنى الرجل رأسه احتراما، وقال: حفظتك الآلهة من كل سوء أيها الحاكم الجليل، لم أتوغل هذه المرة فيما وراء إقليم الواوايو، وكانت رحلة موفقة موفورة الخيرات مأمونة العواقب. - وكيف حال صاحب السمو كارفنرو حاكم الجنوب؟ - الحق أن سموه يلقى متاعب جمة بسبب تمرد قبائل المعصايو؛ فهم يضمرون الكراهية للمصريين، ويتربصون لهم، فإذا وقعوا على قافلة هاجموها بلا رحمة، وقتلوا رجالها، ونهبوا تجارتها، ولاذوا بالفرار قبل أن تبلغهم القوات المصرية.
فبدا الاستياء على وجه الحاكم، وسأل التاجر باهتمام: ولماذا لا يسير سموه إليهم بقوة تأديبية؟ - إن سموه لا ينفك يرسل قواته في أعقابهم، ولكنهم لا يواجهون القوات الحربية، ويفرون في الصحاري والغابات، فتضطر القوات إلى العودة بعد نفاد المؤن. ويستأنف العصاة غاراتهم على طرق القوافل.
وكان الفيلسوف هوف يصغي بانتباه إلى كلام عانن، وكانت له خبرة ببلاد النوبة، وكان على علم واف بقضية المعصايو، فسأل التاجر قائلا: لماذا يصر المعصايو دائما على العصيان؟! .. إن البلاد المشمولة بحكم مصر تتمتع في ظله بالطمأنينة والرفاهية، ونحن لا نتعرض لعقائد غيرنا، فلماذا يناصبوننا العداوة؟
ولم يكن عانن يعنى بمعرفة الأسباب، وظن أن نفاسة التجارة هي التي تغري القوم بالانقضاض عليها، ولكن الحاكم آني كان متبحرا في هذه المسائل، فقال للفيلسوف: الحق يا سيدي الأستاذ أن المعصايو لا يرجع إلى أسباب سياسية أو دينية. وحقيقة المسألة أن القوم قبائل رحالة، يعيشون في أرض جدباء، ويهددهم الجوع في كل حين، وبين أيديهم كنوز من الذهب والفضة لا تغني ولا تشبع من جوع، فإذا انبرى المصريون لاستثمارها، هاجموهم ونهبوا قوافلهم.
فقال هوف: إذا كان الأمر كذلك، فالحملات التأديبية عديمة الجدوى، وإني أذكر يا سيدي الحاكم أن الوزير أونا - تقدست روحه في عالم أوزوريس - منى نفسه يوما بعقد معاهدة معهم على أساس المنفعة المتبادلة، فيمدهم بالغذاء في مقابل أن يؤمنوا له طرق القوافل .. هي فكرة ثاقبة أليس كذلك؟
فهز الحاكم رأسه دلالة على الموافقة، وقال: لقد أحيا رئيس الوزراء خنوم حتب مشروع الوزير أونا، وعقد المعاهدة قبل عيد النيل بأيام، ولن نعرف نتيجة سياسته قبل زمن طويل، والمتفائلون كثيرون.
وكان الحاضرون ملوا سريعا حديث السياسة، فانقسموا حلقات، ومنهم عانن، وشتتهم شجون الحديث، وحاولت كل حلقة أن تجذب رادوبيس إليها، ولكن الغانية جذبها اسم خنوم حتب، وذكر الهتاف الذي دوى باسمه في أثناء سير الركب الفرعوني، فعاودها استياء غمرها وقتذاك وأحست بلفحة غضب، فدلفت إلى حيث يجلس آني، وهوف، وهنفر، وهني، ورامون حتب، وقالت بصوت خافت: ألم تسمعوا ذلك الهتاف العجيب؟
وكان زوار القصر الأبيض إخوة، لا تقوم بينهم كلفة، ولا يعقل ألسنتهم خوف، وكانت أحاديثهم تتناول كل شيء في حرية مطلقة، وطمأنينة كاملة. وقد سمع هوف مرات ينتقد سياسة الوزراء، كما سمع رامون حتب وهو يبدي شكوكه ومخاوفه من تعاليم اللاهوت، ويعلن عن إيمانه باللذة ويدعو إلى متاع الدنيا.
وتناول المعمار هني جرعة من كأسه، وقال وهو ينظر إلى وجه رادوبيس الجميل: إنه هتاف جريء لم يسمع بمثله من قبل في وادي النيل.
فقال هنفر: نعم، ولا شك في أنه كان مفاجأة محزنة لفرعون الشاب في أول عهده بالحكم.
وقال هوف بهدوء: لم تجر العادة قط بأن يهتف باسم إنسان ما مهما كانت مكانته، في حضرة فرعون !
فقالت رادوبيس بلهجة دلت نبراتها على الغضب: ولكنهم خرقوا هذه العادة بمنتهى الوقاحة .. لماذا أقدموا على ذلك أيها السيد آني؟
فرفع الرجل حاجبيه الكثيفين، وقال: أراك تسألين عما يتحدث عنه الناس في الطرقات .. فكثير من العامة يعلم الآن أن فرعون يرغب في أن يضم كثيرا من أملاك المعابد إلى أملاك التاج، وأن يسترد المنح الواسعة التي أسبغها آباؤه وأجداده على رجال الكهنوت.
وقال الشاعر رامون حتب بلهجة لم تخل من عنف: كان الكهنة دائما موضع عطف الفراعنة، يقطعونهم الأراضي، ويهبونهم الأموال، حتى صاروا يملكون ثلث الأراضي المنزرعة، وتغلغل نفوذهم في الأقاليم، وبسط على الرقاب، ولا شك أن هناك وجوها من المنافع أحق بالمال من المعابد.
فقال هوف: يزعم الكهنة أنهم يصرفون ريع الأراضي على أعمال الإحسان والبر، ويصرحون دائما بأنهم يتنازلون عن أملاكهم عن طيب خاطر إذا دعت الضرورة إلى ذلك. - وما هذه الضرورة؟ - أن تشتبك المملكة في حرب مثلا تحتاج للإنفاق الكثير.
ففكرت الغانية قليلا، ثم قالت: لا يجوز على أي حال أن يناهضوا رغبة الملك.
فقال الحاكم آني: لقد تورطوا في خطأ بالغ، وفوق ذلك فهم يبثون دعاتهم في الأقاليم، ويدخلون في روع الفلاحين أنهم يدافعون عن أملاك الأرباب المعبودة.
فتساءلت رادوبيس بدهشة: كيف تؤاتيهم شجاعتهم؟!
فقال آني: البلاد في سلام، والحرس الفرعوني هو القوة المسلحة الوحيدة التي يعتد بها، والكهنة تؤاتيهم شجاعتهم إذا أيقنوا أن قوة فرعون غير كافية!
فتضايقت رادوبيس وقالت بحنق: يا لهم من أوغاد!
فابتسم الفيلسوف هوف، ولم يكن يرضى أن يحبس رأيا فقال: إذا أردت الحق فالكهنة طائفة مطهرة، تسهر على دين هذه الأمة وآدابها وتقاليدها الخالدة، أما الطمع في السلطان فداء قديم.
فحدجه الشاعر رامون حتب بنظرة تحد، وكان مغرما بإثارة الزوابع، وسأله في اقتضاب: وخنوم حتب؟!
فهز هوف كتفيه استهانة وقال بهدوئه الغريب: هو كاهن كما ينبغي، وسياسي نافع، وليس من ينكر عليه قوة الإرادة، ونفاذ البصيرة.
وتململ الحاكم آني. وهز رأسه بشيء من العنف، وقال: لم يثبت إلى الآن إخلاصه للعرش!
فقالت رادوبيس بحدة: بل أعلن غير ذلك!
ولم يكن الفيلسوف يوافقهما، فقال: أنا أعرف خنوم حتب جيدا، وهو بلا شك مخلص لمولاه ولوطنه.
فقال آني بغرابة: لم يبق إلا أن تصرح بأن فرعون مخطئ! - كلا .. إن فرعون شاب سامي الآمال، يرغب في أن يكسو بلاده حلة من البهاء، ولن يأتي ذلك إلا بالاستعانة بجانب من موارد الكهنة.
فتساءل رامون حتب في حيرة شديدة: فمن المخطئ إذن؟!
فقال هوف: عسى أن يختلف اثنان وكلاهما على حق!
ولكن رادوبيس لم ترتح إلى تفسير الفيلسوف، ولم ترض عن الموازنة التي يجريها بين فرعون ووزيره، كأنهما ندان. وكانت تؤمن بحقيقة ثابتة، وهي أن فرعون سيد البلاد دون منازع، وأنه لا تجوز مخالفته بأي حال ولأي سبب، ونفر قلبها من كل رأي يخالف عقيدتها هذه، وصرحت برأيها لأصحابها، وختمت كلامها بقولها: إني أعجب متى آمنت بهذا الرأي؟!
فقال رامون حتب مداعبا: حين وقعت عيناك على فرعون لأول مرة .. لا تفرطي في العجب فالجمال مقنع كالحق سواء بسواء.
وضاق صدر المثال هنفر فصاح بصوت مسموع: أدرن الكئوس أيتها الجواري .. وهلمي أيتها الغانية رادوبيس أسمعينا لحنا شجيا، أو متعي أعيننا بحركة من الرقص الرشيق، فإن نفوسنا التي أسكرتها خمر مريوط، وهيأها العيد للفرح والمسرة، لتتوق إلى نشوة الطرب ولذعة المجون.
فضربت عنه صفحا، وأرادت أن تسترسل في حديثها، ولكن لاحت منها التفاتة إلى التاجر عانن، فرأته كالنائم، وكان منفردا بعيدا عن الجماعات، فتذكرت أنها أطالت المكث في حلقة آني، فانسحبت من بينهم وسارت إلى التاجر، وصرخت في وجهه: اصح. فانتبه الرجل فزعا، ولكن سرعان ما أشرق وجهه لرؤيتها، فجلست إلى جانبه وسألته: أكنت نائما؟ - بل كنت أحلم. - آه! .. فيمن؟ - في ليالي بيجة السعيدة، وكنت أسائل نفسي حيران: ترى هل أفوز اليوم بإحدى هاتيك الليالي الخالدات؟! أيمكن أن أظفر الآن بمجرد وعد!
فهزت رأسها أن لا، فجزع، وسألها بخوف وإشفاق: لمه؟ - قد تطلبك نفسي، وقد تطلب غيرك، فلم أقيدها بوعد خائن؟!
وتركته إلى جماعة أخرى كانت منهمكة في الحديث والشرب، فرحبوا بها فيما يشبه الصياح، وأحاطوا بها من كل جانب، وقال واحد منهم يدعى شامة: ألا تشتركين معنا في الحديث؟ - وفيم تتحدثون؟ - يتساءل بعضنا عما إذا كان الفنانون أهلا للتكريم الذي يحبوهم به الفراعنة والوزراء. - وهل أجمعتم على رأي؟ - نعم يا مولاتي. على أنهم لا يستحقون شيئا.
وكان شامة يتكلم بصوت مرتفع لا يبالي شيئا، فنظرت رادوبيس إلى حيث يجلس الفنانون؛ رامون حتب، وهنفر وهني، وضحكت ضحكة ساخرة ذات جرس فاتن ساحر، وقالت بصوت يبلغ آذان الفنانين: ينبغي أن يكون هذا الحديث عاما، ألا تسمعون أيها السادة ما يقال عنكم؟ .. يقال هنا إن الفن عرض تافه، وإن الفنانين غير أهل للتكريم .. فما رأيكم؟!
وعلت فم الفيلسوف الشيخ ابتسامة ساخرة، أما الفنانون فقد نظروا إلى الجماعة التي تستهين بهم نظرة متعالية، وابتسم هنفر ابتسامة هزء، أما رامون حتب فاصفر وجهه غضبا، لأنه كان شديد التأثر، وكان شامة معجبا بما يقول لأصحابه فأعاد قوله بصوت عال قائلا: إني رجل عمل وجد، أضرب الأرض بيد من حديد، فتذل وتبذل لي خيراتها من الأنعم السابغة، فأفيد ويفيد معي الآلاف من المحتاجين، كل هذا دون حاجة إلى قول موزون أو لون براق.
وأدلى كل من الرجال بدلوه، إما للتنفيس عن حقد طال حفظه أو لمجرد الثرثرة والإعلان عن النفس، فقال أحد الكبار يدعى رام: من الذي يحكم ويسوس الناس؟ .. من الذي يفتح البلدان ويغزو المعاقل؟ .. من الذي يجلب الثروة والخيرات؟ .. أناس غير الفنانين بلا ريب ..
وقال عانن وكان سريع التلبية للخمر: إن الرجال يهيمون بحب النساء، ويهذون بذكرهن في خلواتهم، أما الشعراء فيبسطون هذيانهم في كلام موزون، وإلى هنا لا يجد العاقل ما يؤاخذهم عليه إلا أنهم يضيعون وقتهم فيما لا طائل تحته، ولكن السخافة والحماقة أن يطلبوا لهذيانهم ثمنا من المجد والخلود.
وقال شامة مرة أخرى: ويكذب آخرون كذبا طويلا منظما، ويهيمون في وديان بعيدة ويستوحون الأشباح والأوهام، يزعمون أنهم رسل وحي كريم. والأطفال تكذب كذبهم، وكثير من العامة، ولكنهم لا يزعمون شيئا.
فضحكت رادوبيس طويلا، وانتقلت من مجلسها إلى قريب من هنفر، وقالت هازئة: ويحك أيها الرجل .. لماذا إذن تسير مختالا فخورا كأنك بلغت الجبال طولا؟
فابتسم المثال ابتسامة صفراء، ولكنه لازم الصمت كصاحبيه تعاليا منهم عن الرد على «المتهجمين بغير علم»، وإن انطوى كل منهم على غضب شديد، وكرهت رادوبيس أن تنتهي المعركة عند ذاك، فالتفتت إلى الفيلسوف هوف ووجهت إليه هذا السؤال: وما رأيك أنت أيها الفيلسوف في الفن والفنانين؟ - الفن لهو ولعب، والفنانون لاعبون مهرة.
ولم يستطع الفنانون أن يخفوا غضبهم، فلم يملك الحاكم آني نفسه من الضحك. وتصايح التجار والملاك فرحين.
وصاح رامون حتب بغضب: أتريد أيها الفيلسوف أن تكون الحياة جدا خالصا؟
فهز الشيخ رأسه في هدوء، وقال والابتسامة لا تفارق شفتيه: كلا، ما إلى هذا قصدت؛ فاللعب ضرورة، ولكن ينبغي أن تذكر أنه لعب.
فسأله هنفر بتحد: هل الإبداع الملهم لعب؟
فقال الفيلسوف باستهانة: أنت تسميه الإلهام والإبداع، أما أنا فأعلم أنه لعب الخيال.
ونظرت رادوبيس إلى المعمار هني تحثه على خوض المعركة، وتحاول أن تخرجه عن صمته الطبيعي، ولكن الرجل لم يلب إغراءها، لا استهانة منه بالموضوع الذي يثير النقاش، ولكن اعتقادا منه - إن حقا كان أو وهما - أن هوف لا يعني ما يقول وأنه يداعب هنفر ورامون حتب - على الأخص- بأسلوبه القاسي. أما الشاعر فاشتد به الغضب، ونسي أنه في قصر بيجة، وسأل الفيلسوف بلهجة حاقدة: إذا كان الفن لعب خيال، فلماذا يكلف أهله ما لا طاقة لهم به؟ - لأنه يتقاضاهم إغفال ما تعودوا عليه من الفكر والمنطق، واللياذ بعالم الطفولة والخيال!
فهز الشاعر كتفيه استهانة، وقال: إن هذا الكلام لا يستحق الرد عليه.
وأمن على قوله هنفر، وابتسم هني موافقا، ولكن رامون حتب لم يستطع صبرا، ولم يطق غضبه السكوت، فجال بناظريه في الوجوه الساخرة، وقال بحدة: أليس يخلق الفن لكم لذة وجمالا؟
فقال له عانن، وهو لا يكاد يدري ما يقول لأن الخمر كانت لعبت برأسه: ما أتفه هذا!
فاحتد الشاعر، وترك زهرة اللوتس تقع من يده وقال في عنف: ما بال هؤلاء الناس لا يفقهون لما يقولون معنى. أيجوز أن أذكر اللذة والجمال، فيقال لي إنها شيء تافه؟ .. وهل توجد غاية في الدنيا وراء الجمال واللذة؟!
وطرب هنفر لقول رفيقه، وأخذته نشوة حماس، فمال برأسه ناحية أذن الغانية، وقال: صدق وحق جمالك يا رادوبيس، إن الحياة تمضي كحلم سريع الزوال؛ فأنا أذكر مثلا أني حزنت لموت أبي حزنا بالغا وبكيته مر البكاء، ولكني الآن إذا عاودتني ذكراه أسائل نفسي: أحقا عاش ذلك الإنسان على الأرض؟ أم أنه وهم خادع يتراءى لي في غبش الظلام؟! هكذا الحياة، فماذا أفاد الأقوياء بما أحدثوا فيها من قوة؟ وماذا نال العاملون مما أنتجوا من مال وثراء؟ وماذا اكتسب الحاكمون بما حكموا، وما ساسوا؟! هباء في هباء .. قد تكون القوة حماقة، والحكمة خطأ، والثروة غرورا. أما اللذة فهي لذة، ولا يمكن أن تكون غير ذلك؛ فكل ما خلا الجمال باطل!
فبدا الجد على وجه رادوبيس الفاتن، وقالت له وقد لاحت في عينيها الأحلام: ومن يدريك يا هنفر، فلعل الجمال واللذة من الأباطيل أيضا؟ ألا تراني أمضي العمر في دعة وانتهاب لذة، وتملي الحسن والجمال؟ ومع هذا فكم يطاردني الملل والسأم!
ووجدت رادوبيس أن رامون حتب في حالة سيئة، وطالعت الاستياء في وجه هنفر، وصمت هني، فأشفقت من إيلامهم، وعدت نفسها مسئولة عما أصابهم، فقالت تغير مجرى الحديث: حسبكم أيها السادة .. فمهما قلتم فلن تنفكوا تطلبون الفن والفنانين، كم تحبون يا هؤلاء الخصام! إنكم لتجعلون السعادة نفسها موضوعا للجدل والخصام!
ضاق الحاكم آني بالحديث ذرعا، فقال لها بتوسل: اطردي الخصام بلحن من أغانيك السعيدة.
وكان الجميع يتوقون للسماع والطرب، فضموا توسلاتهم إلى الحاكم، ووافقت رادوبيس، وكانت شبعت من الكلام، واستولى عليها قلق غريب تردد عليها مرات في يومها، وظنت أن الغناء أو الرقص يزيله، فقامت إلى عرشها وأمرت بالعازفات فجئن بالدفوف والقيثارة والناي والونج والصفارة ووقفن وراءها صفا.
ثم أشارت بيدها العاجية، فأخذن جميعا في التوقيع الجميل والنقر الرشيق، يهيئن لصوتها الرخيم جوا فاتنا من الموسيقى والطرب، ثم مضت تخفت أنغام آلاتهن حتى صارت كهمس العاشقين الذاهلين، وأنشأت رادوبيس تغني قصيدة رامون حتب:
يا من تسمعون إلى وعظ الحكماء، أعيروني آذانكم.
لقد شهدت الدنيا منذ الأزل زوال أسلافكم،
الذين عبروا ساحتها عبور الخواطر في رأس الحالم.
وقد شبعت ضحكا من وعدهم ووعيدهم، فأين
الفراعنة؟ أين الساسة؟ أين الغزاة؟ هل حقا
القبر عتبة الخلود؟ ولكن لم يأت من القبر رسول
يطمئن قلوبنا، فلا يفوتكم طرب، ولا تفوتكم لذة.
لصوت الساقي أبلغ حكمة من صراخ الواعظ.
أنشدت الغانية اللحن بصوت إلهي حنون، أطلق الأرواح من قيود الأجسام، فهامت في سموات الجمال والسعادة، وذهلت عن متاعب الأرض وهموم الدنيا، وشاركت في التجلي الأعلى، وظل القوم بعد إمساكها نشاوى يتنهدون فرحا وحزنا ولذة وألما.
وطرد الحب من صدورهم كل عاطفة إلاه، فاستبقوا إلى الشراب، وهدفوا بأعينهم إلى الغانية تنتقل بين الجالسين، وتداعبهم، وتماجنهم، وتشاربهم، ولما دنت من آني همس في أذنها: أسعدتك الأرباب يا رادوبيس .. جئتك شبحا مثقلا بالتبعات وأخال نفسي الآن طيرا يحلق في السماء.
فابتسمت إليه وانتقلت إلى جانب رامون حتب، وأهدته زهرة لوتس عوضا عما فقد، فقال لها: يقول هذا الشيخ إن الفن لعب خيال، ألا سحقا لرأيه .. إنه ومضة إلهية تشع من عينيك، وتدور مع وجيب قلبي، ثم تأتي بالأعاجيب.
فقالت له ضاحكة: أيخرج مني شيء يأتي بالأعاجيب، وأنا أعجز من الرضيع؟
ثم هرعت إلى حيث يجلس هوف، وجلست إلى جانبه، ولم يكن ذاق خمرا، فحدجته بنظرة فاتنة، فضحك الرجل، وقال متهكما: يا سوء ما اخترت جليسا! - ألا تحبني كهؤلاء؟ - ليتني أستطيع .. ولكني أجد فيك ما يجده المقرور في المدفأة. - إذن انصحني ماذا أصنع بحياتي لأني اليوم أشكو؟ - أتشكين حقا .. أنعيم وثراء وشكوى؟ - كيف غاب عنك هذا أيها الحكيم؟ - الجميع يشكو يا رادوبيس، طالما استمعت إلى شكاة الفقراء والبائسين الذين يتلهفون على كسرة خبز، وطالما استمعت إلى شكاة السادة وهم يئنون تحت عبء التبعات الجسام ، وطالما استمعت إلى شكاة الأغنياء السادرين وقد برموا بالدعة والسعادة فالجميع يشكو، وما من فائدة ترجى من التغيير، فاقنعي بما قسم لك. - وهل يشكو الناس في عالم أوزوريس؟
فابتسم الشيخ وقال: آه! .. إن صاحبك رامون حتب يهزأ بهذا العالم الخطير. أما الكهنة العالمون فيقولون إنه عالم الأبدية، فصبرا أيتها الحسناء، إنك ما زلت قليلة التجارب.
فعاودتها موجة المجون والسخرية، وأرادت أن تداعب الفيلسوف، فقالت بلهجة جدية متصنعة: أحقا أني قليلة التجارب؟ .. إنك لم تر مما رأيت شيئا. - وماذا رأيت مما لم أر؟
فأشارت ببنانها إلى القوم اللاهين وقالت ضاحكة: رأيت هؤلاء الرجال المبرزين، وصفوة مصر سيدة الدنيا، يسجدون عند قدمي، وقد ردوا إلى الوحشية، ونسوا حكمتهم ووقارهم، كأنهم كلاب أو كأنهم قردة!
ثم ضحكت ضحكة رقيقة، وجرت في خفة الغزلان إلى وسط البهو، وأشارت إلى العازفات فلعبت أناملهن بالأوتار، ورقصت الغانية رقصة من رقصاتها المختارة التي يبدع فيها جسمها اللدن، ويأتي بالمعجز من الخفة والتثني، وغلب الطرب القوم على أنفسهم، فاشتركوا بكفهم مع الدفوف، واتقدت في الأعين أنوار خاطفة، وختمت رقصتها، ثم طارت كالحمامة إلى عرشها، وجالت بعينيها في أوجه القوم الجشعة، فرأت ما أضحكها قهرا، وقالت: لكأني بين الذئاب.
وأعجب عانن الثمل بالتشبيه، وتمنى لو كان ذئبا ليقتنص الشاة الجميلة، وحققت له الخمر ما تمنى، وظن نفسه ذئبا حقا، فعوى بصوت عال ضج له السادة ضحكا، ولكنه ثابر على العواء، وانكب على أربع وزحف صوب الغانية بين ضحك القوم العاصف، حتى صار منها على قيد شبر، ثم قال لها: اجعلي هذه الليلة من نصيبي.
ولكنها لم ترد عليه، والتفتت إلى الحاكم آني، وقد جاء يحييها تحية الوداع، فأعطته يدها، ثم تلاه الفيلسوف هوف، وقد سألته ضاحكة: ألا ترغب في أن أجعل هذه الليلة من نصيبك؟
فهز رأسه ضاحكا وقال: أيسر علي أن أسخر مع الأسرى في مناجم قفط!
ورجا كل أن تكون الليلة له، وألحف في الرجاء، وتنافسوا في ذلك تنافسا شديدا حتى حرج الأمر. وانبرى هنفر لإيجاد حل له فقال: ليكتب كل منكم اسمه في ورقة، ولنضع الأسماء جميعا في صندوق عانن العاجي، ثم تمد رادوبيس يدها فتأخذ اسم السعيد الحظ.
واضطر الجميع إلى الموافقة وبادروا إلى كتابة أسمائهم، إلا عانن خشي أن تفلت الليلة من بين يديه فقال بتضرع: مولاتي .. أنا رجل سفر، اليوم بين يديك، وغدا في بلد بعيد لا أبلغه إلا بشق الأنفس، وإن فاتتني الليلة فقد أخسرها إلى الأبد.
ولكن أثار دفاعه ثائرة القوم، وردوا عليه هازئين، وكانت رادوبيس صامتة، تشاهد عشاقها بعينين جامدتين، وقد عاودها القلق الغريب، فأحست برغبة في الفرار والانفراد، وضجرت من الصراخ، فأشارت لهم بيدها فكفوا وهم بين الأمل والخوف، فقالت: لا تتعبوا أنفسكم أيها السادة، فلن أكون الليلة لإنسان!
وجمدت أفواههم ونظروا إليها منكرين، لا يصدقون آذانهم، ثم لم يلبثوا أن ضجوا بالاحتجاج، وجأروا بالشكوى، فوجدت ألا فائدة ترجى من توجيه الكلام إليهم، فقامت واقفة، وقد بدا على وجهها التصميم والعزم وقالت: إني تعبة .. دعوني أستريح!
ولوحت لهم بيدها البضة وولتهم ظهرها، وغادرت المكان على عجل.
وصعدت إلى مخدعها مسرورة لما فعلت، سعيدة بخلاصها تلك الليلة، وما تزال تطن بأذنيها تأوهات القوم الحارة .. وشخصت إلى النافذة رأسا وأزاحت عنها الستارة، ونظرت إلى الطريق المظلم، فرأت على البعد أشباح عجلات وهوادج تحمل النشاوى البائين بالحسرة والخذلان، فلذ لها منظرهم وارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة قاسية.
كيف فعلت ما فعلت؟ .. لا تدري! ولكنها تشعر باضطراب وقلق.
واها .. ماذا وراء هذه الحياة الراتبة؟ لقد حارها الجواب، ولم يرو غلتها الحكيم هوف نفسه، ثم استلقت على سريرها الوثير، واستسلمت للأحلام، فمرت بصفحة خيالها حوادث اليوم العجيبة واحدة في أثر الأخرى؛ فرأت جموع المصريين المحتشدة .. ورأت عيني الساحرة المتقدتين اللتين جذبتاها إليها بقوة قاهرة، وسمعت صوتها البشع الذي يبعث الرعشة في المفاصل .. ثم شاهدت فرعون الشاب في هالة المجد والجمال، ثم ذلك النسر الهصور الذي انقض على فردة صندلها وطار بها إلى السماء. حقا كان يوما حافلا. ولعل هذا أيقظ عواطفها، وشرد خيالها، ووزع نفسها أشتاتا، مما ذهب ضحية له العشاق البائسون. إن قلبها يخفق خفقانا شديدا، ونفسها تضطرم بلهيب غامض، وخيالها يتيه بها في وديان غريبة. وكأنها تود أن تنتقل من حال إلى حال، ولكن أي حال هذه؟! إنها حيرى لا تدري شيئا، فهل يكون ما بها نفثة سحر أصابتها بها تلك الساحرة الملعونة؟!
إن ما بها لسحر مبين، فإن لم يكن سحر ساحر، فهو سحر الأقدار المسيطرة على المصائر.
طاهو
كانت قلقة مبلبلة موزعة النفس، فيئست من النوم، وغادرت السرير مرة أخرى، ودلفت إلى نافذة تطل على الحديقة، وفتحتها على مصراعيها، ووقفت وراءها كالتمثال، ثم حلت عقدة شعرها، فانساب في خصلات مرتعشة على عنقها ومنكبيها، ولفح جلبابها الأبيض بسواد عميق، وملأت رئتيها بهواء الليل الرطب، ثم وضعت مرفقيها على حافة النافذة، وأسندت ذقنها إلى كفيها، وتاهت عيناها في الفضاء الشامل للحديقة، والنيل الجاري وراءها. كانت ليلة ظلماء معتدلة الجو، يهب نسيمها متقطعا خفيفا ضعيفا فيراقص الغصون والأوراق رقصا رحيما رقيقا، وكان النيل يرى عن بعد كقطعة من الظلماء. أما السماء فمزدانة بالنجوم اللوامع، ترسل شعاعا باهتا ما إن يقترب من الأرض حتى يغرق في بحار الظلمة.
هل يستطيع الليل المظلم والسكون المطبق أن يلقيا على رأسها القلق ظلا من السكينة والطمأنينة؟ هيهات .. وبلغ بها اليأس من الطمأنينة منتهاه، فأتت بوسادة ووضعتها على حافة النافذة، وأسلمت إليها خدها الأيمن، وأغمضت عينيها.
وطرقت ذاكرتها بغتة عبارة الفيلسوف هوف: «فالجميع يشكو، وما من فائدة ترجى من التغيير، فاقنعي بما قسم لك.» وتنهدت من أعماق قلبها، وتساءلت في حزن .. أما من فائدة ترجى من التغيير حقا؟ .. أحقا أن الشكوى تلاحق الإنسان أبدا؟ .. ولكن كيف تستطيع أن تؤمن بهذا إيمانا صادقا يصرف قلبها عن طلب التغيير؟ إن ما بقلبها ثورة جامحة، تود لو تدمر بها حاضرها وماضيها، وتفر خالصة إلى آفاق غامضة مجهولة، فكيف تجد الراحة والقناعة؟ إنها تحلم بحالة تبطل فيها الشكوى، ولكنها جزعة برمة بكل شيء.
ولم تترك لأفكارها وأحلامها، إذ سمعت طرقا خفيفا على باب مخدعها، فأرهفت أذنيها دهشة، ونادت قائلة وهي ترفع رأسها: من؟
فأجاب صوت تعرفه حق المعرفة: أنا يا مولاتي .. أتسمحين لي بالدخول؟
فقالت: تعالي يا شيث.
ودخلت الجارية على أطراف أصابعها، ودهشت لوقوف سيدتها، وأن سريرها لم يمس، وعاجلتها الغانية قائلة: ماذا وراءك يا شيث؟ - ورائي رجل ينتظر الإذن بالدخول.
فقطبت جبينها، وقالت بصوت ينطوي على الغضب: أي رجل! .. اطرديه دون تردد. - كيف يا مولاتي؟ .. إنه رجل لا يغلق دونه باب هذا القصر. - طاهو؟ - هو بعينه. - وما الذي جاء به في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
فلاحت في عيني الجارية نظرة ماكرة، وقالت: هذا ما سوف تعلمينه بعد حين يا مولاتي.
فأشارت لها بيدها أن تدعوه، وغابت الجارية لحظات، ثم لم يلبث أن ملأ فراغ الباب جسم القائد ذو الطول والعرض. وحياها بانحناءة من رأسه ووقف أمامها ينظر إلى وجهها بارتباك. ولم يخف عليها شحوب لونه، وتجعد جبينه، وظلمة عينيه، فأنكرته، وسارت إلى الديوان، وجلست عليه وسألته: أراك متعبا .. هل أجهدك العمل؟
فهز رأسه بالنفي، وقال باقتضاب: كلا. - لست كعهدي بك. - حقا؟! - لا شك أنك تعلم هذا .. ماذا بك؟
هو يعلم كل شيء بلا ريب، وستعلمه بعد حين سواء أداه إليها بنفسه أم لم يؤده. وهو يشفق من الإقدام على الكلام لأنه يغامر بسعادته، ويخشى أن تفلت من يده إلى الأبد. ولو أنه كان يستطيع أن يتسلط على إرادتها لهان كل شيء، ولكنه يكاد أن ييأس من هذا، فاستولى عليه ألم ممض وقال لها: آه يا رادوبيس! لو كنت تبادلينني الحب لأمكن أن أتوسل إليك باسم حبنا.
ترى ما حاجته إلى التوسل؟ .. عهدها به رجلا عنيفا يكره التوسل والرجاء، وطالما قنع بفتنة جسمها، فما الذي أفزعه؟! وخفضت عينيها وقالت: هذا حديث قديم معاد.
فأغضبه قولها على صدقه، واحتد قائلا: أعلم ذلك .. ولكني أعيده لدواع حاضرة .. آه! .. لكأن قلبك غار أجوف في قاع نهر بارد.
كانت ألفت أمثال هذا المقال، ولكنها قالت متململة: هل منعتك شيئا تشتهيه؟ - كلا يا رادوبيس. لقد وهبتني جسمك الفاتن الذي خلق عذابا للبشر، ولكن طالما طمعت في قلبك. يا له من قلب يا رادوبيس! .. إنه يقف وسط زوابع الشهوات جامدا كأنه ليس منك، ولطالما ساءلت نفسي متحيرا مغيظا، ماذا يعيبني؟ ألست رجلا بل أنا رجولة كاملة. والحقيقة أنك بدون قلب.
وازداد إنكارها له، ليست هذه المرة الأولى التي تسمع فيها هذا الكلام، ولكنه كان يقوله ساخرا أو غاضبا غضبا خفيفا .. أما في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فإنه يتكلم بصوت متهدج ويتميز غيظا وحنقا، فما الذي أهاجه؟ وكأنها أرادت أن تستحثه فسألته: أجئت في هذه الساعة من الليل يا طاهو لتعيد على أذني هذا الحديث؟ - كلا لم أجئ من أجل هذا الحديث .. ولكنني جئت من أجل أمر خطير .. إن لم يسعفني الحب فيه، فلتسعفني حريتك التي تحرصين عليها.
فنظرت إليه في اهتمام شديد، وانتظرت أن يتكلم، وبلغ به الضيق أشده، فعزم على أن يخلص إلى غرضه بلا لف ولا دوران، فقال لها بهدوء وحزم وهو يصوب عينيه إلى عينيها: ينبغي أن تهجري قصر بيجة، وأن تفري من الجزيرة فرارا في أقرب وقت .. قبل أن ينبلج الصباح.
فارتاعت المرأة لقوله، ونظرت إليه بعينين لا تصدقانه وسألته: ما هذا الذي تقوله يا طاهو؟ - أقول إنه ينبغي أن تختفي .. أو تفقدي حريتك. - وماذا يهدد حريتي في بيجة؟
فأصر على أسنانه، وسألها بدوره: ألم تفقدي شيئا ثمينا؟
فقالت داهشة: بلا. فقدت فردة صندلي الذهبي الذي أهديتنيه. - كيف؟ - خطفه النسر وأنا أستحم في بركة الحديقة .. ولكني لا أدري أي علاقة توجد بين حريتي المهددة وصندلي المفقود؟ - مهلا يا رادوبيس .. لقد خطفه النسر حقا، ولكن ألا تدرين أين سقط؟
وجدته يتكلم بلهجة العارف، فاستولى عليها العجب وتمتمت قائلة: من أين لي بهذا يا طاهو؟
فتنهد قائلا: سقط في حجر فرعون.
وقرعت هذه الكلمة أذنيها في هالة من دوي هائل، وملأ حواسها جميعا، وأذهلها عن كل شيء، فنظرت إلى طاهو بعينين حائرتين، ولم تستطيع أن تخرج عن صمتها، وكان القائد يتفرس بعينين قلقتين مرتابتين، ويتساءل: ترى ما وقع الخبر في نفسها؟ وما الإحساس الذي يعتلج في صدرها؟ وضاق ذرعا، فسألها بصوت خافت: ألم أكن محقا في طلبي؟
ولكنها لم ترد عليه، ولم يبد عليها أنها كانت تصغي إليه. كانت غارقة في لجج تلتطم في قلبها الحائر، فهاله جمودها، وكبرت عليه حيرتها، ورأى في ذلك آية نفر منها قلبه، فذهب صبره، واستنفره الغضب، فغشى بصره، وصاح بها بصوت أجش شديد: في أي واد تتيهين يا هذه؟ .. ألم يفزعك هذا الخبر الهائل؟
فارتجف جسمها من شدة صوته .. والتهب الغضب بقلبها، وحدجته بنظرة حقد شديدة، ولكنها كظمت ما بنفسها لتحصل منه على ما تريد، وسألته ببرود: أترى أنه كذلك؟ - أرى أنك تتغابين يا رادوبيس. - كم أنك ظالم .. هب أن الصندل سقط في حجر فرعون، فهل تراه قاتلي لذلك؟ - كلا، ولكنه قلب الصندل بين يديه، وتساءل عمن عسى أن تكون صاحبته.
فخفق قلب الغانية بشدة وسألته: وهل وجد الجواب؟
فأظلمت عيناه، وقال بصوت متهدج: كان هناك إنسان يتربص بي، جعلته الأقدار صديقا عدوا وعدوا صديقا، فانتهز الفرصة السانحة، وطعنني طعنة نجلاء، فذكرك عند فرعون ذكرا جميلا مغريا، قدح الرغبة في قلبه، وأهاج الشهوة في صدره. - سوفخاتب؟! - هو بعينه ذاك الصديق العدو، وقد عبث الإغراء بقلب الملك الشاب. - وماذا يريد؟
فعقد طاهو ذراعيه على صدره، وقال بشدة: ليس فرعون بالإنسان الذي يرغب في شيء ويعز عليه، وهو إذا هوى شيئا يعرف كيف يستأثر به.
وساد الصمت مرة أخرى، ووقعت المرأة فريسة عواطف مضطرمة، وجثم الكابوس على صدر الرجل، واشتد به الحنق لصمتها، ولأنها لم تفزع ولم ترتعب، فقال لها بغيظ: ألا ترين أن حريتك مهددة بالأسر؟ حريتك يا رادوبيس التي تحرصين عليها، ولا تفرطين فيها. حريتك التي دمرت قلوبا وأهلكت نفوسا، وجعلت اللوعة والحسرة واليأس أوبئة تفتك بأهل بيجة جميعا، لماذا لا تفزعين إلى الفرار بها؟
واستاءت لوصفه هذا لحريتها، وقالت له بسخط: أتقذفني بهذا الوصف الذي تقشعر منه الأبدان، وكل ذنبي أني لم أستبح نفسي للرياء، وأقول لإنسان كذبا إني أحبه؟ - ولماذا لا تحبين يا رادوبيس؟ لقد أحب طاهو الجندي الجبار الذي خاض غمار الحرب في الجنوب والشمال، وتربى على ظهور العجلات، فلماذا لا تحبين أنت؟!
