لم أعثر في معجمات، ولا فيما وقع لي من تعبيرات المتقدمين أنهم كانوا يطلقون كلمة «عاطفة - عواطف» على ما يطلقها عليه أهل هذا العصر الحديث، وأعني هذا الاطلاق العريض، فأصل العطف على وجه عام، الالتفات ومنه عطف إليه: مال، وعطف الشيء: أماله وحناه وتعطف عليه، رق له وبره، وعطفت الناقة على ولدها: حنت ودر لبنها، ومن هذا المعنى - فيما أظن - جعلت هذه اللفظة تتسع في إطلاقها حتى أصبحت تدل على نوازع النفس وأهواء القلب جميعا، وكذلك تتطور الألفاظ مع اطراد الزمان حتى تكاد تلابس في كل عصر معنى جديدا.
وإذا كانت لفظة «العواطف» تدل اليوم أكثر ما تدل على خوالج القلوب ولواعج الكبود من هوى وصبابة، ووله لاحق، وغمز على الحشا من عشق وتبريح غرام، فإن هذه العواطف كثيرا ما يكون لها مثوى آخر غير القلوب وغير الكبود!
نعم، لقد يكون لها مثوى آخر وإن كانت جمهرة الناس لم تأبه له ولم تلتفت إليه، على أن من هذه العواطف ما هو أشد وأعنف، ومنها ما هو أطغى وأجرف ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
لقد يروعك مرأى عاشق أدنفه الحب، وبرحت به الصبابة وقد هجره المحبوب قلى أو تجبنا، فبات المسكين يساهر النجم ولا يغمض جفنه عن تصفح وجه البدر، لعله يصيب فيه بعض الغناء عن وجه الحبيب، ولعمري ما هو بمغن عنه شيئا وإلا فما هذه الأنفاس الحرى كأنما يتفرج بها من الحشا سعير بركان!
تشهد هذا المشهد، فيخيل إليك أن هذا العاشق المسكين لا يرى الوردة وقد تخرجت من كمها، والنرجسة وقد ضنت على ثدي أمها، والنسيم وقد تلطف، والجدول في الروض وقد تعطف، والأرج وقد شاع في الجو وتردد، والهزار وقد شدا على الأيك وتغرد، اللهم إنه لا يشهد شيئا من ذلك إلا ذكر به الحبيب، بل إنه ليرى هذا كله من بهاء الحبيب، ولولا أنه أعار الطبيعة كلها بعض جماله ما سطع فيها بدر ولا تأرج زهر ولا ضحكت الورود على الأغصان، ولا صدحت الفواخت على الأفنان، كلا! بل لشاه كل جميل، ولاستحال دبورا هذا النسيم العليل! بل إنه لا يرى الحياة كلها إلا جحيما لا يطاق فيه العذاب، ولا يرجي على الدهر منه ثواب.
لقد يروعك الأمر، إذ تشهد هذه العواطف ويتعاظمك، وسرعان ما ترثي للقلب وترثي للكبد، أو سرعان ما تغبط القلب والكبد، إذ استاثر من دون سائر الجوارح بجولان هذه العواطف التي تشقي المرء كل هذا الشقاء، وتسعده أحيانا بجميع ذلك الهناء!
وإنني أؤكد أن من ظن هذا فقد ضل ضلالا بعيدا!
ولقد أسلفت عليك أن هناك ألوانا من العواطف تثوي إلى غير الكبود وغير القلوب، وإن منها ما هو أشد وأعنف، ومنها ما هو أطغى على المرء وأجرف، وإني ملم اليوم منها بثلاث فحسب؛ أولها: عواطف البطن، وثانيتها: عواطف الغرام بالدرجة، وهذه مقصورة علينا نحن معشر الموظفين الحكوميين دون سائر العالمين، أما ثالثتها: فحب الشهرة وذهاب الصيت.
ولعلك تظن بي القصد إلى المزاح حين أزعم لك أن للبطن والدرجة والشهرة عواطف تجيش وتترقرق، بل إني لأزيد أنها قد تبلغ من بعض الناس ما لم يبلغ غرام قيس بن الملوح بليلاه، ولا هيام قيس بن ذريح في لبناه!
وأرجو ألا تظن أن هذا العاشق المهجور الذي طوى ليله وهو يساهر النجم، ويتصفح صفحة البدر ويذكر به الحبيب ، ويتمنى عليه اللقاء القريب بأشد حرقة، ولا أعظم لوعة من هذا الذي يتشهى الأكلة الشهية، ويتمنى الوجبة الجنية، وإنه ليتمثل صينية البطاطس وقد ديفت بالطماطم والبصل، ورصعت بالثوم ترصيعا، أما ما جللت به من مزع اللحم السمين، فجدير أن يزدرد بالشمال وباليمين!
Page inconnue