مقدمة
أيام في الريف
أعظم يوم في تاريخ العالم
في الهجرة
خواطر تلهمها ذكرى الهجرة
يسر الإسلام
في الحروب
كتاب مفتوح
كتاب مفتوح
رمضان
سعد الرجل
غدوة وروحة
بين الحرب والسلام
كيف نتقي أهوال الحرب
هل يكتب لفرنسا العظيمة بعث جديد
إصلاح
في الإصلاح أيضا
في الطفولة المشردة
في الإجراءات
خواطر في الصيف
في التليفون
كيف نمشي في الطرق
الانتقام اللذيذ
بين الصفارة والريف
الأفندي
في الضمير العام
فن الإعلان
التأمين على الموت
شركة تنشيف الريق
بين الأدب والحرب
عبرة العبر
أسعفوا التاريخ
قبلة
مأساة
مسألة
كيف كان الشباب يزوجون (1)
كيف كان الشباب يزوجون (2)
الأدب الفج
ذكريات
مهم الأديب في الشرق
عباقرة الفن
تقاليد الفن في مصر
فن الحزن
الموسيقى المصرية
بلاغة التلحين
في السياحة
الحكاءون (1)
الحكاءون (2)
الحكاءون (3)
مع ذبابة
عواطف
علي إبراهيم في المرآة
أحب أولادي وأكرههم
الشحاذون المودرن
الكذب الفني
مقدمة
أيام في الريف
أعظم يوم في تاريخ العالم
في الهجرة
خواطر تلهمها ذكرى الهجرة
يسر الإسلام
في الحروب
كتاب مفتوح
كتاب مفتوح
رمضان
سعد الرجل
غدوة وروحة
بين الحرب والسلام
كيف نتقي أهوال الحرب
هل يكتب لفرنسا العظيمة بعث جديد
إصلاح
في الإصلاح أيضا
في الطفولة المشردة
في الإجراءات
خواطر في الصيف
في التليفون
كيف نمشي في الطرق
الانتقام اللذيذ
بين الصفارة والريف
الأفندي
في الضمير العام
فن الإعلان
التأمين على الموت
شركة تنشيف الريق
بين الأدب والحرب
عبرة العبر
أسعفوا التاريخ
قبلة
مأساة
مسألة
كيف كان الشباب يزوجون (1)
كيف كان الشباب يزوجون (2)
الأدب الفج
ذكريات
مهم الأديب في الشرق
عباقرة الفن
تقاليد الفن في مصر
فن الحزن
الموسيقى المصرية
بلاغة التلحين
في السياحة
الحكاءون (1)
الحكاءون (2)
الحكاءون (3)
مع ذبابة
عواطف
علي إبراهيم في المرآة
أحب أولادي وأكرههم
الشحاذون المودرن
الكذب الفني
قطوف البشري
قطوف البشري
تأليف
عبد العزيز البشري
مقدمة
أما أهله الأقربون وذوو مودته من الأصدقاء والخلان، فيذكرونه كما كانت الخنساء تذكر صخرا أخاها، وتذوب أنفسهم حسرات كلما ذكروه، حتى يكاد الحزن ينتهي بهم إلى اليأس ، كما كانت الخنساء تلقى وتشقى كلما ذكرت أخاها صخرا، وكما صورت الخنساء ذلك أحسن تصوير وأبعده أثرا في النفوس وأشده وقعا في القلوب حين قالت:
يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
صنع الله لأهله الذين يذكرونه حين تطلع الشمس وحين تزول وحين تهوي إلى مغربها، ولأصدقائه الذين يذكرونه في تلك الساعات التي كانوا يلقونه فيها، في ساعات العمل وجه النهار، وفي ساعات الفراغ من آخر النهار، وفي تلك الساعات الحلوة من أول الليل حين يتخفف الناس من أعمال النهار وأثقاله، وحين يرسلون أنفسهم على سجيتها، فتفرح وتمرح، وتعبث وتمزح، وتخوض في كل فن من فنون القول، وتجول في كل ميدان من ميادين التفكير.
فقد كان عبد العزيز رحمه الله أبا برا، وأخا وفيا، وصديقا حميما، وكان من أجل هذا كله محببا إلى النفوس، أثيرا في القلوب، عزيزا على الأهل والأصدقاء جميعا.
والشمس تشرق وتغرب في كل يوم، والليل يغمر الكون وينجلي عنه كل يوم أيضا، وفي اختلاف الليل والنهار وفي تتابع الأيام والأشهر والسنين ما يجلو عن النفوس غمراتها، ويفرج عن القلوب حسراتها، ويعزي الأحياء عن الأموات، وينسي الأحياء بعضهم بعضا. ولكني أعتقد أن اختلاف الليل والنهار، وتتابع الأيام والأشهر والسنين، وتعاقب الأحداث الجسام والخطوب العظام، واشتغال الناس بما يسرهم وما يسوءهم من شئون الحياة - كل ذلك وأكثر من ذلك ليس من شأنه أن يعزي عن عبد العزيز أهله الأقربين وذوي مودته من الأصدقاء والأخلاء؛ فقد كان عبد العزيز رحمه الله من هذه القلة القليلة النادرة التي امتازت بخفة الروح وعذوبة النفس ورقة الشمائل، والتي ظفرت من هذه الخصال بحظ غريب في طبعه وفي جوهره ومادته، إن صح هذا التعبير، بحيث لا يبلو الإنسان أقله إلا كلف به أشد الكلف، وافتتن به أشد الافتتان، وأصبح لا يستطيع له نسيانا، ولا يجد عنه سلوا مهما يلم به من الخطوب، ومهما يختلف عليه من الظروف.
وقد عرفت أنا من هذا الطراز قلة قليلة استأثر الله ببعضها، وأرجو أن يطيل الله بقاء بعضها الآخر. ومن هذه القلة التي آثرها الله بجواره الكريم ثلاثة نفر كانوا أخلاء فيما بينهم، وكانوا أصدقاء لكل من عرفهم أو اتصلت به أسبابهم من الناس، وهؤلاء الثلاثة هم: شاعر النيل حافظ إبراهيم، وكاتب النيل عبد العزيز البشري، وطبيب النيل علي إبراهيم.
كلهم كان عذب النفس، حلو الروح، كريم السجية، مهذب الطبع، مترف الذوق، مرهف الحس، رقيق الشمائل. وهم من أجل ذلك كانوا متوادين متحابين، لا يفترقون إلا ليلتقوا، ولولا أن خطوب الحياة كانت تفرقهم على كره منهم لما آثروا على اجتماع شملهم شيئا. وكانوا على ذلك أصدقاء للناس جميعا، لا يعرفون البغض ولا تطمئن نفوسهم إليه؛ لأن نفوسهم خلقت من معدن الحب وفطرت على سجية الإخاء والوفاء وحسن المعاشرة؛ ولذلك لا أعرف أحدا من الذين عرفوا هؤلاء الثلاثة - وما أكثر من عرفهم ووصل أسبابه بأسبابهم - قد تعلق على واحد منهم بكلمة مؤذية أو خطة مؤلمة أو عمل يحزن أو يسوء. وإنما نحن نذكرهم جميعا فيمزق الأسى قلوبنا، وتفرق اللوعة نفوسنا، ولا نكاد نذكرهم مجتمعين أو متفرقين حتى يأخذنا الشجا لفقدهم، وتبتسم نفوسنا الباكية لما تذكر من أعمالهم وأقوالهم، فهم كانوا ابتساما على ثغر الحياة في مصر مهما يكن حظ الحياة في مصر من العبوس والحرج ومن النكر والضيق.
وهم كانوا كغيرهم من الناس يحسنون ويسيئون، ولكنهم لم يسيئوا تعمدا للإساءة قط، ولم يسيئوا إلا كانت إساءتهم - مهما تقس في أول أمرها - مصدر رضا وغبطة وفكاهة ودعابة بعد وقت يقصر أو يطول.
وكلهم نفع الناس في حياته كأحسن ما يستطيع الإنسان أن ينفع الإنسان، وكلهم وجد في نفع الناس لذة ومتاعا، ولم يحفل بما جنى الناس عليه ولا بما جرعوه من فنون الألم وضروب الشقاء. كانوا لا يغضبون إلا ليرضوا، ولا يبتئسون إلا ليبتهجوا، ولا يعبسون إلا ليبسموا. فطرت نفوسهم على التفاؤل أو خلقت نفوسهم من التفاؤل، فلم يعرف التشاؤم إليها سبيلا، ولم يلق الناس منهم إلا خيرا.
كان حافظ يمتع الناس ويحيي نفوسهم بشعره الرائع، وكان علي إبراهيم ينفع الناس ويحيي نفوسهم وأجسامهم بفنه البارع وعلمه الواسع وتفوقه الرفيع، وكان عبد العزيز يسحر قلوب الناس ويستهوي ألبابهم، ويملك عليهم أمرهم، وينسيهم صروف الحياة، ويعزيهم عن آلامها بمحضره دون أن يتكلم، فإذا تكلم فقد كان يرقى بهم من عالم إلى عالم، وينقلهم من حياة إلى حياة، فإذا كتب ونشر فقد كان يأخذ عليهم سبل الإعجاب، ويضطرهم إلى أن يقرءوا ويقرءوا منفردين قد خلوا إليه دون غيره من الناس، فإذا لقي بعضهم بعضا تحدثوا عما قرءوا ثم أعادوا القراءة، ثم أخذوا يذهبون من الإعجاب بما يقرءون كل مذهب، يسلكون من هذا الإعجاب سبل الجد وسبل الفكاهة، وربما شغلوا أنفسهم بذكر عبد العزيز في مجلسهم كله حتى يتفرقوا ولم يقضوا منه العجب.
أما أهله الأقربون وذوو مودته من الأصدقاء والخلان، فيذكرونه مصبحين ويذكرونه ممسين، لا ينسونه ولا يتعزون عنه، فليس إلى نسيانه أو إلى التعزي عنه سبيل.
وأما هذه الكثرة الكثيرة من المثقفين الذين لم يلقوه ولم يستمتعوا بمحضره، ولو يقولوا له ولم يسمعوا منه، ولم ينعموا بفكاهته الحلوة ودعابته الرائقة ونادرته الحاضرة، وإنما سمعوا عنه من بعيد أو قرءوا له بين حين وحين؛ فإن أمرهم معه كأمرهم مع غيره من الكتاب والشعراء والعلماء، يستمتعون حين يتاح لهم المتاع، ويرضون عما استمتعوا به عجلين، ثم ينصرفون إلى غيره عجلين أيضا، يطلبون إليهم كثيرا أكثر مما يطيقون، ولا يعطونهم من أنفسهم إلا قليلا أقل مما يستطيعون.
إن المثقفين جميعا يؤمنون بأن حافظا كان شاعرا فحلا، وبأن عبد العزيز كان كاتبا ممتازا، وبأن علي إبراهيم كان جراحا متفوقا. قد أقروا ذلك في أنفسهم، وسجلوه في قلوبهم، وآمنوا به عن علم أو عن غير علم، ثم لم يزيدوا على ذلك، فكم عدد الذين يطيلون القراءة فيما نظم حافظ، وما كتب عبد العزيز، ويطيلون التفكير فيما امتاز به علي إبراهيم.
لم يمض ربع قرن على وفاة حافظ ، والناس يعدونه الآن شاعرا من الشعراء البارعين كما يعدون الشعراء القدماء، ولم تمض إلا أعوام قليلة على وفاة عبد العزيز والناس يعدونه كاتبا مجيدا كما يعدون غيره من الكتاب القدماء، ولم يدر العام بعد على وفاة علي إبراهيم والناس يؤمنون له بالتفوق في الجراحة والطب، ثم لا يزيدون على ذلك شيئا.
وقد يكون هذا ملائما لطبيعة الأشياء، فالموت يلغي الزمن بالقياس إلى الموتى، ومن مات مات. وافهم من هذه الجملة ما تستطيع أن تفهم. مات بالقياس إلى نفسه، ومات بالقياس إلى أكثر الناس، وربما مات بالقياس إلى أشد الناس اتصالا به وقربا منه. مات ولم تبق منه إلا هذه الذكرى التي تظل مضطرمة متأججة في بعض القلوب حتى تخمد حين تكف هذه القلوب عن الخفقان، وتظل في سائر القلوب أشبه شيء بهذه الأسماء التي تكتب على اللافتات، ينظر الناس إليها أحيانا، ويمرون بها معرضين عنها في أكثر الأحيان. لا يتعمدون النظر إليها إلا إن احتاجوا إليها ليستعينوا بها على التماس ما يبتغون من طريق، فالذين يؤرخون الأدب الحديث سيتعمدون تذكر حافظ وعبد العزيز وإطالة التفكير فيهما، والذين يؤرخون الجراحة الحديثة سيتعمدون تذكر علي إبراهيم وإطالة الوقوف عنده، وأولئك وهؤلاء سيقفون عند هؤلاء الأشخاص كما يقف المتجول في مدينة القاهرة عند هذه اللافتة أو تلك ليتبين طريقه إلى الغاية التي يريد أن يصل إليها.
ولست أدري أخير هذا أم شر، ولكني أعلم أنه الحقيقة الواقعة من جهة، وأكاد أعتقد أنه العقوق، وأن هذا النوع من العقوق قد ركب في طبائع الناس، فهم يسرعون إلى نسيان من أحسن إليهم، وهم يضيعون على أنفسهم بهذا النسيان منافع كثيرة ومتاعا عظيما. وآية ذلك أنك تقرأ الأثر القديم الذي مضت عليه القرون الطوال من آثار الأدباء والعلماء، فتجد اللذة كل اللذة، والنعيم كل النعيم، وترثي للذين لم يقرءوا هذا الأثر من هذه الأجيال التي لا تحصى؛ لأنهم لم يقرءوه ولم يستمتعوا به، فالذين لا يقرءون اليوم حافظا ولا عبد العزيز قد دفعوا إلى هذا العقوق الذي ركب في طبيعة الناس، فأضاعوا على أنفسهم شيئا كثيرا، ما أجدرهم - لو أحسنوا التفكير والتقدير - أن يستدركوه ولا يفرطوا فيه.
وقد كنت من المفتونين بحديث عبد العزيز حين يتحدث، ومن المفتونين بآثاره حين يكتب، وقد توسلت إليه حين أزمع نشر «المختار» أن يأذن لي بتقديمه إلى الناس، وشهد الله ما تكلفت ولا تزيدت، وشهد الله ما جاملت وما صانعت، وإنما علمت فقلت بعض ما علمت، ورضيت فقلت أيسر ما يوجبه الرضا.
وإني لأراني مع عبد العزيز في تلك الغرفة التي كان صديقنا علي عبد الرازق قد استأجرها في ربع من ربوع خان الخليلي، وكنا نلتقي فيها حين نتفرق عن دروس الفقه وحين يرتفع الضحى لنقرأ بعض كتب الأصول أو بعض كتب البلاغة، وكان عبد العزيز يلهينا بدعابته وفكاهته عن جد البلاغة والأصول، ثم لم يلبث أن ضاق بهذا الجد فانسل كما تنسل الشعرة من العجين، ودون أن يلقى كيدا. وأقمنا نحن على هذا الجد ننفق فيه حياتنا، ونزعم لأنفسنا أننا كنا نغذو به العقول والقلوب، وإني لأراني مع عبد العزيز وعلي عبد الرازق في هذه الغرفة نفسها بعد أن نصلى العصر، نقرأ معا كتاب الكامل للمبرد، نحصل بهذه القراءة الأدب كما كنا نحصل البلاغة والأصول بقراءة الضحى. وكان مزاح عبد العزيز وتندره يصرفاننا عن هذا التحصيل كما كانا يصرفاننا عن ذاك. ثم لم يلبث أن انسل من هذا التحصيل كما تنسل الشعرة من العجين ودون أن يلقى كيدا؛ ذلك لأنه، رحمه الله، كان أقل الناس حبا للاستقرار وميلا إلى الإمعان في طريق واحدة.
فطر على حب التنقل، على حب التنقل المادي والمعنوي جميعا، فكنت تراه مصبحا في هذا الحي من أحياء القاهرة في الأزهر أو قريبا منه، فإذا صليت الظهر رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة ملما بدار الكتب أو قريبا منها في قهوة من قهوات باب الخلق، فإذا صليت العصر رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة في قهوة من القهوات التي كان الأدباء يختلفون إليها في حي الأزبكية، فإذا صليت العشاء الآخرة رأيته في غير حي من أحياء القاهرة، تلقاه عند آل عبد الرازق في عابدين، وتلقاه عند غيرهم من ذوي المكانة والجاه، وقد تلقاه في قهوة من قهوات الناصرية مع جماعة من الأدباء صدرهم حافظ إبراهيم رحمه الله.
كل ذلك حين كنا طلابا قبل أن تشب الحرب العالمية الأولى، وقبل أن تتغير الدنيا ويتحضر هذا الجيل من أجيال المصريين بعد انقضاء الحرب الأولى وشبوب الثورة الوطنية واشتجار الخلاف بين السعديين والعدليين، وانتقال مركز النشاط لهذا الجيل إلى مكان آخر من مدينة القاهرة، فكنت ترى عبد العزيز في ذلك الوقت في «بار اللواء» أثناء الأصيل، وفي «الكافيه ريش» حين يقبل الليل، وفي الأهرام أو غير الأهرام من دور الصحف حين يتقدم الليل، وربما رأيته أثناء النهار أو أثناء الليل عند هذا العظيم أو ذاك من عظماء العدليين.
ثم تتغير الدنيا مرة أخرى، ويأتلف المختلفون ويتفق المختصمون، فإذا عبد العزيز يغشى مجالس السعديين وأنديتهم كما كان يغشى مجالس العدليين وأنديتهم. ولكنه على كل هذا التنقل وعلى كل هذا الاضطراب بين أحياء القاهرة كان يثبت على مكان واحد يختلف إليه مهما تكن الظروف والأحداث ليلقى فيه علي إبراهيم وأصحابه ساعة من ليل.
وفطرت نفسه على حب التنقل المعنوي، فكان يشارك في علوم الأزهر طائعا أو كارها، وماذا يصنع وهو ابن شيخ الإسلام وقد سلكه أبوه رحمه الله مع الأزهريين في نظام واحد. وكان يشارك في أدب القدماء وفي أدب المحدثين، وكان يلم بالأدب الأجنبي إلماما قصيرا من بعيد. وكان يحاول أن يتعلم اللغة الفرنسية ويعرف منها أطرافا ويتندر بها في حديثه العذب. وكان قد أدمن قراءة «الأغاني»، ففصح لسانه إلى أبعد غاية من غايات الفصاحة، وآثر في حديثه جزالة اللفظ، وأعانه صوته المتين المليء على التضخيم والتفخيم والترصين. وكان من أروع ما يروعك حين تسمع إليه متحدثا بلغة الجاحظ وأبي الفرج أن تستخفك اللفظة الفرنسية قد انزلقت من بين هذا الكلام العربي الرصين المتين من حيث لا تدري أنت ولا يدري هو.
ثم يريد الله أن تعدو العوادي، وأن تدلهم الخطوب، وأن نفقد عبد العزيز على غير توقع لفقده، وإذا نحن نحرم هذا المتاع الغريب النادر الذي كنا نجده حين نتحدث إليه ونستمع له، وإذا نحن مضطرون إلى أن نستحضر حديثه بقراءة ما ترك لنا من الآثار، نقرأ ويخيل إلينا أننا نسمعه يتحدث، فنجد في ذلك مزاجا غريبا من اللذة الأليمة والسرور الحزين.
ثم يتحدث إلي أحد أصدقائي ذات يوم بأن لعبد العزيز آثارا لم تجمع في كتاب، نشر بعضها في المجلات وأذيع بعضها في «الراديو» وأعد بعضها للنشر أو للإذاعة، وكان عبد العزيز يهيئها كلها لتجمع في سفر أو سفرين، فأعجله الموت عن ذلك، فلا أكاد أسمع هذا النبأ حتى ألح على صديقي في أن يصل الأسباب بيني وبين هذه القطوف، فيتاح لي ذلك، فلا أقرأ ولا أستقصي، وإنما أزمع نشر هذه الفصول؛ وفاء بما لهذا الأديب العظيم من حق، ورعاية لما لهذا الصديق الكريم من حرمة.
لا أقرأ ولا أستقصي إجلالا لآثار عبد العزيز أن تقرأ أو تستقصى قبل أن تقدم إلى المطبعة، فقد كان راضيا عنها، وهذا يكفي. ثم تطبع هذه القطوف وترسل إلي في فرنسا، فأخلو إليها في هذه القرية النائية من قرى الجبل أياما، فلا أشك في أني لم أخطئ حين وثقت برأي عبد العزيز في قطوفه، فهي الأدب كل الأدب، وهي الفن كل الفن، وهي الكلام الذي يجمع إلى رصانة الأدب القديم وجزالته خصب الأدب الحديث وثروته. وهي على ذلك كله - إذا ضمت إلى ما جمع من آثار عبد العزيز - صورة فذة لا نظير لها في الأدب المعاصر، فهي فصل مستقل من تاريخنا الأدبي، يصور لونا من ألوان هذا التاريخ لا نجده عند كاتب آخر من كتابنا المعاصرين، لا أكاد أستثني منهم إلا صديقنا المازني.
فعبد العزيز أشد كتابنا المعاصرين عكوفا على حياتنا المصرية، وعلى حياة القاهرة خاصة، وعلى حياة الطبقة الوسطى من أهل القاهرة بنوع أخص، وهو أشد كتابنا نفوذا إلى دقائق هذه الحياة وسرائرها، وأشدهم تمثلا لخلاصتها، قد خالطت نفسه، ومازجت دمه، وانطلقت على لسانه حين كان يتحدث، وجرت مع قلمه حين كان يكتب، فهي أصدق مرآة وأصفاها للحياة المصرية في عصر الانتقال. وقد كان عبد العزيز رحمه الله يحب أن يصور المعاصرين ويجلو صورهم في فصول رائعة كانت تنشر بعنوان «في المرآة» ثم جمعت بعد ذلك في سفر أرجو ألا يكون قد انقطع من أيدي الناس.
فاقرأ «قطوفه» هذه، فسترى في كل فصل من فصولها مرآة مصقولة صافية صادقة أدق الصدق، لا تعكس صورة فرد من الأفراد، وإنما تعكس صورة بيئة من البيئات، أو جماعة من الجماعات، أو لون من ألوان التفكير المصري، أو فن من فنون السيرة المصرية في هذا الطور أو ذاك من أطوار الحياة، فإذا فرغت من قراءة هذه «القطوف» فقد استقرت في نفسك صورة كاملة شاملة دقيقة لحياة مصرية ذهب أكثرها وبقي أقلها، ولحياة مصرية جديدة ناشئة لم يتم تكوينها بعد، ولكن عبد العزيز سبق بذكائه النافذ وملاحظته الدقيقة إلى التنبؤ بحقائقها وبما سيختلف عليها من الأطوار.
