إذن فقد أصبح هذا العقل البشري أداة لا تصلح البتة إلا للافتنان في ألوان الشرور والآثام! وإذن فقد حق على الإنسان أن يسخر من أنه إنسان، وأن يتمنى لو يكون حيوانا من بعض الحيوان!
ترى أوصلت الإنسانية إلى هذا الحد، وبلغ العقل الإنساني هذه المنزلة من العجز؟
أظن أننا نظلم العقل الإنساني إذا نحن أنزلناه هذه المنزلة وألزمناه هذا المكان الوضيع.
فمن القدم فكر الإنسان في دفع مثل هذا الأذى واتقاء هذه المكاره بمقابلة القوة بالقوة ورد العدوان بالعدوان، على أنه في العصر الحديث زاد من أسباب الوقاية على قدر زيادة الموبقات في معدات القتال، فإنه فوق دفع شرور الطائرات المغيرة بالطائرة الحارسة فقد استحدثت المدافع المضادة للطائرات، كما استحدثت المخابئ لمواراة سكان المدن، وأجدت القناعات الواقية، وضوعفت الهمة في وسائل الإنقاذ والإسعاف.
على أن هذا كله لا يغني الوادعين - إن أغناهم كثيرا - إذن فلا زالت كفة الشر هي الراجحة، وصفقة البلاء هي الرابحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وبعد، فحين يئست في هذا الباب، من الاتقاء بالوسائل المادية، التفت إلى الوسائل المعنوية، فإذا هناك ما هو أحصن وأمنع وأكفى وأدنى وأجل وأعظم وأجمل وأكرم.
بين هذه القوى المعنوية قوة لو أن الجماعات والأفراد أخذت النفوس وراصتها عليها لأمكنها في سهولة ويسر أن تتقي كثيرا من الأخطار، وتخفف كثيرا من المضار وتهون ما حتمته الأقدار.
هذه القوة المعنوية التي كثيرا ما تقهر القوى المادية وتظفر بها، وتفسد عليها حسابها وتغلق دون الفوز أبوابها هي الصبر والاحتمال، فبالصبر يقهر الجيش من هم أكثر منه عددا، وأجزل عددا، وأوفى مددا، وقديما قيل: «الشجاعة صبر ساعة.»
على أننا كيف قلبنا النظر لا نجد أن شدة انجلت، وأزمة انفرجت، ولا أن مسعى نجح، وعملا كتب له الفلاح، إلا إذا كان الصبر هو العدة، وهو الزاد، وهو المتكأ.
أرني عالما أو مؤلفا، أو مستحدثا أو مستكشفا وصل إلى مراده فنفع الناس، وزاد في بناء الحضارة وأجدى بأثره على الإنسانية جميعها، دون أن يكون الصبر هو عدته وملاكه؟
Page inconnue