لأول مرة يشعر بالحرج، ويقول: نعم ولا. - أكان على هذه الحال عندما غادرته؟! - كلا. - إذن فهو بيت آخر. - لكنه نفس الموقع والرقم والشارع. - جميع ذلك أعراض لا تمس الجوهر، وإليك أمرا آخر.
وقام فنقر الباب ثم رجع إلى مجلسه، وسرعان ما دخلت امرأة متوسطة العمر والجمال مهذبة المظهر مع ميل إلى الحزن، فجلست إلى جانب الرجل الأول، وعاد المحامي يسأله: هل ترى في هذه السيدة زوجتك؟
خيل إليه أنها تمت بشبه إليها، ولكنه لم يملك أن قال: كلا. - عظيم ... لا البيت بيتك ولا السيدة زوجتك ... فما عليك إلا أن توقع على الاتفاق الأخير ثم ترحل. - أرحل! إلى أين؟! - يا سيدي لا تكن عنيدا، الصفقة في صالحك تماما وأنت تعلم ذلك.
ودق جرس التليفون في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وكان المتحدث الخمار.
وعجب صفوان لأنه كان يتلفن له لأول مرة في حياته، قال له: «صفوان بك»، وقع دون تأخير. - لكن هل تعلم ... - وقع، إنها فرصة لا تعوض في العمر إلا مرة واحدة.
وأغلق السكة، تذكر صفوان الحوار القصير، وإذا بأعصابه تهدأ وتستقر وتستسلم من أقصى طرف إلى أقصى طرف ... في ثانية تغير حاله تماما، فانبسطت أساريره وزايله التوتر فوقع، عند ذاك سلمه المحامي حقيبة صغيرة وثقيلة نوعا ما وهو يقول: فليبارك الله خطاك، في هذه الحقيبة كل ما يلزم الإنسان السعيد في هذه الدنيا.
وصفق الرجل الأول فدخل رجل بدين جدا باسم الثغر جذاب الروح، فقال المحامي يقدمه إلى صفوان: هذا رجل أمين وخبير في عمله، وسيوصلك إلى مأواك الجديد ... حقا إنها صفقة رابحة!
ومضى الرجل البدين إلى الخارج فتبعه صفوان ساكنا مطمئنا ويده تشد على مقبض الحقيبة، تقدمه الرجل في الليل فتبعه، ولما لفحه الهواء ترنح فأدرك أنه لم يفق بعد من سكرة الليلة المباركة، وأوسع الرجل خطاه فطالت المسافة بينهما، فأسرع بدوره رغم سكره مسددا بصره نحو شبح الآخر، وهو يعجب لجمعه بين الخفة والبدانة، وهتف به: تمهل في سيرك يا حضرة.
فكأنه حثه على مزيد من السرعة، فتدفق في خطى متلاحقة، فاضطر صفوان إلى الهرولة خشية أن يفقده فيفقد أمله الأخير، ولكنه خاف أن يعجز عن الصمود، فهتف به مرة أخرى: تمهل وإلا ضللت طريقي.
فإذا بالآخر غير عابئ به، ففزع صفوان واندفع يجري غير مبال بالعواقب، وناله من ذلك عناء شديد وغير مجد أيضا؛ لأن الرجل غاص في الظلام وتوارى عن عينيه، وخاف أن يسبقه إلى «ميدان الينابيع» حيث تتفرق طرق شتى فلا يدري في أي طريق ذهب، فراح يجري بأقصى سرعة مصمما على اللحاق به، وأثمر جهاده، فلاح له شبحه مرة أخرى عند مفترق الطرق، رآه ينطلق صوب الأمام نحو الحقول متجاهلا الفروع المائلة نحو المدينة شرقيها وغربيها ... فانطلق وراءه، وتواصل العدو بغير انقطاع ودون أدنى شعور بالعجز من ناحيته، وفغمت خياشيمه روائح طيبة، مستثيرة ذكريات شتى لم يجد وقتا لتمليها ومعايشتها، وعندما انفرد بهما فضاء السماء والأرض أخذ الرجل يهدئ من سرعته على مهل، حتى رجع إلى الهرولة فالمشي، ثم توقف، ولحق به وتوقف وهو يلهث ... نظر إلى الظلمة الشاملة المشعشعة بأضواء النجوم الخافتة ثم تساءل: أين المأوى الجديد؟
Page inconnue