وكنت أقدر أن رعاية حرمة الأدب والوفاء بحق الصديق هما اللذان قد دفعاني إلى نشر هذا السفر، فإذا أنا أقرأ ثم لا أشك في أني قد أهديت بنشره طرفة من أقوم الطرف وأشدها إمتاعا إلى المثقفين من قراء العربية عامة وإلى الشباب منهم خاصة، فما أعرف أن كاتبا من الكتاب المعاصرين أتيح له من التوفيق مثل ما أتيح لعبد العزيز في هذه الفصول التي تسجل من حياتنا ما كاد يضيع، وتسجله في أروع لفظ وأبرعه وأجزله وأمثله. وما أشك في أن كثيرا من هذه القطوف لو ترجم إلى بعض اللغات الأوربية لفتن به كثير من أهل الغرب فتونا.
ولو علمت أني أستطيع أن أشير على وزارة المعارف فتسمع مني وتقبل مشورتي لأشرت عليها في أن تجعل كتب عبد العزيز البشري، وهذا الكتاب منها خاصة، بين الكتب التي تدرس في المدارس الثانوية، فما أعرف أقدر منه على تحبيب الأدب العربي إلى الشباب وتزيينه في قلوبهم، وإقناعهم بأن لغتنا الفصيحة القديمة تستطيع أن تؤدي من المعاني والأغراض ما تقتضيه الحياة الحديثة دون أن يمسها من ذلك نصب أو لغوب.
رحم الله عبد العزيز، وهيأ للأدب العربي من يقوم مقامه، ولولا الثقة بالله لقلت كما قال الجحاف في العصر القديم: «وما أراه يفعل»، ولكن قدرة الله وسعت كل شيء، ورحمته وسعت كل إنسان، فليعوض الله من عبد العزيز خيرا، وليسبغ الله على عبد العزيز رحمة ونعمة وثوابا.
طه حسين
ميرولس - يوليو 1947
أيام في الريف
لقد طال عهدنا بالريف حتى كاد ينكرنا وحتى كدنا ننكره، ولست أزعم أنني ولدت في الريف أو أنني نشأت فيه، على أنني كنت أكثر من انتيابه والعيش فيه كلما تهيأ لي انتيابه والعيش فيه، ولكن الدهر الماكر قد قطع السبب إليه فحرمني غشيانه سنين عددا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وإذا نحن قلنا: الريف؛ قلنا: الطبيعة، أو أدنى الأشياء إلى الطبيعة، والطبيعة، مهما يكن لون حياتنا هي مصدرنا، وهي اللاصقة بخلقنا، وإذا رددنا ساعة إلى نفوسنا، لم نجد غير الطبيعة بين أيدينا وعن الأيمان والشمائل جميعا، ولقد يبعد بنا طول العيش في المدن، ولقد يمعن بنا في شتى السبل حتى ننسى الطبيعة أو نكاد ننساها، ويرجح الظن بأنه قد انحسم بيننا وبينها كل سبب، وانقطعت جميع وشائج الرحم، ولا نزال منها على هذا، ولا تزال منا على ذاك إلى أن نغشى الريف، فإذا السبب موصول، وإذا الرحم ما برحت واشجة، وإذا العطف يعتلج في الصدور، وإذا الحنان يترقرق في النفوس، وإذا لهوات القلوب تتفتح، فلو أمكن لها لحست هذه الطبيعة حسوا.
وهل كان عجبا أن يحس المرء أبلغ الغبطة والأنس، إذا آب إلى أمه الحنانة الرءوم بعد طول النوى؛ مهما يكن قد ضرب في الأرضين وتقلب في شتى الأقطار، وعايش أصناف الخلق، وتوسم مختلف الوجوه، وهفا قلبه إلى من هفا من الناس؟
اللهم إن عيش الطبيعة هو الموصول بفطرنا، واللاصق بطباعنا لأننا - كما قلت - عنها صدرنا ، فإذا أحال المقام في المدن أساليب عيشنا، ولون في فنون حياتنا، وأوال لنا صورا من صور، وأبدل مناهج متعنا بمناهج أخر فإن شيئا من هذا لم يقطع ما بيننا وبين الطبيعة، ولم يخرجنا منها أو ينزعها منا وإنما يشغلنا عنها، فإذا نحن طالعناها لم يزل شأننا على الحالم إذا استيقظ، والغريب إذا آب واستقر به القرار بين الأهل والصحاب!
وكذلك كنت من الطبيعة حين هبطت الريف، وامتد بصري في الآفاق وأحاط بي الزرع والماء، وما كدت أسلخ بضع ساعات حتى استشعرت أنسا كأنني كنت في وحشة، ووجدت من الألف ما يجد الآئب من الغربة، وما لي لا أجد هذا وأستشعر هذا، وقد رجعت إلى أصلي ونزعت إلى طبعي، وخلعت عن نفسي كل كلفة، وامتلختها من كل ما غرست من تصنع استكرهت عليه مناهج تلك الحياة، وما أجدر الطبيعة بأن تقهر الصنعة وإن طال بها الزمان!
هذه سماء كبيرة بعيدة الآثار، وهذه أرض مبسوطة تشقها الأنهر والترع، وتنعطف فيها الجعافر والخلجان، وقد لبست حلتها الخضراء فأصبحت نهيا للعيون من حسن وجمال.
ثم هذا الفلاح جاهد في حرث الأرض وفلحها، ولا زال كدأبه معها، ولا زالت كدأبها معه من الزمان القديم: كلما غذاها بالسماد ورواها بالماء، أمدته بالخير ووصلته بالنعماء.
ولعل أول صناعة عالجها الإنسان في هذه الحياة هي استنبات الأرض واستخراج ما تجود به من ألوان الثمرات، وستظل على التحقيق هذه الصناعة قائمة إلى غاية الزمان.
عاش الفلاح للأرض وعاشت الأرض للفلاح، وعاشت كلاهما للخلق أجمعين.
هذا عيش الريف في النهار، فإذا جن عليه الليل نامت الطبيعة ونام معها الإنسان والحيوان، فلا تسمع فيها حسا إلا ما نسمع من نباح كلب أو عواء ذئب، أو نقيق ضفدع، ولقد تسمع في بعض الليل عزيف بندقية يطلقها بعض عسس القرية، أو حراس البيادر - الأجران - أو الزروع إذا أدركت الثمار، فإذا كانت الليالي قمراء، تجاوبت الكروان بالتنغيم والتغريد، وأطالت الأنفاس بالشدو والترديد.
وناهيك بليالي القمر في الريف، هذا وجهه قد تغرد في الأفق جميعه ، تفرد ملك لا يشركه أحد في الحكم والسلطان على أنه مفيض على الأرض ما أعطاه الله من حسن وبهاء، وهذه منحه المتصلة من اللجين المذاب، وقد ديغت بخضره النبات، فخرج من اجتماعهما لون هو سحر في السحر وفتنة في الفتنة، منظر وإن كان يوحي بالشعر لا يتعلق بوصفه الشعر، يضيء النفس ويملأ الصدر ألين الفرح وأرفقه، ويحرك عواطف حلوة لذيذة هادئة، دونها ما ترى في أمتع الأحلام.
يحرك في صدرك ألوانا من العواطف تشعرك بأنك بت أسعد الناس عواطف، وإن كانت جديدة لا عهد لك بها من قبل، سرعان ما يعتريك الشعور من قرارة نفسك، بأن هذا هو الشيء الذي طالما حاولت الاستشراف له، فتحول بينك وبينه ظلمة النفس واختلال أداة الحس، بما جشمتها من كلفة في وسائل الحياة.
فإذا كانت ليالي السرار، فالأفق كله كتلة واحدة من الفحم الحالك السواد، هيهات أن ينفذ فيه النظر، ولو أبى فتر من الأفتار:
ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
1
صدق الله العظيم.
هذا حديث موجز عن الطبيعة ماثلة في ريف مصر، أما الحديث عن الفلاح المصري في هذه الأيام، فمما يردع ويهول: فقر لا يعد له فقر، وبؤس لا يلحقه بؤس، مال غائب، ومطالب لا تبرح حاضرة، ومن أين للمسكين بالمال يواتي به بعض الحاجة أو يدافع المطالب الملحة من كل جانب؟
هذه غلات أرضه مكدسة بين يديه، لا يجد لها في أسواق الأرض منصرفا ولا مفيضا، لقد سجنتها الحرب وأبطل حركتها الكساد العام.
هذا شأن ملاك الأرض ومستأجريها، كبارهم وصغارهم في ذاك بمنزله سواء، فكيف بالأكرة والمتكسبين بكد الأبدان؟
أما أولاد الفلاحين فشخوص وأشباح بالية تغدو وتروح في أسمال بالية، تكشف من الأبدان أكثر مما تستر، وتبدي من اللحوم - أستغفر الله - بل من العظام والجلود أعظم مما تحجب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وكيفما كانت الحال، فإنك قل أن ترى الفلاح مع كل ذلك ، متسخطا أو مهتاج النفس، بل إنك لتراه راضيا برغم حزنه الشديد!
ولعل مرد هذا الرضا إلى أن آماله كلها مجموعة في أرضه، وأرضه لم تخنه ولم تخلف له موعدا، ولقد أقبلت عليه من فنون الغلات بما تقبل به كل عام، فإذا كان بؤس من أثر حصار أو كساد عام، فذلك ما لا شأن لأرضه به على كل حال، نسأل الله تعالى اللطف بالعباد، فهو القادر على أن يجعل لنا من هذا الضيق مخرجا، ويبدلنا من هذه الشدة فرحا:
فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا ، ولن يغلب عسر يسرين كما روي عن الرسول الأعظم
صلى الله عليه وسلم .
بقي ما يظن أن يتأذى به المهاجرون في الريف من منكر الأصوات، ووالله لقد رضينا أن نسمع عامة الليل والنهار نباح الكلاب، وعواء الذئاب، ونعيب الغراب، وطنين الذباب، وما شئت من نقيق ونهيق، وثغاء ومواء وفحيح وخوار،
2
على أن تعفى آذاننا من ... صفارة الإنذار!
أعظم يوم في تاريخ العالم
لا شك عندي في أن أعظم يوم في تاريخ العالم على الإطلاق، هو اليوم الذي هاجر فيه محمد
صلى الله عليه وسلم
وصاحبه من مكة إلى المدينة، فإذا كنت في حاجة إلى دليل، فسيطالعك بعد قليل.
يرى المستعرض لتاريخ الأديان ودعوة الرسل أنها جازت بمراحل ثلاث، طوعا لتطور الإنسان من البساطة والغفلة والوحشية إلى أن أصبح كفؤا للحياة المفكرة المدبرة التي تطلب السمو، وتنشد السعادة في ظل الأمن والنظام.
الطور الأول:
ففي الطور الأول كانت بعثة الرسل مقصورة على الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والأمر بأمهات الفضائل، والنهي عن كبريات الرذائل، كما كان وعيد المخالفين الكائدين وتقذيعهم وإرسال العبرة بهم بالغا غاية الروعة في الفتك والعطف والتنكيل.
فلقد أهلك الله قوم نوح، بعد إذ عصوه وتحدوا دعوته، بإغراقهم أجمعين.
قال تعالى:
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين .
1
ومن هؤلاء المخالفين من أهلكوا بالريح العاصفة.
قال تعالى:
وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية .
2
وقال تعالى:
كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر * إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر * تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر .
3
وأما ثمود فأهلكوا بالصواعق والزلازل.
قال تعالى:
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين .
4
وقال تعالى:
وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيها .
5
وقال تعالى:
وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين * فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون .
6
أما قوم لوط فانظروا ماذا أخذوا به من العقاب الشديد:
قال تعالى:
فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد .
7
وقال تعالى:
فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن في ذلك لآيات للمتوسمين .
8
ونكتفي بهذا القدر اليسير في الاستشهاد بما كان يؤخذ به العصاة الكائدون من ألوان العصف والخسف والتنكيل والتدمير.
وقبل أن نتحول إلى الحديث في الطور الثاني نرى من الخير أن ننبه إلى أن انقسام التاريخ إلى مراحل أو أطوار، ليس معناه أن مرحلة تبدأ من حيث تنتهي سابقتها على الضبط والتحديد، ولا أن التطور من حال إلى حال يحدث دفعة واحدة، بل إن المراحل ليتداخل بعضها في بعض كما أن التطور لا يكون إلا بالتغير من طرفيه جميعا بالنقص من هذا أو بالزيادة من هذا، حتى يتلاشى القديم ويحل محله الجديد وهكذا، وكذلك يكون التطور في كل شيء في هذا العالم.
الطور الثاني:
أما الطور الثاني فمن أظهر مظاهر الترفق بعض الشيء في النذر، والتخفيف في فنون العقوبات وسعة الدعوة وتبسط التشريع، سواء في العبادات أو في المعاملات بين الناس، وفي هذا الطور أيضا كانت تعتمد الدعوة - بقدر كبير - على التحدي بالمعجزات حتى لقد انتهى هذا الطور بكف العقوبات وتفرد المعجزات.
أما الترفق في النذر والتخفيف في ألوان العقاب، فلقد كان هذا التخفيف يتناول الكم أو الكيف أو يتناولهما جميعا.
قال الله تعالى:
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون
إلى قوله:
فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون .
9
وقال تعالى:
ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى * فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى .
10
فأنت ترى أن ما أصاب آل فرعون من الجدب ونقص الثمرات، وما أرسل عليهم من الطوفان والجراد ... إلخ، لم يبلغ من الشدة والروع بعض ما يبلغ العصف والدمدمة والخسف والتدمير، أما إغراق فرعون ومن اتبع بني إسرائيل من جنده فلعصمة الفارين من كيدهم وبطشهم، والأمر لا يعدو هنا وقع الأذى على كل حال، على أن عددهم بالنسبة لجمهرة الكافرين الكائدين جد قليل، وأما المعجزات فحسبك منها معجزات موسى - عليه السلام - إذ ألقى عصاه فإذا هي حية تلقف ما يأفك الساحرون، وإذ ضرب بها الحجر فانبعثت منه اثنتا عشرة عينا، وإذ ضرب بها البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وحسبك منها معجزات عيسى - عليه السلام.
قال تعالى:
ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .
11
الطور الثالث:
وبعد فإن بمعجزات عيسى - عليه السلام - قد ختم هذا الضرب من الخوارق التي تجري على أيدي الرسل، يتحدون بها المخالفين المعاندين، ويثبتون بها أن ما جاءوا به إنما هو من عند الله، وكيف لا وقد أيدهم منها بما يخالف سنن الكون ونير على طبائع الخلق!
أما بعثة محمد
صلى الله عليه وسلم ، ففوق أنها تشارك بعثة عيسى - عليه السلام - في تجردها من الأحداث التي مر بك بعض وصفها، فلا عصف ولا خسف، ولا رياح عاصفة، ولا زلازل مدمدمة، ولا شيء من هذا ولا ما دونه مما يزعج النفوس ويدخل الروع على القلوب، فإن معجزة محمد
صلى الله عليه وسلم
تمتاز بأمرين؛ الأول: أنها لا خلاف فيها لسنن الكون ولا مغايره فيها لطبائع المخلوقات. والثاني: أنها باقية مستمرة لا تنقطع على طول الزمان، وقد عرفت من غير شك أن هذه المعجزة هي «القرآن».
وكذلك جعلت الدعوة الإلهية تتطور وتنمو بتطور الإنسانية ونموها على الأحقاب.
في الهجرة
بين الحق والقوة
قصة هي أضخم قصص الحياة جميعا؛ لأنها تروي أضخم أحداث التاريخ جميعا؛ على أنها قصة لم يلفقها الخيال، ولم يبتكر لها الأبطال، ولم يخترع لها الوقائع اختراعا، ولم يبتدع لها النتائج ابتداعا، ومع هذا فهي أجمل ما روى أصحاب القصص وأبدع، وأفخم ما حال خيال الروائيين وأروع، هي قصة إذا لم تكن من نسج الخيال، فإن الحقيقة فيها قد سمت على محلق الخيال!
هي شيء لولا أنه وقع لما صدق أحد أنه يقع، ولولا أنه كان لما ارتاب أحد في أنه لا يمكن أن يكون، ولقد جرت حوادث هذه القصة في صدر القرن السابع لميلاد المسيح - عليه السلام - وأما موضوعها فالصراع بين الحق والقوة، وأما مكانها فمكة فبيثرب ثم مكة، وأما أبطالها فمحمد بن عبد الله، وأما أشخاصها فصحبه من ناحية، وقبائل قريش من ناحية أخرى.
هي قصة طويلة جدا، فقد استهلكت حوادثها العتيقة الرائعة نيفا وعشرين سنة، وهي مبسوطة مفصلة في كتب التاريخ وفي كتب السير، وما كنت لأطمع بالضرورة في أن آتي عليها في مثل هذا المقال، على أن في تلخيص الملخصين لها ما دعت المناسبات الغنى والكفاية.
على أنني اليوم متعمد بعض مواقفها التي أرى فيها أشد مواطن العبرة، وخاصة ما يومئ منها إلى ما يجوز بالعالم في هذه الأيام، فلعل فيه قدوة لقوم يتفكرون.
إذن فلا بد من قتله وعلى ذلك اجتمعوا، ولم ينشز منهم على هذا الرأي أحد.
ثلاث عشرة سنة مضت وهو لا يفتأ يوالي إيذاءهم وإضرام الغيظ في صدورهم بتقريعهم وتسفيه أحلامهم، وتهاون دينهم، والزراية على آلهتم، ودعوتهم في غير فتور ولا وناء، إلى الالتفات عما وجدوا عليه آباءهم وآباء آبائهم، مما استولى منهم على مجامع الشعور، وملك عليهم أقطار الفكر، وجرى في الأعراق مجرى الدم، إذ هم قوم غلاظ شداد الطبع، تعميهم الأفقه والحفاظ فلا يهتدون بين يديهما طريقا!
فلما رأوا أن عمه وكافله قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إليه فقالوا: يا فلان إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه.
ثم إنهم مشوا إليه مرة أخرى فقالوا له: يا فلان إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.
فلما قالوا له هذه المقالة بعث إلى ابن أخيه فقال له: يا ابن أخي، إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، الذي كانوا قالوا له، فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
فظن هو أنه قد بدا لعمه فيه بداء، أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال: يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.
1
نعم. لقد طالما آذوه بعد ذلك وأسرفوا في الأذى، وكادوه وأمعنوا في الكيد له، وأذكوا عليه من يسبه، وتارة من يؤذيه في بدنه، ومن يلون للمستضعفين من صحبه العذاب تلوينا، فما زاده كل ذلك إلا إمعانا في الدعوة وإيغالا في التحدي، وشدة الدأب على ما وجه إليهم، وتقريعهم على انصرافهم عنه ونفورهم منه، وعدم أخذهم به وصدهم عن سبيله.
لقد أعجزهم أمره حقا، ولم يغن شيء من ذلك كله في كف دعوته والحد من سعيه، فكيف الحيلة فيه وكيف السبيل إليه؟
إذن لم يبق بد من قتله والخلاص منه، على أن قتله ليس بالأمر اليسير، فللرجل وإن قام بدعوته فردا أهل وعشيرة، وهؤلاء الأهل والعشيرة هم في الجبهة من الأمة لجلالة موضعهم، وشرف أحسابهم وضخامة ماضيهم إلى ما لهم من عز ومنعة، وما فيهم من بأس وقوة، وإذا كانت كثرتهم الكثيرة لم تستجب لدعوته ولم تصغ لدينه، فإن لهم حفاظا، وفيهم عصبية تتعالى بهم عن أن يقتل رجل منهم، مهما يكن سبب قتله ويكن بأس قاتله وهم قيام ينظرون، فهم ولا ريب آخذون بثأره لا يقتل قاتله وحده، بل كل من يقع بين أيديهم من أهله ومعشره الأقربين والأبعدين، وقد يتعصب لهذا القبيل قوم، ويتعصب لهذا القبيل قوم فتكون الفتنة لا يخمد لها ضرام، أو تأتي على اليابسة والخضراء!
فلتشترك جميع عشائر الشعب إذن في قتله واحتمال وتره، فلا يقوى معشره مهما يكن لهم من العزة والبأس على أن يقاتلوا الشعب كله، وكذلك أخرج كل قبيل لقتل البطل فتى من أقوى فتيانه وأشدهم بأسا، وتواعدوا باب داره إذا كان السحر.
ويجيئه الخبر بما ائتمر القوم ولكن من أين جاءه؟ هذا ما لا يعلم به أحد!
ثم يخرج من داره وهم وقوف، ويسرع إلى التواري في دار صاحبه فيفوتهم دركه، ولو قد أرخى زمام إرادته لشجاعته لثبت لهم وقاتلهم ، فقتل منهم على الأقل قبل أن يقتل، فلقد كان أشجع الناس، ومن كان هذا شأنه لا يهاب الموت، ولا يخشى من أي ناحية أصابه، ولكنه يعلم أن له في هذه الحياة مهما لا يقوم به أحد من العالمين.
وتمت هجرته إلى البلد الذي سبقت كثرة أهله إلى اعتناق ما دعا إليه، والذي يعلم أنهم معزوه وناصروه ومؤيدو دعوته، مهما يجشمهم من التضحية بالأنفس والأموال.
ولم يمض أكثر من عشر سنين حتى يرى البطل على رأس جيش لجب لا يدرك الطرف آخره، في طريقه إلى البلد الذي خرج منه ذلك المخرج الرهيب!
وإذا القوم لا يقاتلون، ولا يجمعون نية على النضج عن الوطن، ولا الذياد عن الحريم، بل إنهم ليسلمون ويسألون صفحا كريما من مالك كريم، فسرعان ما يسجح ويعفو، ويهيب بالمغلوبين المقضي عليهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء!»
ولقد عرفت أن هذا البطل الأعظم هو محمد
صلى الله عليه وسلم ، وبجل وعظم، وشرف وكرم، وأما عدوه القاتل لدعوته، الصارف بكل حوله من دينه، فشعب قريش كله، وأنت خبير مما لهذا الشعب من قوة وبأس، ومن أنفة وحفاظ.
وبعد، فإن من ينظر إلى تلك البداية، ثم يثب ذهنه إلى هذه النهاية، ليكاد تتفرق نفسه من الحيرة، وتطير من العجب كل مطير.
ولكنه الصبر! الصبر الذي يغذوه الإيمان بالحق، وما دام الإيمان بالحق قويا، فقد هان لقاء أشد الشدائد ومعاناة أهول الأهوال، ولا تزال هذه الشدائد في قتالها للحق والصبر، تضعف وتتضاءل على الزمن رويدا رويدا، حتى تلقي السلاح وتسلم أمرها لعدوها وأنفها في الرغام!
