وعند العشاء شرب قدحين من النبيذ، فتلقى نشوة فرجت كربه، وأشعلت ضوء الابتسام في ثغره وعينيه ... حتى قال الأب لنفسه مستوهبا العزاء: سحابة وانقشعت.
ووجد الشاب نفسه ترحب بالحل الموفق، ربما هربا من المأزق الخانق الذي يهدد بالشلل، وحمل والديه مسئولية تراجعه السريع تفاديا من الاعتراف بالهزيمة. رأى أن يطوي اليأس في ركن من نفسه، وأن يرسم لحياته خطة كالآخرين، ومن يدري، فقد يدهمه الجواب من أعماق الحياة نفسها. وما الهدف الذي يختاره؟ كلية الطب، حياة ثرية من الناحيتين العلمية والمادية، زواج وإنجاب، وإن يكن الناس يتساوون في الموت، فإنهم لا يتساوون في الحياة ولا في الذكاء ... المهم الآن أن يمحق من قلبه جميلة وخيانتها، وأن يقتلع الحب من جذوره ليستعيد توازنه، وتمنى أن تزف إلى «حامد مظهر» سريعا لعله يداوي الألم باليأس ... وحدث ذلك في الأسبوع الأول من العام الدراسي. وقف عند ملتقى شارع مريوط بالشارع العمومي ليلقي نظرة على موكبها الصغير وهو يميل نحو مصر الجديدة، وبالرغم من توقعه لذلك وتعجله له، فقد أصابته هزة عنيفة فاقت تقديره وتخيله. سهر ليلتها في حجرته حتى الصباح على ضوء بطارية صغيرة، قضى أكثر الوقت واقفا أو ذارعا الحجرة أو مرسلا طرفه من النافذة إلى الليل الشامل. ومن خلال تجربة طارئة التحم بأثاث حجرته التحاما غريبا جنونيا، ومضى في التجربة على رغمه كأنما يؤدي طقوسا لأوثان وقع تحت سيطرتها بقوة سحرية. جذب الفراش عينيه بدعوة نابعة من الصميم، وكأنه يكتشف لأول مرة الفراش الخشبي ذا اللون البني الغامق، والملاءة البيضاء، والغطاء البنفسجي المطوي للنصف. وبإدامة النظر إلى الفراش ومحتوياته دبت فيه - الفراش - حياة من نوع ما، فتبدت الوسادتان لعينيه ترنوان إليه، وشملت الملاءة والغطاء ألفة قديمة لا تكون إلا بين الأصحاب. ونفذ بصره إلى الأعماق، فرأى القطن المكدس في الحشية، وراح يعد خيوطه الملتفة المضغوطة وهو يشعر بأنه سيختم الإحصاء بوثبة في المجهول قد لا يرجع منها. وتفرس في مكتبه في الجانب المقابل من الحجرة وهو يحمل صفين من الكتب يفصل بينهما السومان، فرآه يبادله النظر داعيا إياه إلى سماع حوار حار دائر بين الكتب لم يكد يلاحقه من سرعته وحيويته وما ينذر من خطورة متعددة العواقب، ومد بصره إلى مرآة الدولاب القائم بين المكتب والفراش فعكست له صورته على ضوء البطارية الخافت، جسما بلا رأس، ومن عجب أنه لم يدهش لذلك ولم ينزعج، ولكنه فتح الدولاب كأنما ليبحث عن رأسه في داخله، فرأى بدلة مشتبكة في معركة بالأيدي والأرجل، فتراجع إلى فوتي يتوسط الجدار المواجه للدولاب، وانحط عليه وأغمض عينيه، فانفجرت في رأسه خواطر مضطربة متلاطمة لم يستطع أن يمسك بواحدة منها متكاملة؛ إذ سرعان ما تتلاشى في أخرى، مؤججة رغبة متصاعدة في الإمساك بأي شيء ذي شكل سليم واضح، وظل فريسة الأطياف حتى نضحت النوافذ بضوء الصباح المترع بالخريف، انطوت الليلة ولم تتكرر، وعزم على أن ينفذ خطته المرسومة، غير أن الكون لم يغب عنه تماما، فكان يزوره من حين لآخر مذكرا إياه بحزنه المخزون المؤجل. وبالمثل كانت تهب عليه نفحات من صحراء الحب المهجور، ولكنه مارس حياة ناجحة فيما عدا ذلك، وبشرت حاله ببلوغ المرام، ولما أعلنت نتيجة الثانوية العامة جاءت مخيبة للآمال، آمال آل الدارجي، ومن خلال التنسيق ضاعت الطب والهندسة والعلوم، فلم يجد إلا الحقوق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكانت تقبل عددا محدودا من الثانوية علمي. جاءت النتيجة صدمة لإبراهيم الدارجي، وقال وكأنه يدافع عن كرامته الشخصية: هذه النتيجة تقطع بأنك لم تكن في أحسن أحوالك.