فابتسمت ابتسامة غامضة، وتساءلت: ترى هل أملك جوابا على سؤالك؟ - لست أبالي هذا الآن، فما لهذا جئت .. أسألك ماذا أنت فاعلة؟
فقالت بهدوء واستسلام عجيب: لست أدري.
فاضطرمت عيناه كجمرتين، والتهمتاها بحنق، وأحس برغبة جنونية في تحطيم رأسها. وحدث أن نظرت إليه فتنفس تنفسا عميقا، وقال: حسبتك أشد حماسا لحريتك. - وما عسى أن أفعل؟
فضرب يدا بيد، وقال: تفرين يا رادوبيس! تفرين قبل أن تحملي إلى قصر الحاكم جارية من الجواري، وتودعين حجرة من حجراته التي لا عداد لها، ثم تعيشين هنالك في وحدة وعبودية، تنتظرين نوبتك مرة كل عام، تعيشين ما بقي من حياتك في جنة حزينة يطوف بها سجن كئيب .. هل خلقت رادوبيس لمثل هذه الحياة؟!
وثارت ثائرتها غضبا لكرامتها وكبريائها. ترى من الممكن أن يكون حظها ونصيبها مثل هذه الحياة البائسة؟
أيقدر لها في النهاية - هي التي يستبق إلى رضاها صفوة الرجال - أن تقاسم الجواري قلب فرعون الشاب، وأن تقنع من الدنيا بحجرة في الحريم الفرعوني؟ أتهوي إلى الظلمات بعد النور، وتتلفع بالهوان بعد العزة، وتقنع بالعبودية بعد السيادة الجبارة الكاملة؟ .. أواه! .. ما أبشع التصور وأغرب الخيال! .. ولكن هل تفر كما يريد طاهو؟ .. أترضى بالفرار؟ رادوبيس المعبودة التي لم يحظ بحسنها وجه، ولم يشحن بسحرها جسم، تفر من العبودية؟ .. فمن إذن التي تطمع في السيادة والاستئثار بالقلوب؟!
ودنا منها خطوة، وقال لها بتوسل: رادوبيس .. ماذا تقولين؟
فعاودها الغضب، وقالت بسخرية: ألا يسوءك أيها القائد أن تغريني بالهرب من وجه مولاك؟
وأصابته سخريتها في صميم قلبه، فترنح من هول الصدمة، وقال بسرعة وقد أحس بمرارة في فمه: لم يرك مولاي بعد يا رادوبيس. أما أنا فمسلوب القلب منذ أمد بعيد. أنا أسير لهوى جامح لا يعرف الرحمة، يوردني موارد الهلاك، ويطؤني بقدم الذل والعذاب، إن صدري أتون من عذاب ملتهب، وقد اشتد لهيبه اندلاعا حين أشفق من فقدك إلى الأبد، فأنا إن أغريتك بالهرب أدافع عن حبي، ولا أخون مولاي المعبود قط.
لم تلق بالا إلى شكواه، ولا إلى دفاعه عن إخلاصه لمولاه، كانت ما تزال تثور لكبريائها؛ ولذلك حين سألها الرجل عما تنوي عمله، هزت رأسها بعنف كأنما تريد أن تنفض عنها الوساوس الحقيرة وقالت بصوت بارد مليء بالثقة: لن أفر يا طاهو.
وسهم الرجل في ذهول ويأس، وسألها: هل رضيت بالهوان وأسلمت للذل؟
فقالت وعلى فمها ابتسامة: لن تذوق رادوبيس الذل أبدا.
فاستشاط غضبا، وقال: آه! لقد فهمت. تحرك شيطانك القديم، شيطان الغرور والكبر والقوة، ذلك الشيطان يحتمي ببرودة قلبك الأبدية، ويلتذ بمشاهدة عذاب الآخرين والتحكم في المصائر، لقد لاح له اسم فرعون فتمرد، وأراد أن يجرب قوته وسطوته، ويمتحن سلطان هذا الجمال اللعين، غير عابئ بما يدوس في سبيله الشيطاني من أشلاء القلوب، وذوب النفوس، وأنقاض الآمال .. آه! .. لماذا لا أقضي على هذا الشر بطعنة من هذا الخنجر؟
فنظرت إليه بعين مطمئنة، وقالت: لم أمنعك شيئا، وطالما حذرتك من الإغراء! - إن هذا الخنجر كفيل بتهدئة نفسي .. كم تكون نهاية طبيعية لرادوبيس؟
فقالت بهدوء: وكم تكون نهاية أسيفة للقائد الوطني طاهو!
فنظر إليها طويلا بعينين جامدتين، وكان يشعر في تلك اللحظة الفاصلة بيأس مميت وقنوط خانق، ولكن غضبه لم ينفجر، وقال بلهفة باردة قاسية: ما أقبحك يا رادوبيس! .. أنت صورة بشعة مشوهة، ومن يحسبك جميلة أعمى لا يبصر. إن صورتك قبيحة لأنها صورة مميتة، ولا جمال بلا حياة، لم تنبض الحياة بصدرك قط، ولم تدفئ قلبك أبدا .. أنت جثة وسيمة القسمات، ولكنها جثة. لم يبد الحنان في عينيك، ولا انفرجت شفتاك عن ألم، ولا خفق قلبك بالعطف. نظرتك جامدة وقلبك قد من حجر .. أنت جثة ملعونة، وينبغي أن أكرهك، وأن أكرهك ما حييت .. وأنا أعلم أنك ستطغين كيف شاء لك شيطانك، ولكنك ستصرعين يوما محطمة النفس، وهذه نهاية كل شر .. لماذا أقتلك إذن .. لماذا أحمل تبعة قتل جثة ميتة؟
نطق طاهو بهذه الكلمات ثم ذهب.
ولبثت رادوبيس تنصت إلى وقع قدميه الثقيلتين، حتى غمرها سكون الليل.
ثم رجعت إلى النافذة. كان الظلام شاملا، والنجوم ساهرة في مأدبتها الأبدية، والسكون مخيما رهيبا، فخالت أنها تستطيع أن تسمع خلجات قلبها الدفينة.
كان ما بها قويا عنيفا بالحرارة والقلق، يقسم إن جسمها جسم نابض بالحياة، لا جثة هامدة.
فرعون
وفتحت عينيها فرأت ظلمة. ترى أما يزال الليل جاثما، وكم ساعة استطاعت أن تخلد فيها إلى السكينة والنوم؟ ولبثت دقائق لا تعي شيئا مطلقا ولا تذكر شيئا، كأنها جهلت الماضي كما تجهل المستقبل، وكأنما ابتلعت شخصيتها ظلمة الليل الحالكة. وأحست هنيهة بذهول وضيق، ثم ألفت عيناها الظلمة فبهتت وخفت وطأتها، واستطاعت أن ترى ضوءا خفيفا يشع من خصائص النوافذ فتبينت أثاث المخدع، ورأت المصباح المدلى المكفت بالذهب، وولج الشعور حواسها، فذكرت أنها ظلت يقظة لا يذوق جفناها نوما حتى غمرها الفجر بموجه الأزرق الهادئ، وأنها ارتمت عند ذاك على السرير، فاختلسها النوم من عواطفها وأفكارها، وعلى ذلك تكون في نهار اليوم الثاني، أو في مسائه.
وذكرت حوادث الليلة الماضية، وعادت إلى مخيلتها صورة طاهو وهو يرغي ويزبد، ويئن من اليأس ويتوعد بالمقت، يا له من رجل عنيف! إنه لرجل جبار شديد الغضب، وحشي الغرام، ولا عيب فيه إلا أن حبه عنيد مثابر، شديد التغلغل. وتمنت صادقة لو ينساها أو يمقتها، إنها لا تجني من الحب سوى المشقة. الكل يتلهف على قلبها، وقلبها زاهد نافر، كحيوان غير أليف. وكم اضطرت إلى خوض مواقف مؤثرة ومآس أليمة وهي كارهة، ولكن المآسي كانت تتبعها كظلها، وتحوم حولها كخواطرها، فلوثت حياتها بالقسوة والآلام.
ثم ذكرت ما قال طاهو عن فرعون الشاب من أنه يرغب في رؤية صاحبة الصندل، وأنه سيدعوها حتما إلى حريمه العامر .. آه! .. إن فرعون شاب ملتهب الدماء، جنوني الشباب. كما قيل لها، فليس عجيبا أن يقول طاهو ما قال، ولا مستحيلا أن تصدق أقواله، ولكن عسى أن تأخذ الحوادث مجرى جديدا، إن ثقتها بنفسها لا حد لها.
وسمعت طرقا على الباب، فقالت بصوت متكاسل: شيث .. ادخلي.
وفتحت الجارية الباب، ودخلت تسير في خفتها المعهودة وهي تقول: حمدا للرب الذي يسر لك النوم بعد طول السهاد. وا رحمتاه لك يا مولاتي! لا بد أن الجوع نال منك كل منال.
وفتحت النافذة، فانبعث منها نور مكلل بسمرة، وقالت ضاحكة: غابت شمس اليوم دون أن تراك، فباءت من زيارتها للأرض بالخسران.
وسألتها رادوبيس وهي تتمطى وتتثاءب: أأتى المساء؟ - نعم يا مولاتي، والآن هل تذهبين إلى الماء المعطر أم تتناولين الطعام؟ .. وا أسفاه أنا أعلم بما سهد جفنيك بالأمس!
فسألتها باهتمام: ما هو يا شيث؟ - أنك لم تدفئي الفراش برجل. - خسئت يا ماكرة.
فقالت الجارية وهي تغمز بعينيها: الرجال عادة مستبدة يا مولاتي، ولولا هذا ما احتملت غرورهم. - حسبك ثرثرة يا شيث.
وشكت من ثقل رأسها، فقالت لها الجارية: هلمي بنا إلى الحمام .. فالعشاق يتقاطرون على بهو الاستقبال، ويؤلمهم أن يروه خاليا منك. - هل جاءوا حقا؟ - وهل خلا بهو استقبالك منهم قط في هذه الساعة؟ - لن أرى منهم أحدا.
فبهتت شيث، ونظرت إلى سيدتها بارتياب، وقالت: خيبت بالأمس آمالهم .. فماذا تقولين اليوم؟ .. آه! لو تعلمين يا مولاتي كم جزعوا لتأخر حضورك. - آذنيهم بأني تعبة.
وترددت الجارية، وهمت بالاعتراض، ولكنها صاحت بها بعنف: اصدعي بما أمرت.
فغادرت المرأة المخدع مرتبكة لا تدري بما غير مولاتها.
وارتاحت الغانية لما فعلت، وقالت إن هذا ليس وقتهم؛ فهي لا تستطيع أن تجمع شتيت أفكارها لتصغي إلى إنسان، ولا أن تحصر خواطرها في حديث فضلا عن أن ترقص أو تغني .. فليذهبوا جميعا .. وخشيت أن تعود شيث بتوسلات القوم، فقامت من السرير وهرولت إلى الحمام.
وتساءلت في وحدتها: ترى هل يرسل فرعون في طلبها هذا المساء؟ آه! أهي لهذا تضطرب وتقلق؟ أهي تخشى؟ كلا .. إن هذا الحسن الذي لم تحظ بمثله امرأة من قبل حقيق بأن يملأها ثقة بنفسها لا حد لها، وإنها لكذلك .. ولن يقاوم جمالها إنسان، ولن يذل حسنها لمخلوق ، ولو كان فرعون نفسه، ولكن لماذا إذن هي مضطربة قلقة؟ لقد عاودها ذاك الشعور الغريب الذي تلبسها مساء الأمس، والذي نبض بقلبها أول ما نبض حين وقع بصرها على الملك الشاب الواقف على ظهر عجلته كالتمثال. يا عجبا! .. أتراها حائرة لأنها حيال لغز غامض؟! واسم جبار هائل؟! ورب معبود؟! أترى أنها تود لو تراه في نشوة البشر بعد أن رأته في جلال الآلهة؟! أتراها قلقة لأنها تريد أن تطمئن إلى قوتها بإزاء هذا الحصن المنيع؟!
وطرقت شيث باب الحمام، وقالت إن السيد عانن أرسل معها كتابا إلى مولاتها، فغضبت الغانية، وقالت بعنف: مزقيه إربا، وخشيت الجارية أن تثير غضب مولاتها عليها، فذهبت تتعثر في الارتباك. وغادرت رادوبيس الحمام إلى مخدعها في أجمل صورة وأكمل هيئة، وتناولت الطعام وشربت كأسا مترعة من خمر مريوط. ولم تكد تطمئن إلى الديوان حتى دخلت عليها شيث مهرولة بلا استئذان، فتلقتها بنظرة تحذير ووعيد، وقالت الجارية في خوف: في البهو رجل غريب يلح في مقابلتك.
فاستولى الغضب على الغانية، وصاحت بها: هل أصابك مس من الجنون يا شيث؟ أتحالفين أولئك القوم المزعجين علي؟!
فقالت الجارية وهي تلهث: صبرا يا مولاتي .. لقد دفعت الزوار جميعا، أما هذا الرجل فغريب لم تره عيناي من قبل .. التقيت به بغتة في الردهة المؤدية إلى البهو، ولا أدري من أين أتى .. وحاولت أن أعترض سبيله، ولكنه سار بغير مبالاة، وأمرني أن أبلغك رجاءه.
فسهمت الغانية إلى الجارية هنيهة، وسألتها باهتمام: هل هو من ضباط الحرس الفرعوني؟ - كلا يا سيدتي .. إنه لا يرتدي زي الضباط .. وقد سألته أن يعلن لي عن شخصيته، فهز منكبيه باستخفاف، فأكدت له أنك لا تقابلين أحدا اليوم .. ولكنه استهان بكلامي، وأمرني أن أوذنك بانتظاره .. أواه يا مولاتي! .. إني أحرص على رضاك، ولكني لم أجد وسيلة إلى دفع هذا الثقيل الجريء.
وتساءلت: أيكون هو رسول الملك؟ وخفق قلبها لهذه الفكرة خفقة شديدة ارتج لها صدرها .. وجرت إلى المرآة، وألقت على صورتها نظرة فاحصة، ثم دارت دورة كاملة على أطراف أصابعها ووجهها ثابت في المرآة، وسألت الجارية: ماذا ترين يا شيث؟
فقالت الجارية، وهي تدهش لتبدل حال مولاتها: أرى رادوبيس يا مولاتي!
وغادرت الغانية المخدع، تاركة جاريتها في دهشتها وحيرتها، وانتقلت كالحمامة من حجرة إلى حجرة، ثم هبطت أدراج السلم المفروشة بفاخر السجاد، وتريثت قليلا عند مدخل البهو .. رأت رجلا يوليها ظهره، ووجهه إلى جدار البهو يطالع شعرا لرامون حتب .. ترى من هو؟ كان في مثل طول طاهو ولكنه أميل إلى النحافة والدقة، عريض المنكبين، جميل الساقين، على ظهره وشاح مرصع بالجواهر يصل ما بين منكبيه ومنطقة وزرته، وعلى رأسه قلنسوة جميلة ذات شكل هرمي لا تشبه قلنسوات الكهنة، ترى من يكون؟ إنه لا يشعر بها لأنها تتقدم بخفة على سجاد غليظ .. ولما صارت منه على قيد خطوات قالت بصوت خفيض: سيدي.
فالتفت الرجل الغريب إليها.
رباه! وجدت نفسها وجها لوجه أمام فرعون؛ فرعون نفسه بعزته وجلاله، مرنرع الثاني دون غيره من الخلق!
رباه! لقد زعزعت المفاجأة كيانها، فأخذت قهرا، وغلبت على أمرها. ترى أهي في حلم من الأحلام! ولكنها تعرف حق المعرفة هذا الوجه الأسمر، والأنف الأشم الطويل. إنها لا يمكن أن تنساه أبدا، لقد رأته مرتين، فنفذ إلى ذاكرتها بقوة، وحفر صفحتها حفرا عميقا لا يزول، ولكنها لم تحسب حساب هذا اللقاء، ولا أخذت أهبتها له، لم ترسم له خطة من خططها الرابعة. وهل كانت رادوبيس تلقى فرعون لقاء ارتجاليا، وهي التي تعد العدة للقاء تجار النوبة؟! أخذت على غرة، فقهرت قهرا! ومنيت بالهزيمة الساحقة، وبادرت تنحني لأول مرة في حياتها، وتقول بصوت متهدج: مولاي.
وكانت عيناه ترسلان نظرة عميقة، فتستقر على وجهها الجميل، وكان يلاحظ ارتباكها واضطرابها بلذة غريبة، ويشاهد السحر الذي تنفثه قسماتها بنشوة فاتنة، فلما حيته قال لها بصوته ذي النبرات الواضحة واللهجة العالية: أتعرفينني؟
فقالت بصوتها العذب الموسيقي: نعم يا مولاي .. هكذا شاء حظي السعيد أمس.
وكان لا يشبع من النظر إلى وجهها. وأخذ يحس بتخدير عام يعتور حواسه وعقله، فلم يعد يأبه لإرادته، واندفع قائلا: إن الملوك قوامون على الناس، يسهرون على أرواحهم، وعلى أموالهم، ولهذا جئت إليك لأرد لك أمانة ثمينة.
ولم يبال الملك أن يدس يده تحت وشاحه، فيخرج فردة الصندل ويقدمها لها وهو يقول: أليس هذا صندلك؟
وتبعت عيناها يد فرعون، وشاهدت فردة الصندل تبرز من تحت وشاحه بعينين مرتاعتين لا تكادان تصدقان مما تريان شيئا، وتمتمت بانفعال شديد: صندلي!
فضحك الملك ضحكة عذبة، وقال وعيناه لا تتحولان عنها: بعينه يا رادوبيس، أليس هذا اسمك؟
فأحنت رأسها، وتمتمت قائلة: نعم يا مولاي. وكانت مضطربة فلم تزد، أما الملك فاستدرك: إنه لصندل جميل، وأعجب ما فيه هذه الصورة المنقوشة على باطنه، وكنت أحسبها زخرفا جميلا حتى وقعت عليك عيناي، فعلمت أنها حقيقة رهيبة، وعلمت حقيقة أجل، وهي أن الجمال كالقضاء يباغت الإنسان بما لا يقع له في حسبان.
فشبكت كفيها، وقالت: مولاي .. ما كنت أحلم قط أن تشرف قصري بذاتك، أما أن تحمل صندلي .. رباه! ماذا أقول؟ .. لقد فقدت جناني. غفرانك يا مولاي! ويحي نسيت نفسي يا مولاي، وتركتك واقفا.
وهرعت إلى عرشها وأشارت إليه، ثم انحنت باحترام، ولكنه اختار ديوانا وثيرا، وجلس عليه، وقال لها: ادني مني يا رادوبيس. اجلسي ها هنا.
فدنت الغانية حتى صارت على بعد قريب، ووقفت تغالب اضطرابها وذهولها، فأجلسها بيده، وأمسك بمعصمها - وكانت أول لمسة - وأجلسها إلى جانبه .. وكان قلبها يخفق بشدة، فوضعت الصندل جانبا، وخفضت عينيها، ونسيت أنها رادوبيس المعبودة، التي تعبث بالقلوب والرجال كيف شاء لها العبث. غلبتها المفاجأة، وهز نفسها الشخص المعبود، كأنه ضوء متوهج سلط على عينيها بغتة، فانكمشت كعذراء تتصدى لرجلها أول مرة .. إلا أن جمالها الرائع خاض المعركة - بغير علم منها - ثابت الجنان، عظيم الثقة، وسلط شعاعه السحري على عيني الملك الداهشتين كما تسلط الشمس شعاعها الفضي على نائم النبت، فيصحو ويرف رفيفا فاتنا. كان جمال رادوبيس قاهرا نفاذا، يحرق من يدنو منه، ويبعث في نفسه الجنون، ويملأ صدره برغبة لا تروى ولا تشبع.
كانا في تلك الليلة الخالدة - رادوبيس المتعثرة في ارتباكها والملك التائه في الحسن - أحوج بشرين إلى رحمة الآلهة.
وأحب الملك أن يسمع صوتها فسألها: كيف لا تسألينني عن وقوع صندلك بين يدي؟
فساورها القلق، وقالت: نسيت أمورا أجل يا مولاي.
فابتسم وسألها: كيف ضاع منك؟
وهدأت رقة صوته من انفعالها، فقالت: خطفه النسر وأنا أستحم.
وتنهد الملك ورفع رأسه كأنه ينظر إلى تهاويل السقف، وأغمض عينيه يتخيل ذلك المنظر الفاتن؛ إذ رادوبيس تلعب في الماء بجسمها العاري، والنسر يهوي من عل فيخطف صندلها. وسمعت الغانية رفيف أنفاسه، وأحست بها تلفح خدها، وعاد إلى النظر إلى وجهها، وقال بوجد: خطفه النسر وطار به إلي. يا للقصة الفاتنة! ولكني أتساءل منكرا: أكنت أحرم من رؤيتك لو لم يقيض إلي الرب هذا النسر الكريم؟ .. يا له من فرض محزن! ومع هذا فإني أحس في أعماقي بأنه كبر على النسر ألا أعرفك وأنت على قيد ذراع مني، فرماني بالصندل لأنتبه من غفلتي.
فقالت كالداهشة: هل رمى النسر بالصندل بين يديك يا مولاي؟ - نعم يا رادوبيس .. هذه هي القصة الفاتنة. - يا لها من مصادفة كالسحر! - أتقولين مصادفة يا رادوبيس .. وما المصادفة؟ .. إنها قضاء مقنع!
فتنهدت وقالت: صدقت يا مولاي .. إنها كالعاقل المتغابي. - سأعلن رغبتي على الملأ ألا يعرض إنسان من شعبي للنسر بسوء!
فابتسمت ابتسامة سعيدة فاتنة، ومضت في ثغرها كتعويذة سحرية. وأحس الملك بهيام يملك قلبه، ولم يكن من عادته أن يقاوم عاطفة فاستسلم في وجد بين، وقال وهو يتنهد: إنه هو المخلوق الوحيد الذي أدين له بأثمن ما في حياتي .. رادوبيس! كم أنت جميلة! هذا حسن يزري بأحلامي جميعا.
وسرت المرأة لقوله، كأنها تسمعه لأول مرة في حياتها، فرنت إليه بنظرة صافية حلوة زادته هياما، فقال وكأنه يضرع ويشكو: كأن سوطا تشتعل به النيران يلهب قلبي.
ثم أدنى وجهه من وجهها المشرق، وهمس: رادوبيس .. أريد أن أنغمر في أنفاسك.
فبسطت له وجهها، وأسبلت جفنيها. وجعل يهوي بوجهه حتى مس أنفه أنفها الرقيق، وداعب أهدابها الطويلة بأنامله ، وسها إلى عينيها السوداوين حتى صارت الدنيا ظلاما، وأذهله الهوى، فاستولى عليه تخدير ساحر، حتى تنبه على تنهدها العميق، فاعتدل قليلا، وهمس في أذنها قائلا: رادوبيس! إني أقرأ أحيانا مصيري، سيكون الجنون منذ الساعة شعاري.
وأسندت رأسها إلى كفها إعياء، وكان قلبها يخفق، فجلسا ساعة صامتين يسعد كلاهما بحديث نفسه، وما يحادث - وهو لا يدري - إلا صاحبه، وعلى حين فجأة قامت رادوبيس واقفة، وقالت له: هلا اتبعتني يا مولاي لتشاهد قصري؟
كانت دعوة سعيدة .. ولكنها ذكرته بأمور كاد أن ينساها، فوجد نفسه مضطرا إلى الاعتذار .. وما يضيره لو أجل اللقاء ساعة. والقصر وما فيه ملك يمينه .. فقال بأسف: ليس الليلة يا رادوبيس.
ونظرت إليه بإنكار، وسألته: ولم يا مولاي؟ - هناك قوم ينتظرونني منذ ساعات في القصر. - أي قوم يا مولاي؟
فضحك الملك، وقال باستهانة: كان ينبغي أن أكون مجتمعا برئيس الوزراء الآن، والحق يا رادوبيس أنني منذ حادثة النسر فريسة للعمل الشاق، وكنت أبيت نية زيارة قصرك، ولكن لا أجد فرصة مؤاتية، ولما رأيت هذا المساء يكاد يلحق بالذي سبقه، أجلت اجتماعا هاما ريثما أشاهد صاحبة الصندل الذهبي.
واستولت الدهشة على رادوبيس، وتمتمت قائلة: «مولاي.» وكانت تعجب من استهتاره الذي دفعه إلى تأجيل اجتماع هام من الاجتماعات التي تبرم فيها مصائر المملكة، لكي يشاهد امرأة شغل قلبه بها ساعة .. ووجدت عمله جميلا ساحرا لا نظير له بين أعماق العشاق ولا شعر الشعراء.
أما الملك فقام بدوره وقال لها: أنا ذاهب الآن يا رادوبيس .. واها! .. إن القصر خانق .. إنه سجن مسور بالتقاليد، ولكنني أمرق منها مروق السهم .. سأترك الآن وجها حبيبا لألقى وجها بغيضا، فهل رأيت أغرب من هذا؟ .. إلى الغد يا رادوبيس الحبيبة، بل إلى الأبد.
نطق بهذه الكلمات ثم ذهب بروعته، وشبابه، وجنونه.
الحب
ارتد بصرها عن الباب الذي غيبه، فقالت وهي تتنهد: «ذهب.» ولكنه في الحقيقة لم يذهب، لو كان ذهب حقا لما استولى عليها ذلك التخدير الغريب الذي جعلها بين النوم واليقظة، تذكر وتحلم، والصور تمر أمام مخيلتها في تزاحم وتسابق وجنون.
حق لها أن تسعد؛ لأنها بلغت منتهى المجد، وتسنمت ذروة البهاء، وتذوقت من آي العظمة ما لم تحلم به امرأة على الأرض. زارها فرعون بذاته المعبودة وسحرته بأنفاسها الزكية، وصاح بين يديها أن سوطا من اللهب يلهب قلبه الفتي، فتوجت بهيامه ملكة على عرشي المجد والجمال. وحق لها أن تسعد .. على أنها كانت تسعد سعادة المجد! ومال رأسها قليلا، فوقع بصرها على فردة الصندل فخفق قلبها وأدنت رأسها حتى مست شفتاها فارسه.
ولم تنفرد بأحلامها طويلا إذ دخلت شيث، وقالت: مولاتي .. أتنوين أن تنامي هنا؟
ولم ترد عليها .. وحملت الصندل، وقامت في كسل وسارت تتهادى صوب مخدعها. وتشجعت شيث بسكوتها، فقالت بلهجة حزينة: «وا أسفاه يا مولاتي! .. إن هذا البهو الجميل الذي ألف الطرب واللهو، يقفر الليلة لأول مرة من السمار والعشاق .. ولعله يتحير مثلي سائلا: أين الغناء؟ أين الرقص؟ أين الحب .. هي مشيئتك يا مولاتي.»
ولم تبالها الغانية، وصعدت أدراج السلم في صمت وسكون، فظنت شيث أن حديثها ظفر باهتمام سيدتها، فقالت بحماس: لشد ما وجموا وأسفوا لما آذنتهم باعتذارك .. وتبادلوا نظرات الحسرة والحزن العميق، وتراجعوا في ثقل يسحبون وراءهم ذيول اليأس.
ولازمت المرأة الصمت، ودخلت إلى مخدعها الجميل، وهرعت إلى مرآتها وألقت نظرة على صورتها، ثم ابتسمت بارتياح وغبطة وقالت لنفسها: «إذا كان ما حدث الليلة معجزة، فهذه الصورة معجزة أيضا.» وغمرتها نشوة سعادة، فالتفتت إلى شيث وسألتها: من حسبت الرجل الذي جاء لمقابلتي؟ - من هو يا مولاتي؟ إنني لم أره قبل اليوم. هو شاب غريب، ولكن لا جدال أنه من النبلاء، مليح رهيب جسور، يندفع كالريح مجلجلا، ولقدميه وقع شديد، ولصوته لهجة الآمر، ولولا خوفي لقلت: إنه لا يخلو من ... - من ماذا؟ - من جنون. - حذار. - مولاتي .. مهما يكن ثراؤه فلا يمكن أن يرجح العشاق جميعا الذين طردتهم اليوم. - حاذري أن تندمي حيث لا ينفع الندم.
فقالت شيث داهشة: هل يفوق غناه القائد طاهو أو الحاكم آني؟
فقالت بزهو: إنه فرعون يا حمقاء .
وحملقت المرأة في وجه مولاتها، وتدلت شفتها السفلى، ولم تنطق.
فقالت الغانية ضاحكة: هو فرعون يا شيث .. فرعون؛ فرعون بذاته دون سواه، إياك والثرثرة .. اذهبي الآن، واغربي عن وجهي؛ فإني أريد أن أخلو بنفسي.
وأغلقت الباب ودلفت إلى النافذة المطلة على الحديقة، وكان الليل جثم في مجثمه وأرخى على الكون جناحيه، وبدت طلائع النجوم في كبد السماء، وأنوار المصابيح المعلقة بأغصان الأشجار في الحديقة، وتبدى الليل فاتنا، فتذوقت جماله وأحست لأول مرة بأن انفرادها فيه عذب بل أعذب من اجتماعها بالعشاق جميعا .. وأصغت في سكونه إلى ذات نفسها وهمسات قلبها .. وبعثت الذكريات الذكريات، فرجع خيالها إلى عهد منطو بعيد، خفق فيه قلبها خفقة طائشة، قبل أن تتوج ملكة للقلوب على عرش بيجة، وتغدو للأنفس قضاء لا يرد. كانت ريفية حسناء، برزت من بين أوراق الريف المخضلة، كما تبرز الوردة اليانعة، وكان نوتيا عذب الصوت نحاسي الساقين، ولا تذكر أنها سلمت لإنسان بداعي قلبها سواه، وشهدت شواطئ بيجة مشهدا لم تسعد بمثله في الأرض. ودعاها إلى سفينه فلبت دعاءه، وحملتها الأمواج من بيجة إلى أقصى الجنوب، وانقطعت من يومها صلاتها بالريف وأهلها جميعا. واختفى النوتي من حياتها فجأة، ولم تدر إن كان ضل، أو فر، أو مات، ووجدت نفسها وحيدة. كلا لم تكن وحيدة، كان معها جمالها فلم تتشرد، والتقطها كهل ذو لحية طويلة، وقلب ضعيف. وطابت لها الحياة وأثرت بموته، وتوهج نورها فخطف الأبصار، فانجذبوا إليها كالفراش المجنون، وألقوا تحت قدميها الصغيرتين قلوبا فتية، وأموالا لا تعد، وبايعوها ملكة للقلوب في قصر بيجة، فكانت رادوبيس .. يا للذكريات!
كيف مات قلبها بعد ذلك؟ هل أماته الحزن، أم الغرور، أم المجد؟ .. كانت تصغي إلى حديث الحب بأذن صماء، وقلب مغلق، فكان منتهى ما يطمع فيه عاشق مدله مثل طاهو أن تهبه جسدها البارد.
استسلمت للذكريات طويلا، وكأنما استدعتها لتربطها بأعجب أيام حياتها، وأسعد أيامها!
ومضى الوقت وهي لا تحس به إن كانت ساعات أم دقائق، حتى انتبهت على وقع أقدام، فالتفتت منزعجة ، فرأت بابها يفتح، ودخلت شيث لاهثة وقالت: مولاتي .. إنه يتبعني .. ها هو ذا.
ورأت يدخل مطمئنا كأنه يدخل مخدعه الخاص، فغمرتها دهشة ممزوجة بفرح وصاحت: مولاي.
وانسلت شيث خارجا، وأغلقت الباب، وألقى الملك نظرة على المخدع الجميل، وقال ضاحكا: هل أطلب المغفرة لتهجمي هذا؟
فابتسمت ابتسامة سعيدة، وقالت: المخدع وصاحبته لك يا مولاي.
فضحك ضحكته الفاتنة. كانت ضحكة رنانة فتية تنبض بالحياة الدافقة، وأمسك بمرفقها، وسار بها إلى الديوان وأجلسها، وجلس إلى جانبها، وقال: كنت أخشى أن يسبقني النوم إليك. - النوم .. النوم لا يهتدي إلى أمثال هذه الليلة، يحسبها من فرط نور السعادة نهارا.
فتبدى الجد على وجهه وقال: إذن احترقنا معا.
لم تحس بهذه السعادة من قبل، ولم تعهد قلبها في مثل هذه اليقظة والحياة، ولم تشعر بلذة الاستسلام إلا أمام هذا الإنسان البديع، فقد صدق، إنها تحترق، ولكنها لم تقل شيئا، وقنعت بأن رفعت إليه عينين ناطقتين يجري فيهما الصفاء والمودة .. ثم قالت: لم يدر بخلدي أنك تعود هذه الليلة. - ولا دار لي بخلد، ولكنني رأيت الاجتماع ثقيلا مرهقا، وأعياني تركيز فكري، واستخفني الجزع، وعرض علي الرجل مراسيم كثيرة، فأمضيت عددا يسيرا، وأصغيت إليه بعقل مشتت، ثم ضقت بكل شيء ذرعا، فقلت له إلى الغد، ولم أكن أفكر في العودة، ولكني رغبت في أن أخلو بنفسي للحديث والمناجاة .. فلما خلوت إلى نفسي وجدت الوحدة ثقيلة، والليل موحشا لا يحتمل. هنالك لمت نفسي قائلا: لماذا أصبر إلى الغد؟ .. وليس من عادتي أن أقاوم عاطفة، فما عتمت أن وجدتني ها هنا بين يديك.
يا لها من عادة سعيدة .. إنها تجني أشهى ثمارها، وتحس جواره بفرح عجيب، وكان يضطرب حياة ونشوة، وقال: رادوبيس .. ما أجمل هذا الاسم! فإن له وقع الموسيقى في أذني ومعنى الحب في قلبي. وهذا الحب شيء عجيب، كيف يصرع رجلا تعمر لياليه الحسان من كل لون وطعم؟ .. إنه حقا عجيب، ترى ما هو هذا الحب؟ إنه قلق معذب يسكن في قلبي، وأنشودة إلهية ترتل في أسمى مكان من روحي. إنه حنين موجع، إنه أنت. أنت حالة في كل آية من آيات الدنيا والنفس، انظري إلى هيكلي هذا الشديد، إنه يشعر بالحاجة إليك شعور الغريق بالحاجة إلى التنفس والهواء.
إنها تبادله هذا الشعور، وتحس بصدقه؛ فقد تكلم ليصف قلبا، فوصف قلبين، إنها تسمع مثله الأنشودة الإلهية، وتشاهد صورته في آيات الدنيا والنفس، وكان جفناها يثقلان بالأحلام والنشوة، فما عتم أن تماست أهدابهما، فسألها برقة: لماذا لا تتكلمين يا رادوبيس؟
وفتحت عينيها الجميلتين، ونظرت إليه بوجد وحنان، وقالت: ما حاجتي إلى الكلام يا مولاي؟ فطالما كان الكلام يتدفق على لساني، وقلبي ميت، أما الآن، فقلبي يبعث حيا، ويمتص كلامك كما تمتص الأرض حرارة الشمس، وتحيا بها.
فابتسم إليها سعيدا، وقال: اختطفني هذا الحب من وسط دنيا عامرة بالنساء.
فقالت وهي تبادله الابتسام: واختطفني من وسط دنيا عامرة بالرجال. - كنت أتخبط في دنياي كالحائر، وأنت مني على بعد ذراع، وا أسفاه! .. كان ينبغي أن أعرفك من أعوام. - كان كلانا ينتظر النسر ليسفر بيننا.
فشد على قبضة يده بحماس، وقال: نعم يا رادوبيس، كانت الأقدار تنتظر ظهور النسر بأفقنا لتسطر في لوحها أجمل قصة حب، وما أشك في أنه كبر على النسر أن يؤخر حبنا لأجل بعيد، وما ينبغي لنا بعد اليوم أن نفترق؛ فأجمل ما في الدنيا أن نرى معا.
فتنهدت من أعماق قلبها، وقالت: نعم يا مولاي، فلا ينبغي أن نفترق بعد اليوم، وهاك صدري حقلا ناضرا ارتع فيه أنى شئت.
فبسط كفها بين يديه، وضغط عليها بحنو، وقال: تعالي إلي يا رادوبيس، ليغلق هذا القصر على الماضي الغادر؛ فإني أحس بأن كل يوم ضاع من حياتي قبل أن أعرفك طعنة غادرة صوبت إلى سعادتي.
كانت كالمخمورة، ولكن ساورها القلق، فسألته: أيريدني مولاي على أن أنتقل إلى حريمه؟
فهز رأسه قائلا: ستنزلين بأعز مكان به.
فخفضت عينيها ووجمت، ولم تدر ما تقول فأنكر سكوتها، ووضع أنامل يمناه تحت ذقنها الصغير، ورفع وجهها إليه وسألها: ما لك؟
فسألته بعد تردد : أأمر هو يا مولاي؟
فانقبض صدره لذكر الأمر، وقال: أمر؟ .. كلا يا رادوبيس، إن لغة الأمر لا تجدي مع الحب، وإني ما تمنيت قبل اليوم لو أجرد من شخصيتي! .. وأعود واحدا من البشر يشق طريقه بلا عون، ويلقى حظه بغير محاباة، انسي فرعون مليا، وأخبريني ألا ترغبين في اللحاق بي؟
وخشيت أن يسيء فهم وجومها وترددها، فقالت بلهجة صادقة: أرغب فيك يا مولاي رغبتي في الحياة، بل الحقيقة أجمل من هذا. الحقيقة أني لم أحب الحياة حبا صادقا إلا منذ أحببتك، وأن قيمتها في نظري أنها تشعرني بحبك، وتسعد حواسي بوجودك، أليس للمحبين غريزة تصدقهم القول؟ .. سلها عن قلب رادوبيس يا مولاي تعد على أذنيك ما جرى على لساني، ولكني أتساءل حيرى: لماذا أهجر هذا القصر، ولماذا أغلق أبوابه إلى الأبد؟ .. إنه أنا بالذات يا مولاي، فينبغي أن تحبه كما تحبني. لا يوجد فيه موضع يخلو من أثر لي، إما صورتي أو اسمي أو تمثال لي. كيف لي بهجره وقد هبط فيه النسر الذي طار إليك برسالة الحب الخالدة؟ .. كيف لي بهجره وقد خفق قلبي فيه بالحب لأول مرة؟ .. كيف لي بهجره يا مولاي وقد زرتني فيه بذاتك العالية؟ .. حري بأي مكان تطؤه قدماك أن يصير - كقلبي - لك وحدك، ولا يغلق أبوابه أبدا.
كان يصغي إليه بحواسه المرهفة، وقلبه المشبوب الجامح، فتؤمن نفسه بكل كلمة من كلماتها. ثم لمس بحنو جدائل شعرها الفاحم، واحتواها بين ذراعيه، وطبع على شفتيها قبلة رطبت شفتيه برحيق عذب، وقال لها: رادوبيس .. أيتها الحب الممتزج بروحي .. لن يغلق هذا القصر أبوابه ولن تظلم حجراته، سيبقى ما بقينا مهدا للحب، وجنة للهوى، وحديقة ناضرة تغرس فيها بذور الذكريات، سأجعل منه محرابا للحب، وأصير أرضه وجدرانه ذهبا مصفى.
