5
ولا ريب في أن لهذا ولهذا دلالة كان لها أعظم الآثار في نهضة الإسلام!
لم ينفر المسلمون من مخالفيهم في الدين ولا في الجنس، ولم يحجز بهم تعصب عن مخالطتهم والاتصال الوثيق بهم، والانتفاع بكفاياتهم والأخذ عنهم، ولم يكد يستقيم أمر الملك لهم حتى أقبلوا على علوم من سبقوهم فترجموها إلى لغتهم، وجعلوا يترددونها ويشيعون الأذهان فيها، ويطبعونها على غرار عقولهم، ويزيدون فيها ما فتق الرأي والذكاء لهم، كذلك كان شأنهم في الفنون، فقد حذقوها أتم الحذق وبرعوا فيها أعظم البراعة، وأداروها على أذواقهم حتى اتسق لهم منها فن خاص، وناهيك بالفن العربي الذي ما برحت آياته مسطورة على جبين الزمان.
أرجو أن تكون قد اطمأننت بعد هذا إلى أن اليسر في الإسلام كان من أبلغ الأسباب في عظمة الإسلام.
في الحروب
بماذا كان ينتصر الإسلام
ما وقع حدث من أحداث هذه الحرب، وخاصة في ألبانيا التي أصبحت معتركا حامي الوطيس بين دولة صغيرة، قليلة العدد ضئيلة الموارد كل همها من العيش أن تحظى داخل حدودها بالأمن والسلام، قانعة باليسير مما أفاءت عليها الطبيعة، وما يعالجه أبناؤها النشيطون من فنون الصناعات، وما يروجونه إلى أسواق العالم المختلفة من ألوان التجارات، لها من كل أولئك مقنع وليس لها فيما وراءه أي مطمع، فإذا كان لها جيش أو كان لها أسطول فبقدر ما تؤمن الحدود وتمنع الثغور ولو إلى حين، أما الطرف الثاني من هذا المعترك فدولة عظيمة، قوية بعددها، قوية بعددها، قوية بصناعاتها وبتجاراتها، قوية بمستعمراتها الواسعة الشاسعة التي ضمنت أرضوها من الكنوز المعدنية ما يغني في كل شيء من أسباب الحياة القوية الفنية ليس أعز منها في هذا العالم حياة، ومع هذا فإننا نرى أن هذه الدولة الصغيرة الدقيقة في كل شيء؛ لا تفتأ تضرب هذه الدولة العظيمة الضخمة في كل شيء، كلما طلعت الشمس ضربة وتركلها كلما غربت الشمس ركلة، وبين ذلك لا تفتأ في كل ساعة تجرعها من الصاب والعلقم ما يفري الحناجر، ومن الغسلين ما يذيب الأحشاء، وتلون لها المهانات ما أجراها مثلا للخزي على ألسن العالمين.
لعمري ما وقع حدث من هذه الأحداث إلا أذكرني سير العرب السابقين وأحضرني شأنهم في فتوحهم ومغازيهم فلم يكن هؤلاء في الأكثر الأغلب أكثر من عدوهم عددا، ولم يكونوا كذلك أقوى منه عددا، ولم يفوقوه في تنظيم الجيوش وتنسيق الكتائب، وتدبير المكايد، وإحكام خطط الحرب، وتدبير وسائل الكر والفر، بل فقد كانوا أضعف وأهون شأنا في كل أولئك جميعا! ومع هذا فإنهم ما صارعوا إلا صرعوا ولا قارعوا إلا قرعوا، ولا شدوا إلا ظفروا، ولا حملوا إلا قهروا، ولا هجموا إلا انتصروا، ففتحت بين أيديهم أبواب المعاقل، ومهدت لهم السبل إلى أمنع المدائن، وحشدت لهم أضخم المغانم، واستأسر لهم من المقاتلة أضعاف أضعافهم في يسر يلفت عين الدهر. وكذلك لم تجهد دورة الفلك إلا قرنا واحدا حتى دانت لهم مناكب الأرض، وذلت نواحي البر والبحر.
1
إذن لم يظفر العرب في حروبهم كل هذا الظفر، ولم يتهيأ لهم ما دوخوا من البلاد. وما ملكوا من الأقطار، وما فتحوا من هذه الفتوح العظيمة في قواصي الأرض وأدانيها لأنهم كانوا أكثر من عددهم عددا، ولا أمضى سلاحا، ولا أعلم بفنون الحرب وأخبر بأساليبها ومكايدها، بل لقد علمت أنهم كانوا دائما دونه في جميع أولئك بما لا يجوز فيه تشبيه ولا يصح معه القياس.
Page inconnue