وقالت الأم: رأيي أن تعيد السنة.
ولما كان أدرى بذاته، فقد قال بتسليم نهائي: لتكن الحقوق!
ولم يشأ أحد أن يضغط عليه، فقال الأب: على أي حال أمامك فرصة للعمل في النيابة.
أما هو فقال لنفسه بمرارة «فشلت الخطة»، واعتمد في عمله على إرادته وحدها، وبلا دافع حقيقي. أجل شفي من الحب وتحرر من قبضة الكون، ولكنه لم يقهر الفتور المستقر في همته، ومضى في طريق النجاح الذي لا يبشر بأي تفوق أو امتياز، حتى حصل على ليسانس بلا تهان، وعن طريق توزيع القوى العاملة ألحق كاتبا بالنيابة العمومية. حزن الأب إبراهيم والأم بيسة لذلك حزنا شديدا، إنه الابن الوحيد، والحلم الكبير، وها هي النهاية تتجسد أمام عينيهما كتمثال للخيبة، وفاق حزنه حزن والديه، ولكنه لم يدر بأي لسان يحتج على مصير صنعه بيديه، بل ذكر بكآبة أنه لم يمارس التفوق في حياته أبدا ... وأن الأرجح أنه لا يستطيع أن يخلق لحياته هدفا خيرا من هذا، وقال لأبيه: أكثرنا الحديث يوما عن الحياة والهدف، ولكننا نسينا أمرا هاما، خبرني الآن ... هل تعرف أحدا من الكبراء القادرين على تحديد الأهداف؟!
فقال إبراهيم الدارجي بامتعاض: نشاطي يجري في مجال آخر، ولكن صبرا، ستهاجر ذات يوم لعمل مثمر في الخارج.
تمثل له «الخارج» في صورة منارة تشع نورا من بعيد، وراح يوازن بين مرتبه الجديد وبين مصروفاته التي تعود عليها في كنف والديه، ثم تساءل ... كيف يواجه الحياة لو غاب والداه؟! ولأول مرة يشعر شعورا ذاتيا كم أنه فقير، وكم أن الغلاء وحش مفترس، وتذكر في الوقت نفسه الفارق الهائل بينه وبين رئيسه المباشر؛ رغم أنهما متخرجان في كلية واحدة. ما هو إلا ذرة رمل في صحراء التفاهة، وسيمضي من سيئ إلى أسوأ، وما الراحة التي ينعم بها إلا هدية مهداة من والديه العاملين، عليه ألا يركن إلى الطمأنينة العابرة الخادعة، وأن يفكر في المستقبل بجدية. تلزمه وثبة قوية غير معقولة، طفرة غير متوقعة وغير منطقية، بأي ثمن يجب ألا تضيع الحياة هباء. ونحن في زمن الخوارق، ولكنه لا يحب أيضا المغامرة ولا يحب السجن، ولا يجوز انتظار المعجزة من «الخارج» وحده فقد يطول الانتظار، وخبرته لا يحتاج إليها «الخارج» مثل الخبرات الأخرى. الطريق شبه مسدود، ولكن اليأس يعني الموت، وحام خياله المحموم حول حياة النجوم من الممثلين الذين يمرقون إلى الهدف بسرعة الضوء، وربما من خلال فيلم واحد، لا وقت للطريق الطويل ولا قلب للمغامرة المحفوفة بالخطر، وغطى عمله الجديد على أحلامه المؤرقة، فكشف له عن عالم من التجارب الطاحنة، إنه يجلس إلى يسار المحقق باسطا أوراقه على المكتب، متطلعا إلى المتهمين الواقفين أمام المكتب، يرى ويسمع ويسجل، وتنهمر فوقه عوالم الأسرار، تراخى التحامه بأحلامه أمام المهربين والمختلسين والمرتشين واللصوص. إنهم أناس لا يختلفون عن الآخرين في أشكالهم وأصواتهم، لا سمات تقليدية لهم مثل أشرار السينما، ووراء كل واحد منهم حلم يذكره بأحلامه، كلهم ينجذبون إلى أضواء الحياة كما تهيم الفراشات حول المصباح، وهم يذكرونه بنفسه، ويذكرونه بأبيه وأمه أيضا، وعجب لذلك بقدر ما انزعج له، لم يذكرونه بوالديه؟! ربما لتشابه في الوظيفة، أو الاهتمامات، أو المحركات العارضة. ووجد نفسه يتساءل لأول مرة ... هل يتناسب دخل والديه مع مصروفاتهما؟ إنهما في الواقع لا يكترثان للغلاء، ولا يخلو أسبوع من وليمة تقام للأصدقاء، وفي العامين الأخيرين جددا أثاث الشقة واقتنيا عددا من التحف والسجاجيد والنجف لا يستهان به، حقا إنهما لم يشتريا شيئا ذا قيمة ثابتة كعقار أو سندات، ولكنهما ينفقان عن سعة باتت تثير في نفسه الخوف والكآبة. شك في والديه، وغزاه هم جديد انضاف إلى همومه الشخصية، وتعملقت همومه عندما أدلى إليه زميله «عبد اللطيف محمود» - كاتب يسبقه بأقدمية خمس سنوات - برأيه في طبقات المجرمين. وكان عبد الفتاح قد تلقى تدريبه في العمل على يديه، ولما آنس إليه همس له برأيه، وهو أن القانون لا يطبق إلا على العاديين من الناس، أما الأقوياء فيسبحون فوق القانون، إلا فيما ندر ولا يقاس عليه ... لم يصدق ولم يكذب ولكنه مال إلى سوء الظن، كما مال إلى اتهام والديه ... وتساءل كيف يجنبهما المصير الأسود؟! وطرح السؤال يعني فيما يعنيه أن شكه فيهما انقلب حقيقة من حقائق حياته المرة؛ ولذلك دارى رعبه بضحكة لا معنى لها، واهتدى إلى خير وسيلة لتحذيرهما، وهي أن يقص عليهما لدى كل مناسبة طرفا من أخبار المنحرفين الذين يسجل اعترافاتهم يوما بعد يوم، ويشهد عن كثب دموع البعض وهي تنعى آمالهم الخائبة. تصور ببدن مقشعر والديه وهما يزحمان مع الآخرين طرقات المجمع القضائي مثل حبات البن المتدافعة في وعاء الطاحونة، وجعل يرقب الاثنين بإمعان ويتفحص ضيوفهما من الرجال والنساء ... جميعهم أناس أذكياء وبلا مبادئ، المال معبودهم والنجاح دينهم، والمغامرون هداتهم، يشوهون الأسماء الرنانة دفاعا عن أنفسهم وتبريرا لسلوكهم الخفي، ويقول لنفسه: برح الخفاء!
وازداد صدره انقباضا، ترى كيف يتحمل المصيبة إذا وقعت؟! إنها خليقة بتدمير أي شخص حتى ولو لم يكن من التافهين، وتنهد وهمس لنفسه: «إلا شخصا واحدا»، ورجع يحوم حول النجم ونجاحه وكيف يتألق ويواصل التألق، ولو تسربل بالفضائح! شد ما تداعبه هذه الفكرة، وتحفر سراديبها في وجدانه برشاقة وإغراء، غير أنه نحاها إلى حين ليجري مع ذاته تحقيقا فريدا ... هل يقدم على الانحراف إن وعده بتحقيق الآمال؟! وراح يتفحص أعماقه بصدق وصراحة، وتبين له أنه لا يملك مناعة ضد الانحراف في ذاته، ولكنه جبان يؤثر السلامة! على ذلك ترك الموضوع دون حسم. وإذا بمكتب التحقيقات يسوق إليه تجارب جديدة ومثيرة، فيكشف له التاريخ عن وجهه ويريه من آياته ما جهل، حقا عرف الكثير من خلال قضية اتهم فيها بعض رجال العهد الماضي بالتآمر على قلب نظام الحكم. رأى وسمع وسجل ورجع إلى شارع مريوط بمعلومات جديدة عن ماضي بلده القريب، واستسلم لأحلام اليقظة، فتخيل نفسه بطلا من أبطال العهد البائد، فخاض المعارك المنقضية، وأحرز انتصارات لم يعد أحد يذكرها بالخير، وتساءل وهو منفرد بنفسه في حجرته: لماذا أتعاطف دائما من المتهمين؟!
وزودته أحلام اليقظة بوقود جديد بظهور متهمين معاصرين على المسرح، من ذوي العقائد الدينية، وذوي العقائد المادية ... أذهلته جرأتهم، واستهانتهم بالعواقب، وتحديهم التحقيق والمحقق. لأول مرة يتلقى تلك المبادئ كتجارب حية ممثلة في أحياء، كحجج تفوح برائحة اللحم والدم، كتضحيات تستهين بكل غال، فيم يختلف عن هؤلاء الشبان؟! كيف افترقت الهويات والمصائر؟! وركب الخيال؛ فجرد سيفه حينا، وقبض على المطرقة حينا آخر، وهام في وديان المجد المخمور ... هام طويلا حتى أدركه الإرهاق والملل، وعاد يتساءل: كيف أستخلص نفسي من مستنقع التفاهة؟!
Page inconnue