ومما يسترعي الانتباه أن الكتاب العزيز لم يحض على خلة قدر ما حض على الصبر، فلقد دارت هذه السمة ومشتقاتها فيه أكثر من مائة مرة، وهذه سيرة محمد
صلى الله عليه وسلم ، خير مصداق لما يدعو إليه القرآن العظيم.
وبعد، فليت هؤلاء الذين غصب عليهم حقهم، والذين خرجوا أو أخرجوا ظلما من ديارهم، ليتهم يبنون أنفسهم على الصبر، ويروضونها على شدة الاحتمال في سبيل الحق، ففي حديث الهجرة أصدق الخبر، وفيه أحسن العظات وأبلغ العبر.
خواطر تلهمها ذكرى الهجرة
ليس ما يضرب فيه القلم اليوم بحثا قامت في الذهن حدوده، وبانت طرقه، واتضحت معالمه، واستشرقت مقدماته لنتائجه، إن هي إلا خواطر تجول بها ذكرى الهجرة الشريفة، هي خواطر تتوالى على النفس كما توالى مناظر الخيالة - السينما - في جريدة الأخبار مثلا، على أنها قد تجيء بحكم تداعي المعاني، وبحكم أضعف المناسبات وأدنى الملابسات.
وبعد، فليس من شك في أن مما يستدعي العجيب، بل مما يكاد يستهلك كل العجب؛ شأن أولئك العرب إلى آخر جاهليتهم، وما صاروا إليه بعد إسلامهم بيسير من الزمان: لقد كانوا في جملتهم قوما أميين جهالا، لم تفتتح عيونهم على علم ولم يتذوقوا فنا، اللهم إلا فن الكلام، وهو غير مغن في قيام الأمم إذا أغنى إلا قليلا.
لقد كانوا جاهلين حقا لا يرتبطهم بأي لون من ألوان الحضارة أي سبب، ولا تنفذ عقولهم إلى شيء مما وراء تلك البوادي التي يسكنون، حتى لو اضطربوا فيما يجاورهم من البلاد التي أخذت بحظ من الحضارة، بحكم التجارة ونحوها، رجعوا إلى قومهم وكأنهم لم يشهدوا شيئا غريبا من شأنه أن يلفت أنظارهم ويحرك أفكارهم، كأنما غلقت الأذهان وغلقت القلوب،
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
1
صدق الله العظيم!
على أنهم لم يسلخوا في الإسلام إلا صدرا يسيرا من الزمن حتى حذقوا علوم من سبقوهم إلى الحضارة وفنونهم، بل سرعان ما أنشئوا هم علوما واستحدثوا فنونا أوفوا بها على حضارة الزمان!
ولا ينبغي في هذا المقام، أن يذهب عن الفكر أن ما نقل العرب من علوم غيرهم وفنونهم قد طبعوه أولا بطابع الفكر العربي، وسووه حتى مرئ في مساغ الذوق العربي أيضا، وهذا فوق ما وسعوا في آفاق هذه العلوم والفنون، واستحدثوا فيها من القضايا التي ذهبت بها إلى أبعد الغايات.
وأنت خبير بأنه إنما يبعث على العجب في أمثال هذه الغرائب، هو غفلة الذهن عن وصل الأسباب بالمسببات، ولهذا قيل: إذا عرف السبب بطل العجب ...
ففي الحق إن العربي على ما كان فيه بحكم البيئة من الجفاء والانصراف عن إرسال الفكر في شيء من دواعي الحضارة التي يشهد أو يترامى إليه أمرها ... الحق أنه - مع هذا - حديد الفطنة، سليم الطبع، مستقيم الفطرة. فلما جاءه الإسلام، وهو دين الفطرة أذكى مواهبه وحرر فكره، وأجلى ما كان يرين على قلبه، فإذا إنسان كفء أي كفء لأسمى النظر وعلاج جلي العظيمات في الحياة، وكذلك يمضي طلقا إلى ابتغاء المجد الحق من كل سبيل!
ولقد كان من المتعين على مفكري العرب وقد دخلوا في الإسلام أن يكون أبلغ سعيهم، وأول ما تنقلب فيه أذهانهم؛ هو هذا الدين طلبا لحفظ أصوله وتفصيل أحكامه، فجد منهم من جد في جمع أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم ؛ بطريق الرواية عن الثقات من التابعين أو تابعيهم، ثم عن الصحابة راويا بعد راو إلى من سمع منهم بأذنه أو رأى بعينه «ففعل النبي
صلى الله عليه وسلم
وإشارته كذلك من السنة.»
ولقد أفنى جامعو الحديث أعمارهم في شدة التحري والتحقيق والتثبت والتأكيد، للتمييز بين صحاح الأحاديث وموضوعاتها؛ بل للتمييز بين الصحاح وتبيين حظ كل منها من القوة طوعا لحظ رواتها من الثقة والدراية، ثم كان من أثر هذا أن نشأ علم جديد، هو علم «مصطلح الحديث» ولعله كان من الخير أن يدعى علم «نقد الحديث».
وفي الوقت نفسه اجتهد آخرون في استنباط الأحكام الشرعية من هذه الأصول الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس؛ مهتدين جميعا بسلامة الفطرة، وحدة الفطنة، وصحة التفكير، ودقة الإحساس، حتى لقد ارتجلوا - في هذا الباب - قواعد وقضايا تخلب باختصارها ووضوحها ودقتها أبرع المشرعين، ولأسيق طائفة منها على جهة التمثيل: الضرورة تقدر بقدرها - الأصل بقاء ما كان على ما كان - إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل - ما جاء على أصله لا يسأل عن علته - لا اجتهاد مع النص - الاعتراف حجة قاصرة - اليد دليل الملك - المعروف عرفا كالمشروط شرطا - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ... إلخ.
ولعمري لم يكن كل هذا الإبداع والابتكار أثرا لدرس مدرس أو تقليب للفكر في كتاب مكتوب، إن هو كما قلنا من فضل سلامة الفطر، وحدة الذكاء وصحة التفكير.
وإذا كان علماء العرب قد نقلوا بعد ذلك علم المنطق إلى لغتهم عن اليونانية، فإنهم سرعان ما أجالوا في قضاياه هذه الأذهان الحادة وأراقوا عليها تلك الأفكار الخصبة، فابتكروا ما ابتكروا، واستحدثوا ما شاء الله أن يستحدثوا، طلبا لوفاء هذا العلم على الغاية من الهداية إلى صحة التفكير، وابتغاء النتائج الحق من صحاح المقدمات.
ثم لم يكفهم هذا، فلقد نقلوا عن اليونانية أيضا علم «آداب البحث والمناظرة» وغاية هذا العلم تنظيم وسائل المجادلة بين المتجادلين، والتزام كل من الطرفين حدة في الخصام، وبيان الطرف للإدلاء بحجته، أو إدحاض حجة خصمه وكذلك تضحي المناظرة مجدية منتجة، تظهر الحق على الباطل بقيام الحجة الواضحة غير مضيعة بين سفسطة ومهاترة، أو نقل لموضوع النزاع، على أن العرب كذلك قد طبعوه بطابعهم، وأفاضوا عليه من سابغ تفكيرهم، ووصلوه بفنونهم، وأجروا فيه الأمثلة والشواهد مما يعرض لما يعالجون من العلوم.
أما وقد عرضنا للقضايا المسلمة، وللمنطق، ولآداب البحث والمناظرة، فقد حق علينا أن نقف وقفة قصيرة لعلنا نرفه بها عن القارئ بعض الترفيه.
لا غرو علي إذا زعمت أن تسعين في المائة، إن لم أقل تسعة وتسعين في المائة، من المناقشات والمجادلات التي تدور بيننا، نحن المصريين، سواء أكانت باللسان في المجالس الخاصة، أم بالقلم في الصحف السيارة، لا يمكن أن تنتهي بالتسليم من أحد المتحاورين، ذلك بأننا - حتى الكثير من متعلمينا - قل أن يعنوا في جدلهم بترتيب المقدمات المنطقية الترتيب الذي يفضي بها في صحيح القياس إلى النتائج الصحيحة، ولقد يدفعنا الحافز للنفس، والرغبة في الفلج والخصم إلى تنكر القضايا المسلمة، أما نقل موضوع النزاع إذا سطت بنا حجة الخصم، فهذا ما يقع عندنا بغير حساب!
ودعنا الآن من المجادلات العلمية أو الفنية، وخد بنا في ألوان الحوار التي تجري كل ساعة بين الأصدقاء وغير الأصدقاء.
يقول لك فلان: إن فلانا صنع كيت وكيت مما يتعاظمك ويروعك لضخامته أو لتعذر أسبابه، فإذا باديته ولو بالشك فيما يزعم ابتدرك بقوله: «وليه لأ؟» كأن الأصل أن تضاف إلى الناس الأفعال أو الأقوال، وعلى المنكر أن يقيم هو الدليل على العكس، أي: العدم أو استحالة الوقوع، ناسين أبسط القضايا وأوضحها «البينة على من ادعى!»
ويقول لك آخر: إن فلانا يرتكب كذا وكذا من المؤثمات، فإذا أنكرت منه هذا القول قال في غير ورع ظانا أنه يقيم الحجة عليك: كيف وأنا أقارف معه تلك المؤثمات؟ وقد فاته أن الاعتراف حجة قاصرة على النفس، فإذا أشرك الغير كان دعوى تحتاج إلى دليل!
ولقد تروي، في بساطة، ما انتهى إليك من خبر نشرته إحدى الصحف، أو جعلت تردده المجالس من أن فلانا اتهم في كذا، فيبادرك رجل من شيعته طبعا: حضرتك مبسوط من كده ... وترى أن الخبر قد التبس على الغبي بالأمنية، اللهم إلا أن يكون فاسد الضمير فاجر النية!
ومما يضحك ويبكي نقل موضوعات النزاع، إما فرارا من لزوم الحجة، أو طلبا للكيد والأذى، أو جهلا وشدة غباء.
وأذكر نموذجا واحدا مما وقع لي في ذلك الباب على جهة التمثيل أيضا، ولم يكن ثمت موضع نزاع، بل كان هناك سؤال استحال في غير موجب إلى نزاع. من بضعة أيام طلبت عيادة طبيب الأسنان؛ ليخلع ضرسا ألح علي ألمه، وورم لي صدغي ... وبينما أنا في غرفة الانتظار ريثما ينتهي الطبيب من علاج من تقدمني، إذا رجل حسن السمت أنيق البزة، ويبدأ بالتحية، فأردها بأحسن منها ... وما يكاد يأخذ مجلسه حتى يطارح الحديث كعادتنا نحن المصريين إلى من نعرف ومن لا نعرف، فماددته الحديث على ما بي - في الأسباب العامة طبعا - ومن حديثه أدركت أنه رجل مزخرف الثقافة مذوق اللسان، ثم إذا هو يفاجئني بهذا السؤال: حضرتك من أهل الريف؟ فأجبته من فوري: لا يا سيدي، فأنا مولود في القاهرة، وما زالت موطني إلى الآن، فرد علي في ثورة عنيفة: ليه هيه العيشة في الريف وحشة؟
لقد ثار ثائري ونهضت لتوي وخرجت مسرعا إلى داري، مؤثرا وجع الضرس وضرباته على هذا اللون من الحوار!
إذن؛ لقد كان علي أن أخلق قبل أن أخلق، وأن أولد قبل أن أولد حتى إذا بلغت من التمييز في النشأة الأولى؛ كان على القدر أن يخيرني الولادة في الريف أو الحضر، فأختار أول الأمرين، ثم أتبخر في الأثير، ثم أبعث في الريف من جديد، وإلا كنت امرأ آثما يستحق اللوم والتأنيب!
وبعد هذه الوقفة المريحة أو المتعبة المعنية، نرجع سياقة الحديث على اسم الله:
لقد اقترنت عناية السابقين في الإسلام بعلوم الدين؛ بعناية غيرهم بعلوم اللسان، من نحو وصرف وأدب وبيان، وذلك لأنها الوسيلة إلى فهم لباب الدين.
وفي أعقاب هذا أو على الأدق في أثنائه، التفت مفكرو العرب إلى المنطق على أنه مما ينظم الفكر وييسر الطرق لاستنباط الأحكام الشرعية على الوجه الصحيح، ثم اتجهوا كذلك إلى نقل قوانين البحث والمناظرة على ما تقدم به الكلام.
لم يمنع اشتغال مفكري العرب بهذا وهذا وذلك من أن يلتفتوا إلى علوم الدنيا من رياضة وهندسة وطب وفلك وغيرها، فسرعان ما جادوا وما برعوا، وسرعان ما أجلوا ووسعوا، وما ابتكروا واخترعوا ... وينسلخ من الزمن غير يسير بالإضافة إلى أعمار الأمم، حتى صارت هذه العلوم إليهم وكادت تقطع صلتها بغيرهم، فأصبحوا هم المتحدثين فيها، والمتحدثين عليها بين أمم الأرض جمعاء، وكذلك أنشئوا أجمل حضارة وأزكاها في هذا العالم!
فإذا تعاظمتك تلك النهضة في مثل ذلك الزمن، فإن مما يدفع عنك العجب أنه قد لاقت تلك الفطرة العربية دين الفطرة ... دين صاحب الهجرة.
يسر الإسلام
لقد يملك كثرة الناس العجب من تمام عظمة الإسلام في هذا الصدر اليسير من الزمن وبلوغه ما بلغ في غير عنف ولا مطاولة يكافئان هذا المجد كله ولا معظمه.
ولست الآن بصدد ترديد ما آثر التاريخ، وما دون المؤرخون في فتوح الإسلام وانتشاره السريع العجيب في قواصي الأقطار وأدانيها، وما كان لأهله في كل مكان من منعة وعزة وسلطان، فذلك شيء قد فاضت به الكتب، واحتفلت بتفصيله الأسفار الضخام، وبحسبي - فيما جردت له هذا الكلام القصير - أن ألفت القارئ إلى أن أمة بادية جاهلة صائلة يكون منها في هذا الزمن ما كان من العرب بفضل الإسلام. هذا فتح وهذه سيادة وهذا تعمير وتثمير، وهذي علوم وفنون وصناعات، وهذي حضارة لا تتعلق بأذيالها أعلى حضارات التاريخ!
لعمري ما هذا كله؟ وكيف كان؟ وكيف تأتى بهذه السرعة لدولة الإسلام؟
اللهم إن أوثق يقيني أن مرجع هذا أجمعه إلى ما في هذا الدين من يسر عظيم، الدين يسر وبفضل هذا اليسر كان من دولة الإسلام ما كان!
ستقول: إن الإسلام ما ساد إلا لأنه حق. وأقول لك: وهل ثمة أيسر من الحق أو أعسر من الباطل؟ ومتى احتاج الحق في تجليته إلى عنف أو إلى جهد؟ إن الباطل هو الذي يحتاج إلى هذا وهذا، وقل أن يثبت له معهما قرار!
وإذا قيل: إن الإسلام دين الفطرة، فمعنى هذا أنه دين اليسر؛ لأن ما جاء على حكم الفطرة لا عسر فيه ولا مشقة، أما ما جاء على جهة التكلف والتصنع فذلك الذي يقتضي كثيرا أو قليلا من الجهد والعناء.
الدين يسر، وإن هذا اليسر ليغمره من جميع أقطاره، أرأيت أيسر من دعوته «لا إله إلا الله محمد رسول الله.»
وأي شيء لعمري في هذه الجملة ينشر على الفهم، بل أي شيء فيها يتعثر فيه الذهن وتضيق عنه مساحة أدنى التفكير؟
هذا اليسر في هذا الحق الذي ليس وراءه حق، هو الذي سلك أقطار الأرض بدعوة الإسلام، واستفتح لها قلوب الأمم والجماعات في غير علاج ولا استكراه؟
هذه الدعوة اليسيرة الواضحة لقد تغنت بنفسها عن العنف والاضطرار:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
1
بل لقد استغنت عن استدراج الناس بفنون الإغراء والاستهواء.
وهذه تكاليف الإسلام، ما قامت فيها مشقة إلا قامت بإزائها رخصة، ولا كان في أحدها على أحد عسر إلا ذلل بين يديه طريق العذر، وهل بعد ذلك اليسر كله يسر؟ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.»
وقال تعالى في كتابه الكريم:
وما جعل عليكم في الدين من حرج
2
صدق الله العظيم.
لم يقتض الإسلام أحدا احتمال ما لا طاقة له باحتماله، فهذه تكاليفه من استطاع القيام بها، وإلا تخفف منها في حدود أحكام الشرع الكريم، حتى تكافئ طاقته ويتسع لها ذرعه، ولا يتحرج بها وسعه، مقبولا عذره مكفولا عند الله أجره.
ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى شيء حقيق بالانتباه: ذلك بأن من القواعد المسلمة أن الضرورات تبيح المحظورات،
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه
3
فالتفريط في غير ضرورة، والتخفف من أحكام الشرع من غير داع جدي إثم من الآثام، ومن القواعد الأصولية المقررة أن الضرورة تقدر بقدرها، ولا شك بعد هذا في أن تتبع الرخص وتلمس المعاذير إنما هو ضرب من الاحتيال للتهرب من تكاليف الدين وهيهات لا ينطلي على الله محال!
ومن يسر هذا الدين أنه لم يقم بينك وبين ربك أية واسطة.
وليس من شك في أن ما نستطيع تناوله إلا بواسطة غير ... فإذا زلت بك القدم وقلبك الشيطان في المنكر، أقبلت على ربك وسألته قبول توبتك، والعفو عما أسلفت من ذنبك؛ مطمئنا إلى:
إن الله يغفر الذنوب جميعا .
4
ليس بك حاجة إلى من يمهد بين يديك سبيل المعذرة، ولا من يعاني لك استخراج العفو والمغفرة.
وبعد، فإن من يسر هذا الدين شدة تسامحه، ولا يذهب عنك أن هذا التسامح إنما كان من أبلغ الأسباب في عظمته.
لا يدعوك الإسلام إلى كراهة ما يصدر عن مخالفك في الدين؛ لأنه يخالفك في الدين بل يدعوك إلى أن تكره منه ما يكره، وتقر منه ما يحب ويؤثر، فهو وأخوك المسلم في هذا بمنزلة سواء.
ولقد ثبت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لبس جبة رومية.
وقال تعالى في كتابه الكريم:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم .
5
ولا ريب في أن لهذا ولهذا دلالة كان لها أعظم الآثار في نهضة الإسلام!
لم ينفر المسلمون من مخالفيهم في الدين ولا في الجنس، ولم يحجز بهم تعصب عن مخالطتهم والاتصال الوثيق بهم، والانتفاع بكفاياتهم والأخذ عنهم، ولم يكد يستقيم أمر الملك لهم حتى أقبلوا على علوم من سبقوهم فترجموها إلى لغتهم، وجعلوا يترددونها ويشيعون الأذهان فيها، ويطبعونها على غرار عقولهم، ويزيدون فيها ما فتق الرأي والذكاء لهم، كذلك كان شأنهم في الفنون، فقد حذقوها أتم الحذق وبرعوا فيها أعظم البراعة، وأداروها على أذواقهم حتى اتسق لهم منها فن خاص، وناهيك بالفن العربي الذي ما برحت آياته مسطورة على جبين الزمان.
أرجو أن تكون قد اطمأننت بعد هذا إلى أن اليسر في الإسلام كان من أبلغ الأسباب في عظمة الإسلام.
في الحروب
بماذا كان ينتصر الإسلام
ما وقع حدث من أحداث هذه الحرب، وخاصة في ألبانيا التي أصبحت معتركا حامي الوطيس بين دولة صغيرة، قليلة العدد ضئيلة الموارد كل همها من العيش أن تحظى داخل حدودها بالأمن والسلام، قانعة باليسير مما أفاءت عليها الطبيعة، وما يعالجه أبناؤها النشيطون من فنون الصناعات، وما يروجونه إلى أسواق العالم المختلفة من ألوان التجارات، لها من كل أولئك مقنع وليس لها فيما وراءه أي مطمع، فإذا كان لها جيش أو كان لها أسطول فبقدر ما تؤمن الحدود وتمنع الثغور ولو إلى حين، أما الطرف الثاني من هذا المعترك فدولة عظيمة، قوية بعددها، قوية بعددها، قوية بصناعاتها وبتجاراتها، قوية بمستعمراتها الواسعة الشاسعة التي ضمنت أرضوها من الكنوز المعدنية ما يغني في كل شيء من أسباب الحياة القوية الفنية ليس أعز منها في هذا العالم حياة، ومع هذا فإننا نرى أن هذه الدولة الصغيرة الدقيقة في كل شيء؛ لا تفتأ تضرب هذه الدولة العظيمة الضخمة في كل شيء، كلما طلعت الشمس ضربة وتركلها كلما غربت الشمس ركلة، وبين ذلك لا تفتأ في كل ساعة تجرعها من الصاب والعلقم ما يفري الحناجر، ومن الغسلين ما يذيب الأحشاء، وتلون لها المهانات ما أجراها مثلا للخزي على ألسن العالمين.
لعمري ما وقع حدث من هذه الأحداث إلا أذكرني سير العرب السابقين وأحضرني شأنهم في فتوحهم ومغازيهم فلم يكن هؤلاء في الأكثر الأغلب أكثر من عدوهم عددا، ولم يكونوا كذلك أقوى منه عددا، ولم يفوقوه في تنظيم الجيوش وتنسيق الكتائب، وتدبير المكايد، وإحكام خطط الحرب، وتدبير وسائل الكر والفر، بل فقد كانوا أضعف وأهون شأنا في كل أولئك جميعا! ومع هذا فإنهم ما صارعوا إلا صرعوا ولا قارعوا إلا قرعوا، ولا شدوا إلا ظفروا، ولا حملوا إلا قهروا، ولا هجموا إلا انتصروا، ففتحت بين أيديهم أبواب المعاقل، ومهدت لهم السبل إلى أمنع المدائن، وحشدت لهم أضخم المغانم، واستأسر لهم من المقاتلة أضعاف أضعافهم في يسر يلفت عين الدهر. وكذلك لم تجهد دورة الفلك إلا قرنا واحدا حتى دانت لهم مناكب الأرض، وذلت نواحي البر والبحر.
1
إذن لم يظفر العرب في حروبهم كل هذا الظفر، ولم يتهيأ لهم ما دوخوا من البلاد. وما ملكوا من الأقطار، وما فتحوا من هذه الفتوح العظيمة في قواصي الأرض وأدانيها لأنهم كانوا أكثر من عددهم عددا، ولا أمضى سلاحا، ولا أعلم بفنون الحرب وأخبر بأساليبها ومكايدها، بل لقد علمت أنهم كانوا دائما دونه في جميع أولئك بما لا يجوز فيه تشبيه ولا يصح معه القياس.
وبعد، فلعمري، ما مشى النصر بين أيديهم أنى قاتلوا في شرق الأرض وفي غربها، بالغا ما بلغ من الضآلة عددهم، وواقعا حيث وقع من الضعف سلاحهم، إلا بأسباب ثلاثة: (1)
الإيمان. (2)
الرحمة. (3)
العدل.