فأشرق وجهها بابتسامة سعيدة، وقالت تناجيه: لتكن مشيئتك يا مولاي، وإني أقسم بحبي لأذهبن الغداة إلى معبد الرب سوتيس، وأغسل جسدي بالزيت المقدس، لأرحض نفسي من الماضي الشقي، وأعود إلى المحراب بقلب طاهر جديد، بزهرة تشق الأكمام وتتصدى لشعاع الشمس.
فوضع يدها على قلبه، ونظر إلى عينيها وقال: رادوبيس أنا اليوم سعيد، وأشهد الدنيا والآلهة على سعادتي، حياتي وحسبي بها من حياة .. انظري إلي؛ فسواد عينيك أشهى لقلبي من نور الدنيا.
في تلك الليلة نامت جزيرة بيجة، وسهر الحب بقصرها الأبيض، حتى انحسر في ظلمة الليل الحالكة عن زرقة الفجر الحالمة.
ظل الحب
استيقظت في الضحى، وكان الجو حارا، والشمس ترسل أشعتها المتوهجة، فتبث في الدنيا نورا ونارا، وكان قميصها الرقيق يلتصق بجسدها اللدن، وشعرها مبعثرا، منه خصلات نائمة على صدرها، وخصلات ملقاة على الوسادة.
طوبى ليقظة تهيج في القلب أجمل الذكريات .. كان قلبها مرتعا للغبطة، والجو من حولها معطرا بأريج الأزهار، والدنيا تبسم عن السعادة والأفراح، فأحست لتجدد مشاعرها كأنما تكشف عالما جديدا جميلا، أو كأنها تبعث خلقا جديدا.
ومالت في نومتها إلى جانبها، ولاحت منها نظرة إلى الوسادة، فرأت آثار رأسه عليها واضحة، فاستل من عينيها منتهى العطف والحنان، وأدنت رأسها منه ولثمته، وقد تمتمت بفرح: ما أجمل كل شيء! .. وما أسعدني بكل شيء!
ثم جلست في فراشها هنيهة وغادرته - كما كانت تغادره كل صباح - نشطة مرحة كملحة بارعة في نفس عامرة بالفكاهة، واستحمت بالماء البارد، وتعطرت بماء الزهر، وارتدت ثيابها المبخرة ثم عادت إلى مائدة الطعام، وتناولت إفطارها المكون من بيض وفطير، وشربت كوبا من اللبن الحليب، وكأسا من الجعة.
واستقلت سفينتها إلى آبو، وقصدت إلى معبد الرب سوتيس، وولجت بابه العظيم بقلب خاشع، ونفس مفعمة بالرجاء والأمل، وطافت بأرجائه، وتبركت بجدرانه وعمده ذات النقوش المقدسة، وأودعت صندوق النذور ما جادت به يداها، وزارت حجرة الكاهنة الكبرى، وسألتها أن تغسلها بالزيت المقدس لتطهرها من شوائب الحياة وأحزانها، وترحض قلبها من الغي والعمى. وقد أحست وهي بين يدي الكاهنات المطهرات، أنها تودع، بلا رحمة، قبر الفناء؛ جسد رادوبيس الغانية اللعوب، التي كانت تعبث بالرجال وتهلك النفوس، وترقص على أشلاء الضحايا، وذوب القلوب، وأن دما جديدا يجري في عروقها، فينبض في قلبها وحواسها الطمأنينة، والسعادة، والطهر، ثم صلت صلاة حارة، جاثية على ركبتيها مغرورقة العينين، وضرعت في الختام إلى الرب أن يبارك حبها وحياتها الجديدة. وعادت إلى قصرها من فرط سعادتها كأنها طائر يرف بجناحيه في سماء صافية، واستقبلتها شيث فرحة متهللة، تكاد تطير من الفرح، وقالت: مبارك هذا اليوم السعيد يا مولاتي. ألا تعلمين من أتى قصرك في غيبتك؟
فخفق قلبها باضطراب فرح، وصاحت: من؟
فقالت الجارية: أتى رجال من أمهر الصناع بمصر مبعوثين من قبل فرعون، فشاهدوا الحجرات والأرواق والردهات، وقاسوا ارتفاع النوافذ والجدران تمهيدا لصنع أثاث جديد. - حقا؟ - نعم يا مولاتي، وسيغدو هذا القصر عما قليل أعجوبة الزمان، فيا لها من صفقة رابحة! ..
وتحيرت رادوبيس فيما تعنيه المرأة، ثم خطر لها خاطر، فقطبت جبينها وسألتها: أي صفقة تعنين يا شيث؟
فغمزت المرأة بعينيها، وقالت: صفقة الغرام الجديد، وحق الأرباب إن مولاي ليزن أمة من الأغنياء، ولن آسف بعد اليوم على ضياع تجار منف وقواد الجنوب.
وغضبت رادوبيس حتى تخضب وجهها بالاحمرار، وصاحت بها: خسئت يا امرأة .. أنا لا أتجر الآن. - ويل لي .. لو كانت لدي شجاعة يا مولاتي لسألتك عما تفعلين إذن.
فتنهدت رادوبيس وقالت: أمسكي عن هذرك، ألا ترين أني أجد في الأمر جدا؟
فحملقت الجارية في وجه مولاتها الجميل، وصمتت دقيقة ثم قالت: باركتك الآلهة يا مولاتي .. إني حائرة وأسائل نفسي: لماذا تجد مولاتي جدا؟
فتنهدت رادوبيس مرة أخرى، واستقلت على الديوان الوثير، وقالت بصوت خافت: أحببت يا شيث.
فضربت الجارية على صدرها بيدها، وقالت بفزع ودهشة: أحببت يا مولاتي؟! - نعم أحببت، ما لك تدهشين؟ - معذرة يا مولاتي، هذا زائر جديد لم أسمع باسمه يجري لك على لسان من قبل .. فكيف جاء؟
فابتسمت رادوبيس وقالت كالحالمة: ما الداعي إلى العجب؟ امرأة تحب، يا لها من حقيقة مبتذلة!
فأشارت المرأة إلى قلب مولاتها، وقالت: أما هنا فلا، عهدي به حصنا منيعا، فكيف أخذ .. ألا بالله قولي لي.
وبدت في عينيها الأحلام، وبعثت الذكرى في نفسها شعورا فياضا، فقالت بصوت كالهمس: أحببت يا شيث، والحب شيء عجيب، في أي دقيقة من الزمان طرق الحب قلبي؟ كيف تسلل إلى أعماق نفسي؟ لا علم لي بذلك، وإنه ليحيرني حيرة شديدة، ولكني عرفت الحقيقة بقلبي، لقد خفق بشدة وعنف، خفق لرؤية وجهه، وخفق لسماع صوته، وما كان عهدي به أن يخفق لشيء من هذا، فوسوس لي صوت خفي، بأن هذا الرجل صاحب هذا القلب دون منازع، فغمرني إحساس قوي عنيف عذب أليم، وشعرت شعورا وثابا بأنه ينبغي أن يكون لي كقلبي، وأن أكون له كنفسه، ولم أعد أتصور أن تطيب حياة، ويلذ وجود بغير هذا الامتزاج.
فقالت شيث لاهثة: يا للحيرة يا مولاتي! - نعم يا شيث. طالما تمتعت بالحرية المطلقة، كنت أتخذ مجلسي على ربوة عالية وأسرح ناظري في عالم واسع غريب، وأسامر عشرات الرجال، وأتذوق متع الأحاديث، وأتملى آيات الفن، وألهو بالمجون والغناء، ولكن كان يرين على صدري سأم لا شفاء له، وتغشى نفسي وحشة لا طمأنينة معها. الآن يا شيث ضاقت آمالي، وانحصرت في رجل واحد هو مولاي، وهو دنياي، ولكن دبت حياة دافقة طردت من طريق حياتي السأم والوحشة، وأفاضت عليه نورا وبهجة، فقدت نفسي في الدنيا الواسعة، ووجدتها في رجلي الحبيب .. أرأيت ما هو الحب يا شيث؟
فهزت الجارية رأسها في حيرة، وقالت: يا له من أمر عجيب كما تقولين يا مولاتي! .. ولعله أعذب من الحياة نفسها! وإني أسائل نفسي عما أحس به من الحب، إن الحب كالجوع، والرجل كالطعام .. وإني أحب من الرجال قدر ما أحب من الأطعمة دون حيرة .. وحسبي هذا.
فضحكت رادوبيس ضحكة رقيقة كرنين الوتر، ثم قامت واقفة، وذهبت إلى شرفة تطل على الحديقة، وأمرت شيث أن تأتي لها بقيثارة، فأحست برغبة إلى اللعب بالأوتار والغناء، كيف لا والدنيا جميعا تنشد لحنا بهيجا؟
وغابت شيث برهة، ثم عادت حاملة القيثارة، وأسلمتها بين يدي مولاتها، وهي تقول: هل يزعجك أن تؤجلي اللهو إلى حين؟
فسألتها ببساطة وهي تتناول القيثارة: ولمه؟
طلب إلي أحد العبيد أن أخبرك بأن إنسانا يطلب الإذن بمقابلتك .
فلاح الاستياء على وجهها، وسألتها بجفاء: ألا يعرف من هو؟ - يقول إنه .. يزعم أنه مرسل من قبل الرسام هنفر.
وتذكرت ما قاله لها الرسام هنفر أول أمس عن تلميذ أنابه عن نفسه لزخرفة الحجرة الصيفية، فقالت لشيث: إيتي به إلي.
وأحست بمضايقة واستياء، وأمسكت القيثارة بحدة، ولعبت أناملها بالأوتار في خفة وغضب، لعبا لا وحدة بين أجزائه.
وعادت شيث يسير على أثرها شاب حديث العمر، وقد أحنى رأسه في إجلال، وقال بصوت رقيق: أسعد الرب يومك يا سيدتي.
فوضعت القيثارة جانبا ونظرت إليه من خلال أهدابها الطويلة، كان غلاما معتدل القامة، نحيف القد، أسمر الوجه، حسن القسمات، واسع العينين إلى درجة تلفت النظر، تلوح فيهما آي الصفاء والسذاجة، فأخذتها حداثة سنه، وصفاء عينيه، وتساءلت متعجبة: هل يستطيع حقا أن يتم عمل المثال العظيم هنفر؟ وقد أحست بارتياح إلى رؤيته، أذهب عنها موجة الاستياء التي اجتاحتها، وسألته: أأنت تلميذ المثال هنفر الذي اختارك لزخرفة الحجرة الصيفية؟
فقال الشاب بارتباك ظاهر، وكان بصره يتردد بين وجه رادوبيس وأرض الشرفة: نعم يا سيدتي. - حسن، وما اسمك؟ - بنامون .. بنامون بن بسار. - بنامون .. كم تبلغ من العمر يا بنامون، فإني أراك صغيرا؟
فتورد خداه وقال: أبلغ الثامنة عشرة في مسرى القادم. - أراك تبالغ في التقدير.
فقال الشاب بإخلاص: كلا يا سيدتي، إن ما أقول هو الحق. - يا لك من طفل يا بنامون!
واختلجت عيناه الواسعتان العسليتان قلقا، وكأنه خشي أن تعرض عنه لحداثة سنه. وقرأت مخاوفه، فقالت مبتسمة: لا تقلق؛ فإني أعلم أن هبة المثال في يده لا في عمره.
فقال بحماس: لقد شهد لي أستاذي الفنان الكبير هنفر. - هل سبق أن قمت بعمل هام؟ - نعم يا سيدتي، زخرفت جانبا من الحجرة الصيفية بقصر السيد آني حاكم بيجة.
فقالت: أنت طفل نابغ يا بنامون.
فتورد خداه، ولمعت عيناه بنور الفرح، وغمرته سعادة دافقة، ونادت رادوبيس شيث، وأرتها أن تذهب به إلى الحجرة الصيفية .. وتردد الشاب قليلا قبل أن يتبع الجارية، وقال: ينبغي أن تفرغي لي كل يوم .. في أي وقت تشائين.
فقالت: لقد ألفت نفسي أمثال هذه الواجبات .. هل تنحت لي صورة كاملة؟ - أو نصفية، وربما اكتفيت بتصوير الوجه، وعلى أية حال هذا يتبع الصورة العامة للزخرف.
قال ذلك، وأحنى رأسه، وسار على أثر شيث، وذكرت المرأة المثال هنفر، وقالت لنفسها في سخرية: هل كان يدور له بخلد، أن القصر الذي سألها أن تفتحه لتلميذه سيحرم عليه هو دخوله؟ ..
وأحست بارتياح إلى الأثر الذي تركه الشاب الساذج في نفسها، ولعله أثار في قلبها عاطفة جديدة لم تدب بها الحياة من قبل، هي عاطفة الأمومة .. وسرعان ما أشفقت عليه من عينيها وسحرهما الذي لم ينج منه إنسان، ودعت الرب مخلصة أن يحفظ له طمأنينته وصفاءه، ويجعله بمنجاة من دواعي الألم واليأس.
بنامون
وبرا بوعدها قصدت لدى ضحى اليوم الثاني إلى الحجرة الصيفية بالحديقة، ووجدت بنامون جالسا إلى منضدة، باسطا على سطحها ورقة من البردي، يرسم عليها أشكالا مختلفة ويبدو عليه آي الانهماك والتفكير. ولما أحس بوجودها، وضع قلمه وقام واقفا وأحنى رأسه لها، فحيته بابتسامة وقالت: سأجعل لك هذه الساعة من الصباح، فهي التي أملكها من يومي الطويل.
فقال الشاب بصوته الخافت الخجول: شكرا يا سيدتي، ولكننا لن نبدأ اليوم؛ لأنني ما أزال أضع الفكرة العامة للزخرف.
فقالت: آه! لقد غررت بي يا غلام. - حاشاي يا سيدتي .. بل عنت لي فكرة رائعة.
فنظرت إلى عينيه الواسعتين الصافيتين بسخرية، وقالت: ترى هل يستطيع حقا هذا الرأس الصغير، أن يبدع فكرة رائعة؟
فتخضب وجهه بالاحمرار، وقال بارتباك وهو يشير إلى الجدار الأيمن: سأملأ هذا الفراغ بصورة وجهك وعنقك. - يا للهول! .. أخشى أن يأتي بشعا مخيفا. - سيبدو جميلا كما هو.
نطق الشاب بهذه العبارة ببساطة وسذاجة، فحدجته بنظرة فاحصة، فسارع الارتباك إليه، وتحيرت عيناه الصافيتان، وأشفقت عليه فنظرت إلى الأمام حتى استقر بصرها على البركة خلل الباب الشرقي للحجرة .. يا له من شاب رقيق كالعذراء الساذجة! إنه يهيج في صدرها حنانا غريبا، ويوقظ الأمومة النائمة في سراديب نفسها، والتفتت إليه، فرأته منكبا على عمله، ولكنه لم يكن متفرغا له، وآية ذلك أنه كان ظاهر الارتباك مورد الخدين، أليس ينبغي أن تتركه وتذهب إلى حال سبيلها؟ ولكنها أحست برغبة في التحدث معه، فأطاعت رغبتها وسألته: أمن أهل الجنوب أنت؟
فرفع الشاب رأسه، وقد اكتسى وجهه بنور فرح بهيج، وقال: أنا من أمبوس يا سيدتي. - أمبوس؟ .. أنت من شمال الجنوب إذن، ولكن ما الذي جمع بينك وبين المثال هنفر وهو من أهل بيلاق؟ - كان والدي من أصدقاء المثال هنفر، ولما رأى تعلقي بالفن أرسلني إليه ووصاه بي. - وهل والدك من طائفة الفنانين؟
فصمت الشاب هنيهة، ثم قال: كلا .. كان والدي كبير أطباء أمبوس، وكان نابغة في الكيمياء والتحنيط، وقد تعددت اكتشافاته في طرائق التحنيط وتركيبات السموم.
ففهمت المرأة من سياق حديثه أن والده مات، ولكنها عجبت لاكتشافه تركيبات السموم، وسألت الشاب: ولماذا كان يصنع السموم؟
فقال الشاب بلهجة حزينة: كان يستعملها كأدوية ناجعة، ويأخذها الأطباء عنه، ولكنها وا أسفاه! كانت السبب في القضاء على حياته.
فسألته باهتمام شديد: كيف كان ذلك يا بنامون؟ - أذكر يا سيدتي أن والدي ركب سما عجيبا، وكان يفاخر دائما بقوله: «إنه أفتك السموم جميعا، وإنه يقضي على ضحيته في ثوان معدودة.» وسماه لذلك «السم السعيد». وفي ليلة أسيفة قضى الليل كله في معمله يشتغل بلا انقطاع، وفي الصباح وجد ممددا على مقعده فاقد الروح، وإلى جانبه قارورة سم من ذاك السم الفاتك مفضوضة السداد. - يا للغرابة! .. هل انتحر؟ - من المحقق أنه تناول جرعة من السم الفاتك، ولكن ما الذي دفعه إلى الهلاك؟ .. لقد دفن سره معه، واعتقدنا جميعا أن روحا شيطانيا تلبسه، فأضلته الحكمة فأتى فعلته في حالة إعياء وذهول وفجع أسرتنا جميعا.
واكتسى وجهه بحزن عميق وانحنى رأسه على صدره. فأسفت رادوبيس على إثارتها هذا الموضوع الأليم وسألته: وهل أمك على قيد الحياة؟ - نعم يا سيدتي، وهي تعيش بقصرنا في أمبوس. أما معمل والدي فلم يلج بابه إنسان منذ تلك الليلة.
وعادت المرأة وهي تفكر في موت الطبيب بسار الغريب وفي سمومه المودعة المعمل المغلق.
وكان بنامون الإنسان الوحيد الغريب الذي يلوح في أفقها الهادئ المنطوي على الحب والطمأنينة؛ وكان الوحيد كذلك الذي ينتهب من وقتها الموهوب للحب ساعة كل صباح. على أنه لم يضايقها قط لأنه كان أرق من الطيف. ومضت الأيام وهي مغرقة في الهوى وهو منكب على عمله، وحياة الفن العالية تدب في جدران الحجرة الصيفية.
وكان يسرها أن ترقب يده وهي تبث في الحجرة روحا من جمالها الرائع. وقد اقتنعت بمقدرته الفائقة، ووقر في نفسها أنه سيخلف المثال هنفر في مستقبل قريب. وقد سألته يوما وهي تهم بمغادرة الغرفة بعد جلسة ساعة: ألا يلحقك التعب أو السأم؟
فابتسم الغلام بفخار وقال: هيهات. - كأنك تندفع بقوة شيطان.
فأشرق وجهه الأسمر بابتسامة وامضة، وقال بهدوء وسذاجة: بل بقوة الحب.
وارتجف قلبها لوقع هذه الكلمة التي توقظ في قلبها أشهى الذكريات، وتنادى إلى مخيلتها صورة حبيبة محاطة بالبهاء والجلال، ولم يكن يدرك شيئا مما يقوم في نفسها، فاستدرك قائلا: ألا تعلمين يا سيدتي أن الفن هوى؟ - حقا؟!
فأشار إلى أعلى جبينها الذي وضح رسمه على الجدران، وقال: هاك نفسي خالصة.
وكانت قد ملكت عواطفها، فقالت بسخرية: يا لها من حجر أصم! - كانت حجرا قبل أن تمسها يداي، أما اليوم فهي نفسي.
فضحكت قائلة: يا لك من مغرق في حب نفسه!
هكذا قالت وهي توليه ظهرها، ولكن وضح على أثر ذاك اليوم أن نفسه ليست الشيء الوحيد الذي يحبه، وكانت تسير في الحديقة على غير هدى كخاطر حائر في دماغ حالم سعيد، فأشرفت بغتة على الحجرة الصيفية، وساقها ميل إلى التسلية إلى اعتلاء ربوة عالية في غابة الجميز، وإرسال النظر خلل نافذة الحجرة وكان وجهها الآخذ في الاستواء والاكتمال يواجهها على الجدار المقابل، ورأت الفنان الشاب في أسفل الجدار، وكانت تظنه ينهمك في عمله كعادته، ولكنها وجدته يجثو على ركبتيه، ويداه مشتبكتان على صدره، ورأسه متجه إلى أعلى كأنه مستغرق في صلاة، إلا أن رأسه كان متجها إلى ما تم نحته من رأسها وجبينها.
ودفعتها غريزتها إلى الاختفاء وراء فرع شجرة ومضت تراقبه خلسة دهشة مذعورة، ورأته يقوم واقفا كأنه ينفتل من صلاته، ورأته يمسح عينيه بطرف كمه الواسع، فخفق قلبها، ولبثت برهة لا تبدي حراكا، والسكون مطبق من حولها؛ لا يسمع بين آونة وأخرى سوى رفرفة البط السابح على سطح الماء أو طنينه، ثم التفتت إلى الوراء وانحدرت مسرعة في طريقها إلى القصر.
وقع ما طالما أشفقت من وقوعه رحمة به، وكانت تطالع معناه في عينيه الصافيتين كلما رنا بهما إليها، وما كانت تستطيع دفع الشر، فهل تباعد بينه وبينها؟ هل تغلق باب القصر في وجهه بأية علة تعتل بها عليه؟ .. لكنها أشفقت من تعذيب نفسه الرفيعة وباتت في حيرة من أمرها.
على أن حيرتها لم تطل بها، ولم يكن شيء في الوجود بقادر على أن يستبد بوجدانها أكثر من ساعة عابرة؛ لأن عواطفها وإحساساتها جميعا كانت نهب الحب، وملك يدي حبيب طموح لا يقنع من الحب بشيء .. كان يطير إلى قصرها الحالم هاجرا قصره ودنياه، غير آسف ولا متردد، فكانا يفران معا من الوجود ويلوذان بنفسيهما العامرتين بالحب، ويستسلمان لسحر الهوى وفتونه، ويصليان ناره، ويشهدان الحجرات والحديقة والأطيار على روعته وجبروته. وكان أقصى ما يلقيان من أسباب الهموم في أيامهما تلك أن تكتشف رادوبيس في الضحى بعد توديعه لها، أنها لم تسأله أعينيها يؤثر بالشوق أم شفتيها، أو أن يذكر وهو في طريقه إلى قصره أنه لم يقبل ساقها اليمنى مثلما فعل قبل اليسرى، وربما حمله أسفه على أن يكر راجعا لينفي عن حياته أتفه أسباب الهموم.
كانت أياما لا نظير لها في الأيام.
خنوم حتب
وكان الزمن الذي يمنح قوما الصفاء والسعادة، يتجهم لوجه رئيس الوزراء وكبير الكهنة خنوم حتب. كان الرجل يقبع في دار الحكومة يرقب الأمور بعينين متشائمتين، ويستمع إلى ما يقال بآذان مرهفة وقلب حزين، ثم يستوصي بالصبر ما أمكن الصبر.
وكان الأمر الذي أصدره الملك بنزع أراضي المعابد ينغص عليه صفو حياته، ويضع في سبيل حكمه عراقيل من الأزمات النفسية؛ لأن جمهور الكهنة قابلوه بفزع وألم، ونشط أكثرهم إلى كتابة العرائض والالتماسات وتوجيهها إلى رئيس الوزراء وكبير الحجاب.
ولاحظ الرئيس أن الملك لا يمنحه من وقته عشر معشار ما كان يمنحه من قبل، وأنه نادرا ما يحظى بمقابلته والتحدث إليه في أمور المملكة. وذاع على أثر ذلك أن فرعون يهوى غانية القصر الأبيض ببيجة، وأنه يبيت لياليه في قصرها. ثم شوهد الصناع يساقون إلى قصرها جماعات جماعات، ورئيت زرافات العبيد حاملة فاخر الأثاث وثمين الجواهر. وتهامس الكبراء بأن قصر رادوبيس يتحول إلى مثوى من الذهب والفضة والمرجان، وأن أركانه تشهد هوى جامحا يتقاضى مصر أموالا لا تعد ولا تحصى.
وكان خنوم حتب رأسا كبيرا وعينين عميقتين، وقد نفد صبره، وضاق بجموده، ففكر في الأمر طويلا، وعزم على أن يبذل ما في وسعه ليحول الأمور عن السبيل التي تندفع فيه، فأرسل رسولا من قبله برسالة إلى كبير الحجاب سوفخاتب رجاه فيها إلى موافاته بدار الحكومة. وسارع كبير الحجاب إلى مقابلته، وصافحه الوزير، وقال له: إني أشكرك أيها المبجل سوفخاتب على تلبيتك لرجائي.
فأحنى كبير الحجاب رأسه وقال: إني لا أتوانى عن القيام بواجبي المقدس في خدمة مولاي.
وجلس الرجلان وجها لوجه، وكان خنوم حتب صلب الإرادة حديدي الأعصاب، فظل وجهه هادئا رغم ما يجيش بصدره من الأحزان. وقد استمع إلى قول كبير الحجاب في سكون، ثم قال: أيها المبجل سوفخاتب، كلنا نخدم فرعون ومصر بإخلاص. - هذا حق يا صاحب القداسة.
ورأى خنوم حتب أن يطرق موضوعه الخطير، فقال: ولكن ضميري لا يرتاح إلى سير الأمور في هذه الأيام، وبت أتعثر بالمتاعب والمشكلات. وقد رأيت - وأحسبني في رأيي من الصادقين - أن مقابلة بيني وبينك لا شك تأتي بخير كثير.
فقالت سوفخاتب: إنه ليسعدني وحق الأرباب أن تصدق في فراستك يا صاحب القداسة.
فهز الرجل رأسه الكبير دلالة على الرضا، وقال بلهجة تنم على الحكمة: يجدر بنا أن نستوصي بالصراحة؛ فالصراحة كما يقول فيلسوفنا قاقمنا آية الصدق والإخلاص.
فأمن سوفخاتب على قوله قائلا: صدق فيلسوفنا قاقمنا.
فصمت خنوم حتب دقيقة يجمع أفكاره، ثم قال بصوت ينم على الحزن: يندر أن أحظى بمقابلة جلالة الملك في هذه الأيام.
وانتظر الوزير أن يعقب الرجل على كلامه، ولكنه لازم الصمت، فاستطرد قائلا: وأنت تعلم أيها المبجل أني كثيرا ما أطلب تحديد وقت لمقابلته، فيقال لي إن ذاته المعبودة خارج القصر.
فبادره سوفخاتب قائلا: ليس لإنسان أن يحسب على فرعون حركاته وسكناته.
فقال الوزير: ما قصدت إلى هذا أيها المبجل، ولكني أعتقد أن حقي كوزير يخول لي المثول بين يدي جلالته بين آونة وأخرى، لأقوم بواجباتي على الوجه الأكمل. - معذرة يا صاحب القداسة، ولكنك تحظى بالمثول بين يدي فرعون. - نادرا ما تتاح لي الفرصة. وتجدني لا أدري ما الحيلة لأعرض على ذاته العليا التماسات تزدحم بها حجرات الحكومة.
فحدجه الحاجب بنظرة فاحصة، وقال: لعلها تمس موضوع أراضي المعابد.
فالتمعت عينا الوزير بنور خاطف، وقال: هو ذلك يا سيدي.
فقال سوفخاتب بسرعة: إن فرعون لا يريد أن يسمع جديدا حول هذا الموضوع؛ لأن جلالته قال فيه كلمته الأخيرة. - إن السياسة لا تعرف كلمة أخيرة.
قال سوفخاتب بلهجة لم تخل من حدة: هذا رأيك يا صاحب القداسة وعسى ألا أشاركك فيه. - أليست أملاك المعابد تراثا تقليديا؟
واستاء سوفخاتب لأنه شعر بأن الوزير يستدرجه إلى حديث يأباه، بعد أن أعلن له إباءه، فقال بلهجة لا تدع له أي احتمال للشك: سأقف عند كلمة مولاي لا أتعداها. - إن أخلص الناس لمولاه من يصدقه النصيحة.
واشتد استياء الحاجب الأكبر لجفاء القول، وثارت كرامته ثورة مكتومة، فقال بشدة: إني أعرف واجبي يا صاحب القداسة، ولكني لا أسأل عنه إلا أمام ضميري.
فتنهد خنوم حتب يائسا، ثم قال في هدوء وتسليم: إن ضميرك فوق الشبهات أيها المبجل، وما داخلني شك قط في إخلاصك أو حكمتك، ولعل هذا ما دعاني إلى الاسترشاد برأيك. أما وأنك ترى أن هذا لا يتفق وإخلاصك فلا يسعني إلا العدول عنك آسفا، وليس لدي الآن إلا رجاء واحد.
فقال سوفخاتب: تفضل يا صاحب القداسة. - إني أرجو أن ترفع إلى مسامع صاحب الجلالة الملكة، رجائي بالتشرف بين يديها اليوم.
وأخذ سوفخاتب، ونظر إلى محدثه نظرة دالة على الدهشة؛ لأنه وإن كان الوزير لم يجاوز حدوده بهذا الرجاء إلا أنه لم يكن متوقعه، فاستولى الارتباك على الحاجب، أما خنوم حتب فقال بلهجة دلت على العزم: إني أقدم هذا الرجاء بصفتي رئيس وزراء المملكة المصرية.
فقال سوفخاتب بقلق: ألا انتظرت إلى الغد لأحيط الملك علما برغبتك؟ - كلا أيها المبجل، إني أرجو أن أستعين بجلالة الملكة على تذليل العقبات التي تعترض سبيلي، فلا تضيع فرصة ذهبية، عسى أن أخدم بها مليكي ووطني.
فلم يسع سوفخاتب إلا أن يقول: سأرفع رجاءك إلى جلالتها في الحال.
وقال خنوم حتب وهو يمد له يده للمصافحة: سأنتظر رسولك.
فقال الحاجب الأكبر وهو يودعه: كما تشاء يا صاحب القداسة.
ولما خلا خنوم حتب بنفسه قطب جبينه، وأصر على أسنانه بشدة، فبدا ذقنه العريض كقبضة من الجرانيت، ومضى يذرع الحجرة ويعمل فكره. وكان لا يشك في إخلاص سوفخاتب، ولكنه كان قليل الثقة في شجاعته وعزيمته. وقد دعاه وهو يائس منه، ولكنه لم يرد أن يترك وسيلة بلا تجربة، ثم تساءل قلقا: هل تقبل الملكة رجاءه وتدعوه لمقابلتها؟! وما عساه يصنع لو رفضت مقابلته؟ إن الملكة لا يستهان بها، وعسى أن تحل العقدة المستحكمة بذكائها، فتنقذ ما بين الملك والكهنة من الانهيار والتفكك. ولا شك أن الملكة تدرك سوء تصرف الملك الشاب، وتألم له أشد الألم؛ فهي ملكة مشهود لها بالفطنة، وهي زوجة تشارك الزوجات أفراحهن وأحزانهن. أليس من المحزن أن تنزع أملاك المعابد ليبذل ريعها رخيصا تحت أقدام راقصة؟
إن الذهب يتدفق إلى قصر بيجة من أبوابه ونوافذه، ومهرة الصناع يتقاطرون عليه ويعملون ليل نهار في صنع أثاثه وحلي ربته وأثوابها. وأين .. أين فرعون؟ .. هجر زوجه وحريمه ووزراءه وقنع من الدنيا بقصر الراقصة الساحرة!
وتنهد الرجل في حزن عميق، وتمتم قائلا: ما ينبغي لمن يجلس على عرش مصر أن يلهو.
وراح في تفكيره العميق، ولكن لم يطل به الانتظار؛ إذ دخل عليه حاجبه، واستأذن لرسول آت من القصر فأذن. وانتظر الرجل في لهفة، وقد اضطربت شفتاه في تلك اللحظة الفاصلة على قوة إرادته وصلابة أعصابه، ودخل الرسول، وأحنى رأسه محييا، وقال باقتضاب: إن حضرة صاحبة الجلالة تنتظركم يا صاحب القداسة.
وحمل من فوره إضمامة الالتماسات، وذهب إلى عجلته التي طارت به إلى القصر، وما دار له بخلد أن يأتيه الرسول بهذه السرعة؛ فلا شك أن الملكة تكابد حزنا وقلقا، وتعاني من الآلام في وحدتها الموحشة، ولا شك أنها تتصبر على الإهانة والحرمان قابعة في سياج قاس من الكبرياء والصمت، إنه يحس أنها من رأيه، وأنها ترى الأمور بالعين التي يراها الكهنة والعقلاء جميعا. وعلى أية حال فسيؤدي واجبه، ولتقض الآلهة أمرا كان مفعولا.
وبلغ القصر، وقصد توا إلى جناح الملكة، ولم يلبث أن دعي إلى مقابلة جلالتها في بهو استقبالها الرسمي. وأدخل البهو فاتجه نحو العرش، وأحنى هامته حتى مست جبهته حاشية ثوبها الملكي، وقال بإجلال عميق: السلام على مولاتي نور الشمس وبهاء القمر.
فقالت الملكة بصوت هادئ: السلام عليك أيها الرئيس خنوم حتب.
واستقامت قامة الوزير، وإن ظل رأسه منكسا، وقال بخشوع: إن عبدك المطيع يعجز لسانه عن أداء الشكر لذاتك العالية، على تفضلك الكريم باستقباله.
فقالت الملكة بصوتها المتزن النبرات: إني أعتقد أنك لا ترجو مقابلتي إلا لأمر خطير؛ فلم أتوان عن استقبالك. - تعالت حكمة مولاتي، فالأمر جد خطير، وما هو إلا صميم السياسة العليا.
وانتظرت الملكة صامتة، فاستجمع الرجل قواه الذاتية، وقال: إني يا صاحبة الجلالة أصطدم بعقبات شديدة، حتى بت أخشى ألا أقوم بواجبي بما يرضي ضميري ومولاي فرعون.
وسكت لحظة، واختطف من وجه الملكة الهادئ نظرة سريعة كأنه يمتحن أثر كلامه فيها، أو ينتظر كلمة تشجعه على الاسترسال، وأدركت الملكة معنى تردده فقالت: تكلم أيها الوزير فإني مصغية إليك.
فقال خنوم حتب: اصطدمت بهذه العقبات على أثر صدور الأمر الملكي بنزع أكثر أملاك المعابد؛ فقد اضطرب الكهنة وفزعوا إلى الالتماسات يرفعونها إلى أعتاب فرعون؛ فهم يعلمون أن أراضي المعابد منح وهبات الفراعنة عطفا، فأشفقوا من أن يكون استردادها سخطا.
ولاذ الوزير بالصمت هنيهة، ثم استدرك قائلا: الكهنة يا مولاتي جنود الملك في وقت السلم، والسلم ينشد رجالا أصلب عودا من رجال الحرب؛ فمنهم المعلمون والحكماء والوعاظ، ومنهم حكام ووزراء. وما كانوا ليتوانوا عن التنازل عن أملاكهم حبا لو دعت إلى ذلك شدة حرب أو قحط، ولكنهم ...
وتردد الرجل عن الكلام لحظة، ثم استطرد بصوت أشد خفوتا: ولكن يحزنهم أن يروا هذه الأموال تنفق في غير هذه الوجوه.
ولم يرد أن يجاوز هذا الحد من التلميح، ولم يداخله شك في أنها تفهم كل شيء وتعلم كل شيء، ولكنها لم تعقب على كلامه بكلمة، فلم ير بدا من أن يتقدم إليها بالالتماسات، ثم قال: هذه الالتماسات يا صاحبة الجلالة تعبر عن إحساس رؤساء المعابد، وقد رفض مولاي الملك أن ينظر فيها، فهل لمولاتي أن تطلع عليها؛ فالشاكون طائفة من شعبكم المخلص تستحق الرعاية.
وقبلت الملكة الالتماسات، فوضعها الوزير على منضدة كبيرة، ووقف في سكون منكس الرأس. ولم تعده الملكة بشيء، وما طمع في هذا قط، ولكنه تفاءل خيرا بقبول الالتماسات، ثم أذنت له بالانصراف، فتراجع ويداه على عينيه.
وفي طريق العودة حادث الوزير نفسه: إن الملكة شديدة الحزن، وعسى أن ينفع حزنها قضيتنا العادلة.
نيتوقريس
غيب الباب الوزير، ووجدت الملكة نفسها وحيدة في البهو الكبير، فأسندت رأسها المتوج إلى ظهر العرش، وأغلقت جفنيها، وتنهدت تنهدا عميقا، صعد أنفاسا حارة مكتوية بصورة الحزن والألم، فلشد ما تتصبر وتتجلد، حتى إن أدنى الناس إليها لا يدري بألسنة اللهيب التي تحترق بها أحشاؤها بغير رحمة .. وقد ظلت تطالع الناس بوجه هادئ يكتنفه الصمت كأبي الهول.
وما كانت تجهل من الأمر شيئا، فقد شاهدت المأساة من بدء فصولها، ورأت الملك يتردى في الهاوية، ويذهب فريسة لهواه الجامح، ويهرع إلى تلك المرأة - التي شاد بحسنها كل لسان - لا يلوي على شيء. وأصابها سهم سام في عزة نفسها وسويداء عواطفها، ولكنها لم تبد حراكا، ونشب في صدرها صراع عنيف بين المرأة ذات القلب، والملكة ذات التاج، وأثبتت التجربة أنها كأبيها قوية الشكيمة، فصهر التاج القلب، وخنقت الكبرياء الحب، فانطوت على نفسها الحزينة سجينة خلف الستائر. وهكذا خسرت المعركة، وخرجت منها مهيضة الجناح، وما رمت عن قوسها سهما واحدا.
وكان الذي يدعو إلى السخرية، أنهما ما زالا يعدان عروسين. على أن تلك الفترة القصيرة كانت كافية لإظهار ما انطوت عليه نفسه من الجموح العنيف والهوى الطائش؛ فما عتم أن ملأ الحريم بعدد لا يحصى من الجواري والمحظيات من مصر والنوبة وبلاد الشمال. ولم تكن تأبه لهن؛ لأنهن جميعا لم يصرفنه عنها، ولبثت ملكته وملكة فؤاده. إلى أن ظهرت في أفقه هذه المرأة الساحرة فجذبته إليها بعنف، وملكت عواطفه وعقله جميعا، واستأثرت به دون زوجه وحريمه ورجاله المخلصين، ولعب بها الأمر الخادع حينا، ثم أسلمها إلى اليأس، يأس مكفن بكبرياء فأحست بقلبها يتجرع سكرات الموت.
وكانت تأتي عليها أحايين يثب الجنون في دمائها، وتشع عيناها نورا خاطفا، فتهم بالوثب والبطش والمنافحة عن قلبها الكسير، ثم سرعان ما تقول لنفسها باحتقار شديد: كيف يصح لنيتوقريس أن تنازل امرأة تبيع جسدها بقطع الذهب؟ فتبرد دماؤها، ويتجمد الحزن في قلبها كالسم الفاتك في المعدة.
