وكم سفكوا من دماء، وكم هدموا من بناء، وكم خربوا من عمران، وكم أثاروا من فتن، وكم أنهروا من فساد، كل ذلك سعيا في الوصول إلى هذه المطالب الخبيثة، وجميعهم على اتفاق في أن جميع المشتهيات الموجودة على سطح الأرض منحة من الطبيعة وفيض من فيوضها، والأحياء في التمتع بها سواء، واختصاص فرد من الإنسان بشيء منها دون سائر الأفراد، بدعة في شرع الطبيعة سيئة، يجب محوها والإراحة منها.
ومن مزاعمهم: أن الدين والملك عقبتان عظيمتان، وسدان منيعان، يعترضان بين أبناء الطبيعة، ونشر شريعتها المقدسة: الإباحة والاشتراك، وليس من مانع أشد منهما، فإذن من الواجب على طلاب الحق الطبيعي، أن ينقضوا هذين الأساسين، ويبيدوا الملوك ورؤساء الأديان.
ثم يعمدون إلى الملاك وأهل السعة في الرزق، فان دانوا لشرع الطبيعة، فخرجوا عن الاختصاص، فتلك، وإلا أخذوا بأعناقهم قتلا، وبأكظامهم (¬1) خنقا؛ حتى يعتبر بهم من يكون من أمثالهم، فلا يلوون رؤوسهم كبرا على الشريعة المقدسة - شريعة الطبيعة - ولا تزور أعناقهم عصيانا لأحكامها.
نظر أبناء هذه الطوائف في وجوه الوسائل لبث أفكارهم، والإفضاء بما في أوهامهم إلى قلوب العامة، فلم يجدوا وسيلة أنجح في زرع بذور الفساد في النفوس، من وسيلة التعليم؛ إما بإنشاء المدارس تحت ستار نشر المعارف، أو بالدخول في سلك المعلمين في مدارس غيرهم؛ ليقرروا أصولهم في أذهان الاطفال، وهم في طور السذاجة، فتنتقش بها مداركهم بالتدريج.
فمن أولئك الدهريين من همه بناء المدارس، ودعوة الناس إليها، ومنهم متفرقون في بلاد أوربا، يطلبون وظائف التعليم، وينالون من ذلك طلبتهم، وجميعهم يتعاونون على إذاعة خيالاتهم الباطلة، وبهذا كثرت أحزابهم، ونمت شيعتهم في أقطار الممالك الأوروبية، خصوصا مملكة الروسية.
Page 8