فالإيمان ييسر على النفس التضحية مهما جلت، بل لقد يغري بها ويدفع بها في المطلب الجسام.
ولا تنس أن من أثر الإيمان بناء النفس على الصبر عند معاناة الشدائد وخوض المكاره، فإن إصابة الغرض الذي يدفع المجاهد إليه إيمانه لحقيقة بأن تحد من عزمه، وتشد من متنه فلا يعتريه خور ولا خذلان، وأنت خبير بأن الصبر هو مفتاح النصر، وصدق من قال: الشجاعة صبر ساعة، والأمثلة على هذا مما لا يحيط به الحساب!
وبعد هذا أحسب أن العجب قد أخذ فيك بادئ النظر، من نظم الرحمة والعدل في أسباب الظفر في الحروب والتنكيل بالأعداء، والواقع أنهما قد يكونان أمضى من السيف في كسب الحروب، وذلك بأن القسوة وغلظة الكبود لا تجدي على المقاتل شيئا البتة؛ بل إن شهرته بين مقاتليه بالرأفة إذا تمكن والمعدلة إذا حكم، لمما يخذلهم عن الاجتهاد في قتاله، ويشيع فيمن وراءهم قلة الاستحماس لهم وثقل القادرين على القتال عن نجدتهم، بل لقد يرجون النصر لهذا العدو ليخرجوا من ظلمهم، وينعموا في ظلال حكم ملائكة الرحمة والرقة والعدل والإحسان.
وكذلك ساد العرب الدنيا، وما هداهم إلى هذا إلا دينهم العظيم ...
والشواهد على هذا في حروب المسلمين مما لا يبلغه كذلك الإحصاء.
وبحسبنا أن نورد في هذا الباب مثلين يسيرين، أولهما: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال في وصاة له لأسامة بن زيد قائد أحد جيوشه ولأصحابه، وهم مرتحلون إلى الحرب التي وجههم إليها: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تملثوا،
2
ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تتبعوا موليا، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ... إلخ.»
أسمعت حديثا في المرحمة بالعدو المقاتل والرقة له أبلغ من هذا الحديث؟
ذلك بأن الإسلام لا يبغي بالحرب كيدا ولا شفاء ضغن! إنما يبغي بالحرب أعلى المثل، فإما دفع أذى، وإما بسط حق والخير والفضيلة في هذا العالم.
قال الله تعالى يخاطب رسوله الكريم:
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .
3
صدق الله العظيم.
ولقد قال تعالى في كتابه العظيم:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .
4
وكيف ظنك بدين يأمر بالإحسان حتى في القتل! قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة.»
أما التمثيل حتى بالحيوان فقد أغلظ هذا الدين في النهي عنه، واشتد في الوعيد عليه، فقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: «من مثل بحيوان فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.»
وتلك كانت سنة الغزاة والفاتحين في صدر الإسلام.
وإن تعجب فعجب أن يكون ذلك أدب الإسلام في عصر كان من السائغ المألوف فيه سوم المحكومين المقهورين ألوان الخسف من إهدار الدماء، وتخريب الدور، واستصفاء الأموال، في غير جرم يقترف أو إثم يجترح، حتى كاد يكون ذلك شرعا مشروعا وواجبا مفروضا!
وأما المثل الثاني فأجلوه لك في حادثين مأثورين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهذان الحادثان معروفان شائعان، وما كنت لآتي بهما لولا أنه قد اقتضى الإلمام بهما نظم المقال، وأولهما ما حكي من أن جبلة بن الأيهم، وكان آخر ملوك بني غسان، أسلم وخرج إلى مكة، فلما كان في بعض طوافه داس رجل من فزارة على طرف ردائه فحل أزراره فلطمه جبلة، فاستدعى الرجل عليه عمر، فدعا به وخيره بين أن يترضى الرجل أو يقيد له منه، فقال: يا أمير المؤمنين، أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال: ولكن الإسلام سوى بينكما!
وأما الحادث الثاني، فما حكي عن رجل من أهل مصر قدم على عمر، فقال: عائذ بك يا أمير المؤمنين! فقال - رضي الله عنه: عذت بمعاذ! فقال: لقد ضرب ولد عمرو بن العاص ولدي - وكان عمرو يومئذ عامله في مصر - فأرسل في طلبه معه ولده واستقاد من الولد والوالد جميعا، ثم أقبل على عمرو وقال: يا عمرو، بماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
هذه الأمثلة على قلتها، تريك مبلغ ما يدعو إليه الإسلام من الرحمة بالمقهور والرقة له، وإقامة العدل بين الناس، مهما يكن الفرق بين الظالم والمظلوم، وأخيرا توطيد الحرية وتوكيدها على أنها حق طبيعي للإنسان، كائنا من كان.
أما الحرب في هذا العصر، فقد صارت إلى ما ترى، وهي إن امتازت بشيء فأبرز ما في وجوه هذا الامتياز أن ضحاياها وصالي حرها من المستأمنين الوادعين، أصبحوا أكثر كثيرا ممن تجردوا للقتال، واستنفروا للكفاح والنزال، بل لقد تعدل الموبقات القواصف من الطائرات عمدا عن المسالح ومستودعات الذخائر وثكنات الجند، وغير ذلك من أسباب الحرب إلى دور المستأمنين، حيث المرأة ترضع ولدها وحيث الرجل الذي نام ليستجم للعمل من بكرة الصباح إلى غاية النهار الأطول، سعيا على الأم الشيخة والزوج والطفل الثلاث أو الأربع، وحيث المريض المدنف يتلوى على الجنبين من ألم وعذاب، لقد تعدل تلك المدمرات القواصف إلى هؤلاء عمدا، وتزلزل عليهم الأرض زلزلة وتدمر الدور تدميرا، فإذا هؤلاء أجزاء تتناثر، وأشلاء تتطاير فمن سلم منهم على الموت، فليستقبل حياة شرا من الموت.
فإذا جاءك أن الإسلام فتح كل هذا الفتح، وملك كل هذا الملك، وانبسط له على وجه الأرض كل هذا السلطان في أقل من قرن واحد، فإن السر لا يعدو ما قدمناه لك من قوة الإيمان، وإشاعة العدل بين الناس وإيثار الرقة والرحمة بالإنسان وبالحيوان!
وإذا طلعت عليك الأنباء في كل صباح وكل مساء بأن الجيش اليوناني الصغير الضئيل لا يفتر لحظة واحدة عن صفع الجيش الطلياني الضخم الكثيف باليد، وركله بالرجل إذ لا يكاد يرى فيالقه وكتائبه إلا من الأقفاء من انهزام بعد انهزام، إذا طالعتك الأنباء كل ساعة بهذا فصدق، وأحل الأمر كله على قوة الإيمان بحق الوطن المعتدى عليه بغير إثم ولا عدوان!
فإذا قال لك قائل: لقد ذهب عنك ما فعلت القوة القوية من اجتياح للممالك وقبض على نواحي الشعوب، واستصفاء لأموال الأمم، وامتصاص لدمائها واتخاذها عبيدا فقل له: لا تعجل بالحكم، فإن الله ليملي للظالم، ولتعلمن نبأه بعد حين.
كتاب مفتوح
من عمر المختار إلى الماريشال جرزياني
عزيزي الماريشال
أكتب إليك هذا وأنا حق واثق من أنك لم تنسني، بل حق واثق من أنني وخاصة في هذه الأيام، أتمثل لك سواد الليل وبياض النهار، ومهما يكن من أمر فإن آخر لقائنا لم يمض عليه من الزمان ما ينسي الصديق عهد الصديق !
أتذكر، يا عزيزي ذلك اليوم الذي جاءوك بي وأنا مقرن في الأصفاد، فتقدمت إلى أحراسك أن يلقوني في الطيارة التي أشرت بإعدادها لمهم لم تقم به طيارة من قبل، وسرعان ما حلقت بي تشق أجواز الجو طبقة بعد طبقة حتى كادت تصك وجه الشمس، ثم قذف بي من ذلك الحالق قذف النواة، لا رحمة ولا إشفاق!
وإن أعجب لشيء وإن أفرح بشيء فبطيارتكم التي بلغت هذه السرعة الهائلة، بحيث تحمل المرء من هذه الدنيا فتبلغه جنة عدن فيما دون عشر دقائق!
ولئن عاب أهل الدنيا طياريكم، معشر الطليان، بأنهم لا يحسنون إصابة الأهداف، لقد اضطرب هذا الحكم عليهم بين الجهل والتجني فطياروكم أحسن الطيارين تسديدا إلى المرامي وإصابة للأهداف، ما دامت القذيفة شيخا في حدود المائة، والهدف ظهر الصحراء!
عزيزي الماريشال!
لقد انعقد إجماع أهل العلم على أن الشجاعة تلازمها الرقة للضعيف ورحمة من ليس له بالكفاح يدان، وكذلك كان شأنكم، يا معشر قادة الجنود، فإنكم لا تؤذون الأسرى وتسرعون إلى مداواة الجرحى من عدوكم، كما تداوون جرحاكم سواء بسواء، وتلقون الجميع بالبشاشة، وتعاملونهم بالإكرام، فما بالك قد صنعت بي أنا الشيخ الفاني، ذلك الذي لم يسمع بمثله أحد طول الزمان، هذا الذي لا ترضى بفعله الحجارة، لو كانت الحجارة تشعر وتريد.
لقد التمست لك وجه العذر يا عزيزي الماريشال، ولا تعجب لأن ألتمس أنا العذر لك أنت، فإنني في دار لا نحس فيها حقدا ولا يجد الضغن إلى قلوبنا سبيلا.
ألم يقل الله تعالى في كتابه الكريم:
ونزعنا ما في صدورهم من غل
1
الآية.
وجه العذر - فيما أرى - أنكم معشر الطليان، أو معشر الفاشت، على الأصح، وقد جمعتم العزم على فتح أفريقيا؛ لتستنقذوها من الجهالة، وتخرجوها إلى نور الحضارة، رأيتم سلفا أن تشهدوا العالم على مبلغ ما أحرزتم أنتم من حضارة وعطف على الإنسان، وليس من شك بعد هذا في أن فعلتك تيك إنما كانت أصدق نموذج - عينة - لحكمكم إذا ملكتم نواحي الأرض، وبلغتم منيتكم في استعادة ملك الرومان !
ولعلك أيها الماريشال الشجاع جدا، ساعة تقدمت بإعدامي على تلك الصورة قدرت أنني لن أتعذب أكثر من دقيقة واحدة، فإنني كنت أجهل مصيري حتى إذا قذفوا بي في الجو خفق قلبي خفقة أو اثنتين ثم استشعرت صدمة هل علمت خطرة البرق؟ ثم لم أدر شيئا ولم أحس شيئا، حتى رأيتني في الجنة بين الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
ولعل هذا مما كان داخلا في تقديرك أيضا، فأبت همتك إلا أن تسدي إلي هذا الجميل أجزاك الله عني أعظم الجزاء!
هناك يا صديقي سؤال يضطرب في صدري ولا يجد له متنفسا من جواب: لقد كنت أعلم وأنا من أهل الدنيا وازددت يقينا حين صرت إلى الآخرة أن السيد المسيح - عليه السلام - كان أكبر مظاهر رسالته الرفق والرحمة، والمحبة والسلام، والعفو عمن جنى والصفح عمن أساء، ولقد كان عليه السلام، أول رسول لم يؤيد بمعجزة من عصف أو خسف، وإغراق أو دمدمة، أو ريح عاصفة، أو رجفة قاصفة، وإنما كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتي بإذن الله. وليس وراء هذه الرحمة رحمة، وليس أبلغ من هذا في باب العطف على الإنسان، فهل من الفضائل المسيحية التي تتشادق بها أنت ومعشرك، والتي تزعمون أنكم ما شهرتم هذه الحرب على خصومكم إلا لتسودوها في العالمين - هل من هذه الفضائل أن تمثلوا بشيخ مثلي هذا التمثيل، وتقتلوه بصورة لم تعهد في تاريخ التذبيح والتقتيل؟
لا والله! لقد برئ منكم المسيح الرحيم النبيل، وبرئت منكم التوراة والإنجيل!
وبعد، فاعلم يا هذا الرجل ولعلك الآن إن شئت تعلم، اعلم أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وهو للظالمين بالمرصاد وإنه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
ولقد أملى لك وأمهلك وما أمهلك ولا أملى لك، إلا ليزيد لك في العقاب، ويضاعف لك العذاب ففسح لك في الأمل، وأدنى منك كرائم المنى وقطع في نفسك جميع علائق الشك في أن ستكون الغازي الفاتح الذي يرد لقومه ملك الرومان القديم في غير مشقة ولا جليل عناء، حتى خلت نفسك كذلك، وتسلقت الزهو به، وتقبلت الهناء عليه.
نعم، لقد أذنت وأذن معشرك لا في بلادكم وحدها، بل في جميع رقاع العالم، بأن مصر والقناة التي تسلكها بين البحرين، وأن السودان من قسمكم، كما أضحت الحبشة والصومال والأريتريا من حر ملككم، لا ينازعكم على ذلك منازع، ولا يستطيع أن يدافعكم عن شيء منه مدافع، ولقد سكنتم إلى هذا واطمأننتم إليه، وخلتم أنكم قد فرغتم من الشغل به وما لكم تشغلون البال بما حصل في أيديكم، ومكنت لكم القوة الساطية منه تمكينا؟
أمهلك الله وقومك وأملى لكم، حتى بلغتم من حسن الظن بالأيام هذا المدى، أليس أعداؤكم الإنجليز قد خشوا بأسكم فسبقوا إخلاء وجه الصومال لكم، كما خلوا بينكم وبين السلوم وسيدي براني، فاحتللتموهما في غير جهد ولا قتال؟
إذن لقد تم الأمر لكم، فأنتم ولا محالة بالغو قصارى مناكم في يسير من الزمان، حتى لقد واعد كثير من جندكم خطيباتهم قضاء شهر العسل، بعد أسابيع أو بعد أيام على ضفة النيل، والنعيم في واديه الجميل.
ثم ما فعل الله يا ماريشال بإمبراطورية الرومان؟
هذا قرينك «ويفل» يضربك في كل نهار ضربة، فلا يقنع بأن يسترجع منك سيدي براني والسلوم، بل إنه ليغير على ملككم في لوبيا، فتفتح بلادها مدينة بعد مدينة، وليتولى على حصونها واحدا بعد آخر، ويأسر حامياتها التي حشدت فيلقا بعد فيلق، ويغنم من المدافع والدبابات والذخائر وسائر آلات الحرب وعتادها لو كنتم تعاقدتم من قبل مع إنجلترا على أن تورده مصانعكم إليها بالثمن العاجل، لعجزت في هذه الفترة عنه ولم تستطع على شدة حاجتها إلى المال الوصول إليه!
ولقد بلغ من خذلان الله لكم أن تظل طائراتكم - وهي تعد بالآلاف - جاثمة في أفاحيصها - مطاراتها - التي تعد بالمئات، في انتظار الطائرات البريطانية التي تصبحها وتمسيها كل يوم، حتى إذا أصلتها ضربا أو تمزيقا، وأوسعتها تدميرا وتحريقا، عادت إلى حظائرها وكأنها لم تعان غزوا، ولم تلاق عدوا!
أفتراك يا ماريشال، قد تعهدت للإنجليز بأن تعينهم على تمرين طياريهم في إصابة الأهداف وتسديد المرامي، فنثرت لهم الطيارات في كل مطار؛ ليتعلموا فيها الرماية في كل ليل وفي كل نهار؟
ألا خبرني بعيشك؟ لماذا حشدت كل هذه الجيوش؟ وهي لا تضطلع من أعباء الحرب بأكثر من التسليم! ولماذا أقمت كل تلك الحصون؟ وهي لم تقم بأكثر من تفتيح الأبواب للغازي المغير! ولم أرصدت كل هاتيك الموبقات الفواتك من آلات الحروب؟ إذ هي لم تصنع أكثر من أن تعد نفسها غنيمة للعدو باردة برود الثلج!
ثم ماذا كنت تصنع أنت يا ماريشال؟
لم يسمع أحد قط أنك قمت بهجمة، أو تحركت لاتقاء صدمة، أو أمددت فيلقا رق حبله، أو أنجدت جيشا انهد حيله!
أتراك قد جئت إلى شمال أفريقيا لتتفرج في هذه الحرب، لا شأن لك بوضع خطة، أو تدبير مكيدة أو سن منهج أو إصدار أمر أو المشورة، ولو ساعة الضيق برأي؟
صدقني يا ماريشال فنحن أهل الجنة لا نكذب أبدا صدقني إذا قلت لك: إنك لو كنت ماريشالا في رواية مسرحية وجرى في أحداثها بعض هذا الذي يجري في لوبيا، لكان لك من الأثر في عالم الحقيقة أكثر مما رأى العالم منك في هذه الحرب، إذ لم يكن أقل من أن يصدع الماريشال الممثل كرسيا، أو يكسر طبقا أو يمزق ولو بأسنانه ستارا!
صدقني يا ماريشال إنك لو كان في موضعك هر لصارع أو حمام لدافع وقارع، أو طفل لنضح أو جدي لنطح!
على أنك لم تصنع شيئا من ذلك قط يا حضرة الماريشال الغازي الفاتح العظيم.
جرزياني لقد قتلتني مرة واحدة، وها أنت ذا تذوق أمر ألوان القتل كل يوم عشرين مرة!
ها أنت ذا يا سند إيطاليا ومعقل آمالها في ملك روما القديمة لا تفتأ تبوء بالفشل بعد الفشل، ولا تفيق من لطمة إلا لتلقى لطمة، ولا تجوز بفضيحة إلا لتستقبل فضيحة، أرأيت عذابا أشد من هذا العذاب وعقابا على الظالم أوجع من هذا العقاب؟
اللهم إنني لم أكتب إليك هذا شفاء لحقد، أو بذلا لضغن، فقد علمت أننا معشر أهل الجنة لا نحقد ولا نطغن، ولكن بسطا للعظة وضربا للعبرة، وفي الختام أرجو يا حضرة الماريشال أن تنوب عني في إزجاء أخلص التهنئات إلى صديقك موسوليني قيصر الرومان العظيم!
جنة عدن في 2 من المحرم عام 1360 (طبق الأصل)
كتاب مفتوح
من جرزياني إلى القائد السيد عمر المختار
سيدي المختار
السلام عليك ورحمة الله، ولا شك أن هذا إخبار لا دعاء، فأنت من مثواك في الجنة في رحمة دونها كل رحمة، وفي سلام ليس يعدله سلام.
وإني أشكرك شكرا جليلا على كتابك الذي فرضت لي فيه ضميرا، إذ ظننت أنني أتمثلك في مسائي وفي صباحي، وفي غدوي وفي رواحي بما أسلفت إليك وما أجرمت عليك، إذ الواقع أنك لم ترد لي على خاطر ولم تسنح لي قط في بال، اللهم إلا ساعة فضضت كتابك، وأزلفت عيني إلى توقيعك، في هذه اللحظة ذكرتك لأول مرة وذكرت ما كان مني إليك.
على أني جد مشغول عن مثل هذا الذي كان مني لك ولغيرك ممن تمكنا من نواصيهم، وسلطتنا القوة عليهم، مشغول عن هذا كله بالجزع على ما كان إلى الآن، والهول والذعر مما يكون بعد الآن.
ولقد تكشفت لنا - نحن قادة الفاشست - في ميادين الحرب والسياسة جميعا، تلك الحقائق القاسية الأليمة بعد طول احتجاب، ومن هذه الحقائق أننا لم نخلق لحرب ولا لقتال، بل لقد عوضنا عن هذا بما طبعنا عليه من الفن الجميل، وما رزقنا من نصيب فيه جليل، فنحن أدق الناس إذا أحفرنا أو صورنا، ونحن أجود الخلق إذا غنينا أو عزفنا، وأبرع العالمين إذا رقصنا أو قصفنا، وأمهرهم وعدنا فأخلفنا، وما لنا وراء ذلك بالحرب ولا بغير الحرب يدان!
على أن الشيطان زين لنا الفتح والاستعمار، ويسر لأنفسنا الحرب في سبيلهما، وقد وفى بادئ الرأي بعهده وبر بوعده، فقادنا أولا إلى بلاد لا يزال أهلها يعيشون عيش الحيوان، ولا يزال كثير منهم يسكن الغابات كما يسكنها الحيوان، ولا يأكلون إلا بما يأكل هذا الحيوان، أما اللباس إن كان لا بد من لباس، فشقة تواري السوءة، وأما السلاح فسيوف أو حراب، إن لم يستغن عنها بالمخالب والأنياب!
وقد صبحنا هؤلاء بما عندنا من كل فاتك قاصف، ومدمدم عاصف وبكل ما يتطاير بالحمم، ويرمي عزيفه بالصمم. فسرعان ما سلموا واستكانوا وسرعان ما خضعوا ودانوا، وبعد لأي أطبقنا على طرابلس، ثم ما يليها من صحراء لوبيا، حيث القوم أهل بادية؛ الشعير طعامهم، والخيام مثواهم ومنامهم، وأما مسعدهم من السلاح فظبي السيوف وأسنة الرماح، فإذا كان في أيدي بعضهم شيء من البنادق القديمة، فمما لا غناء فيه ولا أضحت له قيمة، وأما مركبهم إذا اضطربوا في صحاريهم، فالإبل المهزولة تحمل معهم متاعهم وزادهم، وعدتهم وعتادهم، لقد أطبقنا على هؤلاء ثم على هؤلاء، وصببنا عليهم من النار ما لا يثبت له الحديد المصفى - الفولاذ - فكيف بالإنسان!
ثم رمتنا أهل هذه البلاد بكل متعطل في بلادنا ومن لا يجد فيها إلى القوت سبيلا، وكلما شام هؤلاء المرتزقون رقعة من الأرض تنطق ولو بالنزر من الماء، وتخرج حتى الرقيق من النبات، أجلوا أولئك المساكين عنها ودعوهم إلى بطن الصحراء!
ثم بعد سنين غير طوال أغرنا على معاهدتنا الحبشة وزميلتنا في عصبة الأمم، وسلطنا على أهلها كل ما أخرج العلم من الفاتكات المدمرات، ولم نتأثم من أن ننضح على العدو الغاز السام وغاز الخردل، إذ هم لا يعلمون من أمر ذلك شيئا، ولا يدرون من أسباب الوقاية منه والعلاج من أذاه كثيرا ولا قليلا.
وكذلك أصبحت لنا إمبراطورية، ولكنها ليست كل إمبراطورية الرومان! وأخيرا فهذه جارة صغيرة، تشرف علينا ونشرف عليها عبر البلطيق، ولقد آمناها من كل غارة وكفلنا لها السلامة من بغي أية جارة، حتى إذا سكنت واطمأنت بهذا العهد؛ جعلنا نتربص بها الغفلة ونرتصد للغرة، حتى إذا أخذ عينها الكرى، أخذناها بجيوشنا وأساطيلنا وطياراتنا بياتا، فهبت مذعورة لا تدري أين المفر، ولا كيف السبيل إلى النجاة! ولعمري لم نرحم حتى النفساء،
1
ولم نشفق على وليدها الذي لم يفتح عينه على الدنيا إلا منذ ليلة واحدة ونهار!