ولكن ثبت لها اليوم أن هناك قلوبا غير قلبها تعاني الآلام بسبب تهور الملك، وها هو ذا خنوم حتب يشكو إليها بثه ويقول لها بعبارة بينة: إنه لا يجوز أن تنزع أملاك المعابد لتلهو بها رادوبيس الراقصة. ويؤمن بقولها المئون من صفوة الحكماء .. أفلا ينبغي أن تخرج عن صمتها؟ وإذا لم تتكلم الآن فمتى ينبغي لها أن تعالج جنونه بحكمتها. وقد آلمها أن يرتقي الهمس إلى العرش المكين، وأحست بأن واجبها يقضي عليها بإزالة الهواجس وإعادة الطمأنينة، وهان عليها أن تدوس على كبريائها، وتوطد العزم على أن تتقدم بخطى ثابتة في سبيلها السوي مستعينة بالأرباب.
وارتاحت الملكة لتفكيرها الذي أملته عليها الحكمة والدواعي الباطنة، انهار عنادها الأول بعد أن ثابر مثابرة المستميت، وصدقت عزيمتها على مواجهة الملك بقوة وإخلاص.
وغادرت البهو إلى مخدعها الملكي، وقطعت بقية نهارها في التفكير والتأمل، ونامت ليلها نوما متقطعا شديد العذاب، وانتظرت الضحى على لهفة، وهو الوقت الذي يصحو فيه الملك بعد سهر الليل .. ولم يداخلها التردد، فانتقلت بخطى ثابتة إلى جناح الملك، وقد أحدث انتقالها الغريب حركة بين الحراس، فأدوا لها التحية، وسألت واحدا منهم قائلة: أين جلالة الملك؟
فأجابها الرجل بإجلال قائلا: في مثواه الخاص يا صاحبة الجلالة.
وسارت بتؤدة إلى حجرة الملك التي يخلو فيها بنفسه، واجتازت بابها الكبير. وكان فرعون يجلس في الصدر يفصله عن الباب أربعون ذراعا، حملت من آي البلهنية والفن ما لا تصدقه العيون. ولم يكن الملك يتوقع رؤيتها، وكانت مضت أيام عديدة على آخر لقاء، فقام واقفا دهشا، واستقبلها بابتسامة دلت على الارتباك، وقال وهو يشير إليها بالجلوس: أسعدتك الآلهة يا نيتوقريس .. لو علمت برغبتك في مقابلتي لبادرت إليك!
فجلست الملكة في هدوء وهي تخاطب نفسها قائلة .. من أدراه أني لم أرغب في لقائه طوال هذه الفترة؟! ثم وجهت إليه الخطاب قائلة: لا داعي لإزعاجك أيها الأخ؛ فإني لا أجد غضاضة في الانتقال إليك ما دام الذي يحركني واجب.
ولم يلق الملك إلى كلامها بالا، لأنه كان يحس بحرج شديد، وقد تأثر لمجيئها وجمود وجهها، فقال: إني خجل يا نيتوقريس.
وعجبت لطرقه هذا الموضوع، وكان آلمها ألما خفيا أن تراه في منتهى السعادة والصحة، كالزهرة الناضرة، فقالت بانفعال رغم ضبط عواطفها: يهون لدي كل شيء إلا أن تخجل!
وكان أرق المس يهيجه، ويرده من حال إلى حال، فعض على شفته وقال: أيتها الأخت، إن الإنسان هدف لأهواء طاغية. وقد يهوي لإحداها فريسة.
وطعنها اعترافه بقسوة في كبريائها وعواطفها، فنسيت حلمها وقالت بصراحة: يحزنني وحق الرب، وأنت فرعون، أن تشكو الأهواء الطاغية.
وأحس الملك الغضوب بوخز كلامها، فأهاجه الغضب، واندفع الدم إلى رأسه، فانتفض واقفا ينذر وجهه بالشر. وخشيت الملكة أن يفسد غضبه عليها الغضب الذي جاءت من أجله، فندمت على قولها، وقالت له برجاء: أنت الذي سقتني إلى هذا الحديث أيها الأخ، وما لهذا جئت، وعسى أن يفرخ غضبك، أن تعلم أني قصدت إليك لأحدثك في شئون هامة تمس سياسة المملكة التي نجلس على عرشها سويا.
فكظم حنقه، وسألها بلهجة كالهادئة: ما حديثك أيتها الملكة؟
وأسفت الملكة على أن مساق الحديث لم يؤد إلى جو صالح لغرضها ولكنها لم تر بدا من الكلام، فقالت باقتضاب: أراضي المعابد.
فعبس وجه الملك. وقال بامتعاض شديد: أتقولين أراضي المعابد؟ .. إني أسميها أراضي الكهنة! - لتكن مشيئتك يا مولاي؛ فإن تغيير الاسم لا يغير من الأمر شيئا. - ألا تعلمين أني أكره أن يعاد علي هذا الاسم؟ - إني أحاول ما لا يستطيعه غيري، وهدفي الخير والإصلاح.
فهز الملك منكبيه بامتعاض وقال: وما الذي تريدين قوله أيتها الملكة؟
فقالت بهدوء: لقد دعوت خنوم حتب إلى مقابلتي إجابة لرجائه واستمعت ...
ولكنه لم يدعها تتم حديثها، وقال بغضب: أهكذا فعل الرجل؟
فقالت بارتياع: نعم .. هل تجد في سلوكه ما يستأهل غضبك؟
فقال وكأنه يزأر: بغير شك .. بغير شك .. إنه رجل عنيد، ويأبى أن ينزل عند إرادتي، وأنا أعلم أنه نفذ أمري كارها، وأنه يتربص بي لعله ينجح في إلغائه مستعينا تارة بالرجاء، وقد رفضت أن أصغي إليه، وتارة بدفع الكهنة إلى تقديم الالتماسات كما دفعهم من قبل إلى الهتاف باسمه الحقير .. إن الرجل الماكر يندفع كالأعمى في طريق خصامي.
فهالها ظنه وقالت: أنت تسيء الظن بالرجل، أما أنا فأعتقد أنه من أعظم الرجال إخلاصا للعرش، وأنه حكيم يتوخى الوئام .. أليس من الطبيعي أن يحزن الرجل لفقدان امتيازات كسبتها طائفته في ظل عطف أجدادنا؟
واحتدم الغيظ في قلب الملك، لأنه لم يكن يجد عذرا لإنسان ألا يصدع بأمره في السر والعلانية، ولا يحتمل بأية حال أن يرى إنسان غير ما يرى.
فقال ممتعضا بلهجة تشف عن السخرية المريرة: أرى أن هذا الداهية استطاع أن يغير رأيك أيتها الملكة.
فقالت باستياء: لم يتجه رأيي قط إلى نزع أملاك المعابد، ولا أجد ضرورة لذلك.
فعاود الغضب الملك وقال لها بعنف: أيسيئك أن تزداد ثروتنا؟
كيف يقول هذا وهو يعلم أين تنفق هذه الأموال؟
وأثار قوله غيظها الدفين وحنقها المختنق، فانتفضت غضبا وتغلبت عليها مشاعرها فقالت بانفعال: يسيء كل عاقل أن تنزع أراضي قوم حكماء لينفق ريعها في اللهو العابث.
فاشتد هياج الملك، وقال وهو يشير بيده مهددا: ويل للرجل الماكر .. إنه يغري بالشقاق بيننا؟
فقالت بتألم وحزن: إنك تصورني لنفسك كطفلة غريرة. - ويل له .. لقد طلب مقابلة الملكة ليحادث المرأة المستترة في ثوبها الملكي.
فصاحت به حزينة متألمة قائلة: مولاي!
ولكنه استطرد يقول مدفوعا بغضبه الشيطاني: لقد جئت يا نيتوقريس مسوقة بالغيرة لا بالرغبة في الوئام.
وأحست بطعنة نجلاء تصيب كبريائها، فأظلمت عيناها، ودوى النبض في أذنيها، وارتجفت أطرافها. ولبثت هنيهة لا تستطيع قولا، ثم قالت: أيها الملك! لا يعرف خنوم حتب عنك شيئا أجهله فيسعى به إلي، وما دمت تظن هذا، فاعلم بأني أعلم، كما يعلم الجميع، أنك غارق في أحضان راقصة بجزيرة بيجة منذ أشهر، فهل رأيتني طوال هذه الفترة طاردتك، أو ضيقت عليك، أو توسلت إليك؟ .. واعلم أن الذي يريد أن يخاطب في المرأة يرتد خائبا، ولا يلقى أمامه سوى الملكة نيتوقريس.
فاحتد قائلا بعناد: ما تزالين تقذفين بحمم الغيرة.
فضربت الملكة بقدمها الصغيرة، وقامت واقفة يائسة، وقالت بحنق شديد: أيها الملك .. ليس مما تعير به ملكة أن تغار على زوجها، ولكن مما يعير به ملك حقا أن يبذل ذهب بلاده تحت قدمي راقصة، ويعرض عرشه الطاهر لخوض الخائضين.
قالت الملكة ذلك، وذهبت لا تلوي على شيء. •••
واستبد الغضب بالملك، وأخرجه عن طوره وكان يعد خنوم حتب مسئولا عن جميع متاعبه، فاستدعى سوفخاتب وأمره دون أن يمهله بأن يبلغ رئيس الوزراء بأنه ينتظره. وخرج الحاجب الأكبر ينفذ أمر مولاه حائرا. وجاء الوزير الأكبر موزع النفس بين اليأس والأمل . وأدخل على الملك الغاضب الحانق، ونطق الرجل بالتحية التقليدية، ولكن فرعون لم يكن يصغي إليه، وقد قاطعه بصوت خشن شديد قائلا: ألم آمرك أيها الوزير بألا تعود إلى مناقشة مسألة أراضي المعابد؟
وأخذ الرجل باللهجة الشديدة التي يسمعها لأول مرة، وأحس بآماله تنهار دفعة واحدة، فقال يائسا: مولاي .. رأيت من واجبي أن أرفع إلى مسامعكم العالية شكاوي طائفة من شعبكم الأمين.
فقال الملك بلهجة قاسية: بل أحببت أن تثير غبارا بيني وبين الملكة، لتصيب تحت ستاره غرضك.
فرفع الرجل يديه بتوسل، وأراد أن يتكلم فأرتج عليه القول سوى هاتين الكلمتين: مولاي .. مولاي.
فقال الملك الغاضب المهتاج: يا خنوم حتب .. أنت تأبى الانصياع لأمري، فلن أمنحك ثقتي بعد اليوم.
ووجم الكاهن، واستولى عليه الجمود، ثم مال رأسه على صدره في حزن، وقال باستسلام: مولاي، يحزنني وحق الأرباب جميعا أن أنسحب من ميدان خدمتكم المجيد، وسأعود كما كنت من قبل عبدا صغيرا من عبيدكم المخلصين. •••
وأحس الملك بارتياح بعد أن أرضى غضبه الكاسر، وأرسل في طلب سوفخاتب وطاهو، وجاء الرجلان على عجل يتساءلان، فقال لهما الملك في هدوء: انتهيت من خنوم حتب.
وساد السكون العميق، وبدت الدهشة على وجه سوفخاتب، أما طاهو فبقي جامدا .. وكان الملك يقلب ناظريه في وجهيهما فسألهما: ما لكما لا تتكلمان؟
فقال سوفخاتب: إنه لأمر خطير يا مولاي. - أتراه خطيرا يا سوفخاتب؟! .. وأنت يا طاهو؟
وكان طاهو جامدا ميت الإحساس، لا رجع للحوادث في قلبه، ولكنه قال: إنه عمل يا مولاي من وحي القوة المعبودة.
فابتسم الملك، وكان سوفخاتب يقلب الأمر على جميع وجوهه، فقال: سيجد خنوم حتب نفسه منذ اليوم أكثر حرية.
فهز فرعون كتفيه باستهانة، وقال: لا أظن أنه سيلقي بنفسه إلى التهلكة.
واستدرك وقد غير لهجته: والآن بماذا تشيران علي فيمن يخلفه؟
وساد الصمت مدة، ومضى الرجلان يفكران.
وابتسم الملك قائلا: إني أختار سوفخاتب، فما رأيكما؟
فقال طاهو بصدق: إن من اخترت يا مولاي لهو القوي الأمين.
أما سوفخاتب، فبدا على وجهه الانزعاج وهم بالكلام ، ولكن سبقه فرعون قائلا: هل تتخلى عن مولاك وقت الحاجة إليك؟
فقال سوفخاتب وهو يتنهد: ستجدني يا مولاي من المخلصين.
الرئيس الجديد
وأحس فرعون في العهد الجديد بطمأنينة، فسكن غضبه، وترك الأمور بين يدي الرجل الذي يثق به، وولى وجهه نحو المرأة التي استولت على نفسه وقلبه وحواسه؛ ففي جوارها كان يشعر بطيب الحياة وبهجة الدنيا وأفراح النفس.
أما سوفخاتب فكان ينوء بالتبعة على عاتقه، ويعلم علم اليقين أن مصر تستقبل توليته بحذر وتجهم، وسخط مكتوم. وقد أحس بالوحشة منذ اللحظة الأولى التي وطئت فيها قدماه دار الحكومة؛ فالملك يرضى من الدنيا بالحب، ويولي كشحه الهموم والواجبات جميعا، وحكام الأقاليم يوالونه بوجوههم، وقلوبهم تتبع كهنتهم في كل مكان. وتلفت الوزير حوله، فلم يجد سوى القائد طاهو عونا ومشيرا، وهما رجلان يختلفان في أمور كثيرة، ولكنهما يأتلفان على حب فرعون والإخلاص له، فلبى القائد نداءه، ومد يده إليه، وشاركه في وحشته وجل متاعبه، وكافحا معا لإنقاذ سفينة يطوف بها موج صاخب، وتتجمع في أفقها السحب والزوابع. على أن سوفخاتب كانت تنقصه مزايا القبطان المحنك، كان مخلصا ينضح قلبه بالأمانة والوفاء، حكيما تنجلي له حقائق الأمور، ولكن كانت تعوزه صفات الشجاعة والحزم، فرأى الخطأ منذ البدء، ولكنه لم يحاول إصلاحه بقدر ما مضى في مداراته وتهوين عقباه خشية غضب مولاه أو إيلامه، وهكذا اطردت الأمور في السبيل الذي شقه الغضب.
وجاءت عيون طاهو الساهرة بخبر هام. قالوا إن خنوم حتب ارتحل بغتة إلى منف، العاصمة الدينية، فأحدث الخبر دهشة لدى الوزير والقائد، واحتارا في السبب الذي من أجله رضي الرجل بمشقة الانتقال من الجنوب إلى الشمال، وتوقع سوفخاتب شرا، ولم يشك في أن خنوم حتب سيتصل بكبار رجال الكهنوت، وجميعهم ساخطون لما حل بهم من ضنك، ولعلمهم بأن الأموال التي ضن بها عليهم تبعثر تحت قدمي راقصة بيجة بغير حساب؛ فما من أحد منهم يجهل هذه الحقيقة الآن، ومن يجهلها سيعلم بها بغير ريب، وسيلقى الكاهن فيهم تربة صالحة لبذر تعاليمه وترديد شكواه.
وظهرت النذر الأولى لسخط الكهنة؛ فقد عاد الرسل الذين أذاعوا نبأ اختيار سوفخاتب وزيرا في أنحاء القطر، بالتهاني الرسمية من الأقاليم، أما الكهنة فقد انطووا على صمت رهيب، حتى قال طاهو: «لقد بدءونا بالتحدي.»
ثم حملت الرسائل تترى من جميع المعابد، وعليها توقيع جميع الكهنة من جميع الطبقات تلتمس من فرعون إعادة النظر في مسألة أراضي المعابد، فكان إجماعا خطير الشأن، زاد من متاعب سوفخاتب.
وفي يوم من الأيام دعا سوفخاتب طاهو إلى دار الحكومة، وجاءه القائد يسعى، فأشار الوزير إلى كرسي الوزارة، وهو يتنهد، وقال: يكاد هذا الكرسي أن يميد بي.
فقال طاهو: إن رأسك أكبر من أن يميد به هذا الكرسي.
فتنهد الرجل حزنا، وقال: أغرقوني بسيل من الالتماسات.
فسأله القائد باهتمام: هل عرضتها على فرعون؟ - كلا أيها القائد، إن فرعون لا يأذن لإنسان بمفاتحته في هذا الموضوع، وأنا لا أحظى بالمثول بين يديه إلا في فترات متباعدة جدا .. إني أشعر بالارتباك والوحدة.
وصمت الرجلان برهة، فخلا كل منهما إلى أفكاره، ثم هز سوفخاتب رأسه متعجبا، وقال وكأنه يحدث نفسه: إنه للسحر بعينه.
ونظر طاهو إلى الوزير نظرة غريبة، وبغته المعنى الذي يقصده الرجل، فسرت في جسده قشعريرة وامتقع لونه، ولكنه كبح جماح نفسه، وكان تعود ذلك في المدة الجافة الأخيرة من حياته، وسأله ببساطة كلفته جهدا جهيدا: أي سحر تعني يا صاحب القداسة؟
فقال سوفخاتب: رادوبيس، أليست تنفث في فرعون سحرا، بلى وحق الأرباب، إن ما بجلالته لسحر مبين ..
واهتزت نفس طاهو لذكر هذا الاسم، وخال أنه يسمع شيئا عجيبا يلمس بوقعه السحري جميع الحواس والعواطف، وكان يزيل الصمام الذي أحكمه بقسوة على فوهة وجدانه، فأصر على أسنانه بشدة وقال: يقول الناس إن الحب سحر، والسحرة يقولون إن السحر حب.
فقال الوزير الحزين: بت أعتقد أن جمال رادوبيس سحر ملعون.
فحدجه طاهو بنظرة قاسية وقال: ألم تتل الرقية التي مكنت لهذا السحر؟
فأحس الرجل بلوم القائد وامتقع لونه، وقال بسرعة كأنما يدفع تهمة: لم تكن أول امرأة. - ولكنها كانت رادوبيس! - رجوت لمولاي سعادة. - فقدمت له سحرا وا أسفاه! - نعم أيها القائد، إني أشعر بأني أخطأت خطأ بليغا .. ولكن ينبغي عمل شيء.
فقال طاهو وكان لا يزال يحس بمرارة: هذا واجبك يا صاحب القداسة. - إني أطلب مشورتك. - إن الإخلاص يبلغ غايته في النصيحة الصادقة. - إن فرعون لا يقبل أن يطرق إنسان بين يديه مسألة الكهنة. - ألا تفضي برأيك إلى جلالة الملكة؟ - هذا سبيل أودى بخنوم حتب إلى التعرض إلى غضب جلالة الملك.
فلم يجد طاهو ما يقوله، وخطر لسوفخاتب خاطر فقال بصوت خافت: ألا يمكن أن ترجى فائدة من تدبير اجتماع بينك وبين رادوبيس؟
فسرت القشعريرة إلى جسده مرة أخرى، وانخلع قلبه في صدره، وكادت العواطف التي يبالغ في كتمانها تنفجر، وقال لنفسه: إن الشيخ لا يدري ماذا يقول، ويظن أن مولاه هو المسحور وحده .. ثم قال له: لماذا لا تجتمع بها أنت؟
فقال سوفخاتب: لعلك أقدر مني على التفاهم معها.
فقال طاهو ببرود: أخشى أن تجد علي رادوبيس، وتسيء بي الظن فتشوه مسعاي لدى فرعون .. كلا يا صاحب القداسة.
وتهيب سوفخاتب مواجهة فرعون بالحقيقة.
ولم يستطع طاهو ملازمة مكانه لأن أعصابه ثارت، وزعزعت أركان نفسه عاطفة هوجاء شديدة الاغبرار، فاستأذن من الوزير وانطلق لا يلوي على شيء، تاركا وراءه سوفخاتب غارقا في لجة عميقة من الأفكار والأحزان.
الملكتان
ولم يكن سوفخاتب وحده الذي تثقل رأسه الهموم.
كانت الملكة تقبع في جناحها، تنطوي على حزن دفين، وألم بارح، ويأس محروم من الشكوى، تراجع مأساة حياتها بقلب كسير، وتشاهد الأمور التي تقع في الوادي بعينين حزينتين، ولم تكن سوى امرأة خسرت قلبها، أو ملكة يتقلقل بها عرشها، وقد انتهت العلائق بينها وبين الملك إلى انقطاع لا يرجى له اتصال، ما دام الملك يغرق في هواه، وما دامت هي تلوذ بصمت الكبرياء.
وساءها أن تعلم أن الملك يزهد في النظر في واجباته العليا، وأن الحب أنساه كل شيء حتى تركزت السلطة في يد سوفخاتب. ولم يكن يداخلها شك في إخلاص الوزير للعرش، ولكنها غضبت من استهتار الملك وذهوله، وصدقت عزيمتها على العمل مهما كلفها الأمر، ولم تتردد عن غايتها، فدعت يوما سوفخاتب وطلبت إليه أن يرجع إليها في الشئون التي تحتاج إلى رأي الملك. وقد أرضت بذلك غضبها بعض الشيء، وأرضت معه الوزير وهي لا تدري، الذي تنفس الصعداء، وأحس بأن حملا ثقيلا رفع عن صدره الضعيف.
وعلى أثر اتصال الوزير بها، علمت بالالتماسات التي بعثت بها الكهنة من جميع أنحاء الوادي، وقرأتها بصبر وجلد، فقرأت الكلمة التي أجمع عليها رأي الصفوة من أفذاذ المملكة، وأحست بالخطورة المستترة خلف أسطرها المتزنة الحازمة .. وتساءلت في حيرة وألم، ما عسى أن يكون الحال لو أيقن الكهنة أن فرعون يضرب برجواتهم عرض الحائط؟ .. فالكهنة قوة عظيمة، وهم يتسلطون على عقول الشعب وقلوبه، وهو يستمع إليهم في المعابد والمدارس والجامعات، ويطمئن إلى أخلاقهم وتعاليمهم اطمئنانه إلى مثله العليا .. فكيف تطرد الأمور إذا يئس هؤلاء القوم من عطف فرعون؟ .. وقنطوا من إصلاح الأمور التي لم يروها قط تسير في طريقها التي تسير فيه في أي عهد من العهود المجيدة الفخور التي طواها الماضي الخالد؟
وما من شك في أن الأمور تتعقد تعقيدا خطيرا، ويندفع نهر الشقاق، فيفرق بين الملك النائم الحالم بجزيرة بيجة، وبين شعبه المخلص الأمين، ويقف سوفخاتب منه موقف الحائر لا يغني عنه إخلاصه ولا حكمته شيئا.
وأحست الملكة بأنه ينبغي عمل شيء، وأن ترك الأمور تسير إلى غايتها ينذر بمتاعب، فينبغي أن تمحو عن وجه مصر الهادئ الجميل التقلص الذي يعتوره، وأن تعيد إليه هدوءه وجماله .. فما عسى أن تصنع؟ .. كانت بالأمس ترجو أن تفوز بإقناع زوجها بالحق، ولكنها اليوم لا يعاودها إليه أمل، ولم تنس بعد ما وجه إلى كبريائها من طعنة نجلاء، فنفضت على الأثر منه يديها يائسة حزينة. وفتشت عن سبيل جديد تصل منه إلى غرضها. ولكن ما غرضها؟ .. لقد فكرت في ذلك مليا، ثم قالت لنفسها: «غاية ما آمل أن أفوز به، أن يرد فرعون إلى الكهنة الأراضي التي انتزعها منهم.» ولكن ما السبيل إلى ذلك؟ .. إن الملك غضوب ذو كبرياء عنيف، ولا يمكن أن يتقهقر أمام إنسان، ولقد أمر بنزع الأراضي في ساعة غضب خطير، ولكن ما من شك في أن أشياء غير الغضب تدعوه إلى الاحتفاظ بالأراضي في حوزته، ومن يعرف قصر بيجة وما ينفق الملك عليه من ذهب يدرك ماهية هذه الأشياء، لقد سموه بحق قصر بيجة الذهبي، لكثرة ما به من التحف الذهبية والأثاث المصنوع من خالص الذهب، فلو سدت هذه الفوهة التي تبتلع أموال الملك، لربما هان عليه أن يفكر في رد أراضي المعابد إلى الكهنة. ولم تكن تطمع في صرف الملك عن غانية بيجة، ولا فكرت في ذلك، ولكنها كانت ترجو لإسرافه حدا. وتنهدت عند ذلك وقالت لنفسها: الآن وضح غرضي، فينبغي أن نجد وسيلة لإقناع الملك، بالتحول عن الإسراف الشديد، ثم نقنعه بعد ذلك برد الأراضي إلى أصحابها، ولكن كيف نقنع الملك؟ .. لقد أسقطته من حسابها، ولكنها تجده وراء كل حساب .. لقد فشلت في إقناعه، ولن يكون سوفخاتب ولا طاهو بأسعد منها حظا؛ فالملك يحكمه الهوى ولا سبيل إليه، وقد أفلت منها هذا السؤال: «من القادر على إقناع الملك؟» فسرت في جسدها قشعريرة أليمة؛ إذ حضرها الجواب سريعا، ولكنه كان مروعا أليما، ولم تكن تجهله، ولكنه كان من الحقائق التي يتجدد الألم بها كلما عاودتها الذاكرة؛ فقد قضت الأقدار أن يكون هذا الإنسان المتحكم في الملك، المسير له، غريمتها راقصة بيجة، التي حكمت عليها بالعزلة إلى الأبد .. هذه هي الحقيقة المؤلمة التي تسأم التسليم بها كما يسلم الإنسان بحقائق الموت والشيخوخة والمرض العضال.
وكانت الملكة امرأة حزينة، ولكنها كانت ملكة عظيمة بعيدة الآفاق. وكانت تتناسى أنها امرأة، وإن لم تستطع أن تنسى ذلك، فظل قلبها يحوم حول زوجها الملك، والمرأة التي خطفته من بين يديها، ولكنها لم تتناس قط أنها الملكة، ولم تغفل لحظة عن واجباتها، وصدقت عزيمتها على إنقاذ العرش والاحتفاظ به في مرتقاه فوق منال الهمس والتذمر، ترى هل انتهت إلى هذا العزم بدافع واجبها فحسب؟ .. أم كانت هنالك دوافع أخرى؟ إن أفكارنا مسوقة دائما للطواف بمن نحب ومن نكره، فنجذب إليهم بقوة خفية كما تجذب الفراشة إلى نور المصباح. ولقد أحست من بادئ الأمر برغبة في رؤية رادوبيس التي ترامت إليها أخبارها، ولكن ما معنى هذا؟ .. أتذهب إليها لتحدثها في شئون مصر؟ أتذهب الملكة نيتوقريس إلى الراقصة التي تعرض نفسها في سوق الهوى، وتخاطبها باسم حبها المزعوم للملك، أن ترده عن الإسراف وتعيده إلى واجبه؟ .. يا لها من صورة بشعة!
وكانت الملكة ضاقت بانزوائها، وضغطت عليها عواطفها الخفية وواجبها المبين، لتخرج من صمتها وسجنها الطويل .. فلم تعد تستطيع صبرا، وأقنعت نفسها بأن واجبها يدعوها إلى عمل شيء ما، وإلى بذل محاولة أخرى .. وتساءلت في حيرتها: «أأذهب حقا إلى هذه المرأة، وألفتها إلى واجبها، وأطلب إليها أن تنقذ الملك من الهاوية التي يندفع إليها؟» وأسلمها تساؤلها هذا إلى حيرة طويلة، وارتباك محزن، هويا بها إلى الهوس والهذيان، ولكنها لم ترجع عن فكرتها. وما كانت تزداد إلا تصميما، كانت كسيل يندفع في منحدر لا يستطيع عنه حولا، ولكنه يندفع مضطربا مزبدا كاسرا .. فقالت في نهاية المعركة الناشبة: «سأذهب.» •••
وفي صباح اليوم الثاني لبثت تنتظر عودة الملك. واستقبلت الضحى في سفينة ملكية، أبحرت بها قاصدة إلى قصر بيجة، الأبيض الذهبي. وكانت تشملها حالة ذهول محزن، ولم تكن ارتدت ثوبا ملكيا، فأحست لذلك بسخط واستياء، ورست السفينة على سلم القصر، فهبطت إليه واستقبلها عبد من الرقيق، فقالت له: إنها زائرة تطلب مقابلة ربة القصر، فتقدمها إلى بهو الاستقبال، وكان الجو باردا، وريح الشتاء ترسل هبات قارسة خلل أغصان تعرت كأذرع محنطة .. وجلست في البهو تنظر وحدها. وكانت تشعر بغرابة وحيرة، وتحاول تعزية نفسها بقولها إنه يصح أن تخفض الملكة من كبريائها في سبيل واجبها الأسمى، ولكنها أحست بالانتظار يطول وتساءلت قلقة: «هل تدعها تنتظر طويلا كما تفعل مع الرجال؟» ولحقها جزع مؤلم، وندمت على تسرعها بالحضور إلى قصر غريمتها.
وفاتت دقائق قبلما سمعت حفيف ثوب، فرفعت رأسها المثقل، فوقعت عيناها لأول مرة على وجه رادوبيس. كانت رادوبيس بغير ريب. وقد أحست بلذعة ألم ويأس، ونسيت لحظة همومها وما جاءت من أجله أمام الحسن الهلوك. وبغتت رادوبيس نفسها أمام جمال الملكة الرزين وجلالها المجيد.
وسلمتا باليد وجلست رادوبيس إلى جانب ضيفتها الجليلة المجهولة، ولما وجدتها تلوذ بالصمت قالت بصوتها الموسيقي: نزلت قصرك.
فردت الضيفة بصوت بالغ في جلاله قائلة باقتضاب: شكرا.
فابتسمت الغانية وقالت: ليت ضيفتنا تؤذننا بشخصها الجليل.
وكان السؤال طبيعيا ولكن الملكة ضاقت به كأنها لم تكن تتوقعه. ولم تجد بدا من إعلان نفسها، وقالت بهدوء: أنا الملكة.
ونظرت إلى المرأة لترى تأثير تصريحها في نفسها، فشاهدت ابتسامة تغيض، وعينيها تلمعان دهشة، وصدرها يمتلئ ويتصلب كالأفعى إذا هوجمت .. ولم تكن الملكة هادئة كما تبدو؛ فقد تغير قلبها لدى رؤية غريمتها، وأحست بدمائها تلتهب وتحرق عروقها جميعا، وشعرت بالكراهية والبغضاء، وتواجهتا كغريمتين تتحفزان للقتال .. واستولت عليها حالة مريرة ملوثة بالغضب والحقد. ونسيت الملكة إلى حين كل شيء إلا أنها بإزاء المرأة التي سلبتها سعادتها، ونسيت رادوبيس كل شيء إلا أنها أمام المرأة التي تقاسم حبيبها اسمه وعرشه.
وتبودل الحديث بينهما بادئ الأمر في ذلك الجو المشبع بالغضب والحقد فجرى مجرى عنيفا محزنا، وكانت الملكة مستاءة لعدم اكتراث غريمتها، فقالت باستياء: ألا تدرين أيتها السيدة كيف تحيين الملكة؟
فجمدت رادوبيس في مكانها ولفحت قلبها هبة من انفعال شديد، وكادت تنفجر لتنفس عن صدرها الكظيم، ولكنها ملكت أعصابها، وكانت تعرف طريقة أخرى للانتقام فرسمت ابتسامة على وجهها وأحنت رأسها وهي جالسة، وقد أسندت رأسها إلى المقعد في تراخ واستهانة، وقالت بلهجة لم تخل من سخرية: إنه ليوم عظيم يا صاحبة الجلالة سيذكر لقصري في التاريخ.
والتهب وجه الملكة غضبا، فقالت بانفعال: لم تعدي الحقيقة، فسيذكر قصرك هذه المرة ذكرا جميلا لا كما تعود أن يذكره الناس.
فنظرت إليها بسخرية تستر غيظا وحنقا، وقالت: ألا سحقا للناس .. أيذكرون بالسوء قصرا يجعله مولاهم مرتعا لقلبه وهواه!
وتلقت الملكة هذه الطعنة بجلد، ونظرت إلى الغانية نظرة ذات معنى، وقالت: ليست الملكات كغيرهن من النساء يشغلن قلوبهن بالحب. - أحقا يا مولاتي؟ .. كنت أحسب الملكة امرأة بعد كل شيء.
فقالت الملكة بلهجة مغيظة: هذا لأنك لم تكوني ملكة في يوم من الأيام.
فامتلأ صدر المرأة وتصلب، وقالت: عفوا يا مولاتي، إني ملكة حقا.
فحدجتها بنظرة غريبة، وقالت بسخرية: يا للعجب! وعلى أي مملكة؟!
فقالت بزهو كبير: على أوسع الممالك طرا .. قلب فرعون.
وأحست الملكة بوهن وألم، وخجل، وأيقنت أنها انحدرت إلى مساجلة الراقصة في القتال، وأنها خلعت ثوب الجلال والوقار، وتبدت عارية في جلد المرأة الغيور التي تنافح لاسترداد رجلها، وتمسك بتلابيب غريمتها وتكيد لها كيدا. ونظرت لموقفها وموقف غريمتها، وهي تجلس منها جلسة متعجرفة، وترد سهمها إلى نحرها، وتتيه عليها بحب زوجها وسلطانه، فشعرت بغرابة وذهول وحيرة، وتمنت لو تكون في حلم ثقيل سخيف.
وأماتت عواطفها جميعا، ودفنتها في أعماق نفسها، وارتدت سريعا إلى طبيعتها المتعالية، وجرى في عروقها مكان الغضب والحقد دم أزرق لا يدين بغير الكبرياء، فذكرت الغرض الذي جاءت من أجله، وصدقت عزيمتها على أن تكفر عما بدر منها.
وطالعت المرأة بوجه هادئ ظاهرا وباطنا، وقالت لها: أيتها السيدة، إنك لم تحسني لقاء الملكة، ولعلك أسأت فهم الغرض من زيارتي فثرت وغضبت، ولكن اعلمي علم اليقين أني ما قصدت إلى قصرك لشأن يخصني أنا.
فسكتت رادوبيس وحدجتها بنظرة مليئة بالارتياب.
ولم يسكت عنها الحقد أو الغضب. وتناست الملكة، وقالت في هدوء: لقد جئتك أيتها السيدة من أجل أمور أجل، أمور تتعلق بالعرش المجيد، والسلام الذي ينبغي أن يسود العلائق بين صاحب العرش ورعاياه.
فقالت رادوبيس بانفعال وسخرية: يا للأمور الجليلة! وماذا أستطيع حيالها يا مولاتي؟ .. ما أنا إلا امرأة يلذ الحب أن يجعلها شغله الشاغل.
فتنهدت الملكة، وأغضت عن لهجتها، وقالت: أنت تنظرين إلى أسفل، وأنا أنظر إلى أعلى .. لقد حسبت أنك تغارين على مجد مولاك وسعادته، وإذا صدق حسباني، فينبغي أن تهديه سواء السبيل. إنه يفني في قصرك تلالا من الذهب، وينتزع من صفوة رجاله أراضيهم حتى ضج الناس بالألم، وجأروا بالشكوى، وقالوا إن مولانا يبخل علينا بمال يبعثره على امرأة يحبها بغير حساب. فواجبك إن كنت تغارين على مجده حقا، بين كالشمس في يوم صاف .. أن تصديه عن الإسراف، وتقنعيه برد المال إلى أصحابه.
ولكن رادوبيس لم يدعها الغضب تفهم ما تقوله الملكة حق الفهم، وكان وجدانها ثائرا وحقدها شديدا، فقالت بقسوة: إن الذي يحزنك حقا هو أنك ترين الذهب يتحول مع عطف فرعون إلى قصري.
فانتفض جسمها، وسرت فيه قشعريرة، وصاحت بها: يا للبشاعة!
فقالت رادوبيس بغضب وخيلاء: لن يفرق شيء بيني وبين مولاي.
فغلب الصمت لسان الملكة، وأحست بيأس شديد وجرح عميق في كبريائها، ولم تطمع في فائدة من الانتظار، فقامت واقفة وولت المرأة ظهرها، وسارت في طريقها متألمة حزينة غاضبة، لا تكاد ترى طريقها من شدة الغضب.
وصعدت رادوبيس أنفاسا مضطربة، وأسندت رأسها الساخن إلى كفها، وراحت في تفكير قلق حزين.
قبس من نور
وتنهدت رادوبيس من قلب مقروح، وقالت لنفسها: وا أسفاه! إني أتناسى العالم، ولكنه يأبى أن ينساني أو أن يدعني في طمأنينة بعد أن تطهرت من الماضي وأوشابه .. رباه! .. أحقا أن الكهنة يتهمون قصرها بابتلاع أموالهم المغتصبة؟ .. أحقا أنهم يسلقون حبها بألسنة من لهب؟ لقد انكمشت في قصرها راضية، وانقطعت صلاتها بالناس جميعا. وغاب عنها وجه الدنيا، فلم يدر لها بحسبان أن يجري اسمها بالسخط على ألسنة قوم أشداء، وأن يتخذوا منها سلما يرتقون عليه إلى لمز حبيبها المعبود، وهي ما تظن أن الملكة تبالغ، وإن تنوعت الدوافع التي تسوقها إلى الكلام؛ فقد ترامى إليها في زمن مضى أن الكهنة يشفقون من استرداد فرعون لأراضيهم، وقد سمعت بأذنيها في عيد النيل قوما من أولئك المشفقين يهتفون باسم خنوم حتب، فلا شك أن وراء العالم الهادئ الجميل الذي تعيش فيه عالما صاخبا تغلي مراجله بالأحزان والأحقاد .. وتكدرت نفسها بعد صفاء دام أشهرا طوالا لم تذق مثلها في حياتها جميعا، وأحست بأضلعها تحنو على حبيبها وتدر عطفا وحبا، وذكرت في غمرات حزنها الطارئ ما قال آني يوما من أن الحرس الفرعوني هو القوة الوحيدة التي يعتد بها الملك، فتساءلت في هلع: لماذا لا تجند الجنود؟ لماذا لا يعبئ معبودها جيشا عرمرما؟
وقضت سحابة نهارها في مخدعها كئيبة، ولم تذهب كعادتها إلى الحجرة الصيفية لتجلس أمام المثال بنامون؛ لأنها لم تكن تطيق الاجتماع بإنسان، ولا القعود بلا حراك أمام عيني الشاب المنهومتين .. فلبثت وحدها حتى الأصيل، ولم تذق للراحة طعما حتى رأت حبيبها المعبود يلج باب مخدعها، يرفل في ثيابه الفضفاضة، فتنهدت من أعماق قلبها، وفتحت له ذراعيها وضمها إلى صدره العريض كما يفعل كل مرة، وطبع على وجهها قبلة اللقاء السعيد، ثم جلس إلى جانبها على الديوان الوثير، وكانت نفسه تفيض بذكريات جميلة أثارها في قلبه مشهد النيل الذي حمل سفينته منذ حين قليل، فقال لها: أين الصيف الجميل؟ .. أين لياليه الساهرة؛ إذ تشق بنا السفينة جبهته المتجمدة الدكناء، وإذ نسلم في المقصورة أنفسنا للنسيم والهوى، ونستمع لعزف العازفات، ونشاهد بأعين حالمة رقص الراقصات؟
ولم تكن تستطيع أن تجاريه في تذكره، ولكنها لم ترض أن يحس بالعزلة في عاطفة أو فكر، فقالت: مهلا يا حبيبي، ليس الجمال في الصيف ولا في الشتاء، ولكنه في حبنا، وستجد الشتاء دفئا حنونا ما دام وقوده.
