مضى يسترد الثقة والسكينة بين يديها، ولكن تبدد أمنه في الوكالة والحارة. استعاد حديثها كثيرا فلم يعرف الاستقرار قلبه، امرأة تثير عواطف شتى متناقضة، تلهم الحب والطمأنينة والخوف والشك، يراها في الوكالة شخصا آخر ... يرى رجلا قويا ومثالا للحزم والعنف أيضا. لا تقارب بينه وبين الأنثى التي تبهر الليالي في المسكن الناعم، وخطر له أن يسأل نفسه: «ترى هل وجد مثل هذه الحيرة في حياته المجهولة؟!» وكان يتذكر حياته الأخرى لأول مرة منذ أمد غير قصير، أكان أسعد حالا أم أتعس؟! أكان أرفع منزلة أم أدنى؟! أكان يحترق بغضب الآخرين أم نعم بسلام دائم؟! من أي جهة جاء؟ وأي جهة قصد؟! لكنه عبر ذلك بسرعة، وكاد ينسى كل شيء، لولا أن سألته في مجلس الليل: فيم تفكر يا عبد الله؟!
فأجاب بسرعة: لا شيء. - كنت في النهار كالمسافر.
وذابت إرادته تحت نظرة عينيها فاعترف لها بتساؤلاته. فنظرت إلى السقف المنقوش بزخارف متداخلة لا يعرف لها أول ولا آخر، وقالت: إنها أول إهانة أتلقاها منك.
فهتف بجزع: خواطر فارغة، ولكن لي عذر. - لا عذر لك. - تقبلي أسفي!
فتساءلت في عتاب: ماذا تريد أكثر مما أعطيتك؟ - لا شيء. - ولكنك تحوم حول تساؤلات عقيمة، وهذا هو الحمق. - نطقت بالحق. - لا تكن منافقا كالآخرين. - بل نطقت بالحق، وما أطمح إلا إلى دوام ما أنا فيه.
فقالت بحدة: ستعرف مجهول حياتك ذات يوم، وسوف تندم.
شعر بأنها امرأة محبة وغيور، ونعم ليلتها بسعادة صافية، وعندما ساد الظلام خطر بباله سؤال: «ترى ... هل الندم هو الجزاء الأوحد لمعرفة المجهول من حياته؟!» ولكنه رغم الظلام، وهبوط النوم، خاف أن تفضحه نظرتها النافذة، وانغمس في حياته بإصرار، وركز على سماع الأغاني والنكات، وتجنب ما استطاع نثار شواظ الغضب الهادر، وتمنى أن تمضي حياته هكذا أبدا. على أن الحياة مضت في طريقها على أي حال، وانتهى الخريف كما انتهى الصيف من قبل، وإن لم ينته في غفلة كاملة، ولا بنفس السرعة. ولكن الليل طال، وتلفعت بواكير الصباح بالظلمة، وزفرت الأبدان قشعريرة، وتأخر شروق الشمس حتى انقشاع الغمام، وجادت السماء بمطرة واحدة. وغير ملابسه الداخلية والخارجية، وتواصل التغيير فشمل أشياء كثيرة، تسلل التغيير في خطوات غير مسموعة، ولولا حساسيته ومخاوفه الدفينة لأفلت منه تماما، وزاد من قلقه أن التغيير ينبثق منه، من أعماقه، ففتر حماسه لمجلس الليل الذي لا يعد بجديد، وغدا الاستسلام للنوم ألذ من السهر، وتمنى لو كان له أصحاب يسامرهم في المقهى حتى منتصف الليل. وانطفأت بروق كثيرة تحت عباءة العادة الثقيلة، فاستيقظ الفكر وخبت شعلة العواطف والغرائز، وخاف أن يقف كالمتهم بين يديها، أن يتلقى من عينيها السوداوين نظرة ساخرة، ولكنه وجدها تسايره بارتياح وعفوية، وتشغل عن اللهو والزينة بالتفكير في العمل أو باستقبال بعض العملاء ثم يأويان إلى النوم آخر الليل مثقلين بالتعب، توقع منها مطاردة محرجة، فوجدها تغوص في العقل والهدوء واللامبالاة. وفجر ذلك قلقه ولم يطمئنه، ورأى فيه نذير شر، وصمم على افتعال العاطفة وبعث الرغبة المرهقة مهما كلفه ذلك من جهد جنوني، ولم يحظ ذلك من الطرف الآخر بعطف، فأعرضت عنه مرات في استياء لم تحاول إخفاءه، حتى قالت له مرة: دع الأمور تجري على سجيتها.
عند ذلك أضناه الحياء والألم، وندم على ما فرط منه من اندفاع جنوني أحمق، كأنما كانت كل ليلة هي ليلة الوداع. وبات ذلك الفتور شغله الشاغل، فنسي كل مأساة إلا مأساة الحب، هل يفقد هذه القوة العجيبة كما فقد الذاكرة؟ وهل يجري عليه ما جرى على أزواج نعمة الله السابقين؟! وجعل يقوم بعمله في الوكالة بعقل غائب ووجه نضب فيه معين السرور والمرح، ولحظ أن عبدون فرج الله يتابعه بشماتة، وأن نظرات رياض الدبش وحلومة الجحش تبرق بأضواء فرح شرير. ما أكثر الذين ينتظرون على لهف نهايته، ولكنه سيخيب الظنون ويبدع في مجرى الحوادث ما لم يبدعه أحد ممن سبقه، سيظل الفتى المرموق في هذه الحارة التي يحترف أهلها الشكوى والعويل وتردد أغانيها أنات الهجر والحرمان، وشعر بحاجته إلى صديق يشاوره، ولكن لا صديق، فمن يشاور؟! وخطر له الطبيب محسن زيان ... فذهب إلى العيادة فكان أول زائر في الصباح، قابله مخلوف زينهم كغريب، فقال له عبد الله: السماح من شيم الكرام يا عم مخلوف.
فقال له الكهل باستياء: إني أعلم متى ينسى أمثالك ومتى يندمون.
وغادره إلى حجرة الطبيب ثم عاد ليدعوه للدخول في جفاء ... نظر إليه الطبيب متفحصا ملابسه البلدية الصوفية الفاخرة وابتسم، ثم سأله: جئت من أجل ذاكرتك؟
Page inconnue