إذن فنحن دولة عظيمة؛ لا نقل عن أعظم دول الأرض في البأس والسلطان، فليت شعري لماذا لا يمضي السيف ونمضي على اسم الإمبراطورية الرومانية، غازين فاتحين ذات الشمال وذات اليمين؟
وترى ما الذي يعوزنا لنكون كذلك؟ وهذه جيوشنا المدربة على خير الأساليب العسكرية تعد بالملايين، وقد زودت بأكفأ الأسلحة وأمضاها في الحروب الحديثة، وهذه طياراتنا إن شئنا حجبنا بها وجه الشمس عن العالم، وهذه أساطيلنا تغطي ثبج البحار غادية رائحة؛ لا تخشى صولة ولا تهاب عادية حتى لقد أضحى البحر المتوسط - بفضلها - بحيرة إيطالية، لا يدافعنا عن سلطاننا فيها إنس ولا جان!
ثم هذه حلل ماريشالات وجنرالات وأمبرالات وكولونيلات ... إلخ، قد «فصلها» خياطونا المهرة «تفصيلا» بديعا، ومن العجيب أنها حين أفرغت على قادتنا في البر والبحر والهواء، بدوا فيها وكأنهم ليوث الغاب، قد سلخوا الأعمار في الصيال والضراب، وشقوا الصفوف وتجسدوا في الجلى مواقع الحتوف، فأوقعوا بالعدو وعزموا أو رضوا بالموت وما سلموا!
وهذه فرنسا فلنضربها الضربة القاصمة ولو من الخلف، ولو في ساعة قدر عليها الانهيار، فذلك في تحقيق الحلم الروماني لا ميزان له ولا عيار.
إذن فهلم يا ماريشالات، وهلم يا جنرالات، وهلم يا أمبرالات، وهلم يا سائر الضباط، وهلم يا رجال الفاشت، هبوا هبا للقتال، وامضوا للكفاح وللنضال.
ثم إذا فرنسا تسقط سقوط البقلة الذابلة، وما جرد أصحابنا سيفا ولا شرعوا رمحا، وإذن فلقد عقد لهم النصر على فرنسا العظيمة، وحقت لهم المغانم التي لا يبلغها حصر، وكفلت لهم تونس والجزائر، جزاء هذا النصر الباهر! ولا تنس أن تونس والجزائر تقعان في رقعة الحلم الروماني العظيم!
وهذه اليونان على رمية حجر من مستعمرتنا الجديدة ألبانيا، ولا شك أن اكتساحها بجيشنا الباسل، وسلاحنا الفاتك القاتل وعدتنا المجلجلة وآلات حربنا المزلزلة، لا يستهلك أكثر من أسبوع واحد من عمر الزمن، ولكي تقطع عليها سبيل العذر، فلننذرها في السحر أنها إن لم تجبنا دهمناها عند الفجر!
أما باقي الحلم الروماني فقد عقد الأمل في تحقيقه بسيف داعيكم الماريشال جرزياني وعسكره الذي لم يتهيأ مثله عدة وعددا، لا للإسكندر الأكبر ولا لهنيبال ولا لبونابرت.
إذن فلنفتح مصر حالا، وليسلك منها فورا إلى السودان، والملتقى مع دوق داوست في حدود الحبشة بمشيئة الدوتشي لا بمشيئة الله!
ثم ماذا بعد هذا؟
لقد أبت هذه اليونان الصغيرة الضعيفة لا تفتأ تولينا نكبة بعد نكبة، ولا تألونا كل يوم مائة ضربة وضربة، وكأنما لقطت الأرحام في بلادنا الأولاد ليستأسروا لجنودهم، وكأنما قامت مصانعنا هذه السنين ذات العدد على صب المدافع الثقيلة والخفيفة، وصنع الدبابات والسيارات وسائر أسباب الحرب؛ لنكون مغانم لهم، وهذه ألبانيا تسلم لهم أمنع ما فيها من حصون ومعاقل، كانت أقوى درع لمن وراءها من الكتائب والجحافل!
أما أفريقيا وما أدراك ما أفريقيا! أفريقيا وا خيبتاه، هي مناط الحلم العظيم.
فأما شمالها فهذه لوبيا قد طارت، وهذه بني غازي قد طاحت، وهذا طريق النصر الذي عبدناه لاجتياح مصر، لقد أضحى لنا طريق الهزيمة والفرار! وربما سلمت طرابلس قبل أن يصل إليك هذا الكتاب، وكذلك يخرج عن أيدينا آخر معقل على شط بحر الروم أو بحر الإنجليز؛ لا بحر الطليان على كل حال!
وأما ملكنا الكبير في الأريتريا والحبشة والصومال، فهذا ويفل الجنرال بالكفاية لا بالبذلة العسكرية، هل جاء نبأ النمر الجائع وقد تمكن من فريسة يحمل لها الشر ويضمر الاضطعان؟ ها هو ذا يبقر بطنها بمخلبه، وينهش رأسها بأنيابه، وتارة يضغم كتفها حتى تلتقي أسنانه، ويلعق عظمها حتى يدمي لسانه، وكذلك يمزق ويفل ملكنا كل هذا التمزيق، أو شرا من هذا التمزيق!
أرأيت يا سيدي المختار أن الحلم الروماني إنما كان حقا؟ على أننا نهب اليوم من نومتنا تيك أهول هبوب!
تقول لي في كتابك: إنك لو كنت ماريشالا في رواية تمثيلية لكسرت على الأقل طبقا أو صدعت كرسيا، أو قرضت بأسنانك ستارا! ألا فاعلم يا سيدي أن الله قد عقد لساني في هذه الحرب، ورمى يدي بالشلل وهيهات الفعل أو القول لأشل اليد معقود اللسان!
وأخيرا، فإذا كانت هذه الأهوال الكارثة قد علمتنا - نحن معشر الفاشست - شيئا فقد علمتنا شيئا واحدا، هو أن الحرب ليست جيوشا تزم الأفق، ولو زودت بجميع الفواتك المهلكات من مدافع وبنادق ودبابات، ولا هي أساطيل تزحم نواصي البحار، ولا هي طيارات تسد جو السماء، إنما الحرب أولا وآخرا هي ... رجال!
ولقد أذكرني هذا ما روي عن ذلك الشجاع العربي - يعني عمرو بن معد يكرب - وقد تهادن ابن الخطاب سيفه يعني الصمصامة، وقد طارت لها شهرة عظيمة، فقال له أمير المؤمنين: لقد رأيت الصمصامة ولكنك لم تر اليد التي تشرب بها؟
سيدي المختار!
لي إليك حاجة ليس قضاؤها عليك بالأمر العسير، تلك بأنكم أهل دار سؤلهم مقضي ودعاؤهم مستجاب، فادع ربك أن يقبضني ولكن على فراشي، فإنني لا أرى من العدل أن أموت كما يموت الجندي في ميدان القتال!
وإذا تفضلت وكتبت إلي فعنواني الجديد: وادي لظى - جهنم يحفظ بشباك البوستة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
17 من يناير سنة 1941
المخلص
جرزياني (ترجمة طبق الأصل)
رمضان
أدركنا رمضان وأهل مصر يستصبحون بالشمع إلى أن طغى عليه اتخاذ الكيروسين، ثم نحن هؤلاء اليوم نستضيء بالكيروسين وبالغاز وبالكهرباء، فكيف كان حظ رمضان من الأضواء والأنوار في ذلك الزمان، وكيف كان حظه منهما في هذا العام؟
لقد كانت القاهرة والإسكندرية وسواهما من الحواضر الكبرى تستحيل إذا جن الليل في رمضان كتلة من النور، النور في أفنية الدور وفي غرفها وحجراتها، وعلى رءوس الأبواب. ثم في الشوارع من المصابيح العامة، ومن المصابيح التي يضطرب بها الأولاد صبية وصبايا، وأولئك يغنون: «ياما دللوك، يا وردة في السوق، وباعوك يا وردة ...» إلخ، وهؤلاء يغنين: «وحوي، وحوي، إياحة، بنت السلطان إياحة، لابسة القفطان...» إلخ.
ولا تنس أن السيدات كن إذا برزن إلى الطريق في رمضان لزيارة الأهل والصديقات سعين وبين أيديهن الخدم يحملون المصابيح الكبيرة يتألق كل منها بطائفة من الشموع، فتزيد الطريق نورا على نور!
أما نوافذ المناظر فمفتحة، ينبعث منها نور المصابيح، كما ينبعث منها النور الأعظم، أعني ترتيل القرآن الكريم، ولا تنس حظ المساجد الكبيرة على وجه خاص، من ذلك النور والإشراق في طرفي الليل جميعا، ففي صدر الليل صلاة العشاء، ثم صلاة التراويح، ثم تلك الأناشيد البديعة التي يتغنى بها المؤذنون فرادى وجماعات، فإذا كان السحر فتحت أبواب المساجد وأضيئت فيهما الثريات، وأقبل عليها الناس بعد الفراغ من سحورهم، فانتظموا في حلق يستمعون إلى دروس العلماء في تفسير كتاب الله، وفي حديث رسول الله وفي أحكام الشرع الحكيم، حتى إذا قال العلماء: «والله أعلم»، إيذانا بختام الدرس، أسرع الناس فانتظموا صفوفا؛ مولين وجوههم شطر الدكة في بهرة المسجد؛ ليسمعوا صوت أشهر قارئ في الحي، وناهيك بالشيخ حنفي برعي في مسجد السيدة فاطمة النبوية، وبالشيخ أحمد ندا في مسجد السيدة زينب - رضي الله عن السيدتين الكريمتين - ورحم الشيخين العظيمين!
وما دام حديث رمضان قد استدرجني إلى ذكر الشيخ أحمد ندا فلا بد لي من أن أقول فيه كلمة.
1
لقد ولدت في حي السيدة زينب، وساخت فيه مدة الفتوة، وصدرا من سني الشباب، ولست أذكر أني من عهد الصبا تخلفت في ليلة من ليالي رمضان، إذا كان السحر عن طلب مسجد السيدة زينب - رضي الله عنها - أستمع أولا إلى درس الحديث من أستاذنا العلامة الجليل الشيخ محمد السمالوطي عليه رحمة الله، حتى إذا فرغ منه في الوقت المقسوم، استوى الشيخ ندا على الدكة، وأنشأ يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم
طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى .
2
وقد انصقل بقراءة الليل صوته، وحلا نبره، وسلس له منه ما كان جامحا، ولأن ما كان في أول الليل عاصيا، وأطلقه في آي السورة الكريمة أبيض ناصعا كأنما صبغ من ذوب الفضة، أو كأنما اعتصر من صفحة البدر ليلة تمامه، لقد أسمعه في سورة طه كل ليلة، وفي كل ليلة يخيل إلي أن جبريل ينزل من جديد، بسورة طه على محمد
صلى الله عليه وسلم
وهو يجول في فنون النغم فارسا خلا من هيبة الميدان، وتوارى الكماة خشية الضراب والطعان، ولا يزال كذلك حتى يملأ الآذان طربا، ويشيع في النفوس ما شاء الله أن يشيع من لذة وأريحية وفرح حتى إذا كان من مطلع الفجر على دقائق، نهض فوقف على الدكة، وصاح في مقام الست بأعلى صوته، «يا أمة خير الأنام ومصباح الظلام، ورسول الله الملك العليم العلام، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.»
وهنا يطمئن الشيخ اطمئنانة قصيرة، أرجو ألا تحسبها استراحة من ذلك الجهد العنيف، وإنما هي استجمام للجهد الأعنف، أستغفر الله؛ أرأيت إلى الليث كيف يجتمع للوثاب؟ وكذلك كان الشيخ - عليه رحمة الله - فسرعان ما تراه قد وقف على أصابع رجليه كأنه يريد أن يطول ما لا يطال، ويستأنف الدعاء: «وأدخلنا وإياكم الجنة.» فإذا صارت إلى حلقه كلمة «إياكم» يجعل يرتفع في مد «الياء» ثم يرتفع؛ ثم يرتفع ثم يرتفع، متحديا ما رسم أصحاب الفن لنهايات الأصوات في سموها، إذ الناس شاخصون بأبصارهم إلى السماء لينظروا مشدوهين إلى أي مدى يبلغ الشيخ، حتى إذا جاز هذه الطبقات جميعا، وبلغ «الجنة»، زر حلقه على نونها فعصرها عصرا شديدا، وكأنه لا يتكلف في هذا الجهد المهول شيئا حتى إذا بلغ هذا المدى خيل إلى الناس أنهم والمسجد الذي يضمهم بأرضه وسمائه، وعمده ودككه ومنبره ومقاصيره، قد ارتفعوا كتلة واحدة حتى وصلوا إلى جنة عدنان، ونالوا أعظم ما ينال مؤمن من الرضوان!
ثم يهوي من فوره إلى القرار فيقول: «بمنه وكرمه وجوده، دار السلام بسلام» ثم يعود إلى محلقه فيصيح: «طلع الفجر!» الله أكبر! الله أكبر! ماذا صنعت لعمري أيها الشيخ؟ لقد رن رنة ملأت الآفاق جميعا، حتى لو أنه أطلقها في غسق الليل لانفجر من حلقة الفجر، ولحق على المؤمنين أن يخفوا لصلاة الصبح، وما شاء الله كان!
ثم هتف في صوت هادئ وادع: «فاستقبلوا الآن واستمعوا الأذان بعده ...» ثم أذن للصلاة ...
هذه بعض الأنوار التي كانت تموج فيها ليالي رمضان حسا ومعنى، ولست أحب أن أقارن بين ما كان يكون في ذلك الزمان، وبين ما صارت إليه ليالي رمضان في هذا الزمان، إنما قصدت إلى العبرة في المقارنة بين أضواء ليالي رمضان في عصر الشمع والكيروسين وبين لياليه في هذا العام؛ أي في عصر الغاز والكيروسين والكهرباء.
لا يخيم الليل حتى يكاد يستحيل ما بين آفاق الأرض منجما من مناجم الفحم، ظلمة وسوادا، وعالم كأنما قد غط في المداد، لإعلان أبشع ألوان الحداد.
ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
3
صدق الله العظيم.
وهذا فوق عواء الصفارة، إيذانا بمقدم الغارة.
وبعد، فهذا ما صنعت هذه الحرب، وهو على ثقله كأهون ما تبتلى به الحروب غير المقاتلين في هذا الزمان.
على أننا لا ينبغي أن نبتئس بمجرى القدر في هذا الشهر العظيم فهو شهر الصيام، والصيام كف النفس عن الطعام والشراب، أي: عن غذاءي الحياة بعد التنفس في الهواء، وذلك - والله أعلم - ابتلاء للمؤمنين، وامتحان لمبلغ جهدهم واحتمالهم في طاعة الله، وتعويدهم الصبر على معاناة المشاق في هذه الحياة، فلا يفسدهم طول الترف والتقلب في المناعم والاسترسال في معاطاة اللذائذ، فإن هذا العيش أدعى إلى تكسر النفوس، واسترخاء العزائم وعدم القدرة على احتمال الشدائد، وإن أمة يصير بها الأمن والرخاء إلى هذا المصير، لحقيقة بالتقلص والضمور فالانقراض، والعياذ بالله!
ونحن ذيادا عن الشرف والاستقلال والحرية قد نلقى المشاق وأكثر من المشاق، فمن الخير لنا - لو تدبرنا - أن نمرن النفس من الآن في خوض المشاق ومعاناة الشدائد، حتى إذا كان يوم الردع - لا أذن الله - لاقيناه في رشد وعزم وصدق يقين:
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
4
صدق الله العظيم.
سعد الرجل
ولست أعني بالرجل من ليس امرأة ولا غلاما أو فتاة، ولست أعني بالرجل كل من يضعون هذه الألوان من الثياب التي ينمازون بها عن النساء في كل مكان، إنما أعني بالرجل ذلك الكفء لأن يحمل هذا الاسم الضخم؛ هذا الاسم النادر في ضواحي الزمان.
إنما نعني بالرجل ذلك الواثق بوجوده؛ المؤمن برجولته المتكئ على نفسه، الذي لا يسمع إلا بأذنه ولا يرى إلا بعينه، ولا يفكر إلا بعقله، ولا يمضي في الأمر إذا مضى إلا بوحي من سلطان العقل والضمير.
وأخيرا فإنما أعني بالرجل، ذلك الذي لا يتجاوز عن رجولته لأي غرض، ولا ينزل عن سلطان نفسه لأي اعتبار، بل إنه ليمضي لوجهه مطلقا، ولو كان صفا وحده، والناس جميعا بإزائه صفا آخر، وكذلك سعد زغلول، لقد كان - رحمة الله عليه - رجلا كل الرجل كان رجلا بأضفى معاني هذه الكلمة، فأصبح من حقه أن يفسح له مكان في أعلى جبهة التاريخ.
وبعد، فليست الرجولة شيئا يدرك بالكسب، أو هي مما يضفيه الناس على المرء، إنما هي غريزة كسائر الغرائز يفطر الله عليها من يشاء من خلقه، فهي من نفسه الباطنية بموضع جوارحه الظاهرة، ما له في وجودها ونشأتها رأي ولا خيار!
نعم، لقد تنمو هذه الغريزة وتشتد بطول المعالجة والمراس، ومعاناة الصحاب ومواجهة شدائد الحياة، لقد يكون الأمر كذلك ولكنها - كما قلت - لا تنال بالكسب، ولا تجعل بالجعل ولا تكون بعد أن لم تكن، ولا يسبغها الناس ولم يأذن بها الله!
ولقد كان سعد زغلول رجلا بأوسع ما يترامى إليه الذهن في معنى هذه الكلمة، ولقد تجلت فيه هذه الرجولة من أول نشأته إلى غاية حياته، ولا محيص من أن يكون الأمر كذلك، اللهم إلا أن يتبدل الخلق، ويحول الطبع وتنصل الغرائز نصول الخضاب، وهذا في سنة الكون مما يتصل بالمحال!
لم أعرف شيئا عن نشأة هذا الرجل في الكتاب، ولكني أعرف غير قليل عن نشأته في الأزهر، وما أعرفه في هذا الباب فرواية عن لداته وقرنائه الذين لابسوه وعايشوه، وانتظموا معه في حلق الدروس، وذاكروه في العلوم صدر الليل وأعقاب النهار، وهم ولا ريب ثقات عدول، وقد وكد الثقة برواياتهم ما شهدت بنفسي بعد ذلك، أيام كان يواتيني الحظ بشهود مجالس هذا الرجل العظيم.
وقبل أن أعرض لرجولة سعد طالبا في الأزهر، أحب أن أقرر شيئا لعله ينفع في هذا المقام وغير هذا المقام: ذلك بأن جمهرة الناس في كل مكان، درجت على أن تجري أحكاما معينة على قضايا معينة، لا ينحرفون بها عنها ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولا يجادلون فيها البتة ولا يرونها موضع الجدال، كما نشئوا على عادات وتقاليد تنزل بعضها من نفوسهم منزل التقديس، على أنهم لم يعتنقوها ويلتزموها عن تدبير أو تفكير، وإنما اتخذوها وحرصوا عليها الحرص الشديد؛ لأن من تقدمهم ومن حولهم قد اتخذوها وحرصوا عليها الحرص الشديد، وتلك القضايا تدعى في عرف أهل العلم بالمسلمات وناهيك بأهل الأزهر خاصة في التسليم بهذه المسلمات! على أن رجولة سعد الطالب الأزهري أبت عليه أن يخضع بادي الرأي لما يخضع له من حوله، ويسلم بما يسلم به من يأخذ العلم معهم، ومن يأخذ العلم عنهم، فجعل يناقش كل قضية تعرض له من قضايا العلم، سواء منها المسلمات وغير المسلمات، ويجيل فيها الذهن الحر لم يقيده قيد، ولم يحد من جولاته في العلل والأسباب حد، وهكذا حتى يخرج له الحكم الذي هداه إليه البحث والتدبير، وهكذا كان سعد من المثل الأولى في الاتكاء على الذهن أولا، ثم في حرية النظر والتفكير، ثم في الجهر بما يعتقده هو لا بما يعتقده غيره من العالمين.
ولست أشك في أن هذه الرجولة وإن شئت قلت: هذه الألمعية، أو قلت: هذه الحرية التي طبعه الله عليها هي التي عدلت به إلى دروس السيد جمال الدين، وكذلك لست أشك في أنه لقي بهذا وبهذا في مطلع حياته عنتا كبيرا، على أن هذا العنت لم يثنه قط عن وضح السبيل.
ولا شك عندي أيضا في أن هذا: طول النظر، وتقليب الذهن، وإثارة المناقشة فيما اطمأنت إليه جمهرة الناس واعتنقته بظهر الغيب هو الذي قوى روح الجدل فيه، حتى بلغ منه غاية الغاية، فلقد كان سعد - رحمة الله عليه - أحد الناس قولا وأسطاهم في الحوار حجة.
وهنا لا أجد علي حرجا في رواية نكتة ظريفة عند سعد، فلقد كان - رحمه الله - يحب النكتة في موضعها، ويرتاح إليها في مقامها ويرسلها جزلة نافذة، حتى وهو في أحد سورة الخطاب!
حدثني المرحوم محمد باشا صالح - المستشار السابق في محكمة الاستئناف - وكان من لدات سعد الذين يحضر دروس الأشياخ معهم ويستذكرها وإياهم، قال: وعرض ذكر سعد وشدة جدله، فقلت له ذات يوم: يا شيخ سعد! إن هذه المناقشات الكثيرة تضيع من وقتنا، وتستنفذ قدرا كبيرا من جهدنا فلا تكاد تبقي لنا فضلا للمطالعة والاستذكار، فهلا تركناها وأقبلنا على استذكار ما بين أيدينا من دروس؟
فأجاب من فوره: وهل تظن أن هذه المناقشات أقل جدوى في تفتيق الأذهان، والفسح في الملكات وطبع الذهن على النظر والتماس العلل من استذكار الدروس؟ فقلت له: كلا! بل هي مضيعة للوقت، صارفة عن طلب العلم! فقال: ما دام هذا رأيك فهلم إذن نتناقش في هل المناقشة ضارة أو نافعة!
وحسبنا هذا القدر في رجولة سعد طالبا في الأزهر، ونخلص منها إلى رجولته في المحاماة، فلقد كان في رجولته وجرأته في الجهر بقوله الحق مضرب الأمثال، أما رجولته قاضيا - مستشارا في محكمة الاستئناف - فقد يعتمد في قضائه الحق ولا يعتمد غير الحق، ويحكم بالعدل ولا يحكم بغير العدل، لا يبالي غضب من يغضب، بل لا يبالي أن يخالف رجال القضاء إلى غير ما اطمأنوا إليه من فهم ظاهر القانون؛ لأنه إنما تهدى إلى تحقيق العدل بفهم روح القانون، أما سعد الوزير - الناظر - فلقد كان الأسد حق الأسد، وإن شئت تعبيرا أشد وأقوى قلت: كان الرجل كل الرجل!