فضحك ضحكته العظيمة التي يضطرب لها وجهه وجسمه، وقال: ما أجمل حديثك! .. إنه أشهى إلى قلبي من مجد الدنيا جميعا .. ولكن ماذا تقولين في الصيد والقنص؟ .. سنذهب مع الغد إلى سفح الجبل، ونعدو في أعقاب الغزلان، ونلهو حتى نشبع نفوسنا المنهومة.
فقالت وقد غلبها الشرود: لتكن مشيئتك يا حبيبي.
فحدجها بنظرة فاحصة، وأدرك لتوه أن لسانها يحادثه وقلبها يتيه بعيدا، فقال: رادوبيس .. أقسم لك بالنسر الذي ألف بين قلبينا أن فكرا يسلبني اليوم عقلك.
فنظرت إليه بعنين حزينتين وأعياها القول، فقال وقد بدا عليه الاهتمام: صدق حدسي فعيناك لا تكذباني، ولكن ماذا تمسكين عني؟
فتنهدت من أعماق قلبها، وعبثت يمناها بعباءته وهي لا تدري، ثم قالت بصوت خافت: إني أعجب لحياتنا؛ فلشد ما ننسى ما حولنا كأننا نعيش في عالم قفر غير معمور. - نعم ما نصنع يا حبيبتي! فماذا أفدنا من العالم غير الضجيج الفارغ والمجد الكاذب، ولبثنا ضالين حتى هدانا الحب، فما لك تتذمرين؟
فتنهدت مرة أخرى وقالت بحزن: ماذا ينفعنا النوم إذا كان من حولنا أيقاظا لا يغمض لهم جفن؟
وقطب جبينه، والتمعت عيناه بنور خاطف، وأدرك بقلبه وساوسها، فسألها بقلق: ما الذي يحزنك يا رادوبيس؟ .. صارحيني بأفكارك؛ فحسبنا ما أضعنا في غير حديث الحب.
فقالت: لست اليوم كأمس؛ فقد نقل إلي بعض عبيدي الذين يمشون في الأسواق حديث قوم غاضبين يحز في نفوسهم أن مولاهم حرمهم من أراضيهم، ويضاعف من آلامهم أن أموالهم تنفق على قصري هذا.
فتبدى الغضب على وجه فرعون، ولاح له شبح خنوم حتب يطل على جنته المطمئنة، فيكدر صفوها، ويزعج أمنها. واشتد به الغضب فصبغ وجهه بلون النيل في إبان فيضانه، وقال لها بصوت متهدج: أهذا الذي يحزنك يا رادوبيس؟ .. الويل لأولئك المتمردين لا يمسكون عن غيهم؛ ولكن لا تكدري صفونا. ولا تبالي تباكيهم .. دعيهم لشأنهم، وافرغي لي.
فأحاطت يده بكفيها، وضغطت عليها بحنو، ونظرت إليه بعينين ضارعتين، وقالت: أنا قلقة حزينة، ويؤلمني أن أكون سببا لشكوى قوم منك .. وكأني أحس بخوف غامض لا أدري ما كنهه .. والمحب يا مولاي شديد المخاوف.
فقال باستياء وغضب: كيف تخافين، وأنت بين يدي؟
فقالت بتوسل: مولاي .. إنهم يرمقون حبنا بعين الحسد، وينفسون على هذا القصر والحب والطمأنينة والنعيم، ولقد قلت لنفسي في حزني وقلقي: ما للحب وهذا الذهب الذي ينثره مولاي علي؟ ولا أنكر عليك أني كرهت الذهب الذي يؤلب قوما علينا. ألا ترى أن هذا القصر سيظل جنتنا ولو تعرت أرضه ومسخت حوائطه؟ .. إذا كان بريق الذهب يا مولاي يخطف أبصارهم فاملأ به أيديهم يعموا ويزدردوا ألسنتهم. - وا أسفاه يا رادوبيس! إنك تذكرينني بحديث أكره سماعه.
فقالت بتوسل: مولاي، إنه غشاوة في سماء سعادتنا، فامحها بكلمة. - وما الكلمة هذه؟
فقالت بفرح، وقد ظنت أنه يلين ويرضخ: أن ترد إليهم أراضيهم.
فهز رأسه بعنف، وقال بلهجة شديدة: أنت لا تدرين من الأمر شيئا يا رادوبيس، لقد قلت كلمتي فلم تحترم، ونفذت على كره، ولم يسكتوا عن الاحتجاج، وما انفكوا يتحدونني، فالتسليم لهم هزيمة لا أرضاها، وأتمنى دونها الموت، أنت لا تدرين معنى الهزيمة في نفسي، إنه الموت، ولو فازوا علي بنيل بغيتهم لوجدتني رجلا غريبا حزينا أسيفا لا قدرة له على الحياة ولا الحب.
ونفذت كلماته إلى قلبها، فشدت على يديه بقوة، وأحست برجفة تسري في أوصالها، وقد هان عليها كل شيء إلا أن يصبح لا قدرة له على الحياة والحب. ونبذت رغبتها، وأسفت على توسلاتها، وصاحت بصوت متهدج: لن تذل أبدا .. لن تذل أبدا.
فابتسم إليها بحنو، وقال: نعم لن أذل .. ولن تكوني القضاء الذي يسومني الذل أبدا.
فقالت وهي تلهث، وقد ارتعش جفناها فوق دمعة حارة: لن تذل .. ولن تهزم.
وأسندت رأسها إلى صدره، واستنامت إلى خفقان قلبه. وأحست في غيبوبتها بأنامله تعبث بخصلات شعرها وخديها، ولكنها لم تطمئن طويلا؛ فقد أزعجها خاطر من الخواطر التي كدرت يومها، فرفعت إليه رأسها، ونظرت إليه بعينين قلقتين، فقال لها: ما لك؟
فقالت بعد تردد: يقولون إنهم فئة قوية، ذات سلطان على قلوب الناس وعقولهم.
فابتسم قائلا: ولكني الأقوى.
فترددت هنيهة ثم قالت: لماذا لا تعبئ جيشا قويا يأتمر بأمرك؟
فابتسم الملك، وسألها: أرى الوساوس تعاودك.
فتنهدت في غيظ، وقالت: ألم يبلغ أذني أن الناس تهمس فيما بينها بأن فرعون يأخذ أموال الآلهة وينفقها على راقصة؟ همس الناس إذا تجمع صار صراخا .. إنه كالشر يندلع لهيبا. - يا لك من متطيرة متشائمة!
فعادت تسأله بإلحاف: لماذا لا تدعو الجنود؟
فنظر إليها نظرة طويلة، وقد بدا عليه التفكير، ثم قال: إن الجنود لا تدعى بغير سبب.
وبدا على وجهه الغضب، فاستدرك: إنهم يضللون الأفكار، ويشعرون بغضبي عليهم، فإذا أمرت بالتجنيد لحقهم الذعر، وربما هبوا يائسين للدفاع عن أنفسهم.
ففكرت مليا، ثم قالت بصوت حالم، وكأنها تحدث نفسها: اخلق العلل وادع الجنود. - إن العلل تخلق نفسها بنفسها.
فأحست بيأس، وأحنت رأسها الحزين، وأغمضت عينيها. ولم تكن ترجو أملا، ولكن لاح لها في الظلام الدامس خاطر سعيد كلمح البصر، فبهتت وذهلت، وفتحت عينيها، فإذا الفرح يتألق فيهما. ودهش الملك، ولكنها لم تباله، وقالت وهي لا تملك عواطفها: وجدت سببا!
فنظر إليها متسائلا، فاستطردت: قبائل المعصايو.
فأدرك قصدها، وهز رأسه يائسا، وتمتم قائلا: لقد عقد رئيسهم معنا معاهدة سلام.
ولكنها لم تيأس، وقالت: من يدري بما يجري وراء الحدود؟ إن لنا هنالك أميرا حاكما من رجالنا، فلنبعث إليه برسالة سرية مع رسول أمين يزعم وجود ثورة وقتال، ويرسل في طلب النجدة، فتسمع صوته الملأ، وتدعو الجنود فتأتيك من الشمال والجنوب، حتى إذا اجتمع لواؤها إليك، وصلت بها جناحك، وأشهرتها سيفا في يدك تعلي به كلمتك وتفرض طاعتك.
واستمع لها فرعون في ذهول ودهشة، وقد عجب أيضا لأنها لم تخطر له ببال. على أنه لم يكن يفكر كثيرا في تكوين جيش قوي لا تدعو إليه الحالة الحربية، واعتقد - وما زال يعتقد - أن تذمر الكهنة لا يمكن أن يبلغ من الخطورة حدا يستدعي معه جيشا كبيرا لقمعه، ولكنه بات يعتقد أن عدم وجود هذا الجيش هو ما يطمع القوم فيه ويغريهم برفع الالتماسات وإعلان الشكوى، ووجد فكرة رادوبيس السهلة فرصة سعيدة، ومال إليها بجامع قلبه. وكان إذا مال إلى شيء تعلقه، وانشغل به واندفع في سبيله برغبة جنونية لا يلوي على شيء. لهذا نظر إلى عيني رادوبيس بفرح وابتهاج، وصاح بصوت قوي: نعم الفكرة يا رادوبيس! نعم الفكرة!
فقالت بفرح غريب: هذا ما يحدثني به قلبي .. وإنها لسهلة التحقيق سهولة تناولي هذه القبلة من فيك الحبيب .. وما علينا إلا الكتمان. - نعم يا حبيبتي .. ألا ترين أن عقلك كقلبك كنز ثمين؟ وحقا ما علينا إلا الكتمان، واختيار رسول أمين، فدعي هذا لي.
سألته: من عسى أن يكون رسولك إلى الأمير كارفنرو ؟
فأجابها ببساطة: سأختار حاجبا من رجالي المخلصين.
وكانت لا تطمئن إلى قصره العظيم، لغير ما سبب معقول، ولكن بدافع من نفور قلبها من مكان تقيم فيه الملكة. ولم تستطع قط أن تعبر عن هواجسها، وتحيرت فيمن عسى أن يكون الرسول إذا لم يكن من رجال القصر .. وزاد من حيرتها أنها أدركت أن افتضاح السر معناه شديد الخطر، حتى ليكبر ذكره على الخاطر. وهمت في لحظة يأس بالعدول عن مشروع حرج شديد الخطورة كهذا، ولكنها ذكرت بغتة الشاب الطفل ذا العينين الصافيتين الذي يعمل بالحجرة الصيفية، وأحست إلى ذكره بطمأنينة غريبة؛ فهو الصفاء وهو السذاجة والطهارة، وقلبه معبد تقدم لها فيه طقوس العبادة صباح مساء .. فهو رسولها .. وهو الأمين. ولم تتردد فقالت له بثقة: دعني أختار الرسول بنفسي.
فاستضحك الملك وقال: يا لك من رعديد اليوم! .. لست كعهدي بك .. ومن عسى أن تختاري يا ترى؟
فقالت بخشوع: مولاي .. المحب شديد المخاوف، ورسولي فنان يزخرف الحجرة الصيفية، له سن الشباب ونفس طفل وقلب عذراء طاهرة، ويخلص لي إخلاصا لا مزيد عليه. ومزيته الظاهرة أنه لا يثير الشبهات ولا علم له بشيء، وإنه لخير لنا أن يحمل رسالتنا من لا يدري بأمرها الشديد الخطر .. فلو جهلنا الخوف لاقتحمنا المهالك آمنين.
فهز الملك رأسه راضيا. وكان يكره أن يقول لها لا. وظنت رادوبيس أن السحابة انقشعت وإن كان انقشاعها على وجه غير الوجه الذي قصدت إليه بادئ الأمر، ففرحت وأطلقت لفرحها العنان، وأيقنت أنها ستستطيع عما قريب أن تذهل عن الدنيا في قصر الحب هذا، تاركة أمر حمايتها لجيش عرمرم لا يهاض له جناح.
وأحنت رأسها بالأحلام، فراق الملك جمال شعرها، وكان يحبه، فعبث بأنامله في عقدته فانحلت وسال على كتفيها، فتنشقه وجمعه بين يديه، وغمر به رأسه ووجهه في دعابة حتى لم يبد منهما شيء.
الرسول
وأشرق صباح اليوم الثاني، وكان الجو باردا والسماء متلفعة بأردية السحب، تبيض وتتوهج فوق منبع الشمس كوجه بريء يعلن ظاهره عن باطنه، وتظلم الآفاق البعيدة كأنها ذيول ليل نسيها وراءه بعد إدباره.
وكان ينتظرها عمل عظيم لا يرتاح إليه قلبها، ولا يرضى عنه تطهرها يوم تطهرت في المعبد، وأقسمت ليزول الماضي بشوائبه. كان الذي ينتظرها أن تخدع بنامون، وتعبث بعواطفه ليخدم حبها ويحقق غرضها. على أنها لم تتردد قط لأنه كان ينبغي أن تسبق الزمن، وكانت تحنو على حبها حنوا كبيرا، فلم تبال أن تقسو في سبيلهما قساوة مرة .. وغادرت مخدعها إلى الحجرة الصيفية عظيمة الثقة؛ لأن التغرير ببنامون كان أمرا سهلا لا يكلف مكرا.
وسارت على أطراف أصابعها، فوجدت الشاب يتطلع إلى صورتها، ويترنم مغنيا أغنية كانت تغنيها في الأماسي الخوالي مطلعها:
إذا كان حسنك يصنع المعجزات،
فلماذا لا يقدر على شفائي؟
وأخذت بغنائه، ولكنها انتهزت الفرصة، وغنت تتم أغنيته:
هل أعبث بما لا علم لي به
والأفق مستتر خلف سحاب؟
وعسى أن تكون المدخر لقلبي.
فتحول الشاب إليها فزعا مسحورا، فتلقته بضحكة عذبة، وقالت له: إن لك صوتا عذبا، فكيف أخفيته عني طوال هذه الأيام؟
فتصاعد الدم إلى وجنتيه قانيا، وارتجفت شفتاه ارتباكا، وقابل تلطفها بدهشة.
وأدركت المرأة ما يدور بخلده، فقالت تستدرجه: أراك تلهو بالغناء، وتترك العمل.
فبدا عليه الإنكار، وأشار إلى صورتها المحفورة. وتمتم: «انظري.»
وكانت الصورة قد استوت وجها جميلا لا تنقصه الحياة، فقالت بإعجاب: إنك لقادر يا بنامون.
فتنهد الشاب ارتياحا، وقال لها بامتنان: شكرا لك يا سيدتي. - فقالت تعطف الحديث إلى غايتها: ولكنك قسوت علي يا بنامون. - أنا .. كيف يا مولاتي؟
فقالت: خلقت لي نظرة جبارة، وأنا أشتهي أن أكون كالحمامة.
فلزمه الصمت ولم يبن، ففسرت صمته على هواها، وقالت: ألم أقل إنك تقسو علي .. فكيف تراني يا بنامون .. أجبارة قاسية جميلة كهذه الصورة؟ يا لها من صورة! إني أعجب كيف ينطق الحجر، ولكنك تحسب أن قلبي لا يشعر كهذا الحجر، أليس كذلك؟ لا تهم بالفرار فهذا هو اعتقادك. ولكن لماذا يا بنامون؟
ولم يدر ما يقول، فغلبه الصمت، وكانت توحي إليه بأفكارها، فيصدقها وينساق إليها ويشتد ارتباكه، واستدركت المرأة : لماذا يا بنامون تحسبني قاسية؟ إنك تؤمن بالظواهر؛ لأنك لا تقدر بطبعك على إخفاء ما يضطرب به صدرك، وقد قرأت وجهك كصفحة من كتاب مفتوح. أما نحن فلنا طبيعة أخرى، والصراحة تضيع علينا لذة الفوز، وتفسد أجمل ما خلقت الآلهة لنا.
وساءل الشاب نفسه حائرا: ماذا تعني يا ترى؟ وهل يستطيع أن يفهم من حديثها ما تدل عليه كلماتها؟ .. أما كانت تجلس أمامه تائهة القلب والعينين، لا تحس بالنار الملتهبة في كيانه، فما الذي غيرها؟ لماذا تحدثه هذا الحديث الحلو؟ لماذا تلج إلى الأسرار الحلوة التي تحرق قلبه؟! هل تعني حقا ما تقول؟! وهل تعني حقا ما أفهمه؟!
وخطت المرأة خطوة أخرى فقالت: آه يا بنامون! إنك تقسو علي بدورك، وآية ذلك الصمت الذي ترد به علي.
فحدجها بنظرة والهة، وكاد من الفرح تفر الدموع من عينيه، وقد أيقن صدق ظنونه، فقال بصوت متهدج: الدنيا لا تسعني كلاما.
فتنهدت ارتياحا أن حلت عقدة لسانه، وقالت بصوت حالم: وما حاجتك إلى الكلام؟ فلن تقول شيئا أجهله .. أيتها الحجارة لقد شاهدتنا أشهرا، وتركنا في جسمك أثرا من قلوبنا خالدا .. نعم ها هنا عرفت سرا رهيبا.
وتفرست في وجهه زمنا قصيرا، ثم قالت: ألا تعرف يا بنامون كيف عرفت سر قلبي؟ على حين بغتة عجيبة كانت لدي رسالة خاصة أريد أن أبعث بها إلى إنسان في مكان قصي، وأن أبعث بها مع رسول ترتاح إليه نفسي، ويثق فيه قلبي. وكنت جالسة وحدي أستعرض أمام ناظري أقواما من الرجال والنساء، ومن العبيد والأحرار، وما أحس في كل مرة إلا بالجفاء والقلق، ثم لا أدري إلا وخيالي يتسلل إلى هذه الحجرة، ووجدتني فجأة أذكرك يا بنامون، فترتاح نفسي ويطمئن قلبي، بل أحسست بما هو أعمق من هذا، وهكذا عرفت سر قلبي.
فغمر الفرح وجه الشاب، وأحس بالسعادة إلى حد الذهول، فجثا على ركبتيه أمامها، وهتف من أعماق قلبه: مولاتي!
فوضعت كفها على رأسه، وقالت بحنان: هكذا عرفت سر قلبي، وإني لأعجب كيف لم أعرف هذا منذ أجل طويل.
فقال بنامون، وكان يتيه في غمراه الذهول: مولاتي، أقسم لقد شهدني الليل وأنا ذوب عذاب، وهاك الصبح يلقاني نسمة من سعادة معطرة. لقد أخرجتني كلمة نطقت بها من الظلمات إلى النور، ونقلتني من دياجير اليأس إلى سحر السعادة. لقد أحببت نفسي بعد أن أشفيت على الفناء .. أنت سعادتي وحلمي وأملي.
وكانت تصغي إليه في صمت حزين، وقد شعرت بأنه يصلي صلاة حارة، وأنه يهيم في جهالة الأحلام الساذجة المقدسة، فوجمت وعاودها شيء من الألم والندم، ولكنها لم تستسلم طويلا لعواطفها التي أثارها في قلبها بهيامه فقالت في دهاء: إني أعجب كيف لم أعرف قلبي منذ أجل طويل، بل إني أعجب للمصادفات التي توفقني إلى سره إلا حين حاجتي إلى إرسالك إلى مهمة بعيدة؛ فكأنها دلتني عليك، وحرمتني منك في لحظة واحدة.
فقال الشاب بلهجة العبادة: سأفعل ما تريدين بروحي وقلبي.
فسألته بعد تردد: وإن كان ما أريد سفرا إلى بلد لا تبلغه إلا بشق الأنفس؟! - لن يشق علي منه إلا أني لا أراك كل صباح. - فليكن غيابا إلى حين. سأعطيك رسالة تودعها صدرك، وتذهب إلى حاكم الجزيرة بكلمة مني، فيدلك على الطريق، ويذلل لك الصعاب. وستسافر مع قافلة لا ينبغي لأحد منها أن يطلع على ما في صدرك حتى تبلغ حاكم النوبة، فتسلمها له يدا بيد، ثم تعود إلي.
وأحس بنامون بسعادة جديدة يمازجها شعور بالنخوة والخيلاء، وكانت يدها على كثب منه، فهوى بفمه عليها ولثمها بشوق ووجد، ورأته يرتجف بقوة حين لمست شفتاه يدها.
وفي طريق العودة عاودها إحساس حزين، حتى قالت لنفسها: أما كان أدنى إلى الرحمة أن أترك مولاي يختار رسوله، من أن أعبث بقلب هذا الشاب؟ على أنه كان سعيدا، أسعدته كلمة كاذبة، بل كان في حالة يحسد عليها السعداء حقا، وليس لها أن تحزن ما دام لا يعرف الحقيقة، حتى تيأس من لياذها بالكذب!
الرسالة
وفي مساء اليوم نفسه جاء فرعون يهز في يده رسالة مطوية، يشرق وجهه بنور السعادة، فحدجتها بنظرة غريبة وتساءلت: ترى هل يكتب لفكرتها بالنجاح والتوفيق، وتسير الأمور وفق أحلامها؟! وبسط الملك الرسالة، وقرأتها بعينين مبتهجتين، وكانت موجهة إلى الأمير كارفنرو حاكم النوبة من ابنه عمه فرعون مصر. وقد صارحه فيها بمتاعبه، وبرغبته في تعبئة جيش جرار دون أن يثير مخاوف الكهنة أو يوقظ حذرهم، وطلب إليه أن يبعث إلى مصر برسالة استغاثة مع رسول أمين ذي صفة رسمية، يطلب فيها نجدة سريعة للدفاع عن حدود الأملاك الجنوبية، ولقمع ثورة وهمية يزعم أن قبائل المعصايو أشعلت نيرانها، واجتاحت بها البلدان والقرى.
وطوتها رادوبيس مرة أخرى، ثم قالت: إن الرسول على أهبة الاستعداد.
فقال الملك مبتسما: والرسالة جاهزة.
وبدا على وجهها التأمل والأحلام، ثم سألت: ترى كيف يقابلون رسالة كارفنرو؟
فقال الملك بلهجة اليقين: ستهز القلوب جميعا، وقلوب الكهنة أنفسهم، وسوف يدعو الحكام إلى تجنيد الرجال من جميع أطراف البلاد، فلا يلبث الجيش الذي يناط به أملنا أن يأتينا بعدده وعدده.
واستخفها الفرح وسألته بلهفة: وهل ننتظر طويلا؟ - أمامنا شهر انتظار يقطعه الرسول في الذهاب والإياب.
ففكرت هنيهة، ثم عدت على أصابعها، وقالت: إذا صدق حدسك تصادف عودته عيد النيل.
فضحك الملك وقال: هذا فأل حسن يا رادوبيس؛ فعيد النيل هو عيد حبنا، وسيكون عيد الفوز والطمأنينة.
وتفاءلت هي خيرا وكانت تؤمن بأنه لا يمكن أن تفقد أملا عزيزا في ذاك اليوم الذي تعده بحق مولدا لسعادتها وحبها. وأيقنت أن اقتران عودة الرسول به ليس محض مصادفة، ولكنه تدبير حكيم من يد آلهة تبارك حبها وتعطف على آمالها.
ورمقها الملك بنظرة إعجاب وإكبار، ثم قبل رأسها وقال: لله هذا الرأس الثمين .. لشد ما أعجب به سوفخاتب، ولشد ما أعجب بالفكرة التي أبدعها، فلم يملك نفسه أن قال لي: يا له من حل يسير لمشكل عسير، كأنه زهرة مونقة تخرج من ساق ملتوية، وأغصان شديدة التعقيد!
وكانت تظن أنه كتم الخبر ولم يبح لإنسان، حتى ذلك الوزير المخلص سوفخاتب، فسألته: هل علم الوزير بسرنا؟
فقال ببساطة: نعم: إن سوفخاتب وطاهو بمثابة عقلي وقلبي، فلا أكتمهما شيئا.
ودوى اسم طاهو في أذنيها دويا شديدا، فتجهم وجهها، وبدا القلق في عينيها، وسألته: وهل علم به الآخر؟
فقال الملك ضاحكا: لشد ما تحاذرين يا رادوبيس! ولكن اعلمي أني لا آمن نفسي على شيء لا آمنهما عليه.
فقالت: إن حذري يا مولاي لا يرتقي لإنسان تثق فيه هذه الثقة.
ولكنها ذكرت بالرغم منها طاهو في ساعة وداعه الأخير، ودوى في أذنيها صوته الأجش، وهو يهدر غاضبا حانقا يائسا، وتساءلت: ترى هل ما يزال يعلق بنفسه شيء؟!
ولكن الوساوس لم تجد فرصة للعبث بقلبها؛ لأنها كانت تنسى نفسها بين يدي حبيبها. •••
وجاء في الصباح الرسول بنامون بن يسار متلفعا بعباءته، غارقا في القلنسوة حتى الأذنين، وكان خداه متوردين، وعيناه لامعتين بنور فرح سماوي .. فسجد بين يديها في صمت وخشوع، وقبل حاشية ثوبها في عبادة، فداعبت رأسه بأناملها، وقالت له بحنو: لن أنسى يا بنامون أنك لأجلي هجرت الراحة والسكينة.
فرفع إليها وجهه الجميل البريء، وقال بصوت متهدج: في سبيلك يهون كل شاق، فلتعني الآلهة على تحمل ألم الفراق.
فقالت له مبتسمة: ستعود سعيدا ناضرا، وستنسى في أفراح المستقبل أحزان الماضي جميعا.
فتنهد قائلا: طوبى لمن يحمل في قلبه حلما سعيدا يؤمن وحدته، ويرطب جفاف طريقه.
فابتسمت له ابتسامة مشرقة، وأمسكت بيدها الرسالة المطوية وسلمتها إليه وقالت: لا أوصيك بالحذر .. أين تودعها؟
فقال: على قلبي يا مولاتي تحت منطقتي.
فسلمت إليه رسالة أخرى صغيرة، وهي تقول: هاك رسالة أخرى ادفع بها إلى الحاكم آني يمهد لك السبيل، ويدلك على أول قافلة تقوم.
ثم حم الوداع، فازدرد ريقه واضطرب، وبدا عليه الارتباك والهيام، فمدت له يدها، فتردد لحظة، ثم وضعها بين يديه، وكفاه يرتعشان كأنما يلمس نارا موقدة، ثم ضمها إلى صدره حتى سرت إليها حرارته وخفقاته، ثم مضى راجعا فغيبه الباب، وقد شيعته بنظرة حائرة، ولسان يلهج بالدعاء الحار.
كيف لا، وقد ربط على قلبه أملا تتعلق به حياتها؟
طاهو يهذي
وكان الانتظار مرا من أول عهدها به؛ لأنه كان لا يفتأ يهتف بها هاتف رجاء يقول بحسرة: ليت الملك لم يفش سر الرسالة لإنسان. كانت تتمنى هذا بحرقة لم يخفف من لوعتها ما أبدى الملك من ثقة عظيمة برجليه المقربين. ولم تكن وساوسها ريبة صريحة، ولكن ثمة قلق دفعها إلى التساؤل: ترى ماذا يحدث لو سعى ساع بفحوى الرسالة إلى رجال الكهنوت؟ هل يترددون في الدفاع عن أنفسهم إزاء هذا الشر المبيت؟ .. رباه! .. إن إفشاء سر الرسالة أمر خطير .. لا يجرؤ على إدراك كنه خطورته عقل وطني. وأحست بقشعريرة تسري في جسمها الرقيق، وهزت رأسها بعنف تطرد عن مخيلتها أوهام الوساوس، وهمست لضميرها تسكته قائلة: إن كل شيء يسير وفق الخطة التي رسمناها، وليس من داع إلى إثارة هذه المخاوف، وما هذه الأوهام المرتعبة إلا وساوس قلب مغرم لا يهدأ ولا ينام.
على أنها كانت لا تكاد تطمئن حتى يحوم خيالها مرة أخرى حول هاتيك المخاوف، وتخال أنها ترى وجه طاهو الغاضب المتقلص من الألم، وأنها تسمع صوته الأجش ذا النبرات المتألمة المجروحة. وقد عانت من مخاوفها الآلام، ولكنها لم تجسر على تفسيرها أو إزالة الغموض الذي يكتنفها.
ترى هل يحق لها أن تخشى طاهو أو أن تسيء به الظن؟ .. إن كل الدلائل تدل على أنه نسي، ولكن هل كان بوسعه أن يفعل شيئا وامتنع عنه طواعية؟ فما كان يستطيع أن يطرق بابها بعد أن أصبح حرما محرما، وما كان بوسعه إلا الإذعان والتسليم، ولا يعني هذا أنه نسي أو برأ.
ترى هل يبقى شيء من زوايا الماضي عالقا بقلبه؟ .. إن طاهو جبار عنيد، وقد يستحيل الحب في قلبه حقدا موريا، فيتحفز عند سنوح الفرصة للانتقام .. على أنها لم تنس في أحزانها أن تنصف طاهو، وأن تذكر له إخلاصه وتفانيه في حب مولاه، وأنه رجل الواجب الذي لا يحيد به عن سبيله نزوع ولا مطمع.
كان كل شيء يدعو إلى الطمأنينة، ولكن وساوسها لم تدعها في طمأنينتها قط، وكان الرسول برح قصرها منذ ساعات قلائل فقط، فكيف لها بالانتظار شهرا أو يزيد؟ .. لقد لحقها الفزع، وخطر لها خاطر غريب أن تدعو طاهو إلى مقابلتها. وكان خاطرا لا يخطر لها على بال قبل يوم، أما اليوم فقد وجدت به راحة وإليه رغبة. وكان يدفعها إليه ما يدفع الإنسان إلى احتضان خطر يتقيه ولا يجد سبيلا إلى دفعه أو الإفلات منه، وفكرت في ذلك تفكيرا مضطربا، وقالت لنفسها: فلأدعه ولأحادثه لاستبطان ذاته، وعسى أن أفوز بدفع شره - إن كان هناك شر يدفع - فأنقذه من نفسه، وأنقذ مولاي من شره، وما لبثت رغبتها أن تحولت إلى عزيمة لا تقبل التردد، فاستمسكت بها بكل ما أوتيت من قوة وقلق .. ودعت من فورها شيث وأمرتها بالذهاب إلى قصر القائد طاهو واستدعائه. وذهبت شيث وانتظرت هي في بهو استقبالها على قلق؛ ولم يكن يداخلها ريب في تلبيته لدعوتها. وذكرت في انتظارها اضطرابها، وقرنت به ما كانت عليه من القوة والبرود في الأيام الخوالي، فأدركت أنها منذ الساعة التي نزل فيها الحب بقلبها، انقلبت امرأة ضعيفة قلقة، يطرد النوم عن عينيها وهم ساخر، أو قلق كاذب.
وجاء طاهو كما توقعت، وكان مرتديا لباسه الرسمي، فوجدت في ذلك معنى مطمئنا، فكأنه يقول لها إنه نسي رادوبيس غانية القصر الأبيض، وإنه يحظى الآن بمقابلة صديقة مولاه فرعون.
وأحنى القائد رأسه باحترام وإجلال، وقال بهدوء وبلا أدنى تأثر: أسعد الرب أيامك أيتها السيدة الجليلة.
فقالت وهي تتفرس في وجهه: وأيامك أيها القائد الجليل، وإني أشكرك على قبول دعوتي.
فقال طاهو وهو يحني رأسه: إني رهن إشارتك يا سيدتي.
رأته كما كان قويا متين الأسر، دموي البشرة، ولكن لم يخف عن عينيها الفاحصتين أن ترى تغيرا طارئا لا يمكن لغير عينيها أن تراه. وجدت حول وجهه هالة من ذبول أفقدت نظرة العينين بريقهما، وأطفأت روحا شاملا كان يشع من وجه الرجل .. وأشفقت من أن يكون ذلك بسبب ما حدث في تلك الليلة الغريبة التي فصلت بينهما منذ قريب من عام .. وا أسفاه! كان طاهو كجو عاصف ، فأمسى كجو راكد .. وقالت له: إني دعوتك أيها القائد لأهنئك على الثقة العظيمة التي يوليك إياها الملك.
فبدت الغرابة على وجه القائد وقال: شكرا لك يا سيدتي، هذه نعمة قديمة منت بها علي الأرباب.
فابتسمت ابتسامة متكلفة وقالت بدهاء: ولأشكرك على ما أسديت إلى فكرتي من جميل الثناء.
وتفكر الرجل لحظة، ثم تذكر فقال: لعلك يا سيدتي تعنين الفكرة النيرة التي أوحى بها عقلك الراجح؟
فهزت رأسها أن نعم، فاستطرد: إنها فكرة رائعة، جديرة بذكائك اللامع.
فقالت وهي لا تبدي السرور: إن تحقيقها يكفل لمولانا القوة والسيادة، وللوطن السلام والطمأنينة.
فقال القائد: هذا حق لا ريب فيه، وهو ما جعلنا نهلل لها ونكبر.
فنظرت إليه نظرة عميقة وقالت: سيأتي يوم قريب تحتاج فكرتي إلى قوتك لتحقيقها، وتتويجها بالنجاح والفوز.
فأحنى الرجل رأسه وقال: شكرا لك على ثقتك الغالية.
وصمتت المرأة قليلا. كان طاهو وقورا رزينا جادا لا كما عهدته قديما، ولم تكن تنتظر منه غير ذلك واستشعرت نحوه بطمأنينة وثقة. وكانت تلح عليها رغبة قوية في أن تفاتحه في الموضوع القديم، وأن تسأله العفو والنسيان، ولكن خانها البيان ولم تدر ما تقول، وغلبتها الحيرة فأشفقت من الزلل، وتركت هذا الحديث كارهة حائرة، ورأت في اللحظة الأخيرة أن تعلن له عواطفها الطيبة بطريقة أخرى، فمدت له يدها وقالت وهي تبتسم إليه: أيها القائد الجليل، إني أمد لك يد التقدير والصداقة.
فوضع الرجل يده الغليظة في يدها الرخصة الرقيقة، وبدا عليه التأثر فلم يحر جوابا، وانتهت عند ذلك المقابلة القصيرة الفاصلة.
وفي طريق العودة إلى السفينة تساءل محموما: لماذا دعتني هذه المرأة؟ ترك العنان لعواطفه التي كبح جماحها في حضرتها فاختل توازنه، وانكفأ لونه، وارتجفت أوصاله، ومضى يفقد عقله ورشده بسرعة فائقة. وضربت المجاديف جانب الماء وهو يترنح كالثمل، كأنه عائد من معركة خاسرة أفقدته حكمته وشرفه. وخال النخيل المنطلق على الشاطئ يرقص رقصا جنونيا، والجو يعفره غبار ثائر خانق. وكان الدم يتدفق في عروقه ساخنا هائجا مجنونا مسموما، ووجد إبريقا من الخمر على خوان المقصورة، فصبه في فمه حتى أتى عليه في استهتار جنوني، وارتمى على الديوان في حالة يأس قاتل.
وفي الحقيقة لم يكن نسيها، ولكنها كانت تكمن في سرداب خفي من نفسه ما فتئ يسده بالعزاء والصبر وشعوره القوي بالواجب، فلما وقع نظره عليها بعد غياب عام، انفجر المستودع المختفي في نفسه، وتصاعد لهيبه حتى حرق روحه جميعا، وأحس بالعذاب والهوان واليأس والكبرياء الذبيح، فذاق الهزيمة والعذاب مرتين في معركة واحدة منتهية. وأحس بدوار في رأسه المختل، وجعل يحدث نفسه في غضب كاسر، إنه يعلم لماذا عنيت باستدعائه. دعته لتستوثق من إخلاصه، ليطمئن قلبها على سيدها ومولاها الحبيب، وفي سبيل ذلك تكلفت مودته وتملقه، يا للغرابة! إن رادوبيس العابثة القاسية تجد وتحنو وتتعلم ما الحب وما مخاوفه وآلامه، وتشفق من خيانة طاهو، الذي كان يوما يلتصق بنعلها كالتراب، ثم نفضته في حالة تقزز وملل، الويل للسماء والأرض، والويل للدنيا جميعا. إنه يشعر باليأس المميت والغضب القاتل، وبغيظ خانق يطحن نفسه الجبارة. إنه يغضب غضبا جنونيا جارفا، ويشعل دمه نارا موقدة، يضغط على سمعه فلا يكاد يسمع شيئا، ويخضب عينيه فيرى الدنيا شعلة حمراء.
وما إن رست السفينة إلى سلم القصر الفرعوني، حتى غادرها مسرعا، وسار يترنح في الحديقة لا يلتفت إلى تحيات الجنود، متجها إلى حجرة قائد الحرس بالثكنات، وفي أثناء سيره اعترض طريقه رئيس الوزراء سوفخاتب. وكان عائدا من جناح الملك. وقابله الوزير بابتسامة تحية، ولكنه وقف حياله جامدا كأنه لا يعرفه. وعجب سوفخاتب لجموده، وقال له: كيف حالك أيها القائد طاهو؟
فقال طاهو بسرعة غريبة: أنا .. كأسد واقع في شراك .. أو كسلحفاة راقدة على ظهر فرن موقدة!
فبدا الإنكار على وجه سوفخاتب وقال: ما هذا الكلام؟ .. أي شبه بين الأسد والسلحفاة، أو بين الشراك والفرن؟
فقال طاهو في ذهوله: أما السلحفاة فتعمر طويلا، وتتحرك في بطء وتنوء بحمل ثقيل، وأما الأسد فينكمش ويزأر ويثب في عنف فيقضي على فريسته.
فتفرس الرجل في وجهه دهشا وقال: أغاضب أنت ؟ لست كعهدي بك! - أنا غاضب .. كيف تنكرني أيها الجليل؟ أنا طاهو ربيب الحرب والقتال .. آه! كيف يصبر العالم على هذا السلام الثقيل؟ .. إن آلهة الموت عطشى ولا بد يوما أن أروي غلتها.
فهز سوفخاتب رأسه متوهما أنه عرف ما هنالك، ثم قال: آه! .. الآن فهمت أيها القائد، إنها خمر مريوط المعتقة.
فقال طاهو بحدة: كلا .. كلا .. الحق أني شربت كأسا من الدم. ثم تبين أنه دم إنسان شرير، فتسمم دمي، وزاد الأمر خطورة أني صادفت في طريقي إلى هنا رب الخير نائما في المرج، فأغمدت سيفي في قلبه .. هيا إلى القتال .. فالدم شراب الجندي الباسل.
فقال سوفخاتب ذاهلا. - إنها الخمر ولا شك، ويحسن بك أن تعود إلى قصرك في الحال.
ولكن طاهو هز رأسه استهانة وقال: الحذر الحذر أيها الرئيس، إياك والدم الفاسد؛ فهو السم بعينه، لقد انتهى صبر السلحفاة وسينقض الأسد.
قال ذلك ثم سار في طريقه لا يلوي على شيء، تاركا سوفخاتب في ذهول وغرابة.