لقد أبت عليه رجولته أن يخضع لقول المعارف «دنلوب» كما خضع له جميع الوزراء - النظار - من قبل، بل لقد سطت هذه الرجولة بدنلوب وما زالت به لا تألوه ردا وصدا، حتى قبع من الديوان في أفحوصة، لا يسمع له قول ولا يمضي له في شأن المعارف رأي!
أما رجولة سعد في الزعامة فهذا ما أدع تفصيل القول فيه لأصحابه الذين كانوا لاصقين به في كفاحه العظيم، وإن كنت أعرف من ذلك الشيء الكثير.
لقد كان سعد زغلول رجلا حقا، رجلا يعز أكفاؤه في التاريخ الطويل وصدق شوقي بك - رحمه الله - في قوله: «والرجال قليل.»
غدوة وروحة
لقد يئسوا منه كما استيأس هو منهم، وبلغ برمهم به واصطغاؤهم عليه غاية المنتهى، ولم يبق في علاجه بما يريحهم منه حيلة، فلقد عرضوا عليه أن يملك عليهم، أو أن يصفوه بجلائل أموالهم فأبى إلا مضيا في شأنه، إذن فلا بد من أمر يكفيهم كل هذا، ويكفل الدعة والراحة لهم، وها هم أولاء يحشرون في ناديهم ليأتمروا به، وهذا الشيخ النجدي يطلع عليهم من غير موعد فيكون نصيحهم وجماع أمرهم، وأقبل بعضهم على بعض يتشاورون، فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من هذ الموت حتى يصيبه ما أصابهم، فلا يرى الشيخ النجدي هذا الرأي!
ثم يقول آخر: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذ غاب عنا وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت، وإذا الشيخ النجدي لا يرى هذا الرأي أيضا!
ثم يقول ثالث: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا
1
فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر معشره على حرب القوم جميعا، ويقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره، يتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
وينزل الله تعالى على رسوله
صلى الله عليه وسلم
في هذا اليوم:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
2
ويقول - عز وجل:
أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون
3 * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين .
4
ولما هبط الليل جرد أولئك الفتيان إلى داره في أيديهم سيوفهم مشهورة، وأقاموا يرتصدون له على بابها حتى يخرج، ثم إذا هو يخرج فيعفر بالتراب وجوههم، وفي غشية أبصارهم يتسلل إلى دار صديقه ما يراه منهم أحد.
فإذا صار في بيت صاحبه أخبره بأنه مهاجر لساعته وآخذه معه، فإذا سأل صاحبه عن وجهه تعذر أولا؛ لأن بنتيه حاضرتان، ثم اطمأن فباداه بمهجره.
وخرجا من خوخة في ظهر الدار، ولم يمضيا قدما إلى وجههما، فإن الأقوام لا بد طالبوهما في كل سبيل، بل عدلا إلى غار يعصمهما من العيون حتى تسكن حدة الطلب ويترسل بينهما وبين البلد بعض الأبناء ويأتونهما بالطعام، ويفضون إليهما بما يتسمعون في شأنهما على الأعداء.
ولما فتر حد الطلب بعد ثلاث أيام انطلقا ومعهما دليل يبتغي بهما من السبل، ويسلك من الدروب ما لا يبتغي السيارة ولا يسلكون، بل ما لعل جمهرة الناس لا يعرفون.
وبعد بضع عشرة ليلة طال فيها الترقب وحذر الطلب، يبلغ وصاحبه المأمن وهذا المأمن المعز المانع هو يثرب.
وكذلك كان خروج محمد
صلى الله عليه وسلم
من بلدة مكة بعدما عانى من قومه ما عانى، واحتمل من أذاهم وعنتهم ما احتمل، وكذلك أنجاه الله - تعالى - من القتل الذي بيتوا، لم تخالجهم فيه رحمة ولم تحشمهم منه رحمة!
نحن الآن في يثرب وقد مضى على تلك الهجرة المهولة ثمان سنين، ثمان سنين لا أكثر، فليت شعري ماذا نرى وماذا نسمع؟
نرى شيئا لا يكاد يتسع له البصر، ونسمع جلجلة لا تكاد تحتمل موقعها طبلة الأذن ...
هذه صلصلة السيوف وهذه قعقعة اللأم
5
والدروع، وهذا صهيل الخيل، وهذا هدير الإبل، وهذا لجب يحكي جرجرة الآذي
6
في اليوم العاصف، وهذه الرايات المرفوعة، وهذي كتائب الجند تتلوها الكتائب من رجال وفرسان كأنهم لم يخلقوا إلا للقراع والطعان، وعلى كل كتيبة علم من أعلام القادة؛ وكمي من الكماة الزادة والغطاريف السادة، وهذا محمد صاحب تلك الهجرة على جيش كثيف من المهاجرين والأنصار:
يمشون في زعف كأن متونها
في كل معركة متون نهاء
بيض تسيل على الكماة نصولها
سيل السراب بقفرة بيداء
فإذا الأسنة خالطتها خلتها
فيها خيال كواكب في ماء
أبناء موت يطرحون نفوسهم
تحت المنايا يوم كل لقاء
ولكن أين الطلبة وأين المنتهى؟ الله ورسوله أعلم!
وما لأحد يسأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن هذا، وهو إما قاتل فناقض من بناء الشرك حجرا، ومقيم في صرح التوحيد حجرا، وإما مقتول وقد علم أن الجنة تحت ظلال السيوف؟
ثم تتبين الطلبة ويسفر الوجه، فإذا هو البلد الذي خرج منه النبي ذلك المخرج منذ ثمان سنين، هو مكة مثوى قريش الذين آذوه وصدوا عن سبيله، وكادوا له ولصحبه الأقربين، بكل ما اتسع له ذرعهم من الكيد، وائتمروا أخيرا بقتله وتفريق دمه في القبائل فلا يطلب بالثأر له أحد!
ومكة البلد الحرام الذي يقوم فيه بيت الله العتيق، وهو قبلة المسلمين في صلواتهم أنى كانوا من شرق الأرض وغربها، والذي فيه وما حوله تقام فرائض الحج، التي أوجب الله تعالى على كل مستطيع من المسلمين.
ترى ما عسى أن تصنع قريش، وقد قدم إليهم في عقر دارهم عدوهم القديم؟
تالله لقد كانوا أضعف من أن يخرجوا لحربه، وأذل من أن يناصبوه كيدا أو عداوة، بل لقد ابتغوا النجاة بأنفسهم من حيث أومأ هو إلى مواطن النجاة، فكانوا بين ثلاثة رجال: إما لائذ بالبيت الحرام، وإما عائذ بدار أبي سفيان، وإما مغلق بابه عليه، فهو حلس الخدر للنساء!
7 «الله أكبر! الله أكبر! أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله.» وهكذا قام بلال يرفع بها صوته في قلب البيت الحرام بعيون آلهة القوم - أصنامهم - وأسماعها إذا كانت لها عيون وكانت لها آذان!
الله أكبر الله أكبر، إن في ذلك لعبرة العبر!
انظر كيف خرج محمد من بلده وكيف عاد إليه ولم يطو من عمر الدهر أكثر من ثمان سنين!
لم يرق جيشه اللجب دما، اللهم إلا نطاقا قطرتها حماقة بضعة نفر لم يكونوا أكفاء لحياة الإسلام!
لقد طالما تحدت قريش رسول الله وسألوه أن يسأل ربه أن يمتحنهم بالآيات الكبرى، التي امتحن بها الأمم قبلهم، ولكن الرسول لم يفعل بل لقد آثر احتمال الكيد والأذى، علما منه بأن رسالته أجل من أن تزيد بالخسف والدمدمة والعصف والتدمير التي كانت أليق بخوالي العصور، بل هي رسالة الحجة والمنطق وخطاب العقل ولغته إلى ألوان العبر، وتمييز النفع من الضر، والتفريق بين الخير والشر وهكذا.
على أن من هؤلاء الذين سألوا محمدا
صلى الله عليه وسلم
أن يدعو ربه أن يهلكهم، ويأخذهم بما أخذ به الأمم قبلهم؛ مبالغة منهم في التحدي وإظهار التكذيب للدعوة، من هؤلاء من جاهدوا في الله حق الجهاد، وأبلوا في سبيل هذه الدعوة أحسن البلاء.
أما أولادهم جميعا وحفداتهم فهم رافعو راية الإسلام، ومذكو حضارته الغالية النبيلة في كل مكان.
ولعمري لم تفتح السرايا ولا الجيوش كل هذا الفتح، وإنما كان الفاتح الأول هو القرآن.
بين الحرب والسلام
لست أرتاب، ولعل كثيرين من القراء لا يرتابون كذلك في أن دعاية تقوم الآن في مصر، تحفزها إلى الدخول عاجلا في الحرب، وهذه الدعاية تظهر قوية آنا وضعيفة آنا؛ صريحة حينا وقائمة على التعريض حينا آخر.
ولست أرتاب في أن هذه الدعاية مصرية خالصة؛ لا يستروح منها أي ريح أجنبية.
ولست أرتاب في أنه ما بعث هؤلاء الدعاة إلى دعايتهم إلا الشعور بالكرامة القومية.
ولعمري؛ ما دعاني أن أقرر أن هذه الدعاية مصرية خالصة، إلا أن المصدرين لها ممن لم تحص عليهم في وطنيتهم شبهة، ولم تلحقهم تهمة، بل إن منهم لمن له ماض في الجهاد جليل.
إذن فالأمر لا يعدو - أولا - الأنفة والشعور بالكرامة الوطنية والعزة القومية، وكيف لا يثور - بادئ الرأي - شعور المصري الحر، وهو يشهد الجيش الإنجليزي يقوم وحده بقتال من يحاولون غزو بلاده واقتحام أرض الوطن، إذ أبناء هذا الوطن نفسه قابعون في أعقار دورهم، قانعون بهذا الضرب الرخيص من السلامة من أذى الحروب!
ولو أننا نكتفي بهذا الموقف؛ موقف المتفرج بشهور الصراع بين المتجمع لغزو وطننا وبين مدافعة عن هذا الوطن ، لو أننا نقف هذا الموقف فحسب، لهان الخطب بعض الشيء، ولنا في المستضعفين في رقاع الأرض بعض الأسوة ولكننا لا نفتأ في نهارنا وليلنا نتشادق بدعوى الكرامة، ونتغنى بما أصبنا من الاستقلال والحرية!
فإذا أضفنا إلى هذا تلك الأناشيد الحماسية التي بني أكثرها من لفظ بارد، وجرى في تلحين فاتر، تتكثر فيها أصوات المنشدين وتسترخي وتتزايل تزايلا ينبو عنه أصلب راقص مخناث، هذه الأناشيد التي تصبحنا وتمسينا كل يوم مرات ومرات، تدعونا إلى تقلد السلاح والهرولة إلى الصراع والكفاح، إذا أضفنا هذا إلى هذا، كان شأننا في هذه الدنيا عجبا!
وبعد، فلست أشك في أنه ما بعث أولئك الداعين إلى الحرب المستنفرين أبناء وطنهم للقتال، إلا الشعور القوي بأن هذا الموقف لا يليق بالرجال، ولا يتسق لهذه الدعوى العريضة في الحرية والاستقلال!
هي - فيما أرى - دعاية قد سمت على كل اعتبار، دعوى أثارها مجرد الشعور بالكرامة، والحر إذا أحس أن كرامته قد خمشت، أو أنها معرضة لأن تخمش هب للصراع دونها، ما يتربص لتفكير ولا تدبير ولا يدير الذهن في فرض أو احتمال، ولا ينتظر ما يخرجه له القياس من نتيجة الصراع والقتال:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا!
وإذا كانت الدعوة إلى دخول مصر في الحرب من غير إبطاء هي المثل الأعلى للحفاظ للكرامة الوطنية، فإن من الخير أن نجرد صدرا من همنا لدرس المسألة من الجهة العملية.
وقبل أن أعرض لما سقت له هذا الحديث؛ أقرر أن مصر لن تعبأ بما عسى أن يجول في وهم واهم من أن إيطاليا إذا غزتها - لا أذن الله - فإنها لا تغزوها كيدا لها أو طمعا فيها، ولكن قهرا للإنجليز!
وإنه لوهم سخيف وضيع! فالغزو هو الغزو، وإذا اختلفت الأسباب ولو قدرنا أن إنجلترا أجلت عسكرها عن مصر، ونحت أساطيلها عن مياهها، ما أعوزت الطليان الحجة في المبادرة إلى احتلالها، ولو بدعوى التمكن من قناة السويس؛ لتسد في وجه الإنجليز الطريق!
وهل من الحزم أن أقف مكتوف اليدين؛ لأنني لست المقصود بالحجارة التي أرشق بها، إذ المقصود بها غيري من الناس؟
لقد حق علينا الآن أن ننصرف عن هذا الفكر السخيف الوضيع، ونقبل على ما هو أحق بشغل العقول والأفهام.
وبعد، فهناك مسألة أو مسائل خطيرة ينبغي درسها ولو درسا سريعا قبل البت في هذا الحدث الجسام، على أن تكون الكرامة الوطنية من هذا الدرس في أسمى مكان. (1)
هل حان الوقت الذي تدخل فيه مصر الحرب مع الطليان أو غير الطليان؟
اللهم إن مصر لحريصة شديدة الحرص على الوفاء بعهودها لحليفتها العظيمة، ومن هذه العهود أن تشترك معها في الدفاع في داخل حدود البلاد، فهل وطئ الطليان أرض مصر حتى تهب طوعا للعهد المسئول، للنضال والكفاح؟ (2)
لندع هذا العهد فهو موفى - إن شاء الله - إذا وطئ عدو حدود هذه البلاد - لا أذن الله - ولننظر نظرة أسمى وأخلق بأمة تنشد المجد، وتضرب على التضحية في سبيل الكرامة أبلغ الأمثال.
ندع هذا العهد ونقبل على أنفسنا بهذا السؤال أترى هذا مما يتسق لكرامتنا القومية أن تظل في موقف المتفرج على هذا الصراع بين من يحاول الإغارة على أرض وطننا، وبين من يدافع بقوة السلاح عنها، إلى أن ينكشف له بعض الثغور، فتقتحم جيوشه علينا اقتحاما وحينئذ نهب للقتال والصيال! فإذا لم يكتب لهذا المغير فتح ولا غزو، بل لقي اندحاره في جوف الصحراء فماذا يكون شأننا بعد ذلك وبأي وجه - لعمري - تلقى الأمم العزيزة، والأمة الإنجليزية على وجه خاص؟ (3)
وأخيرا، ترى هل فكر أولئك الداعون إلى إعلان الحرب فيما تستهلك هذه الحرب من جليل الأموال؟ وإذا كانت إنجلترا تنفق في سبيلها الملايين في كل صباح ومساء، فلا أقل من أنها تقتضينا كل يوم مئات الآلاف أو عشراتها على أوضح تقدير!
إني لأرجو أن يكون أولئك الدعاة إلى الحرب قد فكروا في هذه الناحية وأحسنوا التقدير.
هذه هي أمهات المسائل التي ينبغي ان تدرس ولو درسا سريعا قبل البت في هذا الحدث الجسام.
ولعل خير ما يصنع أن تسرع الحكومة إلى عقد مجلس ينتظم الأقطاب من رجال الحكم، وقادة الحرب، وزعماء الرأي، حتى إذا انتهوا بعد تشاور إلى رأي، مضت على اسم الله والبلاد من ورائها صفا واحدا، مزودا بالفوز العظيم سواء في الحرية أو في السلام.
كتبت في بوش في 19 أغسطس سنة 1940
كيف نتقي أهوال الحرب
حين أعلنت هذه الحرب، ودخل في التقدير العام أن مصر قد تكون هدفا من أهدافها، جعلت أفكر وأطيل التفكير فيما عسى أن تدرأ به عن نفسها، وتدافع المغير عن أرضها، وتكفل بالأمن والسلامة للوادعين الساكنين من أذى ما يعتريهم من الجو في هذه الحروب الحديثة من كل مدمدمة قاصفة، ومزلزلة خاسفة، ومن كل كاوية حارقة، ومن كل سامة خانقة.
جعلت أفكر في هذا وأطيل التفكير، وكان أول ما انحط إليه الفكر بالضرورة هو إعداد العدة، واتخاذ الأهبة من تجييش الجيوش، وإمدادها بالسلاح والعتاد وتغذيتها بالوسائل التي نضح بها العقل، وتمخضت عنها التجارب وانتهى إليها الفن الحربي، سواء في إلحاق الأذى بالعدو وفي اتقاء أذى العدو.
وهذا ما تمضي فيه الحكومة جادة جاهدة فوق ما تأخذ به الأهلين من الرياضة على النظام في أوقات الشدة، وتدريب الكثيرين منهم على حسن المعونة في الأحداث؟
ثم ماذا؟ ...
اللهم إن هذا كله وأضعاف أضعافه لا يقي البلاد، ولا يكفل السلامة والنجاء، وإلا لكان أضمن لهذا وأكفل، أولئك الذين أعدوا للحرب والسلامة من ويلات الحرب، ما لا يتصوره العقل ولا يكاد يتعلق به الخيال، وهذه الطائرات المغيرة تدمدم عليهم في أعز مآمنهم، فتنسف الدور عليهم نسفا، ولا تألو حتى الشيخ والمرأة والطفل فتكا وعصفا!
إذن فلا نجاء ولا سلامة، وإذن فلا بد من أهوال تذكر أهوال القيامة؟
يا ويلتا! أترى العقل الإنساني قد عجز عن أن يستحدث ما يقي حتى الوادعين من غير المقاتلين ذلك البلاء، ويعصمهم من هذه المحن والأرزاء؟
هذا العقل البشري الذي استحدث في الزمن اليسير، كل تلك الفواتك المدمرات القاصفات سواء منها ما يتخذ سبيله سويا في جحر، وما يزلزل الأرض، وما يرمي الخلق بما لا تبلغه ثورة البراكين وما يدمر حتى الحديد المصفى من جو السماء - أترى العقل البشري قد عجز حقا عن أن يبتكر ما يكفل الأمن والعافية، ولو لهؤلاء الوادعين العاجزين عن الخروج إلى معترك القتال!
إذن فقد أصبح هذا العقل البشري أداة لا تصلح البتة إلا للافتنان في ألوان الشرور والآثام! وإذن فقد حق على الإنسان أن يسخر من أنه إنسان، وأن يتمنى لو يكون حيوانا من بعض الحيوان!
ترى أوصلت الإنسانية إلى هذا الحد، وبلغ العقل الإنساني هذه المنزلة من العجز؟
أظن أننا نظلم العقل الإنساني إذا نحن أنزلناه هذه المنزلة وألزمناه هذا المكان الوضيع.
فمن القدم فكر الإنسان في دفع مثل هذا الأذى واتقاء هذه المكاره بمقابلة القوة بالقوة ورد العدوان بالعدوان، على أنه في العصر الحديث زاد من أسباب الوقاية على قدر زيادة الموبقات في معدات القتال، فإنه فوق دفع شرور الطائرات المغيرة بالطائرة الحارسة فقد استحدثت المدافع المضادة للطائرات، كما استحدثت المخابئ لمواراة سكان المدن، وأجدت القناعات الواقية، وضوعفت الهمة في وسائل الإنقاذ والإسعاف.
على أن هذا كله لا يغني الوادعين - إن أغناهم كثيرا - إذن فلا زالت كفة الشر هي الراجحة، وصفقة البلاء هي الرابحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وبعد، فحين يئست في هذا الباب، من الاتقاء بالوسائل المادية، التفت إلى الوسائل المعنوية، فإذا هناك ما هو أحصن وأمنع وأكفى وأدنى وأجل وأعظم وأجمل وأكرم.
بين هذه القوى المعنوية قوة لو أن الجماعات والأفراد أخذت النفوس وراصتها عليها لأمكنها في سهولة ويسر أن تتقي كثيرا من الأخطار، وتخفف كثيرا من المضار وتهون ما حتمته الأقدار.
هذه القوة المعنوية التي كثيرا ما تقهر القوى المادية وتظفر بها، وتفسد عليها حسابها وتغلق دون الفوز أبوابها هي الصبر والاحتمال، فبالصبر يقهر الجيش من هم أكثر منه عددا، وأجزل عددا، وأوفى مددا، وقديما قيل: «الشجاعة صبر ساعة.»
على أننا كيف قلبنا النظر لا نجد أن شدة انجلت، وأزمة انفرجت، ولا أن مسعى نجح، وعملا كتب له الفلاح، إلا إذا كان الصبر هو العدة، وهو الزاد، وهو المتكأ.
أرني عالما أو مؤلفا، أو مستحدثا أو مستكشفا وصل إلى مراده فنفع الناس، وزاد في بناء الحضارة وأجدى بأثره على الإنسانية جميعها، دون أن يكون الصبر هو عدته وملاكه؟
أروني غنيا وصل إلى الغنى وأغنى من طريقه المعبد، إلا ببناء النفس على الصبر الطويل؟
في الحق أن الصبر من أجل ما أنعم الله على من أنعم من الناس، فليس أدفع للشر منه.
قلب نظرك في جميع أسباب هذه الدنيا تجد للصبر أثرا في كل ما تحمد غاياته، ولحرج الصدر نصيبا في كل ما تسوء مغباته.
1
ومما يسترعي النظر حقا أن القرآن الكريم لم يهتف بخلة كما هتف بخلة الصبر، تكررت فيه ولم يدع إلى فضيلة على كثر ما يدعو إلى الفضائل، كما دعا إلى فضيلة الصبر، حتى لقد تكررت فيه كلمة الصبر ومشتقاتها من: صبر، يصبر، اصبر، الصابرون ... إلخ، مائة مرة ومرة، تدور في أربع وأربعين سورة وحسب الصبر فضيلة.
أن يقول الله تعالى:
وبشر الصابرين .
2
ويقول فيه:
والله يحب الصابرين .
3
ويقول كذلك فيه:
والله مع الصابرين .
4
و
إن الله مع الصابرين .
5
وناهيك بمن كان الله معه ولا شك أنه حقيق بأن يكفى الشر كله ويلقى الخير أجمعه.
والواقع أن القرآن العظيم ما كرر حديث الصبر هذا التكرير، ولا وكد الدعوة إليه كل هذا التوكيد؛ إلا لأنه مادة الفوز وعدته في الدنيا والآخرة جميعا.
وإذا لم تكن سبيلنا في هذا المقال هي حصر فضائل الصبر، واستقصاء مزاياه، فلنقصر الحديث على ما يشاكل ما يعانيه العالم في هذه الأيام.