فترة الانتظار
وكان القصر الفرعوني، وقصر بيجة، ودار الحكومة تنتظر أوبة الرسول بفارغ الصبر، ولكن في طمأنينة وثقة بالمستقبل، وكان كل يوم يدنو يدنيها من الفوز، ويدفئ صدرها بحرارة الأمل. وما كان لينقطع هذا الشعور الطيب الجميل، لولا أن وصلت إلى رئيس الوزراء رسالة خطيرة من رجال الكهنوت، وكان سوفخاتب يهمل أمثال هذه الرسالة، أو يقنع مضطرا بعرضها على الملكة، ولكنه وجد فيها معنى جديدا خطيرا، لم يشأ أن يتحمل تبعة إخفائه عن مولاه، ولو لاقى في سبيل ذلك بعض غضبه، فقابل فرعون وتلا عليه الرسالة، وكانت التماسا خطيرا موقعا عليه من جميع رجال الكهنوت، وعلى رأسه كهنة رع وآمون وبتاح وأبيس، يرجون مولاهم أن يرد أراضي المعابد إلى أصحابها الآلهة المعبودة التي توليه عنايتها، ويؤكدون أنهم ما كانوا يتقدمون بالتماسهم لو وجدوا من الأسباب ما يدعو إلى وجوب نزع الأراضي.
كان الخطاب قويا حازما، فغضب الملك، ومزقه إربا، ورمى به على أرض الحجرة وصاح: سوف أجيبهم بعد حين قليل.
فقال سوفخاتب: إنهم يلتسمون جماعة، وكانوا يلتمسون فرادى.
فقال الملك الغاضب: وسأضربهم جميعا، فليحتجوا كيف شاء لهم الجهل.
على أن الحوادث جاوزت هذا الحد؛ فقد أرسل حاكم طيبة إلى رئيس الوزراء يقول إن خنوم حتب زار مقاطعته، وإنه استقبل استقبالا شعبيا رائعا اشترك فيه كهنة آمون وكاهناته وجموع غفيرة من الأهالي، وإن الهتافات تصاعدت باسمه، وهتف القوم أيضا لحقوق الآلهة التي ينبغي أن تصان وتخدم، وجاوز هذا القدر قوم، فصاحوا باكين: «وا حسرتاه! إن أموال آمون تنفق على راقصة.»
ووجم الرئيس أسفا وحزنا، وغلب إخلاصه تردده هذه المرة أيضا، فأحاط مولاه بهذه الأخبار بلباقة، وغضب الملك كعادته وقال آسفا: إن حاكم طيبة يسمع ويرى ولا يستطيع شيئا.
فقال سوفخاتب بحزن: ليس لديه يا مولاي إلا قوة الشرطة، وهي لا تجدي في مقاومة جموع غفيرة.
فقال الملك بغضب: وليس لدي إلا الانتظار على مضض، لقد أدميت وحق الرب كبريائي!
وخيمت سحابة من الحزن على آبو المجيدة، شملت قصورها الشامخة ودور الحكم فيها. وكانت الملكة نيتوقريس تقبع في جناحها رهينة حبس ووحشة، تعاني آلام قلبها المنفطر وكبريائها الجريح، وترقب الحادثات بعينين حزينتين أسيفتين. وكان سوفخاتب يتلقى الأخبار بقلب حزين، ويقول آسفا لطاهو الصامت الكئيب: «هل شهدت مصر قبل اليوم مثل هذا الغضب المتمرد؟! وا حزناه!»
واستحالت سعادة الملك غضبا وغيظا، وكان لا يذوق الراحة إلا حين يرتمي بين يدي المرأة التي أسلمها نفسه، وكانت تدرك ما به، فكانت تداعبه وتحنو عليه وتهمس في أذنه: «صبرا.» فيتنهد ويقول حانقا: «نعم .. حتى أقبض على ناصية القوة.»
ولكن اشتد الحرج، فتعددت زيارات خنوم حتب للمقاطعات، واستقبل بالمظاهرات في كل مكان، وتعالى الهتاف باسمه في البلدان. وضاق بذلك كثير من الحكام، ورأوا فيه معنى لم يرتح إليه إخلاصهم لفرعون. فاجتمع حكام أمبوس، وفرمونتس، ولاتولس، وطيبة، وتشاورا فيما بينهم، وقر رأيهم على مقابلة الملك. وقصدوا إلى آبو وطلبوا المقابلة، فاستقبلهم فرعون استقبالا رسميا حضره سوفخاتب، وتقدم حاكم طيبة بين يديه وحياه تحية العبودية والإخلاص ثم قال: مولاي، الإخلاص الحق لا ينفع بأن يكون عاطفة في القلب، ولا بد أن يقرن بإسداء النصح والعمل الصالح والافتداء إذا حزب الأمر، ونحن حيال أمر قد يعرضنا الصدق فيه إلى موجدة، ولكنا لا نأمن مع السكوت عليه من وخز ضمائرنا، فلا بد من قولة الحق.
فصمت فرعون هنيهة ثم قال للحاكم: تكلم أيها الحاكم فإني مصغ إليك.
فقال الرجل بشجاعة: مولاي، الكهنة غاضبون، وقد انتقلت عدوى غضبهم إلى نفوس الشعب المنصت إلى حديثهم في الصباح والمساء، وكان من جراء ذلك أن اتفقت كلمة الجميع على وجوب رد الأراضي إلى أصحابها.
فبدا الغضب على وجه الملك وقال بحنق: هل يصح أن يذعن فرعون لإرادة الناس؟
فقال الرجل بصراحة وجسارة: مولاي، إن سعادة الشعب أمانة عهدت بها الآلهة إلى ذات فرعون، فلا إذعان، لكن تعطف من مولى قادر على عباده.
فضرب الملك الأرض بصولجانه وقال: لا أرى في التراجع سوى الخنوع.
فقال الرجل: معاذ الرب أن أشير إلى مولاي بالخنوع، ولكن السياسة بحر لجي، والحاكم كالربان يتفادى الريح العاصفة، وينتهز الفرصة السعيدة.
ولكن الملك لم يعجبه قوله، وهز رأسه باحتقار وعناد، واستأذن سوفخاتب طالبا الكلام، وسأل حاكم طيبة قائلا: هل لديك دليل على أن الشعب يشاطر الكهنة عواطفهم؟
فقال الحاكم بثبات ويقين: نعم يا صاحب القداسة، لقد بثثت عيوني في الأقاليم، فشهدوا غضب الشعب عن كثب، وسمعوه يخوض فيما لا يجوز الخوض فيه.
وقال حاكم فرمونتس: وهذا ما فعلته فجاءتني أنباء مؤسفة.
وأدلى كل حاكم بدلوه، ودلت أقوالهم على خطورة الحال، وانتهت بذلك أول مقابلة من نوعها تشهدها قصور الفراعنة.
واجتمع الملك على الأثر بوزيره وقائد حرسه في جناحه الخاص، وكان غاضبا مهتاجا يتهدد ويتوعد وقد قال للرجلين: إن هؤلاء الحكام مخلصون أمناء، ولكنهم ضعاف، ولو أخذت بنصائحهم لعرضت عرشي للهوان.
وسرعان ما أمن طاهو على رأي مولاه وقال: إن التراجع هزيمة يا مولاي!
كان سوفخاتب يفكر في احتمالات أخرى فقال: ينبغي أن نحسب حساب عيد النيل، وهو لا يفصل بيننا وبينه سوى أيام معدودات، والحق أن قلبي لا يرتاح إلى حشد الآلاف من الشعب الغاضب في آبو.
فبادر طاهو قائلا: إننا نسيطر على آبو. - لا ريب في هذا، ولكن لا يجوز أن ننسى أنه في العيد الماضي تصاعدت بضعة هتافات خائنة، ولم يكن مولانا الملك قد حقق إرادته، فينبغي أن نتوقع هتافات أخرى أشد صراخا.
فقال الملك: إن الأمل معقود بعودة الرسول قبل العيد.
ولكن لم ينفك سوفخاتب يزن الأمور من وجهة نظره، فقال وكان يؤمن في قلبه باقتراح الحكام: سيأتي الرسول في القريب، وسيتلو رسالته على الملأ، ولا شك أن الكهنة الحائزين على عطف مولاهم، المتمتعين بما يعتقدون أنه حقهم، يكونون أعظم اطمئنانا إلى التعبئة وأشد حماسة، حتى إذا قبض مولاي على ناصية القوة، أملى إرادته، ولا راد لمشيئته.
وضاق الملك ذرعا برأي سوفخاتب، وأحس بوحشة في جناحه الخاص، فهرع إلى قصر بيجة الذي لا تلاحقه الوحشة إليه قط. وكانت رادوبيس تجهل ما دار في الاجتماع الأخير، فكانت أدنى إلى الطمأنينة منه، ولكنها لم تلق صعوبة في قراءة صفحة وجهه الحساس، والشعور بما يضطرم في قلبه من الغضب والسخط، واعتورها القلق ونظرت إليه متسائلة والكلام يضطرب خلف شفتيها مشفقا من الظهور، فقال متذمرا: أما علمت يا رادوبيس؟ إن الحكام والوزراء يشيرون علي برد الأراضي إلى الكهنة، والرضاء بالهزيمة؟
فتساءلت بانزعاج: ما الذي حثهم على إبداء هذه المشورة؟
فروى الملك ما قال الحكام، وما نصحوه به، وكانت تزداد انزعاجا وحزنا، وما تمالكت نفسها أن قالت: إن الجو يغبر ويظلم، وما حمل الحكام على المكاشفة بآرائهم إلا خطر فادح.
فقال الملك بازدراء: إن شعبي غاضب. - مولاي، إن الناس كالسفينة الضالة بلا سكان، تحملها الرياح كيفما تشاء.
فقال بوعيد مخيف: سأذهب ريحهم.
وعاودتها المخاوف والشكوك، وخانها صبرها في تلك اللحظة فقالت: ينبغي أن نستوصي بالحكمة، وأن نتراجع زمنا قصيرا مختارين، وإن يوم النصر لقريب.
فنظر إليها بغرابة وقال: أتشيرين علي بالخضوع يا رادوبيس؟
فضمته إلى صدرها وقد آلمتها لهجته، ثم قالت وقد فاضت عيناها بدمع سخين: أحرى بمن يتحفز للوثبة الكبرى أن ينكمش أقداما، والنصر رهين بالنهاية.
فتأوه الملك قائلا: آه يا رادوبيس! .. إذا كنت أنت تتجاهلين نفسي، فمن ذا الذي يمكن أن يعرفها؟ أنا من إذا نزل مرغما على إرادة إنسان ذبل كمدا كوردة سفتها الرياح.
فبدا التأثر في عينيها السوداوين، وقالت في حزن عميق: فداؤك نفسي يا حبيبي لن تذبل قط وصدري يرويك حبا صافيا. - سأعيش منتصرا في كل لحظة في حياتي، ولن أمكن خنوم حتب من أن يقول يوما إنه أذلني ساعة!
فابتسمت إليه ابتسامة حزينة وتساءلت: أتريد أن تسوس شعبا بغير التجاء إلى الحيلة أحيانا؟ - التسليم حيلة العاجز، سأظل ما حييت مستقيما كالسيف تتحطم على أسنانه قوى الخائنين.
فتنهدت حزينة آسفة ولم تحاول معاودته، ورضيت بالهزيمة أمام غضبه وكبريائه، ومنذ تلك اللحظة وهي تتساءل جزعة: متى يعود الرسول؟ .. متى يعود الرسول؟ .. متى يعود الرسول؟
ما أشق الانتظار! .. لو يعلم المتمنون ما عذاب الانتظار لآثروا الزهد في الدنيا .. كم عدت الدقائق والساعات وترقبت شروق الشمس وانتظرت مغيبها، وذابت عيناها من طول النظر إلى مجرى النيل الآتي من الجنوب. وكم حسبت الزمن بتردد أنفاسها وخفقان قلبها، وكم صاحت وقد نال منها القلق كل منال: أين أنت يا بنامون؟! حتى الحب نفسه ذاقته ذوق الشارد الحالم، فلا طمأنينة ولا سلام حتى يعود الرسول برسالته!
وتقضت الأيام تجر ثقلها جرا بطيئا، حتى كان يوم تجلس فيه مستغرقة في أفكارها، وإذا بشيث تدخل عليها مهرولة، فرفعت رأسها وسألتها: ما وراءك يا شيث؟
فقالت الجارية بلهفة تلهث: مولاتي، جاء بنامون.
وغمرها الفرح، فانتفضت واقفة كطير فزع وهي تصيح: بنامون!
فقالت الجارية: نعم يا مولاتي، إنه ينتظر في البهو، وطلب إلي أن أوذنك بقدومه. كم لوحه السفر!
وجرت تتخطى أدراج السلم إلى البهو، فألفته واقفا ينتظر مقدمها وفي عينيه شوق صارخ، وكانت تبدو كشعلة من الفرح والأمل، فوقر في نفسه أن فرحها به، وله، فغمرته سعادة إلهية وارتمى على قدميها كالعابد، ولف ذراعيه حول ساقيها بحنان ووجد، وهوى بفمه إلى قدميها .. وقال: معبودتي، حلمت مائة مرة أني أقبل هاتين القدمين، وها أنا ذا أحقق أحلامي.
فداعبت شعره بأناملها وقالت برقة: بنامون العزيز .. بنامون .. أحقا عدت إلي؟
فلمعت عيناه بنور الحياة، ودس يده في صدره فأخرج حقا من العاج صغيرا وفتحه، وإذا ما فيه تراب .. ثم قال: هذا تراب مما كانت تطأ قدماك في الحديقة، جمعته بيدي واحتفظت به في هذا الحق، وحملته معي في سفري، وكنت أقبله كل مساء قبل استسلامي للكرى، ثم أحفظه على قلبي.
وأصغت إليه على جزع وتململ، وكان شعورها منصرفا عن حديثه، ونفد صبرها، فسألته برقة تداري بها جزعها: ألا تحمل شيئا؟!
فدس يده في صدره مرة أخرى، وأخرج كتابا مطويا ومد لها يده به، فتسلمته بيد مرتجفة وقد غمرها شعور سعيد، وأحست بتخدير في أعصابها وخور في قواها، وألقت على الرسالة نظرة طويلة، وشدت عليها بيدها، وكادت تنسى بنامون ووجده لولا أن وقع عليه بصرها فتذكرت أمرا هاما وسألته: ألم يأت معك رسول من قبل الأمير كارفنرو؟
فقال الشاب: بلى يا مولاتي، وهو الذي حمل الرسالة في أثناء العودة. وإنه لينتظر الآن في الحجرة الصيفية.
ولم تستطع أن تبقى في مكانها طويلا؛ لأن الفرح الذي غمر حواسها عدو للسكون والجمود فقالت: أستودعك الرب إلى حين، وإن حجرة الصيف تنتظرك وستصفو لنا الأيام.
وجرت حاملة الرسالة، وكان قلبها ينادي حبيبها ومولاها من أعماقها، ولولا التحرج، لطارت إليه في قصره كما فعل النسر من قبل، تزف إليه البشرى السعيدة.
الاجتماع
وجاء يوم عيد النيل، واستقبلت آبو المحتفلين من أقاصي الجنوب والشمال، وتعالت في جوها الأناشيد، وازينت دورها بالأعلام والأزهار وأغصان الزيتون، واستقبل الرجال من الكهنة والحكام شروق الشمس في طريقهم إلى القصر الفرعوني، لينتظموا في الموكب الملكي العظيم الذي يغادر القصر حين الضحى.
وبينما كان السادة ينتظرون نزول الملك في إحدى الحجرات دخل عليهم أحد الحجاب، وحياهم باسم الملك، وقال بصوت جهوري: أيها السادة الأجلاء، إن فرعون يريد أن يجتمع بكم في الحال، فتفضلوا بالذهاب إلى البهو الفرعوني.
وتلقى الجميع تصريح الحاجب بدهشة غير خافية؛ لأن العادة جرت بأن يستقبل الملك رجال مملكته بعد الاحتفال بالعيد لا قبل ذلك، فبدت الحيرة على الوجوه وتساءل القوم: ترى أي أمر خطير دعا إلى هذا الاجتماع الخارق للتقاليد؟!
ولكنهم لبوا الدعوة طائعين، وذهبوا إلى بهو الاستقبال ذي الجلال والروعة. واحتل الكهنة مقاعد الجانب الأيمن، وجلس الحكام قبالتهم، وكان يتصدر المكان العرش الفرعوني، وسط جناحين من الكراسي أعدت للأمراء والوزراء.
وما لبثوا قليلا حتى دخل الوزراء يتقدمهم سوفخاتب، وتبعهم بعد حين أمراء البيت المالك، فجلسوا إلى يمين العرش وهم يردون تحيات الرجال الذين وقفوا تحية لهم.
وساد الصمت وبدا الجد والاهتمام على الوجوه، وخلا كل إلى أفكاره يسائلها عن الأسباب التي دعت إلى هذا الاجتماع الهام، حتى قطع عليهم أفكارهم دخول حامل الأختام، فتطلعوا إليه في انتباه شامل، وقد صاح الرجل بصوت جهوري يعلن مجيء الملك: فرعون مصر نور الشمس، وظل رع على الأرض، صاحب الجلالة مرنرع الثاني.
فهب الجميع وقوفا وأحنوا الهامات، حتى كادت تمس الأرض الجباه، وجاء الملك يسير في جلال ومهابة، يتبعه على الأثر قائد الحرس طاهو، وحامل الأختام، وكبير حجاب الأمير كارفنرو حاكم النوبة، وجلس على العرش، ثم قال بصوت مهيب: أحييكم أيها الكهنة والحكام وآذن لكم بالجلوس.
فاعتدلت القامات المنحنية في رفق، وجلس الرجال وسط صمت شامل عميق يجعل من التنفس مجازفة خطيرة، واتجهت الأنظار إلى صاحب العرش تواقة إلى استماع كلمته. واعتدل الملك في جلسته، ثم قال وهو يقلب عينيه في وجوه القوم دون أن تستقر على أحد: أيها الأمراء والوزراء والكهنة والحكام، من صفوة رجال مصر العليا والسفلى، لقد دعوتكم لأشاوركم في أمر خطير يتعلق بسلامة المملكة ومجد الآباء والأجداد. أيها السادة: لقد جاء رسول من الجنوب هو هامانا كبير حجاب الأمير كارفنرو يحمل رسالة خطيرة من مولاه، فرأيت أن واجبي يقضي علي بأن أدعوكم دون إمهال، للاطلاع عليها، والمشاورة في محتوياتها الخطيرة.
والتفت فرعون إلى الرسول وأشار إليه بصولجانه، فتقدم الرجل خطوتين فصار في حذاء العرش، وقال له فرعون: اتل عليهم الرسالة.
فبسط الرجل رسالة مطوية بين يديه، وقرأ بصوت جهوري مؤثر: «من الأمير كارفنرو حاكم بلاد النوبة إلى حضرة صاحب الجلالة فرعون مصر نور الشمس المشرقة، وظل الرب رع، حامي النيل، وصاحب النوبة، وطور سيناء، وسيد الصحراء الشرقية، والصحراء الغربية.
مولاي .. يؤسفني أن أرفع إلى مسامع ذاتكم المقدسة أنباء محزنة، عن حوادث غدر شائنة، وقعت في أملاك التاج المتاخمة لحدود النوبة الجنوبية، وكنت يا مولاي - اطمئنانا مني إلى المعاهدة التي عقدت بين مصر وقبائل المعصايو، وما أعقب عقدها مباشرة من شمول الطمأنينة وتوطيد الأمن - كنت أمرت بسحب كثير من الحاميات الموزعة في الصحراء إلى قواعدها الأصلية. وجاءني اليوم ضابط من رجال الحاميات وأخبرني بأن زعماء القبائل شقوا عصا الطاعة وحنثوا بيمينهم، وانقضوا خلسة بليل على ثكنات الحاميات، وأعملوا فيها التقتيل الوحشي. وقد قاوم الجنود مقاومة اليأس، قوات تفوقهم مائة مرة أو يزيد، حتى سقطوا عن آخرهم في ميدان الاستبسال. واجتاحت القبائل البلاد جميعا، واتجهت نحو الشمال إلى بلاد النوبة، فرأيت من الحكمة ألا أفرط فيما لدي من قوات محدودة، وأن أوجه همي إلى تحصين الاستحكامات والقلاع، للتمكن من صد العدو الزاحف، ولن تصل مولاي رسالتي حتى تكون جنودنا قد اشتبكت مع طلائع المهاجمين، وإني في انتظار أمر مولاي سأظل على رأس جنودي أقاتل في سبيل مولاي فرعون، ووطني مصر.»
وانتهى الرسول من تلاوة الرسالة، وظل صوته يدوي في كثير من القلوب، أما الحكام فقد اتقدت أعينهم، وتطاير منها الشرر، وسرت في صفوفهم حركة اضطراب عنيف، وأما الكهنة فقد تقطبت جباههم وجمدت نظراتهم، وانقلبوا كتماثيل جامدة في معبد صامت.
وصمت فرعون هنيهة حتى بلغ التأثر أشده، ثم قال: هذه هي الرسالة التي دعوتكم للمشاورة فيها.
وكان حاكم طيبة على رأس المتحمسين، فقام واقفا وأحنى رأسه تحية، وقال: مولاي .. إنها رسالة خطيرة حقا، والجواب الواحد عليها هو الدعوة إلى التعبئة.
ولاقت كلمته ارتياحا في نفوس الحكام، فقام حاكم أمبوس وقال: نعم الرأي يا مولاي ! فالجواب الأوحد هو التعبئة السريعة، كيف لا ووراء الحدود الجنوبية إخوان لنا بواسل أوقعهم العدو في ضيق؟ .. وإنهم لثابتون، فلا ينبغي أن نخذلهم، أو نبطئ عليهم.
وكان آني يفكر في العواقب التي تمس واجباته، فقال: إذا اجتاح أولئك الهمج بلاد النوبة هددوا الحدود بلا شك.
وكان حاكم طيبة على رأس المتحمسين، وقد ذكر رأيا قديما له طالما تمنى تحقيقه يوما، فقال: كان رأيي دائما يا مولاي أن تحتفظ المملكة بجيش دائم كبير، يكفل لفرعون القيام بتبعاته في الدفاع عن سلامة الوطن وممتلكاته فيما وراء الحدود.
واشتد الحماس في جناح جميع القواد، ونادى كثير منهم بالتعبئة، وهتف آخرون للأمير كارفنرو ولحامية بلاد النوبة. واشتد التأثر ببعض الحكام، فقالوا للملك: مولانا .. لن يطيب لنا الاحتفال بالعيد، ووراءنا إخوان بواسل يتهددهم الموت. إيذن لنا في الرحيل لنحشد الجنود.
وكان فرعون ملازما الصمت ليسمع ما عسى أن يقول الكهنة، وكان هؤلاء لائذين بالصمت ريثما تهدأ النفوس، فلما أن سكت الحكام .. قام كاهن بتاح الأكبر وقال بهدوء غريب: هل يأذن لي مولاي في أن أوجه إلى رسول سمو الأمير كارفنرو سؤالا؟
فقال الملك بغرابة: لك ما تريد أيها الكاهن الأكبر.
فالتفت كاهن بتاح إلى الرسول وقال: متى غادرت بلاد النوبة؟
فقال الرجل: منذ أسبوعين. - ومتى بلغت آبو؟ - مساء أمس.
فاتجه الكاهن نحو فرعون وقال: أيها الملك المعبود، إن الأمر يدعو إلى الحيرة الشديدة؛ فبالأمس جاء هذا الرسول المبجل من الجنوب بأنباء تمرد زعماء المعصايو، وبالأمس نفسه جاء وفد من زعماء المعصايو من أقصى الجنوب ليقدموا فروض الطاعة لمولاهم فرعون، ويرفعوا إلى أعتابه المقدسة آي الشكر على ما أولاهم من نعمة وسلام، فما أشد حاجتنا إلى من يميط اللثام عن هذه المعميات!
فكان تصريحا غريبا لم يتوقعه إنسان، فأحدث دهشة كبرى وعجبا، فشملت الرءوس حركة عنيفة، وتبادل الحكام والكهنة نظرات التساؤل والحيرة، وتهامس الأمراء. أما سوفخاتب فقد انخلع صدره ونظر إلى مولاه في ارتياع، فرآه يقبض بيده على الصولجان بشدة، وتشد عليه بقسوة حتى انتفخت عروق ساعده وانكفأ لونه، فخشي الرجل من تسلط الغضب على الملك، فسأل الكاهن قائلا: ومن أنبأك بهذا يا صاحب القداسة؟
فقال الرجل بهدوء: رأيتهم بعيني رأسي يا سيدي الرئيس؛ فقد زرت أمس معبد سوتيس، وقدم كاهنه إلي وفدا من السود قالوا إنهم من زعماء المعصايو، وإنهم جاءوا يقدمون فروض الطاعة لفرعون، وقد باتوا ليلتهم ضيوفا على رئيسه.
فقال سوفخاتب: ألا يصح أن يكونوا من النوبة؟
ولكن الرجل قال بيقين: قالوا إنهم من المعصايو، وعلى أية حال فها هنا رجل - هو القائد طاهو - اشتبك مع المعصايو في حروب كثيرة، وعرف جميع زعمائهم، فهل يتفضل جلالة الملك ويأمر بدعوة هؤلاء الزعماء إلى ساحته المقدسة، وعسى أن تزيل أقوالهم عن أعيننا غشاوة الحيرة؟
وكان الملك في حالة شديدة من القهر والغضب، ولكنه لم يدر كيف يمكن أن يرفض ما يقترحه الكاهن، وأحس الوجوه تتطلع إليه في لهفة ورغبة ورجاء، فقال لأحد الحجاب: اذهب إلى معبد سوتيس، وادع زعماء السود.
وصدع الحاجب بالأمر، ولبث الجميع ينتظرون وكأن على رءوسهم الطير. وكان الذهول باديا على وجوه الجميع. وكانوا يكظمون ما بنفوسهم وإن ود كل منهم أن يسأل رفيقه ويستمع إليه. ولبث سوفخاتب قلقا مهموما دائم التفكر يختلس من مولاه نظرات حائرة مشفقا عليه من هول الساعة، ومرت عليهم الدقائق ثقيلة ومؤلمة، كأنما تنتزع من جلودهم، والملك على عرشه يشاهد الحكام القلقين والكهنة المطرقين، لا تكاد تخفي عيناه ما يعترك في نفسه من العواطف، ثم خال الجميع أنهم يسمعون ضوضاء يحملها الهواء من بعيد، فخلصوا من نفوسهم، وأرهفوا السمع، فإذا بالضوضاء تقترب من ميدان القصر، وإذا بها أصوات تتصاعد بالهتاف، ومضت بالقرب تشتد وتقوى شيئا فشيئا حتى طبقت الآفاق. وكانت مختلطة غير متمايزة، ويفصل بينها وبين المجتمعين فناء القصر الطويل، فأمر الملك حاجبا بالذهاب إلى الشرفة ليرى ما هناك، فغاب الرجل برهة ثم عاد مسرعا، ومال على أذن فرعون وقال: إن جموع الشعب تملأ الميدان، تحيط بالعربات التي تحمل زعماء السود. - وما هتافهم؟ - يهتفون لأصدقاء الجنوب المخلصين ، ومعاهدة السلام.
ثم تردد الرجل لحظة واستدرك هامسا: ويهتفون يا مولاي لصاحب المعاهدة خنوم حتب!
واصفر وجه الملك من الغضب، وأحس بالحقد والقهر، وتساءل: كيف يدعو الشعب الذي يحيي زعماء المعصايو ويهتف للسلام إلى محاربة المعصايو؟! ولبث ينتظر القادمين غاضبا حزينا كئيبا.
وأعلن ضابط من الحرس قدوم الزعماء، وفتح الباب على مصراعيه، ودخل الوفد يتقدمه رئيسه وكانوا عشرة، ضخام الأجسام، عرايا إلا من وزرة تستر الوسط، وعلى رءوسهم هالات من أوراق الشجر، وقد سجدوا جميعا على الأرض، وتقدموا زحفا حتى بلغوا عتبة العرش، فقبلوا الأرض بين يدي فرعون، ومد لهم الملك صولجانه فلثموه في خشوع، وأذن لهم بالوقوف فوقفوا في تهيب، وقال رئيسهم باللهجة المصرية: أيها الرب المعبود، فرعون مصر، وسيد الوادي، ومعبود القبائل، جئنا إلى رحابك لنقدم لك آي الخضوع والذل والحمد على ما أوليتنا من آلاء ونعم؛ فبفضل رحمتك تناولنا الطعام شهيا، وشربنا الماء حلوا سائغا.
فباركهم الملك برفع يده.
وكانت الوجوه متجهة إليه كأنها تضرع إليه أن يسألهم عما يقال عن بلادهم، فقال الملك المقهور: من أي العشائر أنتم؟
فقال الرجل: أيها البهاء المعبود، نحن زعماء قبائل المعصايو الداعية لبهائك بالمجد.
وصمت الملك قليلا، وأبى أن يسألهم عن أتباعهم شيئا، وضاق بالمكان وبمن فيه، فقال: إن فرعون يشكركم أيها العبيد المخلصون ويبارككم.
وقدم صولجانه فلثموه مرة أخرى، وكروا راجعين، تكاد تمس الأرض جباههم.
والتهب الغضب في قلب الملك، وأحس إحساسا باطنيا أليما بأن الكهنة الماثلين أمامه، وجهوا إليه ضربة قاتلة في معركة خفية، لا يعلم بها سواه وسواهم، فاشتد عليه الحنق، وفاض به الغيظ، وثار على هزيمته، وقال بصوت شديد النبرات: لدي رسالة لا يرتقي الشك إليها، وسواء أكانت القبائل الثائرة تتبع هؤلاء الزعماء أم لا تتبعهم، فالأمر الذي لا شك فيه هو أنه توجد ثورة ويوجد متمردون وأن جنودنا الآن محاصرون!
فعاودت الحماسة الحكام، وقال حاكم طيبة: مولاي .. لقد جرت الحكمة الإلهية على لسانك، إن إخواننا ينتظرون النجدة، فلا يجوز أن نضيع الوقت في مناقشات، والحق أبلج واضح.
فقال الملك بعنف: أيها الحكام، إني أعفيكم من الاشتراك اليوم في الاحتفال بعيد النيل؛ فأمامكم واجب أسمى. ارجعوا إلى أقاليمكم واحشدوا الجند؛ فرب دقيقة تضيع تكلفنا غاليا.
قال الملك ذلك ثم قام واقفا، معلنا انتهاء الاجتماع، فقام القوم من فورهم وأحنوا الهامات إجلالا.
الهتاف
وقصد فرعون إلى جناحه الخاص، ودعا إليه رجليه المخلصين سوفخاتب وطاهو، فلبى الرجلان دعوته سريعا، وكانا شديدي التأثر، يقدران حرج الموقف حق قدره. ووجدا الملك كما توقعا مهتاجا غاضبا، يذرع حجرته من جانب إلى جانب، ويهدر بوحشية جنونية، فلما انتبه إليهما حدجهما بنظرة زائغة، وقال والشرر يتطاير من عينيه: خيانة .. إني أشم رائحة خيانة خبيثة في هذا الجو الخانق.
فانكفأ طاهو وقال: مولاي. لا أنفي عن نفسي التشاؤم وسوء الظن، ولكن لا يذهب بي الحدس إلى هذا الفرض الكبير.
فضرب الملك الأرض بقدمه وقال وهو يتميز من الغيظ والحنق: لماذا جاء هذا الوفد اللعين؟ .. بل كيف جاء اليوم؟ .. واليوم بالذات؟
فقال سوفخاتب، وكان غارقا في التفكير والأحزان: ترى هل هي مصادفة حزينة غريبة؟
فقال الملك في دهشة مروعة: مصادفة .. كلا .. كلا. هي الخيانة اللئيمة، أكاد ألمح وجها يستتر بالإطراق والدهاء. كلا أيها الوزير لم يجئ القوم مصادفة لكنهم دفعوا إلى هنا عمدا ليقولوا سلاما إذا ما قلت أنا حربا، وهكذا وجه إلي عدوي ضربة شديدة، وهو ماثل بين يدي يعلن الولاء.
فامتقع وجه طاهو ولاح في وجهه الحزن، ولم يكابر سوفخاتب فأطرق يائسا وكأنه يحادث نفسه: إذا كانت خيانة فمن الخائن؟
فقال الملك وهو يلوح بقبضته في الهواء: نعم .. من الخائن؟ هل هنالك معضلة لا تحل؟ كلا .. أنا لا أخون نفسي، ولا يخون عهدي سوفخاتب ولا طاهو، ولا تخونني رادوبيس، فلم يبق إلا هذا الرسول الشقي .. وا أسفاه! لقد خدعت رادوبيس.
فبرقت عينا طاهو وقال: سأسوقه إلى هنا وأنتزع من فمه كلمة الحق.
فهز الملك رأسه وقال: رويدك يا طاهو رويدك .. إن المجرم لا ينتظركم حتى تذهب للقبض عليه، ولعله الآن ينعم بثمن خيانته في مكان آمن لا يعلم به إلا الكهنة. كيف تمت المكيدة؟ لا أدري كيف، ولكني أستطيع أن أقسم بالرب سوتيس أنهم علموا بالرسالة قبل تحرك الرسول فلم يتوانوا، وبعثوا برسول من لدنهم فجاء رسولي بالرسالة، وجاء رسولهم بالوفد .. خيانة .. نذالة، إني أعيش وسط شعبي كالأسير .. ألا لعنة الآلهة على الدنيا وعلى الناس.
ولاذ الرجلان بالصمت، حزنا وإشفاقا، وكان طاهو يختلس من مولاه نظرات حزينة، وأراد أن يحاول إعادة الأمل إلى ذلك الجو القاتم فقال: ليكن عزاؤنا أننا سنضرب بالضربة القاضية.
فاحتد الملك قائلا: كيف لنا بتسديد هذه الضربة؟! - إن الحكام في طريقهم إلى الأقاليم لحشد الجنود. - وهل تظن أن الكهنة يقفون مكتوفي الأيدي بإزاء الجيش الذي علموا أنه يحشد لسحقهم؟!
وكان سوفخاتب ينوء بهم ثقيل كان يؤمن بما يقول الملك، ولكن أراد أن ينفس عن صدره، فقال وكأنه يتمنى: عسى أن يكون ريبنا وهما، ويكون ما نظنه خيانة محض مصادفة، فتنقشع هذه السحابة الدكناء بأهون الأسباب.
ولكن فرعون ثار على العزاء وقال: لا أزال أذكر صورة أولئك الكهنة المطرقين، كانوا بلا شك ينطوون على سر رهيب، ولما قام رئيسهم ليتكلم، تحدى حماس الحكام باطمئنان، وألقى كلمته بثقة لا حد لها، ولعله الآن يتكلم بعشرة ألسنة، آه! .. الويل للخيانة .. لن يعيش مرنرع الثاني تحت رحمة الكهنة.
وغضب طاهو لحزن مولاه فقال: مولاي .. تحت إمرتك حرس قوي يزن الرجل منه ألف رجل من رجالهم، ويجود بنفسه في سبيل مولاه عن طيب خاطر.
فأعرض فرعون عنه، وارتمى على مقعد وثير مستسلما لأفكار رأسه الساخن، ترى هل يمكن أن يتحقق أمله بالرغم من هذه الأحزان؟ أم يفشل مشروعه إلى الأبد؟ يا لها من ساعة فاصلة في حياته! .. هي مفترق الطرق بين المجد والهوان، والقوة والانهيار، والحب والشقاء. لقد رفض مرة أن يتنازل عن الأراضي حيلة، فهل يجد نفسه يوما مضطرا إلى التنازل عنها محافظة على عرشه؟ آه! .. لن يأتي هذا اليوم، وإن أتى فلن يسام الخسف أبدا. وسيبقى إلى آخر لحظة من حياته كريما مجيدا عزيزا. وتنهد بالرغم منه حسرة، وقال لنفسه آسفا .. آه لو لم يعثر حظي بالخيانة! وقطع عليه صوت سوفخاتب وهو يقول: مولاي، دنا موعد الحفل.
فنظر إليه كمن يصحو من نوم عميق، وتمتم: «حقا.» ثم قام واقفا وذهب إلى الشرفة وكانت تطل على فناء القصر العظيم - وقوة العجلات متراصة به في الانتظار - وتراءى الميدان عن بعد تتلاطم فيه أمواج القوم المحتفلين، فألقى على تلك الدنيا الحافلة نظرة باهتة وعاد إلى مكانه، ثم دخل إلى مخدعه وغاب هنيهة، ورجع لابسا جلد النمر شارة الكهنوت والتاج المزدوج. وتأهبوا جميعا للخروج، ولكن سبقهم بالدخول حاجب من حجاب القصر حيا مولاه وقال: السيد طام رئيس شرطة آبو يستأذن في المثول بين يدي مولاه.
فأذن له الملك ومشيراه لما شاهدوه على وجهه من آي الاضطراب. وحيا الشرطي الكبير مولاه، وقال مبادرا بعجلة واضطراب: مولاي! لقد جئت الآن لأضرع إلى ذاتكم المقدسة أن تعدلوا عن الذهاب إلى معبد النيل!
فخفق قلب الرجلين، وسأل الملك منزعجا: وما الذي حملك على هذا؟
فقال الرجل وهو يلهث: قبضت في هذه الساعة على كثيرين كانوا يوجهون هتافات شريرة إلى شخصية نبيلة يكرمها مولاي وأخشى أن تكرر هذه الهتافات في أثناء الموكب.
فخفق قلب الملك وغلت مراجل الغضب في دمه، وسأله بصوت متهدج: ماذا قالوا؟
فابتلع الرجل ريقه، وقال باضطراب وارتباك: قالوا لتسقط العاهرة! لتسقط ناهبة المعابد!
فاشتد الغضب بالملك، وصاح بصوت كالرعد: يا للويل! .. لا بد أن أضرب ضربة تنفس عن صدري أو ينفجر بنياني.
واستطرد الرجل مذعورا: وقد قاوم المجرمون رجالي، فوقعت معارك بيننا وبينهم، وساد الاضطراب والهرج برهة، وفي أثناء ذلك تعالت هتافات أكبر شرا وأوغل غيا.
فسأل الملك قائلا وهو يصر على أسنانه غضبا ومقتا: وماذا قالوا أيضا؟
فأحنى الرجل رأسه: وقال بصوت خافت: تجاسر المجرمون على ما هو أجل.
فقال الملك في صوت ذاهل: أنا؟!
فلاذ الرجل بالصمت وقد امتقع وجهه، ولم يتمالك سوفخاتب نفسه فصاح: كيف يمكن أن أصدق أذني؟
وصاح طاهو بغضب: هذا جنون لا يعقل.
وضحك فرعون ضحكة عصبية، وقال بسخرية مريرة: كيف ذكرني شعبي يا طام؟ تكلم، إني آمرك.
فقال الرجل: قال الأوغاد .. «ملكنا يلهو.» .. «نريد ملكا جادا.»
فضحك الملك ضحكة كالأولى، وقال متهكما: وا أسفاه! .. ما عاد مرنرع يصلح لعرش الكهنة! .. وماذا قالوا أيضا يا طام؟
فقال الرجل بصوت خافت لا يكاد يسمع: وهتفوا يا مولاي طويلا بحياة حضرة صاحبة الجلالة الملكة نيتوقريس!
فلاح بريق خاطف بعيني الملك، وردد اسم نيتوقريس بين شفتيه بصوت خافت كأنما يذكر شيئا قديما طال به عهد النسيان، وتبادل المشيران نظرة الدهشة، وأحس فرعون بدهشة الرجلين وتحرج رئيس الشرطة، فلم يرض أن يجعل من الملكة حديثا مريرا، وإن سأل نفسه حيرة: ترى ما عسى أن يكون شعور الملكة حيال هذه الهتافات؟ .. واشتد الضيق بصدره، وأحس بموجة عنيفة من الغضب والتمرد والاستهتار، فوجه كلامه إلى سوفخاتب قائلا بخشونة: هل حان موعد الذهاب؟
فقال طام بذهول: ألن يعدل مولاي عن الذهاب؟
فقال الملك بعنف: ألا تسمعني أيها الوزير؟
فاضطرب سوفخاتب وقال بخشوع: بعد برهة قصيرة يا مولاي .. حسبت مولاي سيعدل عن الذهاب.
فقال الملك بهدوء كالذي يسبق العاصفة: سأذهب إلى معبد النيل خلل الجموع الساخطة، وسنرى ما يكون .. عد يا طام إلى واجبك.
الأمل والسم
وكانت رادوبيس في صباح ذلك اليوم مستسلمة إلى الديوان الوثير تحلم، كان يوما يتيه على الزمان بما ينبض فيه من أفراح العيد وبما يدخر لها من فوز عظيم، فأي سعادة وأي فرح؟! كان صدرها في ذلك اليوم كبركة من ماء مصفى معطر، تنبت على حفافيها الأزهار وتغني في جوها البلابل شادية نشوى .. فيا لدنيا الأفراح! ومتى تتلقى نبأ الفوز؟ .. حين الأصيل، حين تبدأ الشمس رحلتها إلى العالم الثاني ويشرع قلبها في رحلته إلى دنيا السعادة واستقبال الحبيب، فيا لساعة الأصيل! ساعة الأصيل هي ساعة الحبيب، حين يقبل عليها بقوامه الفارع وشبابه الغض، فيلف ذراعيه المفتولين حول خصرها الدقيق، يناجي اسمها العذب، يبشرها بالفوز فيقول انتهت الآلام، وتفرق الحكام ليحشدوا الجنود، فهنيئا لحبنا. آه ! ما أجمل الأصيل!
ولكن كيف تصدق أن هذا النهار ينقضي؟ .. لقد انتظرت عودة الرسول شهرا انطوى ثقيلا مرهقا، ولكنها تخال هذه الساعات المعدودات أشد وطأة وأكبر كلفة، على أنه قلق يخالط طمأنينة، وخوف يمازج سعادة .. وكأنما أرادت أن تتناسى الانتظار لتتغفل الزمن، فعطفت أفكارها إلى هنا وإلى هناك حتى عثرت في شرودها بالعاشق الجاثي في معبده .. في الحجرة الصيفية، بنامون بن بسار، ما أرقه وأخف ظله! كانت تساءلت مرة حيرى كيف تجزيه على ما أدى لها من خدمة جليلة، وقد طار على جناحي حمامة إلى أقصى الجنوب، وعاد بأسرع مما ذهب يحمله الشوق فيعبر به مشاق الطريق؟ .. بل همست مرة في ارتباك كيف تستطيع أن تتخلص منه؟ ولكنه علمها بقناعته أن من الحب حبا عجيبا لا يعرف الأثرة ولا التملك ولا الطمع، ويرضى بالأحلام والأوهام. فيا له من شاب حالم بعيد عن الدنيا! ولو أنه طمع في قبلة مثلا لما عرفت كيف تتحاماه، دون أن تمد له فمها، ولكنه لا يطمع في شيء، وكأنه يخشى لو لمسها أن يحترق بلهيب غامض، أو لعله لا يصدق أنها شيء يلمس ويقبل. إنه لا يرمقها بعين إنسان فلا يستطيع أن يراها من بني الإنسان، ويقنع بأن يحيا على بهائها كما يحيا نبات الأرض بالشمس السابحة في السموات.
وتنهدت وقالت: حقا إن الحب عالم عجيب، أما حبها فينبع متدفقا من صميم الحياة؛ فالقوة التي تجذبها إلى مولاها هي قوة الحياة الكاملة الرهيبة، وأما حب بنامون فيكاد أن ينقطع له عن أسباب الحياة، ويضل في آفاق سامية، لا يعلن عن أثر محسوس إلا في يده الماهرة، وأحيانا في لسانه المتلعثم الحار .. فيا له من حب يرق من ناحية فيصير طيفا من الأحلام، ويقوى من ناحية أخرى فيبث في الصخر الأصم حياة! .. فكيف تفكر في التخلص منه وهو لا يكلفها شيئا؟ فلتتركه في معبده آمنا، يصور في جدرانه الصامتة أجمل التهاويل التي تكتنف وجهها الجميل.
وعادت تهتف من أعماق صدرها: متى الأصيل؟ .. حقا لشيث لو ثبتت إلى جانبها لسلتها بثرثرتها وخبثها، ولكنها أبت إلا أن تذهب إلى آبو لمشاهدة عيد النيل.
يا ما أجمل الذكريات! ذكرت العيد الماضي، يوم اعتلت هودجها الفاخر وشقت به الحشد الكبير لترى فرعون الشاب، ولما وقعت عيناها عليه خفق قلبها وهي لا تدري، وأحست بدبيب الحب غريبا لطول عهدها بالجفاء، فحسبته قلقا غاضبا أو نفثة ساحر، ذاك اليوم الخالد حين خطف النسر صندلها، ولم يكد يبدأ اليوم الثاني حتى زارها فرعون؛ ومن ثم زار قلبها الحب وتغيرت حياتها وتغيرت الدنيا جميعا.
أما العام الثاني فها هي تقبع في قصرها، والدنيا تقصف وتلهو في الخارج، ولن يتاح لها الظهور إلا بحساب؛ فلم تبق رادوبيس الغانية الراقصة، ولكنها منذ عام وإلى الأبد قلب فرعون الخافق. وكانت أفكارها تضل هنا وهناك فلا تلبث أن تنجذب بعنف إلى موطن همها فتساءلت: ترى ماذا حدث في الاجتماع الخطير الذي قال مولاها إنه سيدعو إليه ليقرأ عليه الرسالة؟ .. هل التأم ولبى النداء وأدناها إلى أملها الفاتن؟ أواه! .. متى يأتي الأصيل؟
وملت الجلسة، فقامت تتمشى، ودلفت إلى النافذة المطلة على الحديقة تسرح الطرف في آفاقها المنفسحة. ولبثت ما لبثت حتى سمعت يدا مضطربة تطرق الباب، فالتفتت متضايقة برمة، فرأت جاريتها شيث تقتحم الباب مهرولة لاهثة زائغة البصر يعلو صدرها وينخفض، وكان وجهها شاحبا كأنما تقوم ساعتها من فراش مرض طويل، فوجب قلبها، وطالعها نذير شؤم، وسألتها في إشفاق: ما لك يا شيث؟
وهمت الجارية أن تتكلم، فغلبها البكاء، فجثت على ركبتيها أمام مولاتها، وشبكت يديها على صدرها، وأفحمت في البكاء بحالة عصبية شديدة، فاستولى الانزعاج على رادوبيس وصاحت بها: ما لك يا شيث؟ .. بالله تكلمي، ولا تتركيني فريسة الحيرة؛ فإن لي آمالا أخاف عليها الوساوس.
فتنهدت المرأة تنهدا عميقا، وشهقت شهقة عنيفة، ثم قالت بصوت باك: مولاتي .. مولاتي .. إنهم هائجون ثائرون! - من الهائجون الثائرون؟ - الناس يا مولاتي .. إنهم يصرخون في غضب جنوني، مزقت الأرباب ألسنتهم.
فخفق قلبها مفزوعا وقالت بصوت متهدج: ماذا يقولون يا شيث؟ - آه يا مولاتي ! .. إنهم قوم مجانين تهذي ألسنتهم المسمومة هذيانا مخيفا.
فكادت المرأة تجن فزعا، وصاحت بحدة: لا تعذبيني يا شيث! صارحيني بما قالوا .. رباه! - مولاتي، إنهم يذكرونك ذكرا غير جميل .. ماذا فعلت يا مولاتي حتى تستحقي غضبهم؟
فضمت رادوبيس يدها إلى صدرها، وقد اتسعت عيناها ذعرا، وقالت بصوت متقطع: أنا؟ .. أيغضب الناس علي أنا؟ .. ألم يجدوا في هذا اليوم المقدس ما يشغلهم عني؟ .. رباه! .. ماذا قالوا يا شيث؟ .. اصدقيني رحمة بي.
فقالت المرأة وهي تبكي بكاء مرا: تصايح المجانين يا مولاتي بأنك تنهبين مال الأرباب.
فتنهدت من صدر مكلوم، وتمتمت بحزن: أواه! .. إن قلبي ينخلع ويتوجس خيفة، وأخوف ما أخاف أن يضيع الفوز المرتقب وسط الصراخ وصيحات الغضب. أما كان الأجدر بهم أن يتغاضوا عني إكراما لمولاهم؟
فصكت الجارية صدرها بيدها، وولولت قائلة: إن مولانا نفسه لم يسلم من أذى ألسنتهم.
وفرت صرخة فزع من فم المرأة الفزعة، وأحست برجفة تزلزل نفسها، وقالت: ماذا تقولين؟ .. هل تجاسروا على مس فرعون؟
فقالت المرأة الباكية: نعم يا مولاتي، وا أسفاه! .. قالوا فرعون يلهو. نريد ملكا جادا.
فرفعت رادوبيس يديها إلى رأسها كأنها تستغيث، وتلوى جسمها من شدة الألم، وارتمت بيأس على الديوان، وهي تقول: رباه! .. أي هول هذا؟ .. كيف لا تزلزل الأرض، وتندك الجبال؟! كيف لا تصب الشمس نيرانها على الدنيا؟!
فقالت الجارية: إنها تزلزل يا مولاتي زلزالا شديدا؛ فالقوم مشتبكون في قتال عنيف مع الشرطة، والدماء تسيل وتنفجر .. وكادت تطؤني الأقدام، ففررت لا ألوي على شيء، وانحدرت في قارب إلى الجزيرة، وما كان أشد انزعاجي إذ وجدت النيل يموج بالسفن، والناس على ظهرها يهتفون كما يهتف الآخرون، وكأنهم جميعا على ميعاد!
وغشيها خور، وطغت عليها موجة يأس خانق، أغرقت آمالها الصارخة بغير رحمة. وجعلت تسائل نفسها المحزونة: ترى ماذا حدث في آبو؟ وكيف وقعت هذه الحوادث الخطيرة، وما الذي أثار الشعب وأخرجه عن وعيه، وهل يقدر للرسالة الفشل ويقضى على أملها بالموت؟ الجو مغبر كالح، تتطاير فيه نذر شر مستطير، ولن يتذوق قلبها الطمأنينة، إن الخوف القاتل يجثم عليه كقطعة من الزمهرير، وقد قالت بصوت كالبكاء: العون أيتها الأرباب .. هل يظهر مولاي لهذا الشعب الهائج؟
فقالت شيث تطمئنها: كلا يا مولاتي .. لن يترك قصره قبل أن ينزل عقابه بالثائرين. - رباه! .. أنت لا تعرفين من هو يا شيث .. إن سيدي غضوب لا يتقهقر أبدا، ولشد ما يخاف قلبي يا شيث! لا بد أن أراه الآن.
فارتجفت الجارية رعبا وقالت: هذا مستحيل .. فالسفن الغاصة بالهائجين تغطي سطح الماء، وحرس الجزيرة متجمع على الشاطئ.
فشدت على رأسها وصاحت: ما بال الدنيا تضيق في وجهي، والأبواب تسد علي؟ إني أتردى في بئر ضيقة من اليأس، آه يا حبيبي! .. كيف أنت الآن وكيف السبيل إليك؟
فقالت شيث تخفف عنها: صبرا يا مولاتي، ستنقشع هذه السحابة القاتمة. - يمزق قلبي إربا أن أشعر بأنه يتألم. آه يا سيدي وحبيبي! ترى ماذا يقع الآن من الحادثات في آبو؟!
وقهرتها الأحزان فانصهرت آلام قلبها وسالت دموعها ساخنة، وشدهت شيث لدى هذا المنظر الغريب إذ رأت رادوبيس ربيبة الحب والنعيم والترف تذرف الدمع وتتأوه من الألم واليأس، وفكرت في غيبوبة الحزن التي غشيتها فيما آلت إليه آمالها التي كانت مشرقة منذ قليل، وأحس قلبها ببرود اليأس، وتساءلت خائفة مذعورة: هل يمكن أن يرغموا مولاها فيفقدوه سعادته وكبرياءه أو أن يجعلوا قصرها هدفا لغضبهم ومقتهم؟ إن الحياة لا تطاق مع تحقيق أي من هذه الوساوس، ولخير لها أن تفارق الحياة إذا فرغت من مجدها وسعادتها، فإما أن تعيش رادوبيس التي حالفها الحب والمجد وإما أن تموت. وفكرت في أمرها طويلا حتى أحضرت لها ذاكرة الأحزان ما كانت أدرجته طوايا النسيان، فاستولى عليها اهتمام شديد، وقامت من فورتها وغسلت وجهها بماء بارد لتمحو أثر البكاء من عينيها، وقالت لشيث: إنها ستتحدث إلى بنامون في بعض الشئون. وكان الشاب منهمكا في عمله كعادته، غافلا عما يكدر صفو الدنيا من خطير الحدثان. ولما أحس بها أقبل نحوها فرحا، ولكنه سرعان ما وجم وقال: وحق هذا الحسن الإلهي إنك حزينة اليوم.
فقالت وهي تخفض ناظريها: بل تعبة فقط أو كالمريضة. - الجو شديد الحرارة، لماذا لا تجلسين ساعة إلى شاطئ البركة؟
فقالت باقتضاب: جئتك برجاء يا بنامون.
فعقد ذراعيه إلى صدره كأنما يقول لها ها أنا ذا طوع بنانك.
فقالت: أتذكر يا بنامون أنك حدثتني يوما عن السموم العجيبة التي ركبها أبوك؟
فقال الشاب وقد بدت على وجهه الدهشة: نعم، أذكر ذلك بغير ريب! - بنامون، أريد قارورة من هذا السم العجيب الذي أطلق عليه أبوك السم السعيد.
فازداد الشاب دهشة وتمتم متسائلا: ولم؟
فقالت بلهجة هادئة ما استطاعت: لقد حدثت أحد الأطباء فأبدى اهتماما بشأنه، وطلب إلي أن أوافيه بقارورة منه، عسى أن ينقذ بها حياة أحد مرضاه، فوعدته يا بنامون، فهل تعدني بدورك أن تحضرها لي في أقرب وقت؟
فقال الشاب بسرور، وكان يسعده أن تطلب إليه ما تشاء: ستكون محضرة بين يديك بعد ساعات قلائل. - كيف؟ ألا ينبغي أن ترحل إلى أمبوس لإحضارها؟ - كلا .. لدي قارورة في مسكني بآبو.
فأثار تصريحه اهتمامها بالرغم من أحزانها، ورمقته بنظرة دهشة، فخفض عينيه وقد تخضب وجهه احمرارا وقال بصوت خافت: أحضرتها في تلك الأيام الأليمة، حين كدت أشفي من حبي على اليأس، ولولا ما أبديت نحوي بعد ذلك من عطف لكنت الآن إلى جوار أوزوريس!
وذهب بنامون ليحضر لها القارورة؛ أما هي فهزت كتفيها استهانة وقالت وهي تهم بالمسير: قد ألوذ بها مما هو شر منها!
سهم الشعب
صدع طاهو بأمر مولاه، فأدى التحية وذهب يعلو وجهه الارتباك والخوف، وظل الرجلان واقفين ممتقعي الوجه حتى خرج سوفخاتب عن صمته، فقال بتوسل: أضرع إليك يا مولاي أن تعدل عن الذهاب اليوم إلى المعبد.
ولكن فرعون لم يتسع صدره لهذه النصيحة، فقطب جبينه غضبا وقال: أأفر لدى أول هتاف؟
فقال الوزير: مولاي إن القوم هائجون غاضبون، فينبغي التروي. - يحدثني قلبي بأن خطتنا سائرة إلى الفشل المحتوم، فإذا تراجعت اليوم خسرت هيبتي إلى الأبد. - وغضب الشعب يا مولاي؟ - سيهدأ ويسكن إذا رآني أشق صفوفه على عجلتي كالمسلة الشامخة، واقتحام الأهوال ولا التسليم والخنوع.
ومضى فرعون يذرع الحجرة جيئة وذهابا ساخطا شديد التأثر، فسكت سوفخاتب وهو كظيم، وعطف ناظريه إلى طاهو وكأنه يستغيث به، ولكن القائد كان غارقا في الهموم كما بدا من امتقاع وجهه، وشرود نظرته، وثقل أجفانه، فشملهم صمت عميق، ولم يكن يسمع إلا وقع أقدام الملك.
وقطع عليهم سكونهم أحد الحجاب، وكان متسرعا مضطربا، فانحنى للملك، وقال: ضابط من الشرطة يستأذن يا مولاي في المثول بين يديك.
فأذن له الملك، وحدج رجليه بنظرة يفحص بها أثر قول الحاجب في نفسيهما، فوجدهما قلقين مضطربين، فعلت فمه ابتسامة ساخرة، وهز كتفيه العريضتين استهانة. ودخل الضابط وكان يلهث من الجهد والاضطراب، وكانت ثيابه معفرة وقلنسوته مضعضعة تنذر بالشر، فأدى التحية، وقال قبل أن يؤذن له في الكلام: مولاي! إن الشعب مشتبك مع رجال الشرطة في قتال عنيف، وقد قتل من الجانبين رجال كثيرون، ولكن سيقتحمنا القوم إذا لم تصلنا نجدات قوية من الحرس الفرعوني.
وارتاع سوفخاتب وطاهو ارتياعا، ونظرا إلى فرعون فوجداه مرتعش الشفتين من الغضب، وقد صاح بصوت أجش: وحق الأرباب جميعا ما أتى هذا الشعب للاحتفال بالعيد.
فاستدرك الضابط قائلا: وقد آذنتنا العيون يا مولاي أن الكهنة يخطبون الناس في أطراف المدينة زاعمين لهم أن فرعون يتذرع بوجود حرب وهمية في الجنوب ليحشد جيشا يذل به الشعب، والناس تصدقهم ويشتد بهم الغضب، ولولا وقوف الشرطة في وجههم لاقتحموا السبل إلى القصر المقدس.
فصاح فرعون كالرعد: قطع الشك باليقين، وافتضحت الخيانة اللئيمة، وها هم أولاء يعلنون العداوة ويبدءوننا بالهجوم!
ووقع الكلام من الآذان موقعا غريبا لا يصدق، وبدا على الوجوه كأنما تتساءل في دهشة وإنكار: أحقا أن هذا فرعون؟ وهذا شعب مصر؟ .. ولم يطق طاهو صبرا. فقال لمولاه: مولاي! هذا يوم كئيب كأنما دسه الشيطان خفية في دورة الزمان وكانت بدايته سفك دماء، والرب أعلم كيف يكون منتهاه، فمرني أن أقوم بواجبي.
فسأله فرعون: وماذا أنت فاعل يا طاهو؟ - سأوزع الجنود على أماكن الدفاع الحصينة، وأقود فرقة العجلات لملاقاة الثائرين، قبل أن يتغلبوا على الشرطة ويقتحموا الميدان إلى القصر.
فابتسم فرعون ابتسامة غامضة وصمت مليا، ثم قال بصوت رهيب: سأقودها بنفسي.
فانخلع قلب سوفخاتب في صدره، وصاح بالرغم منه: مولاي!
فضرب الملك صدره بيديه بعنف، وقال: ما زال هذا القصر حصنا ومعبدا منذ آلاف السنين، ولن يصير على عهدي هدفا رخيصا لكل متمرد.
خلع الملك جلد النمر ورماه بازدراء، وأسرع إلى مخدعه ليرتدي لباسه الحربي. وفقد سوفخاتب اتزانه، وتوجس خيفة وشرا، فالتفت إلى طاهو، وقال بلهجة الآمر: أيها القائد لا وقت لدينا نضيعه، فاذهب وأعد الدفاع عن القصر، وانتظر ما يأتيك من الأوامر.
وخرج القائد يتبعه الشرطي، ولبث الوزير ينتظر الملك.
ولكن الحادثات لم تنتظر؛ فقد حملت الريح ضوضاء صاخبة، ما زالت تعلو وتشتد حتى طبقت على الآفاق، فهرول سوفخاتب إلى الشرفة المطلة على فناء القصر وألقى بناظريه إلى الميدان، فرأى جموع الشعب تعدو قادمة من بعيد هاتفة ملوحة بالسيوف والخناجر والعصي، كأنها أمواج فيضان هائل جارف لا ترى العين منها إلا رءوسا عارية وسلاحا لامعا، فأحس الوزير بالفزع ونظر إلى أسفل، فرأى العبيد في حركة سريعة يثبتون المتاريس خلف الباب العظيم، وجرى المشاة كالنسور وارتقوا الأبراج المقامة على السور المحيط في الأمام على الجانبين الشمالي والجنوبي، واندفعت قوات عظيمة منهم إلى ممر الأعمدة الموصل إلى الحديقة يحملون الرماح والقسي، أما العجلات، فقد ارتدت إلى الوراء، واصطفت صفين طويلين تحت الشرفة استعدادا للانطلاق في الفناء إذا اقتحم الباب الخارجي.
وسمع سوفخاتب وقع قدمين خلفه، فالتفت إلى الوراء، فرأى فرعون واقفا على عتبة الشرفة في ثياب القيادة العليا، على رأسه تاج مصر المزدوج، وكانت عيناه ترسلان شررا متطايرا، والغضب مرتسما على وجهه كلسان من اللهب، ويقول حانقا مغيظا: حوصرنا قبل أن نبدي حراكا!
فقال سوفخاتب: القصر يا مولاي قلعة لا تؤخذ، يدافع عنها جنود جبابرة، وسيرتد الكهنة مهزومين.
وجمد الملك في مكانه، وتراجع الوزير وراءه، وجعلا ينظران في صمت محزن إلى الجموع التي لا يحصيها العد، وهي تهدر كالوحوش، وتلوح مهددة بسلاحها، وتهتف بأصوات كالرعد: «العرش لنيتوقريس.» «ليسقط الملك العابث.» وكانت جنود الحرس تطلق السهام من خلف الأبراج، فتستقر في المقاتل، ورد الثائرون بسيل عارم من الأحجار والأخشاب والسهام.
وهز فرعون رأسه، وقال: مرحى .. مرحى .. أيها الشعب الكاسر الذي جاء لخلع الملك العابث، ما هذا الغضب، ما هذه الثورة، لماذا تهدد بهذا السلاح، أتريد حقا أن تغمده في قلبي؟ .. مرحى .. مرحى .. إنه لمنظر حقيق بأن يخلد على جدران المعابد .. مرحى مرحى يا شعب مصر.
وكان الحراس يقاتلون بشدة وبسالة، ويطلقون السهام كالمطر، فإذا سقط منهم قتيل حل مكانه غيره مستهينا بالموت، والقواد على متون الجياد يطوفون بالأسوار ويديرون القتال.
وإنه ليشاهد هذه المناظر الأليمة، إذ سمع صوتا يعرفه حق المعرفة يقول: مولاي.
فالتفت إلى الوراء مدهوشا، فرأى الذي يناديه على قيد خطوتين، فقال بعجب: نيتوقريس!
فقالت الملكة بصوت حزين: نعم يا مولاي، لقد صك أذني صراخ بشع لم يسمع من قبل في هذا الوادي، فجئت ساعية إليك لأعلن ولائي، وأشاطرك المصير.
قالت ذلك، ثم ركعت على ركبتيها وأحنت رأسها، فتقهقر سوفخاتب إلى الخارج. وبادر الملك إلى معصميها ورفعها من ركعتها، ونظر إليها بعينين مرتبكتين. ولم يكن رآها من اليوم الذي جاءت فيه إلى جناحه وردها أسوأ رد، فاشتد به الحرج والألم، على أن صياح القوم وصراخ المتقاتلين رداه إلى ما كان عليه، فقال لها: شكرا لك أيتها الأخت، تعالي انظري إلى شعبي، إنه يحييني في يوم العيد.
فخفضت عينيها، وقالت في حزن عميق: كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
واستحال تهكم الملك غضبا وسخطا وازدراء، وقال بلهجة تنطوي على الاشمئزاز: بلد مجنون، جو خانق، قلوب ملوثة .. خيانة .. خيانة .. خيانة.
فارتعدت فرائص الملكة لذكر كلمة الخيانة، وجمدت عيناها من الذعر، وأحست بأنفاسها تحتبس في صدرها.
ترى هل حمل هتاف القوم لها على بعض الظن؟ .. وهل يكون جزاؤها الاتهام بعد أن طوت فؤادها على أسقامه، وجاءت طوعا إلى من أهانها وأشقاها؟ .. وهالها الأمر، فقالت: وا أسفاه يا مولاي! ليس في وسعي إلا أن أشاطرك المصير، ولكني أعجب من الخائن، وكيف كانت الخيانة؟! - الخائن رسول ائتمنته على رسالة، فسلمها إلى عدوي!
فقالت الملكة بلهجة استغراب: لا علم لي بالرسالة، ولا بالرسول، ولا أظن أن الوقت يتسع لإنبائي، وما أتمنى من شيء إلا أن أظهر إلى جانبك أمام الشعب الذي يهتف لي ليعلم أني أواليك، وأني أعادي من يعاديك. - شكرا لك يا أختاه، ليس من حيلة، وما علي إلا أن أستعد لموت شريف.
ثم أمسك بذراعها، وسار بها صوب حجرة اعتكافه، وأزاح الستار المسدل على بابها ودخلا معا إلى الحجرة الفاخرة، وكان يطالع الداخل محراب منحوت في الجدار يقوم بداخله تمثالان للملك والملكة السابقين، فاتجه الملكان إلى تمثالي والديهما، ووقفا أمامهما خاشعين صامتين ينظران بعينين حزينتين كئيبتين، وقال الملك بصوت ثقيل، وهو ينظر إلى تمثالي والديه: ترى ما رأيكما في؟!
وسكت لحظة كأنه ينتظر أن يتلقى الجواب، وعاوده انفعاله فغضب على نفسه، ثم ثبت عينيه على وجه أبيه، وقال: لقد أورثتني ملكا عظيما ومجدا أثيلا، فماذا صنعت بهما؟ لم يكد يمضي عام على توليتي حتى شارفت الدمار، وا أسفاه! لقد أذللت عرشي موطئا للنعال، وجعلت اسمي مضغة للأفواه، واكتسبت لنفسي اسما جديدا لم يطلق على فرعون من قبل، هو الملك العابث.
وانحنى رأس الملك الشاب مثقلا حزينا، ولبث ينظر إلى الأرض بعينين مظلمتين، ثم رفعهما إلى تمثال والده، وتمتم: لعلك وجدت في حياتي ما أخجلك، ولكنك لن تخجل من موتي أبدا!
والتفت إلى الملكة، وقال لها: هل تغفرين إساءتي يا نيتوقريس؟
وكان التأثر قد بلغ منها مبلغا عظيما، فاغرورقت عيناها بالدموع، وقالت: لقد نسيت همومي في هذه الساعة.
فقال بانفعال شديد: طالما أسأت إليك يا نيتوقريس، لقد تطاولت على كبريائك، وظلمتك وجعلت حماقتي من سيرتك أسطورة حزينة تلقى بالإنكار والغرابة. كيف حدث هذا؟ .. وهل كنت أستطيع أن أغير المجرى الذي تنصب فيه حياتي؟ .. لقد غمرتني الحياة وتولاني جنون عجيب، ولا أستطيع حتى في هذه الساعة أن أعلن ندمي، وا أسفاه! إن العقل يستطيع أن يعرفنا بسخفنا وتفاهتنا، ولكن يبدو لي أنه لا يقدر على تلافيهما. هل رأيت أفدح من هذه المأساة التي أرادها؟ .. ومع هذا فلن يفيد الناس منها إلا بلاغة كلامية، وسيبقى الجنون ما بقيت حياة الناس. بل لو بدأت حياتي من جديد لما تجنبت الوقوع مرة أخرى، أيتها الأخت .. لقد ضاقت نفسي بكل شيء، وما من فائدة ترجى، فالخير أن أستحث النهاية.
وبدا على وجهه العزم والاستهتار، فسألته حائرة قلقة: أي نهاية يا مولاي؟
فقال بحدة: لست نذلا لئيما، وأستطيع أن أذكر واجبي من بعد طول النسيان. ما جدوى القتال؟ .. سيصرع جميع رجالي المخلصين أمام عدو لا يحصى له عدد، وسيأتي دوري حتما بعد إزهاق آلاف من الأرواح من جنودي وشعبي، ولست جبانا رعديدا يلوذ بأهداب الحياة قابضا على خيط واه من الأمل، فلأحقن الدماء وأواجه الناس بنفسي.
فارتاعت الملكة وقالت: مولاي .. أتحمل ضمير رجالك وزر التخلي عن الدفاع عنك؟ - بل لا أريد أن أضحي بهم عبثا، وسألقى عدوي وحيدا لنصفي حسابنا معا.
فأحست بامتعاض شديد، وكانت تعرف عناده، فيئست من إقناعه، وقالت بهدوء وحزم: سأكون إلى جانبك.
ولكنه هلع، وأمسك بذراعيها، وقال بتوسل: نيتوقريس، إن الشعب يريدك، وحسنا أراد؛ فأنت جديرة بحكمه فابقي له. إياك وأن تظهري إلى جانبي فيقولوا إن الملك يحتمي بزوجته أمام شعبه الغاضب. - وكيف أتخلى عنك؟ - افعلي هذا من أجلي، ولا تقدمي على عمل يفقدني شرفي إلى الأبد.
فأحست المرأة بالحيرة والارتباك والضيق الشديد، فصاحت يائسة: يا للساعة الرهيبة!
فقال الملك: هذه رغبتي نفذيها إكراما لي، لا تقاومي وحق والدينا؛ فإن كل دقيقة تمر يسقط جنود بواسل بغير ثمن. الوداع أيتها الأخت الكريمة، أنا ذاهب موقنا بأنك لن تلطخيني بالعار في ساعتي الأخيرة، إن من يتمتع بالسلطان الكامل لا يستطيع أن يقنع بالأسر في قصر، فالوداع أيتها الدنيا، الوداع أيتها اللذات والآلام .. الوداع أيها المجد الكاذب والمظاهر الجوفاء. لقد مجت نفسي كل شيء، فالوداع الوداع.
وهوى بفمه فقبل رأسها، والتفت إلى تمثالي والديه، وانحنى لهما، ثم ذهب.
ووجد سوفخاتب ينتظر في الردهة الخارجية، جامدا كتمثال أخنى عليه القدم؛ فلما رأى مولاه دبت فيه الحياة وتبعه في سكون، وفسر خروجه على هواه، فقال: سيبث ظهور مولاي روح الحماس في قلوبهم الباسلة.
فلم يجبه الملك. وهبطا الأدراج معا إلى ممر الأعمدة الطويل الذي يصل ما بين الحديقة والفناء، وأرسل في طلب طاهو، وانتظر صامتا. وفي تلك اللحظة نزعت نفسه إلى الناحية الجنوبية الشرقية، إلى بيجة .. وتنهد من أعماق قلبه، لقد ودع كل شيء إلا أحب الأشياء إليه، فهل تحم النهاية قبل أن يلقي نظرة على وجه رادوبيس ويسمع صوتها لآخر مرة؟ .. وأحس قلبه بحنين أليم وحزن شديد، وصحا من غفوة همومه على صوت طاهو يحييه، فاندفع بقوة لا تقهر إلى سؤاله عن طريق بيجة قائلا: هل النيل آمن؟
فأجابه القائد قائلا، وكان ممتقع الوجه شديد الشحوب: كلا يا مولاي. لقد حاولوا أن يهاجمونا من الخلف بالقوارب المسلحة، ولكن أسطولنا الصغير ردهم بغير عناء، ولن يؤخذ القصر من هذه الناحية أبدا.
ولم يكن القصر الذي يهم الملك؛ لذلك أحنى رأسه، وقد أظلمت عيناه. سيموت قبل أن يلقي نظرة وداع على الوجه الذي باع الدنيا ومجدها من أجله. ترى ماذا تفعل رادوبيس في هذه الساعة المفجعة .. هل بلغها ما أصاب آمالها من الانهيار، أم أنها ما تزال تتيه في وديان السعادة، وتنتظر عودته بفارغ الصبر؟!
ولم يكن الوقت يسمح له بالاستسلام إلى أحزانه، فطوى آلامه في صدره، وقال لطاهو آمرا: مر جنودك أن تخلي الأسوار، وتكف عن القتال، وتعود إلى ثكناتها.
فاستولت الدهشة على طاهو، ولم يصدق سوفخاتب أذنيه فقال بانزعاج: ولكن الشعب يقتحم الباب توا!
ولبث طاهو واقفا لا يبدي حراكا، فصاح الملك بصوت كالرعد دوى دويا مخيفا في ممر الأعمدة: اصدع بما أمرت.
وذهب طاهو ذاهلا ينفذ أمر مولاه، وتقدم فرعون بخطى ثابتة نحو فناء القصر، فالتقى عند نهاية الممر بفرقة العجلات المصطفة، وقد رآه الضباط والجنود، فسلوا أسيافهم وأدوا التحية، فنادى الملك قائد الفرقة وقال له: عد بفرقتك إلى الثكنات ولا تبرحها حتى تأتيك أوامر أخرى.
فأدى القائد التحية وجرى نحو فرقته، ونادى في الجند بصوت شديد، فتحركت العجلات بسرعة وانتظام إلى ثكناتها في الجناح الجنوبي من القصر. وكان سوفخاتب ترتعد أوصاله، ولا تكاد تحمله قدماه الضعيفتان، وقد أدرك ما يريده مولاه، ولكنه لم يستطع أن ينطق بكلمة.
ومضت الجند تخلي مواقعها الحصينة منفذة الأمر الرهيب، وتنزل عن الأسوار والأبراج وتنطوي في نظام إلى ألويتها، ثم تعدو بسرعة إلى الثكنات يتقدمها ضباطها. وما لبثت أن خلت الأسوار، وخلا الفناء والممرات حتى من قوات الحرس العادي المنوط بها واجب الحراسة في أوقات السلام.
وظل الملك واقفا عند مدخل الممر وإلى يمينه سوفخاتب. وعاد طاهو لاهثا، ووقف إلى يساره، وقد بدا وجهه كالشبح المخيف. وكان كلا الرجلين يرغب في التوسل إلى الملك برغبة حارة، ولكن ما بدا على وجهه من الجمود والصلابة والشدة، بدد شجاعتهما، فلازما الصمت مرغمين. والتفت الملك إليهما، وقال بهدوء: لماذا تنتظران معي؟
فارتعب الرجلان أيما ارتعاب، ولم يستطع طاهو إلا أن ينطق بهذه الكلمة بتوسل وإشفاق: مولاي.
أما سوفخاتب فقال بهدوء غير عادي: إذا أمرني مولاي بالتخلي عنه فسأصدع بأمره لا محالة، ولكني سأزهق نفسي في الحال.
فتنهد طاهو ارتياحا كأنه ظفر بالحل الذي أعياه طلبه، وتمتم قائلا: أحسنت أيها الرئيس.
وسكت فرعون، ولم يقل شيئا.
وفي أثناء ذلك كانت توجه إلى باب القصر الكبير ضربات شديدة قاصمة، ولم يتجاسر أحد على اعتلاء الأسوار كأنهم توجسوا خيفة من انسحاب الحرس المفاجئ، وتوهموا أنه ينصب لهم شراكا قاتلا، فوجهوا كل قوتهم إلى الباب، ولم يحمل الباب ضغطهم زمنا طويلا فتزعزعت المتاريس وارتج بنيانه وهوى بقوة عنيفة رجت الأرض رجا، واندفعت الجموع متدفقة صاخبة، وانتشروا في الفناء كغبار ريح الصيف. وكانوا يتدافعون بعنف، وكأنهم يتقاتلون، ويتباطأ المتقدمون منهم ما استطاعوا خشية خطر غير منظور. وما زالوا في تقدمهم حتى شارفوا القصر الفرعوني، ولمحت أعينهم الواقف عند مدخل الممر، وعلى رأسه تاج مصر المزدوج فعرفوه، وأخذوا بمنظره ووقفته وحيدا لهم. وتشبثت أقدام الذين على الرءوس بالأرض، ونشروا أذرعهم يوقفون التيار الجارف المنصب وراءهم، وصاحوا في الجموع: مهلا .. مهلا.
ولعب أمل ضعيف بقلب سوفخاتب حين رأى الذهول يستولي على قادة الثائرين فيشل أعضاءهم، ويزيغ أبصارهم، وتوقع قلبه المتهالك معجزة تخلف ظنه الأسود. ولكن كان يوجد بين الثائرين دهاة يشفقون مما يرجو قلب سوفخاتب، وخشوا أن ينقلب فوزهم هزيمة، ويخسروا قضيتهم إلى الأبد، فامتدت يد إلى قوسها، ووضعت سهما في كبده، وسددته إلى فرعون وأطلقته، فانطلق السهم من وسط الجموع واستقر في أعلى صدر الملك دون أن تمنعه قوة أو رجاء، وصرخ سوفخاتب كأنما هو الذي أصيب، ومد يديه يسند الملك فالتقتا مع يدي طاهو الباردتين. وأطبق الملك شفتيه فلم يخرج منهما أنين، ولا آهة، وتماسك بما بقي فيه من قوة ليحفظ توازنه وقد تقطب جبينه، وارتسم عليه الألم، وأحس سريعا بخور وضعف، وأظلمت عيناه فترك نفسه لأيدي رجليه المخلصين.
وساد الصفوف الأمامية سكون رهيب، وعقد الألسنة صمت ثقيل، وهلعت الأعين، وأرسلت نظرات زائغة إلى الرجل العظيم الذي يعتمد على رجليه تتحسس يديه موضع السهم في صدره فيلطخها الدم الساخن المتدفق بغزارة، وكأنهم لا يصدقون أعينهم، أو كأنهم هاجموا القصر لغير هذه الغاية.
ومزق السكون صوت من المؤخرة يسأل: ماذا هنالك؟
فقال آخر بصوت خافت: قتل الملك!
وتناقلتها الألسنة بسرعة جنونية، وتصايح بها الناس، وهم يتبادلون نظرات الحيرة والارتياع.