والآن فانظر كيف يقول الله تعالى قوة الصبر وبأس الصابرين من المقاتلين:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون .
6
ثم انظر كيف يقول:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .
7
فقد رأيت أن المجاهد المؤمن الصابر يغلب عشرة من عدوه، فإذا كان فيه ضعف غلب اثنين بإذن الله القوي العظيم.
وقال تعالى في كتابه العزيز:
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون .
8
وأنت ترى كيف قدم الحث على الصبر والمصابرة على المرابطة والاستعداد للقاء العدو، وذلك إشادة بفضل الصبر، ولما يعلم الحكيم العليم من أن كل استعداد للقتال مهما يعظم شأنه إذا لم يكن مقرنا ببناء النفس على الصبر وأخذها بشدة الاحتمال لا خير منه ولا غناء فيه.
وبعد، فلو قد مضى الكاتب في ترديد الآيات الكريمة التي تحض على أخذ النفس بالصبر، وخاصة في ساعات الروع، وجعل يضيف إليها الحكم والأسباب، ويردفها بالظروف والملابسات لاتسع كثيرا نطاق الكلام عن المساحة المقسومة لمثل هذا المقال، وفي القدر الذي قدمناه الكفاية إن شاء الله.
على أنه لا يفوتنا أن نزن مبلغ حاجتنا إلى الصبر في الأيام التي نخوضها الآن، وفيما عسى أن نلقى في مستقبل الأيام.
نحن نتوقع غارات تعترينا من جو السماء، وقد تلحق بنا من الأذى قليلا أو كثيرا.
ومن ظن ممن يلاقي الحرو
ب بألا يصاب فقد ظن عجزا
ولنقدر - لا أذن الله - أن يأخذنا الهلع والفزع، فماذا تكون الحال؟
لعمري، ليس شرا على نفسه وشرا على غيره من الهلوع الذي ضل رشده، وفقد صوابه، وكيف لمثل هذا بالنخاس أحسن السبل لاتقاء الأذى والنجاة منه، أو استنقاذ الغير أو إسعاف المنكوب بما يهون من بلائه ويعصم عليه الحياة؟
اللهم ليس لهذا السليب العقل المستطار اللب بشيء من ذاك يدان، بل إنه بهلعه واضطرابه وتخبطه هنا وهناك لحقيق بأن يوقع نفسه في خيلاء، وقد يكون بعيدا عنه ويزيد في ويل سواه، وقد يكون على شرف الخلاص منه، والأمثلة على هذا أكثر من أن يلحقها العد أو يحيط بها الإحصاء.
أما هذا الذي أخذ نفسه بالصبر فجمع في ساعة الروع رشده، وملك ناحية تفكيره وتدبيره، فهو الجدير أن يحكم التقية قبل نزول البلاء، ويلتمس المخرج وقت وقوعه، ويسرع إلى نجدة المكروبين ممن عسى أن يكونوا قد أحيط بهم، وإلى إسعاف من عسى أن يكون قد مسهم الضر بما يرد الآلام، ويعصم من العواقب الجسام!
وأخيرا، فإذا كانت الأمم المتحاربة الآن تحسب حسابا كبيرا لما يدعونه الطابور الخامس، فليس عندي أي شك في أن الهلع والذعر في مثل هذه الأوقات، هما أخر هذا الطابور وأنفذ وأفتك.
الهلع والذعر، هما من أفتك الآلات في يد العدو، بل لعلهما أفتك من كل ما تطوله يده من عدة وسلاح، ولا غرو علي إذا دعوتهما من الآن بالطابور السادس.
فعلينا أن ندرع بالصبر والاحتمال، ولا ندع للجزع إلى أنفسنا السبيل، وأن نستبقي الرشد مهما يجشمنا من جهد، فهذه هي وسيلة النجاة والتخفيف من ويلات هذه الحياة.
أسأل الله - تعالى - أن يثبت قلوبنا، ويشد متوننا ويكشف عنا هذا البلاء، ويهون علينا مواقع الأرزاء، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
هل يكتب لفرنسا العظيمة بعث جديد
لم يجر قلمي قط طوال حياتي بكلمة واحدة في شأن من الشئون الخارجية، اللهم إلا ما كان سوقا لعبرة، أو ضربا لمثل من أحداث الزمن الغابر، على أن كارثة فرنسا بهذه السرعة قد رجتني كما رجت الناس جميعا، وكيف لا ترجني وترج غيري، والعالم كله - أعني قواصيه وأدانيه - إذا ذكر في أية رقعة منه «العالم» تمثل الغرب، وإذا ذكر الغرب حضرت على الفور فرنسا، ففرنسا هي لب العالم الحديث وجوهره، وهي روحه ومصاصه، هي مثابة العلم وموطن الحضارة، وهي منبع الفن وهي حصن الحرية والمساواة.
اللهم إن من شأن هذا، بل من شأن بعض هذا أن يبعث الذهن مع التفكير والتدبير، ففرنسا تسلم السلاح بهذه السرعة العجيبة، ولا يزال لها من حليفتها العظيمة عدة أية عدة ومدد أي مدد؟ ومن ذا الذي يلقي السلاح بين يدي العدو، ويحكمه في عنق الدولة كل هذا التحكيم؟ هم كبار القواد الذين شابت نواصيهم في خوض المعامع، وقضوا العمر تحت ظلال السيوف!
لقد فكرت برغمي كما فكر الناس، ولقد قدرت كما قدر الناس، فخرج لي من هذا التفكير ما يهول من الاحتمال وما يروع.
وأرجو ألا تتعجل فتظن أن هذا الذي يهول ويروع هو اندحار فرنسا عسكريا، فإن الاندحار العسكري مما يجري على الأمم جميعا، وهو مع ذلك إذا حط من هيبتها، أو تنقص من مالها، أو قبض من سلطانها سنين، طالت أو قصرت فإنها مستردة هيبتها، متعوضة عن مالها، باسطة سلطانها، مهما تكن قد أنزلت بها تلك الحرب من خسارة ودمار، وهذه المثل كثيرة منها الحاضر للأذهان، ومنها ما لا يزال ماثلا للأعيان، ففرنسا التي ضربت الضربة القاصمة في سنة 1870 وسلخ من إيالاتها ما سلخ، وفرض عليها من الغرم ما فرض، قد ظهرت على ضاربها في سنة 1918، وضربته الضربة القاضية، وفرضت عليه ما فرضت من ذخيرة ومال، وضربت عليه ما ضربت من سوء حال بل مهانة وإذلال، لا يقدر انبعاثه بعدها أجيالا إثر أجيال، ومع هذا لم تمض بضع وعشرون سنة حتى صنع بها هذا المغلوب ما شهدنا، وليس يعلم إلا الله تعالى كيف يكون المصير!
وكيفما كان الأمر، فإن انهزام فرنسا بمثل هذه السرعة حربيا إذ هو هال وراع، فإن مما يعزى فيه أن هذه سنة الحروب في طول الزمان:
فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
ولا بد أن تنجلي غمرتها بعد حين، ولقد مر عليك من الأمثال ما فيه مقنع للمعتبرين!
إذن، فلست أخشى ما أخشاه على فرنسا من هذه الناحية، ولكني أخشى على هذه الدولة العظيمة ما هو أجل وأعظم، وما هو أكرث وأفدح.
اللهم إني لأخشى أن يكون هذا التسليم إيذانا بانحلال هذه الأمة إلى آخر الزمان أو إلى بعيد من الزمان.
ولست أحيل هذا الخوف على ضرب من التنبؤ، أو على لون من الحدث والتخمين، إنما هي المقدمات الواضحة التي تفضي إلى النتائج الواضحة، فإن يكن قد ند علي ضبط بعضها، فلي إلى العذر سبيل!
وبعد، فليس عندي أي شك في أن للأمم أعمارا، كما للإنسان والحيوان والنبات أعمار، وهذه الأعمار تطول وتقصر أولا في الحدود المقسومة لكل نوع من الأنواع، وأما بالنسبة للأشخاص في كل منها، فيرجع طول العمر وقصره إلى أسباب وعوامل لا يكاد يحيط بها الإحصاء.
وعلى كل حال، فإن نشأة الأمم تبدأ بطفولة كطفولة الإنسان، فإذا قدر لها الاطراد في النمو صارت إلى فتوة فشباب، فكهولة فشيخوخة، فهرم فانحلال ففناء، هذه أطوار كل أمة ولكل أمة أجل.
وإنما يكون الانحلال والفناء إذا بلغت الأمة الغاية من الحضارة، واتجهت بأجل العزم إلى الغلب في فنون الترف والنعيم، وهذه الشواهد ما تزال ماثلة في الأمم الغابرة، ولا أريد في التمثيل على أمم اليونان، والرومان والعرب في الشرق وفي الغرب معا.
فليت شعري، هل حان حين فرنسا اليوم كما حان حين تلك الأمم جميعا، وهل تراها قد دخلت في دور الانحلال والفناء، كما جرى على من تقدمها من الأمم الانحلال والفناء؟
هذا هو السؤال الذي يشغل الهم، ويضطرب بين جوانب النفس.
وأرجو ألا يظن قارئ أن حظ أمة مهما يكن عظيما من العلم والفن والصناعة والمال، وغير أولئك من وسائل العظمة؛ مما يعصمها من هذا المصير، فإنه لم يقض على من سبق من الأمم جهل ولا ركود حس ولا خمود عاطفة ولا شلل أيد ولا إعواز، إنما قضت عليها عوامل أخرى ترجع كلها إلى شيء واحد هو الأخلاق!
وإنما أعني من الأخلاق، أولا وقبل كل شيء تلك الصفات أو الأصح تلك الفضائل، التي تصل بين المرء والمجموع من إيثار المنفعة العامة والتضحية والفناء في النهاية، في هذه المجموع وهيهات لأمة تستحق هذا الاسم أن تكون كذلك، إلا إذا كان مجموع أفرادها كذلك، فإذا أقبل كل على شأن نفسه، وآثر الدعة والتقلب في ألوان الترف، بقدر ما يتهيأ له، وخص بأجل مساعي الحياة النفس والولد! انفرط ولا ريب عقد المجموع وأصبح الأفراد نثارا يغدون ويروحون على وجه الأرض، وهؤلاء لا يمكن أن تعدهم أمة، وإن حصروا في رقعة معينة من الأرض، وإن ضمتهم جنسية واحدة، وإن أخذوا جميعا بقانون واحد أو بطائفة من القوانين!
ونعود فنتساءل: هل كان انهزام فرنسا وإسراعها بالتسليم إلى عدوها انهزاما عسكريا فحسب، أو أن هذا الانهزام والتسليم إنما كان عرضا من أعراض الشيخوخة التي تضرب أعضاء الجسم بفنون العلل والأسقام، والتي لا رجاء معها في قوة ولا احتمال صدام، بل إنها النذير الحق بالموت الزؤام؟
لقد انتصرت فرنسا في حروبها وانهزمت مرات، كما انتصر غير من الأمم وانكسر مرات، ومع هذا فسرعان ما استردت الأمم المقهورة قوتها، ووالت سعيها الحثيث في سبيل الحياة، وذلك بفضل حيويتها وما انطوت عليه من الرغبة القوية في إعزاز الوطن والتضحية بالنفس والولد والمال في سبيل مجدها، وإنكار الذات، بل إفناؤها في المجموع.
وإنما حرك في نفسي هذه المرة ذلك السؤال، وشب فيها كل ذلك الشبوب، ما استشرى في كثرة الفرنسيين في السنين الأخيرة من إيثار الدعة، والإفراط في حب الذات وعد الاكتراث، وقلة المبالاة بالمنفعة الوطنية من قريب أو من بعيد، والظن بالتضحية في هذه السبيل بقدر كبير.
1
وأخيرا فإن علينا ألا ننسى روح النشوز والتمرد التي طغت بنوع خاص على طبقة العمال
2
والشواهد على هذا وهذا وهذا مما يفوت جهد الإحصاء!
ذلك هو السؤال، فهل لي أن أطمع من بعض العالمين في جواب؟
إصلاح
من بضعة أيام وجه صديقي الكاتب الجليل القدر الأستاذ محمد توفيق دياب في صحيفة الأهرام كتابا إلى حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء، وهذا الكتاب يدور حول «الشئون الاجتماعية». ولا أكتم القراء أن هذا الكتاب لم يعجبني فحسب، بل إنني لا أجد حرجا من القول بأنه أطربني؛ لأنه أحسن الترجمة عن خاطر طالما شغل نفسي، واجتاز صدرا من همي.
ولا بد أن يكون كثيرا من قراء «الثقافة» قد قرءوا هذا الكتاب على أنني ألخص موضوعه تلخيصا شديدا لمن عسى أن تكون قد فاتتهم قراءته؛ ليكون حديثنا بعد ذلك بينا، واضح المعارف بين يدي الجميع.
استهل الكاتب بشكر صاحب المقام الرفيع على عنايته الجليلة بالشئون الاجتماعية في بلادنا، حتى أنشأ لعلاجها وزارة خاصة، وبلادنا أشد ما تكون حاجة إلى العناية «بالشئون الاجتماعية»؛ ففي الحق إننا محتاجون من هذه الناحية إلى فنون كثيرة من الإصلاح.
على أنه ذهب في كتابه إلى أن الإصلاح المادي لا يكفي وحده في إدراك الغرض المنشود؛ بل لا بد من الإصلاح الروحي أيضا، ويعني به إعداد نفوس الشعب لتقبله وتجريد العزائم لتحقيقه والمعاونة عليه، وضرب لذلك الأمثال مشتقة من الواقع المشاهد الملموس.
ومن هذه الأمثال أنه لا يكفي أن يصدر تشريع بوجوب ردم البرك، لعصمة الفلاحين من أذى الأمراض التي يعتريهم بها البعوض، فإنه إذا قدر وردمت البركة أو البرك حول القرية، فسرعان ما يحتفر سكانها بأيديهم غيرها لصنع الآجر أو لحاجة زروعهم إلى التراب يخلط بالسماد!
ولا يكفي أن يجري الماء النقي إلى دورهم ليشربوا منه، ويتقوا كثيرا من الأمراض والأسقام التي تصيبهم من شرب الماء الكدر الذي كثيرا ما يلوث بألوان المكروبات، ففي الغالب أنهم سيعدلون عنه إلى التروي من هذا الماء الكدر، إيمانا بأن الماء إذا صفا من الطين لا يجدي على الأبدان.
ولا يكفي أن تقام المرافق في القرى ليكفل للفلاحين قضاء حاجاتهم وتطهرهم، وكف الكثير من عاديات الأمراض عنهم، فأكبر الظن أن الفلاح متول في قضاء حاجته إلى الخلاء، مؤثر الاستحمام في الترعة أو الجعفر الصغير إذا طلب يوما ما الاستحمام وهكذا!
إذن، لا بد من أن يقترن هذا الإصلاح المادي بالإصلاح النفسي، الذي يرمي إلى ترسيخ الاعتقاد في نفس الفلاح والعامل جميعا بأن هذا الإصلاح الذي يراد له أمر نافع جدا، لا بد منه ولا محيص عنه لمن يريد الحياة السعيدة، ولو بمقدار الحياة الخالصة من التعاسة والأسقام والأكدار ولو بمقدار.
هذا الإصلاح الذي يطبع الفلاح والعامل على إدراك ما ينفعه وما يضره ويستكرهه استكراها؛ بدافع من نفسه لا بقوة خارجية، على ترك ما ألف من مكروه العادات، ولو كان هذا الإلف إرثا منحدرا من ألوف السنين.
وأخيرا، هذا الإصلاح الذي يشعر الفلاح والعامل، أو في الشعور أنه عضو بكل معنى الكلمة في هذا المجتمع، لا خير له إلا في خيره، ولا سعادة لشخصه إلا بسعادته، يشعره أنه عضو حقا في هذا المجتمع، ويملأ قلبه إيمانا بأن عضوا من الأعضاء لا يمكن أن يكون صحيحا إذا كان البون معتلا سقيما.
فإذا جرى هذا الإصلاح في طريقه وسلك من النفوس مسالكه، فحينئذ لا يخشى أن يقاوم الفلاح أو العامل ما يراد لعيشه من حماية وترقية وإسعاد، بل لا يخشى أن يعتل على هذا أو يتثاقل عن الاستجابة لدعوة العاملين المصلحين، بل إنه ليرجى حينئذ أن يطلب الإصلاح جاهدا إذا أبطأت عنه رسائله وإنه ليعين على تحقيقه بكل ما يمتد إليه عزمه، بل إنه ليوجه السعي في الحياة. أو يوجه صدرا عظيما من السعي في الحياة إلى ما يجدي المجموع، وأن كل خير يصيب هذا المجموع هو خير له، ولو لم يعد على شمله من الجهة المادية بكثير ولا قليل!
وبعد، فلقد يأخذك أشد العجب إذ ترى بلادنا - والحمد لله على السراء - سباقه إلى اقتباس أحسن النظم في أكثر مرافق الحياة، وسن أحكم القوانين وأدق اللوائح، ووضع أجل المشروعات في مختلف نواحي الإصلاح، مما من حقه أن يكفل لنا الأمن، والدعة، والرغد، والغنى، ورفع المستوى العلمي والثقافي، وتحريك الأيدي المعلقة، ومنع التشرد والتسول ... إلخ. مما لا تطمع أمة على ظهر الأرض في مزيد عليه، أو تتطلع إلى سعادة تتراءى وراءه، ومع ذلك فنحن نحن والحمد لله على الضراء، لا نكاد نتزحزح في شيء أو نريم.
سر هذا في مذهب الأستاذ دياب أن الإصلاح لا يجدي إلا إذا تهيأت لتقبله النفوس، بحيث يتلقاه الجمهور راضيا مغتبطا.
وهذا حق لا ريب فيه، على أن هناك علة جوهرية تتقدم هذه العلة وهي التي أقيس عليها بقية الكلام، وهذه العلة هي أن الخمسين أو الستين عاما؛ التي عشناها محرومين السلطان، معفين من الاضطلاع بالعظائم مقالين بالضرورة من احتمال التبعات، هذه السنون الطوال التي عشناها عيشا آليا أضعفت فينا الشعور الحق بالواجب إلى حد كبير!
نعم، لقد أضعفت فينا هذه السنون الشعور الحق بالواجب إلى حد أن أصبح العامل منا إذا عمل، سواء في الأسباب العامة أو الخاصة لا يكاد يشعر بأنه يؤدي واجبا، وإنما يسوقه إلى علاج ما يعالج خوف المسئولية وحسبان العواقب المادية، وكذلك جعل سعينا يتحول إلى الأشكال والأوضاع، ما دامت هذه الهياكل تسقط عن المرء التكاليف! أما اجتماع النفس، وحد العزم، وتجريد الهمة لإدراك الأغراض، وإصابة الأهداف التي شرع لها المقنن ما شرع، وأعد لها المصلح ما أعد، فلقد صرنا من ذلك أبعد ما نكون.
الأمر كله لا يزيد عندنا مع الأسف العظيم على ملء الاستمارة، أو سد «الخانة» أو «تخليص القلم» كما يقولون، وعلى ذلك يستحيل كثير مما نعد من وسائل الإصلاح هياكل لا يدب فيها شيء من الحياة، ولأضرب لك يا سيدي القارئ بعض الأمثال، لا أعدو فيها ما يقع لسمعك وبصرك في كل صباح وفي كل مساء.
تصدر الأوامر المشددة إلى رجال البوليس بمنع التسول في الطريق، وكف الغلمان المشردين من جامعي الأعقاب ونحوهم، فإذا الشرط يجدون ويجهدون، حتى تكاد تشعر بأن القاهرة مثلا قد خلت من كل متشرد أو شحاذ، وقد تظل على هذا الشعور أياما، وقد تظل كذلك أسبوعا، ثم إذا المتسولون والمتشردون يظهرون لعينيك رويدا رويدا، وهم يقومون بمهمتهم الشريفة بعين جندي البوليس.
ذلك بأن رئيسه كان يشدد عليه ويطالعه الحين بعد الحين، فلما فتر عنه فتر هو الآخر عن الآخرين.
يقضي النظام الحكومي بأن يحضر الموظفون إلى مكاتبهم في وقت معين، وألا ينصرفوا عنها إلا في وقت معين، بحيث يجزى من تأخر عن الأول ومن تقدم على الثاني، وقد تضبطهم بدفتر أو «بساعة» ترقم وقت حضورهم مثلا، وذلك رغبة في سرعة إنجاز ما تعالجه المصالح من وجوه الأعمال، وإنهم لينفذون هذا النظام راضين أو كارهين، ولكنك مع هذا تجد المسألة ليس من شأنها أن تشغل من وقت الموظف ساعة أو بعض الساعة، تلبث بين يديه الأيام بل الأسابيع، بل الشهور في بعض الأحيان، وكذلك تعوق المصالح العامة، وكذلك تعطل مصالح الناس.
ذلك بأننا نحضر في الميعاد وننصرف كذلك في الميعاد، ألسنا قد خرجنا من العهدة، وأمنا حتى سوء المقال؟
ولقد يكون بعض الموظفين مرهقين بكثرة ما يعالجون من الأعمال، ولكنهم ليسوا كثرة على كل حال.
وقس على هذين المثالين ما تهيأ لك القياس على أنني لا أحب أن أدع الكلام في هذا المقام قبل أن أضرب مثلا ثالثا قد يجهله كثير من القراء، ولعل فيه ما يروح عنهم بعد ذلك الحديث الأليم، وإن كان هو أيضا لا يخلو من العظمة والاعتبار.
زعموا أنه في عهد «السلطة» صدرت الأوامر إلى رجال الإدارة بمصادرة جميع الأسلحة التي يحرزها الأهلون، فجعل حضرات رجال الإدارة وعلى رءوسهم حضرات مأموري المراكز يتبارون في تنفيذ هذا الأمر، استباقا إلى إدراك الحظوة، وتبوء منزلة الرضا عند من في يدهم السلطان.
ويسمع المأمور أن زميله فلانا جمع من بلاد مركزه خمسة آلاف بندقية في خلال الشهر، فيأتي هو إلا أن يجمع ستة آلاف، وهكذا ويستمر التنافس بين حضرات المأمورين في جمع البنادق حتى أقبلوا على العمد والأعيان يكلفونهم الهبوط إلى القاهرة لشراء كل ما تيسر لهم شراؤه من الأسلحة القديمة في سوق السلاح!
وأخيرا عز على أحدهم ألا يعزهم جميعا، ويظفر دونهم من الحظوة بأعلى مكان، فحشر إليه كل النجارين والحدادين في مركزه، وكان في الوجه القبلي، وتقدم إليهم بأن يتفرغوا من كل ما بأيديهم إلى صنع بنادق لا تزيد على كعوب وأنابيب وشيء يشبه الزناد، وكذلك تم له أن يورد في خلال عام وبعض العام، نحو مائة ألف بندقية مصادرة من الأهلين!