ونادى طاهو عبدا وأمره أن يحضر هودجا، فجرى الرجل إلى داخل القصر، وعاد يحمل هودجا هو وجماعة من العبيد، فوضعوه على الأرض ورفعوا جميعا فرعون وأناموه في رفق. وانتشر الخبر داخل القصر، فجاء طبيب الملك مسرعا، وظهرت خلفه الملكة، وكانت تسرع الخطى في اضطراب باد، ولما وقعت عيناها على الهودج وعلى النائم جرت إليه فزعة، وجثت على ركبتيها إلى جانب الطبيب، وهي تقول بصوت متهدج: يا للويل! .. قد أصابوك يا مولاي كمشيئتك!
وشاهد القوم الملكة، فصاح واحد منهم: جلالة الملكة.
وانحنت هامات الشعب الواجم كأنه في صلاة جامعة. وأخذ الملك يفيق من أثر الصدمة الأولى، ففتح عينيه المغمضتين، ومضى يقلبهما فيمن حوله في هدوء وضعف. وكان سوفخاتب يحملق في وجهه في ذهول وصمت، وكان طاهو جامدا ووجهه كوجوه الموتى، وكان الطبيب يفحص الجرح، يكشف عنه قميص الزرد. أما الملكة فقد اكتسى وجهها بالجزع والألم، وقالت للطبيب: أليس بخير؟ قل لي إنه بخير!
فأدرك الملك ما تقول، وقال ببساطة: كلا يا نيتوقريس. إنه سهم قاتل.
وأراد الطبيب أن ينتزع السهم، ولكن الملك قال له: دعه، لا فائدة ترجى من هذا العذاب.
واشتد التأثر بسوفخاتب، فقال لطاهو بانفعال شديد غير نبرات صوته تغيرا تاما: ادع جندك، وانتقم لمولاك من المجرمين.
وبدت على الملك المضايقة، فرفع يده بصعوبة، وقال: لا تتحرك يا طاهو، هل هانت عليك أوامري يا سوفخاتب في رقادي هذا؟! لا قتال بعد الآن، قولوا للكهنة إنهم بلغوا غايتهم، وإن مرنرع الثاني على فراش الموت، فليرجعوا بسلام.
وسرت رعدة في جسم الملكة فمالت على أذنه، وقالت همسا: مولاي! لا أحب أن أبكي أمام قاتليك، ولكن ليطمئن قلبك، فوحق أبوينا، وحق الدم الزكي لأنتقمن من عدوك انتقاما تتحدث به الأزمان جيلا بعد جيل.
فابتسم إليها ابتسامة خفيفة يعبر بها عن شكره ومودته، وغسل الطبيب الجرح وسقاه جرعة من دواء مسكن، ووضع بعض الأعشاب حول السهم، واستسلم الملك إلى يديه ولكنه كان يشعر بدنو أجله وباقتراب الساعة الفاصلة، ولم ينس في رقاده الوجه الحبيب الذي تمنى لو يودعه قبل النهاية المحتومة فلاحت في عينيه نظرات حنين، وقال بصوت خافت بغير وعي منه إلى ما حوله: رادوبيس .. رادوبيس.
وكان وجه الملكة قريبا من وجهه فسمعته، وأحست بطعنة نجلاء تخترق شغاف قلبها، فرفعت رأسها وقد أحست بدوار شديد. ولم يلق بالا إلى شعور الآخرين، فأومأ إلى طاهو، فبادر الرجل إليه. فقال له برجاء: رادوبيس.
فقال القائد: هل آتي بها يا مولاي؟
فقال بصوته الخافت: كلا .. احملني إليها، في قلبي بقية حياة أريد أن تنفد في بيجة.
ووجه طاهو نظرة إلى الملكة في ارتباك شديد، فقامت الملكة واقفة وقالت بهدوء: نفذ مشيئة مولاي.
وسمع الملك صوتها، وأدرك قولها، فقال لها: أيتها الأخت، طالما غفرت لي الذنوب، فاغفري لي هذه أيضا .. إنها رغبة ميت.
فابتسمت الملكة ابتسامة حزينة، وانحنت على جبينه ولثمته، ثم أوسعت للعبيد.
الوداع
انحدرت السفينة في هدوء متجهة صوب جزيرة بيجة، والهودج في مقصورتها بحمله الثمين، يقف الطبيب عند رأسه، وطاهو وسوفخاتب عند قدميه .. وكانت هذه أول مرة يخيم فيها الحزن على السفينة، فتحمل مولاها نائما مستسلما، يغشى وجهه ظل الموت. وكان الرجلان يلازمان الصمت وعيناهما الحزينتان لا تفارقان وجه الملك الشاحب، وكان يرفع جفنيه الثقيلتين، وينظر إليهما نظرة ذابلة، ثم يعود فيغمضهما في تراخ. ومضت السفينة تدنو من الجزيرة رويدا، رويدا، حتى رست إلى سلم حديقة القصر الذهبي.
ومال طاهو على أذن سوفخاتب، وهمس قائلا: أرى أن يسبق أحدنا الهودج حتى لا تؤخذ المرأة بغتة.
ولم يكن سوفخاتب في تلك الساعة الرهيبة يبالي شعور إنسان، فقال باقتضاب: افعل ما بدا لك.
ولكن طاهو لم يبرح مكانه، ولبسته حيرة التردد، فقال: يا له من نبأ لا يدري الإنسان كيف يؤديه إليها!
فقال سوفخاتب بحدة: ماذا تخشى أيها القائد؟! إن من يبتلى بمثل ما ابتلينا به لا يعمل حسابا لمحذور.
قال سوفخاتب ذلك، وغادر المقصورة مسرعا، وصعد درجات السلم إلى الحديقة، واخترق الممشى مهرولا حتى انتهى إلى البركة، فاعترضت سبيله الجارية شيث، وقد دهشت الجارية لمرآه، وكانت تعرفه من تلك الأيام الخوالي. وفتحت فاها لتكلمه، ولكنه قطع عليها السبيل قائلا بسرعة: أين سيدتك؟
فقالت شيث: مسكينة سيدتي لا تعرف اليوم لنفسها مستقرا. وما زالت تدور بالحجرات، وتطوف بالحديقة حتى ...
وفرغ صبر الرجل فقاطعها قائلا بحدة: أين سيدتك؟
فقالت مستاءة: في الحجرة الصيفية يا سيدي.
وأسرع الرجل إلى الحجرة. ودخل متنحنحا، وكانت رادوبيس جالسة على كرسي مسندة رأسها إلى يديها، فلما أحست بالداخل التفتت إليه، وسرعان ما عرفته، فقامت واقفة وكأنها تقفز قفزا، وقالت باهتمام وقلق: الرئيس سوفخاتب .. أين مولاي؟
فقال الرجل الغارق في حزنه بذهول: سيأتي عما قليل.
فضمت يديها إلى صدرها فرحا، وقالت بصوت بهيج: لشد ما عذبتني المخاوف على سيدي، لقد بلغني أنباء العصيان المحزنة، ثم انقطع عني كل شيء، فتركت وحدي إلى وساوس قلبي .. متى يأتي سيدي؟
وذكرت بسرعة خاطفة أنه لم يتعود أن يرسل رسولا بين يديها فاعتورها القلق وقالت بسرعة قبل أن يبدأ سوفخاتب كلامه: ولكن لماذا بعثك إلي؟
فقال الوزير بجمود: صبرا يا سيدتي؛ فلم يرسلني أحد، والحقيقة الأسيفة أن مولاي أصيب.
ووقعت هذه الكلمة الأخيرة من أذنيها موقعا غريبا داميا، فحملقت في وجه الوزير الكئيب فزعة، وصدرت عن صدرها آهة زفرة حرى مرتعشة، فقال سوفخاتب الذي أفقده الحزن شعوره: صبرا صبرا .. سيصل مولاي محمولا على هودجه كمشيئته. لقد أصيب بسهم في هذا اليوم المنكود الذي غدا عيدا وأضحى مأتما مروعا.
ولم تحتمل المكوث في الحجرة، فجرت إلى الحديقة كالفرخة الذبيح، ولكنها لم تكد تجاوز العتبة حتى سمرت قدماها في الأرض، وثبتت عينيها على الهودج يحمله العبيد متجهين صوب الحجرة، فأفسحت لهم الطريق، وهي تضع يديها على رأسها المضطرب من هول المنظر، ثم تبعتهم على الأثر. وقد وضعوا الهودج في حرص شديد وسط الحجرة وانسحبوا خارجا، وخرج في ذيلهم سوفخاتب، وخلال المكان لها وله .. واندفعت إلى الركوع إلى جانبه، وشبكت أصابع يديها وشدت عليها بقسوة وبحالة عصبية عنيفة، ونظرت إلى عينيه الساهمتين الذابلتين، وقد انقطعت منها الأنفاس، وجرى بصرها الزائغ على صدره المضطرب، فرأت بقع الدم والسهم النافذ، فاقشعر بدنها بحالة ألم جنوني، وصاحت بصوت متقطع من العذاب والفزع: أصابوك .. يا للهول!
وكان نائما في تراخ وهمود، وقد أتت الرحلة الصغيرة على بقية قواه الآخذة في الانحلال السريع، ولكنه حين سمع صوتها ورأى وجهها الحبيب دبت فيه نسمات حياة رقيقة، ولاح في عينيه المظلمتين ظل ابتسامة خفيفة.
ولم تكن تراه إلا هائجا مفعما بالحياة كالعاصفة، فكادت تجن، وهي تشاهده كمن شاخ وذوى منذ دهر طويل، وألقت نظرة نارية على السهم الذي أحدث كل هذا، وقالت بتألم : كيف تركوه في صدرك؟! هل أستدعي الطبيب؟!
فاستجمع قواه الخائرة المشتتة، وقال بصوت ضعيف: لا فائدة.
فلاحت في عينيها نظرة جنونية، وقالت بصوت العتاب: لا فائدة يا حبيبي .. كيف تقول هذا؟ .. هل هانت عليك حياتنا؟!
فمد يده في ضعف شديد حتى مست كفها الباردة، وهمس قائلا: هي الحقيقة يا رادوبيس، لقد جئت لأموت بين يديك في المكان الذي أحببته أكثر من أي مكان في الدنيا .. فلا تندبي حظنا، وامنحيني صفاء. - مولاي، أتنعى إلي نفسك؟! يا لساعة الأصيل هذه! كنت أنتظرها يا حبيبي بنفس أضناها الشوق وغرر بها الأمل، وكنت أرجو أن تجيء حاملا إلي بشرى الفوز، فجئت حاملا إلي هذا السهم .. كيف لي بالصفاء؟!
فازدرد ريقه بصعوبة، وقال بتوسل وبصوت كالأنين: رادوبيس تناسي هذا الألم وادني مني، أريد أن أنظر إلى عينيك الصافيتين.
إنه يريد أن يرى الوجه الصبيح المتألق بالغبطة والسعادة ليختم بصورته الفاتنة حياته، أما هي فكانت تعاني آلاما لا قبل لإنسان بها، وكانت تود لو تنفس عن صدرها المضطرم بالصراخ والعويل والهذيان، أو تلتمس الشفاء في الجنون العنيف واصطلاء نيران الجحيم، فكيف تصفو وتهدأ وتطالعه بالوجه الذي أحبه وسكن إليه دون العالمين؟ .. وكان يتابع النظر إليه برجاء، فقال بحزن: ليست هاتان العينان عينيك يا رادوبيس.
فقالت بأسى وحزن: هما عيناي يا مولاي، ولكن جف ما يمدهما بالنور والحياة. - أواه يا رادوبيس! ألا تريدين أن تنسي آلامك هذه الساعة إكراما لي؟ .. أريد أن أرى وجه رادوبيس حبيبتي، وأن أستمع إلى صوتها العذب.
ونفذ رجاؤه إلى قلبها، فكبر عليها أن تحرمه من شيء يريده في تلك الساعة السوداء، وقست على نفسها قسوة شديدة، فبسطت صفحة وجهها واغتصبت من شفتيها المرتعشتين ابتسامة وحنت عليه في سكون واطمئنان كأنما تحنو عليه، وهو يرقد رقاد غرام، فتبدى على وجهه الشاحب الذابل الرضا، وانفرجت شفتاه الباهتتان عن ابتسامة.
ولو أنها تركت لعواطفها لما وسعتها الدنيا هذيانا وجنونا، ولكنها نزلت على إرادته العزيزة، وملأت عينيها من وجهه، وهي لا تصدق أن هذا الوجه سيغيب عنها بعد لحظات قصيرة إلى الأبد، وأنها لن تراه في هذه الدنيا مهما تألمت أو تأوهت أو سكبت الدمع الحزين، وأن صورته وحياته وحبه ستغدو ذكريات ماض غريب، هيهات أن يصدق قلبها المكلوم أنه كان يوما حاضرها واستقبالها. كل هذا لأن سهما مجنونا استقر في هذا الموضع من صدره .. كيف يستطيع هذا السهم الحقير أن يقضي على آمال ضاقت عنها الدنيا بأسرها؟! .. وتنهدت المرأة تنهدا حارا صعد فتات قلبها، وكان الملك يستفرغ بقية الحياة القلقة في صدره، المضطربة في أنفاسه، وقد خارت قواه ووهنت أعضاؤه، وماتت حواسه، وأظلمت عيناه، ولم يبق منه إلا صدر يضطرب اضطرابا عنيفا، ويقتتل به الموت والحياة اقتتال القهر واليأس. وتجلى بغتة على وجهه الألم وفتح فاه كأنما يريد أن يصرخ أو يستغيث، وأمسك بيدها التي امتدت إليه في فزع لا يوصف، وصاح بقوة: رادوبيس أسندي رأسي .. أسندي رأسي.
وأحاطت رأسه بيديها المرتجفتين وهمت أن تجلسه، ولكنه شهق شهقة قوية، وأسقطت يده إلى جانبه، وانتهت عند ذاك المعركة الناشبة بين الحياة والموت. وأعادت رأسه إلى وضعه الأول بسرعة، وصرخت صرخة فزع شديدة عالية، ولكنها كانت قصيرة، ثم انقطع صوتها كأنما مزقت مسالكه، وتصلب لسانها، والتحم فكاها بشدة، وحملقت في وجه الذي كان إنسانا بعينين جامدتين، ثم لم تبد حراكا.
وأذاعت صرختها الخبر الأليم، فهرع الرجال الثلاثة إلى الحجرة دون أن تحس بهم ووقفوا أمام الهودج، وألقى طاهو على وجه الملك نظرة ذاهلة، وعلت وجهه صفرة الموت، ولم ينبس بكلمة، وتقدم سوفخاتب من الجثة، وانحنى في إجلال عظيم وقد أخفاها عنه دمع جرى على خديه وتساقط على الأرض، وقال بصوت متهدج مزقت نبراته الباكية الصمت المخيم: سيدي ومولاي، وابن سيدي ومولاي، نستودعك الآلهة العلية التي اقتضت مشيئتها أن يكون اليوم بدء رحلتك إلى عالم الأبدية. وددت لو أفتدي شبابك الغض بشيخوختي الفانية، ولكنها إرادة الرب التي لا ترد، فالوداع يا مولاي الكريم.
ومد سوفخاتب يده الهزيلة إلى الغطاء، وسجى الجثة في أناة، وانحنى مرة أخرى، وعاد إلى مكانه بقدمين ثقيلتين.
وظلت رادوبيس جاثية، في غفوة من الذهول، لا تفيق ولا تتحول عيناها عن الجثة، وقد سرى في جسمها جمود غريب كالموت، فلم تبد حراكا، ولا بكت، ولا صرخت، ظل الرجال في وقفتهم منكسي الرءوس .. إلى أن دخل أحد العبيد الذين حملوا الهودج، وقال: وصيفة جلالة الملكة.
والتفت الرجال إلى الباب، فرأوا الوصيفة تدخل يبدو على وجهها أثر الحزن الشديد، فانحنوا لها تحية، فردت التحية بإيماءة من رأسها، وألقت نظرة على الجثة المسجاة، ثم ردت ناظريها إلى سوفخاتب، فقال الرجل بصوت حزين: انتهى الأمر أيتها السيدة الجليلة.
فصمتت المرأة برهة كالذاهلة، ثم قالت: ينبغي إذن أن تحمل الجثة الكريمة إلى القصر الفرعوني، هذه إرادة جلالة الملكة أيها الوزير.
واتجهت الوصيفة نحو الباب، وأومأت إلى العبيد، فهرعوا إليها مسرعين، فأمرتهم أن يرفعوا الهودج. وقصد العبيد إلى الهودج ومالوا إلى قوائمه ليرفعوه، فانتبهت رادوبيس مذعورة ولم تكن تحس بشيء مما يدور حولها، وتساءلت بصوت مبحوح غريب: إلى أين .. إلى أين؟
وارتمت على الهودج، فتقدم منها سوفخاتب وقال: إن القصر يريد أن يؤدي واجبه نحو الجثة المقدسة.
فقالت المرأة ذاهلة: لا تأخذوه مني .. انتظروا .. سأموت على صدره.
وكانت الوصيفة تتعالى بناظريها عن رادوبيس، فلما سمعت قولها قالت بخشونة: إن صدر الملك لم يخلق لكي يكون لحدا لإنسان.
وانحنى سوفخاتب على المرأة، وقبض على معصمها برقة ورفعها بهدوء، وحمل العبيد الهودج، فنزعت رادوبيس يدها من بين يديه، وأدارت رأسها بعنف فيما حولها فلم يبد على وجهها التائه أنها عرفت أحدا من الحاضرين، وصاحت بصوت متقطع كالحشرجة: لماذا تأخذونه؟ هذا قصره .. وهذه حجرته .. كيف تسومونني القهر أمامه .. إن مولاي لا يرضى عمن يسيء إلي .. أيها القساة .. أيها القساة.
ولم تبالها الوصيفة، فشقت طريقها إلى الحديقة، وتبعها العبيد يحملون الهودج، وغادر الرجال الحجرة في خشوع وصمت. وكادت المرأة تجن، وجمدت في مكانها لحظة قصيرة، وهمت باندفاع وراءهم، ولكن يدا غليظة أمسكت بذراعها، فحاولت التخلص منها، ولكن ضاعت محاولتها هباء.
فالتفتت إلى الوراء بعنف وغيظ ، فوجدت نفسها وجها لوجه أمام طاهو.
نهاية طاهو
وسهمت إليه بنظرة غريبة كأنها لا تعرفه، وحاولت أن تخلص ذراعها، ولكنه لم يمكنها من غايتها، فقالت له بعنف: دعني أذهب.
فهز رأسه يمنة ويسرة ببطء كأنه يقول لها: كلا كلا .. وكان وجهه رهيبا مخيفا ونظرة عينيه جنونية، وتمتم قائلا: إنهم ذاهبون إلى مكان لا يجوز أن تلحقيهم إليه. - دعني أذهب. لقد خطفوا سيدي.
فاربد وجهه، وقال لها بلهجة عنيفة كأنه يلقي أمرا عسكريا: لا تقاومي رغبة الملكة الحاكمة.
فسكت عنها الغضب في خوف وكفت عن المقاومة.
واستسلمت استسلاما غريبا، وقطبت جبينها، ثم هزت رأسها في حيرة كأنها تحاول أن تستجمع قوى إدراكها المشتت الذاهل، وحدجته بنظرة غرابة وإنكار وقالت: ألا ترى أنهم قتلوا مولاي .. قتلوا الملك؟!
وكانت عبارة «قتلوا الملك.» تقع من أذنيه موقعا غريبا مروعا فسكن هياجه، وقال: نعم يا رادوبيس، قتلوا الملك، وما كنت أحسب قبل اليوم أن سهما يمكن أن يقضي على حياة فرعون.
فقالت ببساطة البله: فكيف تدعهم يخطفونه مني بعد ذلك؟!
فانفجر ضاحكا ضحكة جنونية مخيفة، وقال: أتريدين أن تتبعي أثرهم؟ .. يا لك من مجنونة يا رادوبيس! إنك تعمين عن العواقب؛ فقد أذهلك الحزن، اصحي أيتها الفاتنة؛ فالجالسة على عرش مصر الآن امرأة قضيت عليها بالهوان، وانتزعت زوجها من بين يديها، وأهويت بها من سامق المجد والسعادة إلى زوايا النسيان والشقاء .. إنها سرعان ما تبعث إليك من يسوقك إليها مكبلة بالسلاسل، ثم تدفع بك إلى أيدي جلادين لا يعرفون الرحمة يحلقون شعرك الحريري، ويسملون عينيك السوداوين، ويجدعون أنفك الدقيق، ويصلمون أذنيك الرقيقتين، ثم يحملونك على ظهر عربة قطعة من البشاعة المشوهة يعرضونك على أنظار الساخطين الشامتين، ويسير بين يديك مناد يصيح بأعلى صوته أن انظروا إلى العاهرة المشئومة التي أتلفت على الملك نفسه، ثم أتلفته على شعبه.
وكان طاهو يتكلم بلهجة تشف عن غل وعيناه تبرقان بنور مخيف، ولكنها لم تتأثر بكلامه كأنما حيل بينه وبين حواسها، وسهمت إلى شيء غير منظور في هدوء غريب، ثم هزت منكبيها في استهانة وبساطة، فاحتدم في قلبه الغيظ والحنق لبرودها وذهولها، واندفع الغضب من قلبه إلى قبضة يده فشد عليها، وشعر برغبة في أن يوجه إلى وجهها ضربة هائلة جنونية فيحطمه تحطيما، ويمتع ناظريه بتشوهه، وتفجر الدم من مسامه ومنافذه، ولبث دقيقة يتفرس في وجهها الهادئ الذاهل، ويحاور رغبته الشيطانية، ولكنها رفعت عينيها إليه دون أن يلوح فيهما معنى من معاني الحياة، فاضطرب وتخاذل وبدا عليه رعب من يضبط متلبسا بجريمة، فتراخت أصابعه، وتنهد تنهدا عميقا ثقيلا، ثم قال: أراك لا تكترثين لشيء.
وكانت لا تلقي إلى ما يقول بالا، ولكن تصادف أن قالت وكأنها تحادث نفسها: كان ينبغي أن نتبعهم.
فقال طاهو بغضب: كلا .. كلا .. ما عاد كلانا يصلح للدنيا .. ولن يفتقدنا بعد اليوم أحد.
فقالت ببساطة وهدوء: أخذته مني .. أخذته مني.
فعلم أنها تعني الملكة. وهز منكبيه قائلا: لقد استوليت عليه حيا، واستردته ميتا.
فحدجته بنظرة غريبة، وقالت له: يا أحمق، يا جاهل، ألا تعلم؟ .. لقد قتلته الخائنة لتسترده. - من الخائنة؟ - الملكة، هي التي أفشت سرنا وأثارت الشعب. هي التي قتلت مولاي.
وكان ينصت إليها في صمت، وعلى فمه ابتسامة شيطانية ساخرة، فلما انتهت ضحك ضحكته الجنونية المخيفة، ثم قال: أخطأت يا رادوبيس، ليست الملكة خائنة ولا قاتلة.
وحملق في وجهها ودنا منها خطوة، وكانت تنظر إليه بدهشة وإنكار، ثم قال بصوت رهيب: إن كان يهمك أن تعرفي الخائن، فها هو ذا يقف أمامك .. أنا الخائن يا رادوبيس .. أنا.
ولم يهمها قوله كما كان يتوقع، ولا بدت عليها اليقظة. ولكنها هزت رأسها هزات خفيفة كأنما تريد أن تنفض عن نفسها الخمول والإعياء، فاستولى عليه الغضب، وأمسك بكتفيها بغلظة، وهزها بعنف شديد، وصاح بها: اصحي، ألا تسمعين ما أقول؟ .. أنا الخائن .. طاهو الخائن .. أنا علة الكوارث جميعا.
وارتعد جسمها بعنف، وانتفضت انتفاضا شديدا خلصت به من يديه وتقهقرت خطوات وهي تنظر إلى وجهه الفزع بخوف وجنون، فسكت غضبه وهياجه، وأحس بتخاذل جسمه ورأسه فأظلمت عيناه، وقال بهدوء وبلهجة حزينة: إني أنطق بكلمات هائلة بكل بساطة؛ لأني أشعر شعورا صادقا أني لست من أهل الدنيا. لقد انقطع ما بيني وبين العالم جميعا، ولا شك فيما أحدثه اعترافي لك من الفزع، ولكنها الحقيقة يا رادوبيس، لقد تحطم قلبي بقسوة شنيعة، ومزق نفسي الألم البالغ في تلك الليلة الجنونية التي فقدتك فيها إلى الأبد.
وسكت القائد ريثما تهدأ أنفاسه المضطربة، ثم استطرد قائلا: وانطويت على الألم، واستوصيت بالصبر والتجلد، واعتزمت صادقا أن أؤدي واجبي إلى النهاية، حتى كان ذلك اليوم الذي دعوتني فيه إلى قصرك لتستوثقي من إخلاصي. في ذلك اليوم جن جنوني، واشتعلت النار في دمائي، فهذيت هذيانا غريبا، واستاقني الجنون إلى عدو متربص، فأفضيت له بسرنا، وهكذا انقلب القائد الأمين خائنا غادرا يطعن من وراء الظهور.
وأهاجته الذكرى فتقلص وجهه ألما وخزيا، ونظر إلى وجهها الفزع بقسوة، فعاوده الغضب والحنق، وصاح: أيتها المرأة الهلوك المدمرة. لقد كان جمالك لعنة على كل من رآه. لقد عذب قلوبا بريئة، وخرب قصرا عامرا، وزلزل عرشا مكينا، وأثار شعبا أمينا، ولوث قلبا شريفا .. إنه لشؤم ولعنة.
وسكت طاهو، وما زال الغضب يغلي في شرايينه، ورآها كصورة للعذاب والخوف، فأحس ارتياحا ولذة، وتمتم قائلا: ذوقي العذاب والهوان، وانظري الموت فما ينبغي لأحدنا أن يحيا، وقد مت منذ زمن بعيد، ولم يبق لي من طاهو إلا ثيابه المزركشة المجيدة، أما طاهو الذي اشترك في غزو النوبة، وأبلى بلاء حسنا استحق به ثناء بيبي الثاني، طاهو قائد حرس مرنرع الثاني، وصفيه، ومشيره، فلا وجود له.
وألقى الرجل نظرة سريعة على ما حوله، وبدا على وجهه الضيق والجزع الشديد، ولم يعد يحتمل السكون المطبق، ولا رؤية رادوبيس التي استحالت تمثالا جامدا، فنفخ في الهواء بقوة وسخط واشمئزاز، وقال: ينبغي أن ينتهي كل شيء، ولكني لن أحرم نفسي من العقاب الصارم، سأذهب إلى القصر، وأدعو كل من يحسن بي الظن، ثم أعلن جريمتين للملأ، وأمزق الستار عن الخائن الذي طعن مولاه وهو يساره، وأنزع النياشين التي تحلي صدري الآثم، وأرمي بسيفي، ثم أطعن قلبي بهذا الخنجر .. فالوداع يا رادوبيس، والوداع أيتها الحياة التي تستأدينا فوق ما تستحق.
نطق طاهو بهذه الكلمات، ثم ذهب.
النهاية
ولم يكد طاهو يغادر القصر حتى رسا القارب الذي يحمل بنامون بن بسار إلى سلم الحديقة. وكان الشاب منهوك القوى شاحب اللون معفر الثياب، قد هدم أعصابه ما رأى من اضطراب المدينة وهياج الناس وثورة النفوس. وكان بلغ مسكنه بشق الأنفس ولاقى في طريق العودة ما هون عليه ما صادفه في الذهاب، وتنفس الصعداء حين وجد نفسه يسير في ممرات حديقة قصر بيجة الأبيض، والحجرة الصيفية تعترض سبيله عن بعد قريب، وانتهى به المسير إلى الحجرة، فاجتاز عتبتها، وهو يظن أنها خالية. ولكنه ما لبث أن أدرك خطأه. ورأى رادوبيس جالسة في استرخاء على ديوان تحت صورة وجهها الرائعة، وشيث متربعة عند قدميها يشملهما سكون غريب فتردد هنيهة، وأحست شيث بمقدمه، والتفتت إليه رادوبيس، ثم قامت الجارية وانحنت له تحية وغادرت الحجرة، وتقدم الشاب من المرأة، وقد لفه الفرح، فلما أن تبين وجهها عن كثب ركدت حركة نفسه، وأصابه الوجوم والغم، ولم يشك في أن أخبار الخارجة المحزنة قد بلغت آذان معبودته، وأن أنباء الآلام التي تطحن الناس انعكست على وجهها الجميل، فألبسته هذا الرداء الغليظ المغبر من الكدر. وركع بين يديها، ثم مال على حاشية ثوبها فقبلها بحنان، ونظر إليها بعينيه الصافيتين نظرة إشفاق كأنه يقول لها: فداؤك نفسي، ولم يغب عنه ما بدا على وجهها لدى رؤيته من الارتياح، فخفق قلبه خفقة السعادة، وتخضب وجهه بالاحمرار، وقالت له رادوبيس بصوت ضعيف: غبت طويلا يا بنامون.
فقال الشاب: لقد شققت طريقي وسط بحر متلاطم من الخلق الغاضبين: إن آبو اليوم تغلي وتفور وتنثر الشظايا المحرقة، فتملأ الجو حمما.
ثم دس الشاب يده في جيبه وأبرز لها قارورة صغيرة، فتناولتها بيدها وعقدت عليها كفها، وأحست ببرودتها تسري في جسمها وتستقر في قلبها. وسمعته يقول لها: أرى أنك تحملين نفسك فوق ما تحتمل.
فقالت له : إن الأحزان تنتقل بالعدوى. - ولكن رفقا بنفسك؛ فما ينبغي لك أن تستسلمي كل الاستسلام إلى الحزن .. ليتك يا مولاتي تهاجرين إلى أمبوس ردحا من الزمن ريثما يعود الهدوء إلى هذه البقاع.
وكانت تسمع إليه في اهتمام خادع، وتنظر إليه بغرابة، نظرتها إلى آخر حي من أهل هذه الدنيا تقع عليه عيناها لآخر مرة، وكانت فكرة الموت قد استولت عليها استيلاء جعلها تشعر كأنها غريبة عن هذه الدنيا. واختنقت عواطفها اختناقا لم تحس معه بأي رحمة نحو الشاب الراكع أمامها، الهائم في عالم الآمال بعينين مغمضتين عن المصير الذي ينتظره عن كثب .. وظن بنامون أنها تدير فكرته في نفسها فلعب بقلبه الأمل واستفزه الطمع، فقال بحماس: أمبوس يا مولاتي بلد السكينة والجمال، لا ترى العين فيها إلا سماء صافية، وطيرا لاهيا، وبطا سابحا، وأخضر ناضرا .. وسيمحو جوها المشرق السعيد الآلام التي أثارتها في نفسك الرقيقة آبو الحزينة الغاضبة.
وسرعان ما سئمت حديثه، واتجهت أفكارها إلى القارورة العجيبة، وأحست بشوق إلى النهاية، فبحثت عيناها الموضع الذي شغله الهودج منذ حين، وصرخ قلبها أن ها هنا ينبغي أن تختم حياتها، واعتزمت أن تتخلص من بنامون، فقالت له: إن ما تعرضه علي جميل يا بنامون، فدعني أفكر وحدي رويدا.
فأضاء وجه الشاب بالفرح والأمل، وسألها: هل يطول انتظاري؟
فقالت: لن يطول انتظارك يا بنامون.
فلثم الشاب يدها، وقام واقفا، وغادر الحجرة.
ودخلت شيث على الأثر، وكانت رادوبيس تهم بترك مجلسها، فلما رأت الجارية ابتدرتها قائلة لتتخلص منها: إلي بإبريق من الجعة.
فذهبت الجارية إلى القصر، وكان بنامون قد اتجه إلى البركة واطمأن إلى مقعد على حافتها، وكان في تلك الساعة يشعر بالسعادة والغبطة، ويدني إليه الأمل غايته في أن يذهب بمعبودته إلى أمبوس بعيدا عن الشقاء المخيم على آبو فتخلص له، ويسكن إليها، ودعا الآلهة أن تهبط إليها في وحدتها وتلهمها الرأي السديد والحل السعيد.
ولم يطق الجلوس طويلا، فقام يسير الهوينى حول البركة، ولما أتم دورته رأى شيث تحمل إبريقا، وتتجه بسرعة إلى الحجرة، فتبعها بعينيه حتى غيبها الباب، وأراد أن يعاود الجلوس مرة أخرى، ولكنه لم يكد يفعل حتى سمع صرخة مدوية آتية من داخل الحجرة فانتفض واقفا، وقد انخلع قلبه في صدره، واندفع جريا إلى مصدرها، فرأى في وسط الحجرة رادوبيس ملقاة على الأرض، والجارية تجثو على ركبتيها إلى جانبها وتنكب عليها تناديها، وتجس خديها وكفيها .. فهرع إليها بساقين مرتجفتين، وقد اتسعت عيناه ولاح فيهما الهلع والفزع، وجثا إلى جانب شيث وأمسك بكف رادوبيس بين كفيه، فشعر ببرودتهما، وكانت كالنائمة، إلا أن وجهها شاحب تمازجه زرقة خفيفة، وقد انفرجت شفتاها الباهتتان وبعثرت خصلات شعرها الأسود على صدرها ومنكبيها، وانسابت ضفائر منه على البساط، فأحس بجفاف حلقه واختناق أنفاسه، وسأل الجارية بصوت مبحوح: ماذا بها يا شيث .. لماذا لا تجيب؟
فأجابت المرأة بصوت كالعويل: لا أدري يا سيدي؛ فلقد وجدتها عند دخولي الحجرة كما تراها الآن، فناديتها فلم تجب، وأسرعت إليها أهزها فلم تنتبه، ولم تبد عليها اليقظة، أواه يا مولاتي! .. ما لك؟ ما الذي اعتورك فحولك إلى ما أرى؟
ولم ينبس بنامون بكلمة، وجعل يطيل النظر إلى المرأة الملقاة في سكون رهيب، وإن عينيه لتدوران فيما حولها إذ عثرتا تحت مرفقها الأيمن بالقارورة الجهنمية منزوعة السدادة، فشهق شهقة عنيفة، والتقطها بأصابعه المرتعدة، فلم يجد بها إلا آثارا لاصقة بباطنها، وردد بصره بين القارورة ووجه المرأة فتبين له الحق، وسرت في جسمه النحيل رجفة مزقت جوارحه، فأن أنينا موجعا لفت إليه الجارية، وقال بصوت فزع: يا للهول! .. يا للرعب!
فصوبت إليه الجارية عينيها، وسألته بلهفة وذعر: ماذا يهولك ويرعبك؟ .. تكلم فإني أكاد أجن من الحيرة!
ولكنه لم يأبه لها، وقال يحادث رادوبيس، وكأنها تسمعه وتبصره: لماذا انتحرت .. لماذا انتحرت يا مولاتي؟
فصرخت شيث ودقت صدرها بيديها، وقالت: ماذا تقول؟ كيف علمت أنها انتحرت يا هذا؟
فرمى القارورة بعنف، فاصطدمت بالحائط وتحطمت، ثم قال بذهول وحيرة: لماذا أزهقت نفسك بهذا السم؟ .. ألم تعديني بأن تفكري جديا في اصطحابي إلى أمبوس بعيدا عن أحزان الجنوب؟ .. أكنت تخدعينني ريثما تزهقين روحك؟
فنظرت الجارية إلى حطام القارورة، وقالت بدهشة: من أين لمولاتي بالسم؟
فهز منكبيه يأسا، وقال: أتيت لها به بنفسي.
فتولاها الغيظ، وصاحت به: كيف تأتي به يا شقي؟! - لم أكن أدري أنها تريده لتزهق به نفسها، لقد خدعتني كما فعلت بي الآن.
فتحولت عنه يائسة، وأفحمت في البكاء، وانكبت على قدمي مولاتها تقبلهما وتغسلهما بدموعها، وغشي الشاب ذهول، وتفجرت عيناه، وثبت على وجه رادوبيس الساكن سكون الأبدية، وكان يعجب في ذهوله كيف يلحق العدم بمثل هذا الجمال الذي لم تشرق الشمس على مثله من قبل، وكيف تسكن الحيوية الفائضة الملتهبة، وتكتسي بهذا الإهاب الشاحب الذابل الذي تهم به عوامل الخراب؟ تمنى لو أن يراها لحظة خاطفة وقد ردت إليها نسمة الحياة، فأبدت عن تثنيها الرقيق، وأشرقت بوجهها ذي البهاء ابتسامة السعادة، وانبعثت من عينيها نظرة الحب والفتون، ثم يموت فتكون آخر عهده بالدنيا.
وأزعجه نحيب شيث أيما إزعاج، فانتهرها قائلا: أمسكي عن هذا.
وأشار إلى قلبه، ثم استدرك: هنا حزن جليل، أجل من البكاء والنحيب.
وبقي في نفس الجارية أمل ضعيف يخفق، فنظرت إلى الشاب خلل دموعها، وقالت بتوسل: ألا يوجد رجاء يا سيدي؟ عسى أن يكون ما بها غيبوبة شديدة!
ولكنه قال بصوته الحزين: ما من رجاء ولا أمل، ماتت رادوبيس، مات الحب، وتبددت الأوهام .. كم عبثت بي الأحلام والأوهام! .. أما الآن فقد انتهى كل شيء، وأيقظني من غفوتي الموت الرهيب ..
وانقصف آخر شعاع للشمس، وانغمس وجهها القاني في عين حمئة، فزحفت الظلمة تغشى الكون في ثوب حداد. ولم تنس شيث في حزنها واجبها نحو جثة مولاتها، وأدركت أنها لن تستطيع أن توفيها حقها من الإجلال والصون في بيجة المحاطة بأعدائها والمتربصين للانتقام منها وأفضت بمخاوفها إلى الشاب الحزين الذي تحترق نفسه على كثب منها، وطلبت إليه أن يحملا الجثة إلى بلدة أمبوس، وهناك يدفعان بها إلى أيدي المحنطين، ويودعانها مقبرة أسرة بسار، ووافق بنامون على رأيها بقلبه ولسانه، فنادت شيث بعض الجواري ، وأتين بهودج، ووضعن الجثة عليه وسجينها .. ورفع العبيد الهودج إلى السفينة الخضراء التي انحدرت به نحو الشمال.
وجلس الشاب عند رأس الجثة على مقربة من شيث، وقد شمل المقصورة سكون عميق .. في تلك الليلة الحزينة، والسفينة تنساب مع المياه المصطخبة صوب الشمال، تاه بنامون في وديان قصية من الأحلام، ومرت حياته أمام ناظريه في صور متعاقبة، عرضت آماله وأحلامه وما كابد من ألم ورجاء، وما ظن يوما أنه نصيبه من السعادة والهناء والعيش النضير، ثم تنهد من أعماق قلبه المكلوم، وثبت عينيه على الجثة المسجاة التي ارتطمت عليها آماله وأحلامه، فتحطمت وتناثرت، كأوهام بددتها اليقظة.
Page inconnue