ويشاء الله أن يرقى هذا المأمور في إثر ذلك إلى منصب وكيل مديرية، وما شاء الله كان!
وبعد، فأعزز على أن أجلو عن نفوسنا هذه الخلال! وما بي - شهد الله - إلا أن نتفطن إلى أمراضنا لنسعفها بالدواء الناجع إن شاء الله، ولله در القائل: «أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.» فإن من أبكاك اليوم أضحكك في الغد، وإن من يضحكك اليوم لمبكيك طول الأبد.
على أنني لست اليوم متشائما، بل إنني لمتفائل - والشكر لله - أعظم التفاؤل، متفائل لأننا أنشأنا ندرك واجبنا، ونمهد لألوان التبعات عواتقنا من يوم صار إلينا السلطان في بلادنا، متفائل لأننا جعلنا ندرك ما فاتنا في تلك السنين الطوال، فرحنا نستدركه في قوة وعزم، وأرجو لها مزيدا على الأيام، متفائل لأننا الآن ولا ريب في نهضة ترسل الحياة دراكا في جميع نواحي الحياة، وحسبنا أن كنا إذا سيق الشاب من أبنائنا إلى الجندية، شيعته أمه وإخوته وعماته وخالاته، كما يشيع أعز الموتى، وماذا بعد النواح والعويل ولطم الخدود وشق الجيوب. حيث لا حرب ولا قتال، ولا توقع حرب ولا قتال، إن هو إلا تدريب عسكري لاستعراض في هذا المهرجان أو ذلك المهرجان؟
أما اليوم والسيوف مسلولة وأفواه المدافع مفغورة، والموت يتخطف بلا حساب من البر والبحر والهواء، فهؤلاء شبابنا بل هؤلاء كهولنا يتبارون جاهدين في إدراك الشرف بحمل السلاح، فإذا شيعهم أهلوهم فكما تزف العروس، وماذا أبعد أرن «الزغردة» وأحلى الغناء؟
نحن في نهضة قومية جليلة، أرجو أن تجدي علينا أول ما تجدي قسوة شعورنا بالواجب، ومسارعتنا بباعث من أنفسنا إلى القيام به؛ لأنه الواجب لا طمعا في ثواب ولا خوفا من عقاب، وأن يكون ذلك الفتح في القريب جدا إن شاء الله.
في الإصلاح أيضا
سمعت من الراديو في ليلة من ليالي هذا الأسبوع أن زعماء الأحزاب في إنجلترا وقادة الرأي فيها، قد اجتمعت نيتهم على أن يقوموا بحملة شديدة في جميع أرجاء الجزيرة يشرحون فيها للشعب الإنجليزي أغراض الحلفاء من الحرب، وكيف خاضوها ولماذا غامروا فيها؟
أما أن زعماء الأحزاب على اختلاف مذاهبهم وتفرق نزعاتهم، يتفقون على هذا ويبادرون إليه، فذلك ما لم يقع عندي موقع عجيب؛ لأن وطنية الإنجليز هكذا وخاصة في الأيام الشداد؟ وإنما الذي استرعى كل عجبي أن الشعب الإنجليزي المثقف المستنير، ما برح في حاجة إلى من يقفه على السبب الذي حمل دولته على الاشتباك مع الألمان في هذه الحرب الضروس.
على أن عجبي لم يطل، فإن الحلفاء إنما أعلنوا الحرب باسم الديموقراطية، وإنما حشدوا جميع قواهم وكل كيدهم لقمع الدكتاتورية الصائلة المعربدة في الأرض، والتي إذا تركت وشأنها لا تنتهي عربدتها وعصفها بالأمم الوادعة عند حد، فمن حق هذه الديمقراطية على الرجال المسئولين أن يراجعوا الشعب نفسه، ويدلوا إليه بحجتهم فيما أقدموا عليه، وما يجشمونه في سبيله من التضحيات الضخام، وأن يبينوا للناس ما عسى أن يكون قد تبهم عليهم من العلل والأسباب حتى يحيطوا بالجليل والدقيق مما لا يضر في علم الجمهور به وظهوره عليه، وفي هذا فوق ذلك ما فيه من زيادة الاستحماس للحرب، والشد على العزائم للقضاء على العابثين بالحضارة والمفسدين، وأقول زيادة لأنه بحسب وطنية الإنجليز أن يسمع من حكومته وبرلمانه النفير إلى القتال ليركب رأسه أو يحتويه ميدان، سواء في البحر أو في الأرض أو في السماء!
ولا يذهب عنا بعد ذلك أن من أخطر الأسلحة التي يقاتل بها الألمان إن لم يكن أخطرها جميعا، هو سلاح الدعاية الذي لا يتحبس ولا يتوقف، ولا يسكن ولا يبرد ولا يهدأ ولا يفتر، والذي يسلكون به كل بلد ويرمون به كل قرية، وينفذون به بالراديو إلى كل بيت ووسيلتهم فيه هي الكذب المتوالي، والإفك المتدارك مصورا في صور ومجلوا على أشكال وأوضاع، قصدا إلى توهين العزائم وإظلال النفوس باليأس، ولا تنس النصيحة الترابية القاتلة: اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب!
وإذا كان الإنجليز هو آخر من تبلغ فيه مثل هذه الدعاية أو تنال من عزمه الجبار على الصراع، وخاصة إذا كان صراعا لمجد الإمبراطورية فلا شك في أن من الخير ألا يترك هذا الوطني الشجاع المتطوع، وفي نفسه من أغراض الحرب التي يحتسب فيها بدمه شيء أو أشياء!
إذن فليس من العجيب أن يجرد من زعماء الأحزاب الإنجليزية وغيرهم من أعلام الرأي حملة لهذا الغرض أو حملات، ولكن العجيب كل العجب ألا نصنع نحن مثل هذا ونحن أحوج إليه بأكثر من الكثير!
وإني أبادر فأقرر أن حملاتنا التي من هذا الطراز لا يحتاج - والحمد لله - إلى تظاهر الزعماء السياسيين واشتراكهم في هذا السعي؛ لأننا لسنا بحاجة إلى من يدلي إلينا بالأغراض التي من أجلها دخلنا الحرب؛ لأننا لم ندخل بعد حربا، أما استحماس الجماهير وشد عزائمه لخوض الحرب إذا أذن النفير فإنه ليغنينا في ذلك: «يا قاعد في دارك والعالم في نار.» وأخواتها فقد انتفخنا استحماسا بكثرة الاستماع إليها كل يوم، في الصبح والظهيرة والأصيل ومغرب الشمس، وفي جوف الليل، حتى أصبحنا لا ندري أين ننفث بعض هذا الذي يغلي في صدورنا من شدة الاستحماس!
اللهم إن الحملات التي تحتاج إليها بلادنا أشد الاحتياج إنما هي حملات اجتماعية بحتة لا صلة لها بالحرب، ولا سبب لها إلى الحزبية ولا الأحزاب.
نحن ألقينا حربا أم لم نلق حربا محتاجون إلى الإصلاح في شتى نواحي الحياة، وإذا كان توقع الحرب والاستعداد بكل ما في الطاقة للحرب لم يلفت نهضاتنا العظيمة عن التطلع إلى كثير من النواحي، ولم يثن القائمين على الإصلاح عن معالجة ألوان من المشروعات، قصدا إلى الإصلاح المنشود، والحقيق بأمة تتوثب للمجد توثبا وتبقى الحياة كما ينبغي أن تكون الحياة، إذا كان هذا هكذا، فإن من الحق علينا ألا نغفل أولا وقبل كل شيء حقيقة ثابتة؛ هي أساس كل بناء وجوهر كل إصلاح، وهذه الحقيقة هي الثقة، فإذا لم تكن ثقة فلا بناء ولا تعمير ولا إصلاح ولا فلاح.
وأحوج ما يحتاج إلى بث الثقة وعقدها في النفوس هي بلاد الريف على وجه خاص.
وبعد، فأنت خبير بأن أي علاج بعمل أو بتشريع يراد به إصلاح شأن الجماعات، ورفع مستواها العقلي والخلقي، والحط من أعباء تكاليف العيش عنها، وإيتاؤها حظا من أسباب السلوى والرفاهية لا يمكن أن يؤتي ثمرته ناضجة أو فجة في بعض الأحيان إلا إذا تعاونت عليه الجماعة، ولا يمكن أن تتعاون الجماعة على عمل ما إلا إذا سادت الثقة. ثقة الأفراد بالأفراد، وثقة الأفراد بالجماعة، وثقة الجماعة بالمجموع، وهذا كلام بديهي لا يحتاج إلى نظر واستدلال على تعبير أصحاب المعقول، وإلا فكيف يتهيأ للأفراد أن يتعاونوا على خير يعمهم، ويعود على شملهم، في حين لا يثق أحد منهم بأحد ولا يقدر فيه صدق النية، ولا رغبة الخير لغيره فردا كان أو جماعة؟
وهنا أرى من واجبي الوطني أن أصارح بحقيقة مؤلمة، ولكنها هي الحقيقة، الحقيقة الواقعة، التي لا يجدي في زوالها تجاهلنا، تخففا من ألم الشعور بها أو تظاهرا بالوطنية المزيفة المزورة، هذه الحقيقة هي أن حكم الاستبداد والظلم الذي خلت به القرون الكثيرة، قد طبعته على سوء الظن وفقدان الثقة، سواء بالأفراد أو بالجماعات أو الحكومات، ولذلك تراه شديد الحذر في غير موضع لأي حذر، حتى لقد يستشيرك في بعض شأنه، فتشير عليه بالرأي صادقا مخلصا، فيعدل فوره إلى عكسه لأنه لم يقدر فيك إلا غشا وخديعة وكيدا، إذن فالخير كله في العدول إلى ما نهيته عنه وحذرته منه.
ولا شك في أن أبلغ ما يقعد بالفلاحين المصريين عن التعاون على ما يجديهم، ويدفع الأذى عنهم ويعود بالخير الكثير عليهم، هو فقدان الثقة بينهم، ولقد تراهم يساهمون في أعمال تعاونية، ولكننا نكون كذابين وغشاشين، ومدافعين لكل إصلاح اجتماعي يراد إذا زعمنا أنهم يخفون إليها من تلقاء أنفسهم، أو بباعث من شعورهم وتقديرهم لما فيها من نفع وخير، ولكن فتش عن العمدة ثم فتش عن المأمور، ثم فتش عن المدير، ولعلك محتاج إلى التفتيش أيضا عما وراء المدير!
ولعلي في غنى من إيراد الأمثلة على هذا، فهي من الكثرة والحضور بحيث يعد إيرادها ضربا من العبث ليس فيه غناء!
على أنني أروي في هذا الباب حكاية لا تخلو من تفكيه، أرى القارئ محتاجا إليه بعد كل هذا الجد الأليم، وهو على كل حال من باب «وشر البلية ما يضحك» ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
من ثلاثين سنة أو تزيد قليلا بدا لبعض مديري الأقاليم، أو أنه في أغلب الظن قد أوعز إليه بعض السلطات العليا أن يدعو من قبله من الأهلين إلى المساهمة في عمل ذي صيغة اقتصادية، تغل المائة من رأس ماله أربعة في العام، ويلح المدير كما هي العادة على مأموري المراكز، ويلح هؤلاء على عمد القرى، ويلح هؤلاء على الأهلين ولم يكن في يد هؤلاء فاضل من مال إذ لم تكن السنة سنة رخاء، فماذا لعمري يصنعون ليتعاونوا على هذا الخير الاقتصادي العظيم؟
اللهم لا حيلة لهم إلا في أن يعوذوا بالمرابين، فيقترضوا منهم المائة بخمسة عشرة، وبعشرين، وبثلاثين؛ ليثمروها في هذا المشروع المبارك الذي تغل مائته في العام الأربعة لا تزيد!
وهذه الحكاية - ولا ريب - ستذكرك حديث جمع السلاح في عهد السلطة، وقد أوردته عليك في «الثقافة» من بضعة أسابيع، وهذه وتلك إذا اختلفتا في الموضوع فكلتاهما تلتقيان في الدلالة على الأسلوب الذي يجري عليه حكام الأقاليم في تنفيذ المشروعات التي يراد بها الإصلاح من أي نوع كان، وهذا من شأنه حتما أن يزيد خلة سوء الثقة التي طبع عليها الفلاح المصري من الزمان البعيد!
ومن أغرب الحوادث التي صادفتني في هذا الباب أنني ذات عشية، وذلك من نحو اثني عشر عاما طلبت ميدان السيدة زينب - رضي الله عنها - لأستقل الترام إلى محطة مصر؛ إذ كنت أسكن في خط المطرية، فرأيت خلقا كثيرين ينتظرون وتبين أن الترام تعطل في بعض الطريق لأمر ما، وطال انتظار الناس وكلما تقدم الزمن كثر المنتظرون، وجعلوا ينتظمون جماعات يتحدثون في أمر الترام ثم في غير الترام، وفيما هم كذلك إذ يقبل اثنان من الفلاحين تضطرب أسنانهما بين الأربعين والخمسين، فيسأل أحدهما أول رجل من أول مجموعة يلقاها عن موقف الترام الشاخص إلى باب الحديد، فيدله عليه ويشير بيده إليه فيسأل من يليه السؤال نفسه فيجيبه بالجواب نفسه، ثم يسأل من يليه كذلك، فيكون الجواب بالضرورة كذلك، حتى إذا فرغ من سؤال هذه المجموعة فردا ففردا، تولى عنها وأقبل على غيرها يسألها هكذا وهكذا، وأنا في أثناء ذلك ألاحظه ودمي يغلي من الغيظ في عروقي، ورأيت من الخير أن أبعث الطمأنينة في نفسه ونفس صاحبه ، فأكسب الأجر في هداية السائل الضال من جهة، وأريح نفسي من شهود هذا الإلحاح الشنيع من جهة أخرى.
وتقدمت إلى الرجل وأخذت بيده، وجررته إلى الموضع الذي كنت أنتظر فيه، وقلت له: يا سيدي! أنا أيضا ذاهب إلى باب الحديد فاركب أنت وصاحبك معي، وسننزل في الميدان معا، ويشاء الله ويقبل الترام ويثب الناس إليه وثبا متسابقين في إحراز المجالس، ويثب الفلاحان كذلك، وصادف أن وقع مجلسهما في الدكة التي أمامي من المركبة مباشرة، ولم يكد يستقر بهما المقام حتى مال ذلك الرجل السآل إلى من على يمينه يقول له: صحيح ياخويا العربية دي رايحة باب الحديد؟ فيجيبه جاره: أن نعم ... فيمط عنقه إلى الجالس بجواره ويوجه إليه السؤال نفسه، فيبادره بالجواب نفسه، فينتقل بالمسألة إلى الدكة التي أمامه، حتى إذا قر الجالسين عليها بالسؤال واحدا فواحدا لم يرعني إلا محاولته التعلق بمتكأ الدكة التي أمامه ليبلغ رأسه التي أمامها، فجذبته من فضل عباءته وقلت له: يا رجل! ألم أقل لك: إنني أنا أيضا ماض إلى باب الحديد؟ فاطمئن وكن حيث أكون!
ووالذي بيده نفسي لقد كان جوابه الحاضر العاجل: «ومنين جاني إن ذمتك نضيفة؟»
ولقد يكون هذا الرجل غاليا مسرفا في سوء الظن بالعالم كله، ولكن هذه الخلة على أي حال شائعة في سواد الفلاحين المصريين.
وبعد، فيا أيها العاملون! إذا كنتم تبغون الإصلاح حقا، ولست أشك في أنكم تبغونه حقا، فعليكم أولا أن تقنعوا الفلاح على وجه خاص أنه ليس وحدة منفصلة مستقلة، بل إنه عضو من المجموع، شأن اليد أو الأذن أو الأنف من الجسم؛ يقوى بقوته ويضعف بضعفه، ويموت بموته، وينعم بنعيمه، ويشقى بشقائه، ويعز بعزه، ويذل بذله!
وعليكم ثانيا أن تشيعوا الطمأنينة في نفس الفلاح، وتردوا الثقة بالناس عليه فلا يعود ما يرى أحدا من الناس إلا قدر فيه عدوا يكذبه ويغشه، ويسعى جاهدا إلى المكر به والكيد له ما وجد إلى ذلك سبيلا!
وعليكم ثالثا أن تكونوا موضع الحكام من قلبه، فلا ينظر إليهم نظر الضحية للجزار، أو نظر الطير للصائد على تعبير الزعيم الأعظم - رحمة الله عليه - بل ينظر إليهم على أنهم كافلو أمنه، ومتعهدو رفاهيته ويسره، ومرشدوه إلى طرائق خيره ونفعه.
فهلم، جردوا الحملات من الدعاة القادرين، حتى يمتلخوا من صدور الفلاح ما غرست عهود الظلم والاستبداد، فإذا بلغتم هذا الذي فانتظروا من مساعيكم خير الثمار، والله تعالى نصير العاملين.
في الطفولة المشردة
من بضع ليال خلت سمعت من الراديو صدرا من الأحاديث القيمة والأزجال الطريفة التي ألقيت في حفلة «الطفولة المشردة»، وما إن انصرف الراديو إذاعة أخرى، حتى شغل حدث هؤلاء الأطفال المشردين ذهني، وملك على نفسي.
هذا بصري يتعثر فيهم في كل شارع من شوارع القاهرة، وكل جادة من جوادها، وكل زقاق من أزقتها، لا يخلو منهم مكان في ليل أو نهار!
ناحلو الأجسام، بادو العظام، حتى كأنما شدت الجلود عليها شدا، فلم نفسح بينهما لغير العروق مسلكا، وهذه وجوه مغبرة كأنها بعثرت لتوها من جدث، وهذه عيون حيرى لا تكاد تقع على شيء حتى تتحول مسرعة، خشية أن يعتريها المكروه من الناحية الأخرى، فهي في فزع دائم وروع مقيم، دائمة الوثب والتواري خلف الجدران، تحسب كل صيحة عليها ولا تحسب عينا مفتوحة إلا لتصيبها، ولا رجلا ماشية إلا لتركلها، ولا يدا مرسلة إلا لتتهيأ للبطش بها.
ولقد تحسب، في بعض الحين أنها أصابت من هذا العدو - جمهرة الناس - الفرة ووافقت منه الغفلة، فسرعان ما تنقض انقضاض العقاب على عقبة سيجارة، فإذ هي التقطتها ولت مسرعة تضرب ذات اليمين وذات الشمال، فرارا من الطلب الدراك ليس له انتهاء، ولقد تراها في تلك اللحظة - لحظة الأمن - وهي تنبش الزبل في وعائه القائم في بعض الطريق، لعلها تصيب كسرة أو فضالة من طعام!
هي أشباح تغدو وتروح كأنها أضغاث حلم ثقيل! وكثيرا ما تسمع منها سعالا ينبيك عما يمزق الرئه ويتطلع منها إلى الضلوع!
جرم يجن أخبث الأمراض، عليه خرقة تحمل بذور أفتك الأمراض، فشأنه شأن ضغث من الهشيم قد اشتعلت فيه النار، والرياح ترمي بشرره هنا وهناك، فلا تأتي عليه النار إلا وقد تسعرت في كل ما حولها من الأشياء.
مخلوقات معذبة، وهي في الوقت نفسه حشرات سامة تفشي العلل والأوباء في جماعات الأصحاء.
والآن يحسن بنا أن نلم إلمامة يسيرة بالناحية الخلقية من هؤلاء الطفل المشردين، فليس الخطب في الصحة بأشد من الخطب في الأخلاق، وأنت خبير بأن هؤلاء لا يخرجون إلا من أحط البيئات وأشدها جهلا، وأعظمها إمعانا في الفقر والإعواز، وهل يبعثهم على عيش التشرد إلا أن كافليهم قد ثقلوا بهم، وصفرت أيديهم عما يرزقهم ويجمع شملهم؟ ولقد يكون هؤلاء لكافلون من الآباء أو الأعماء أو الأخوال أو الإخوة الكبار أو أزواج الأمهات، قد يكونون ممن يؤثرون الدعة، ولا يجشمون النفس سعيا، فلا يرون إلا أن يتركوا هؤلاء الأطفال في الطرق ليشحذوا ويجمعوا أعقاب السجاير، ويسلبوا من جيوب الغافلين ما تطوله أيديهم ليظلوا هم في أكسار الأكواخ ضاجعين هانئين!
لم تفتح قط عين مخلوق من هؤلاء على دين أو على خلق أو قانون أو أي شيء من آداب السلوك في هذا العالم، فهو إنسان - إن صدق هذا التعبير - مفقود الضمير، هو مخلوق لا يفرق بين الخير والشر، ولا بين الفضيلة والرذيلة ولا يميز الحرام من الحلال، ولا يعرف ما يسوغ في العرف وما لا يسوغ، وإذا كان مسوقا بحكم الغريزة الحيوانية إلى ما يسد الجوع، فإنه يلتمس القوت بكل ما يتهيأ له من الوسائل، من تكد وجمع ما يعود على شمله من أعقاب السجاير، والفحص عن فضلات الطعام ولو في المزابل، والسرقة ما وجد إليها السبيل، فإذا رأيته مكفوفا عن السرقة والتلصص في وقت ما، فما كان ذلك لأن له ضميرا يزجره، ويخوفه عاقبة السرقة عند الله وعند الناس؛ بل لأنه يرى بعينه أن من يؤخذ في سرقة، يعاقب بالحبس المرهق أو بالجلد الموجع الأليم!
ولقد ترى هذا المخلوق إذا خلا بأمثاله يكاثر بما اكتسب في يومه من الرذائل من سرقة أو غش أو إيقاع أذى بمن لم يلحقه منه أذى، أو بتضليل من استهداه السبيل، يفعل هذا في زهو يشبه الافتتان!
فإذا رأيت هذا منه فاعذره، فهو لا يدري البتة أنه يجرم، بل إنه لا يدري البتة ما الإجرام؟
وبعد، فإذا جاشت في صدر هذا المخلوق عاطفة، فالحقد الشديد على هذا المجتمع الأثيم الذي لا ينفك يؤذيه أو يحاول أذاه أنى وجده، ويجهد في الحيلولة بينه وبين الكسرة يمسك بها الرمق، ولو التمسها في وعاء السرجين، وينفس عليه حتى بالضجعة في ظل جدار على عذار الطريق!
هو مملوء حقدا واضطعانا على هذا المجتمع ولو وجد السبيل لحرقه بنار السعير، فإذا كتبت السلامة من العلل لهذا الشقي الصغير، وقدر له أن يشب ويكبر فانظر أي صائل فاتك من هذا الغلام يكون؟ فاتك حاشا له أن يزجره عن أعظم الإجرام زاجر من ضمير أو دين أو من رحمة أو من قانون!
وبعد، فإن هذا الصنف من الأطفال يشغلون مع الأسف العظيم نسبة غير يسيرة من مجموع الأمة، فلا ينبغي أن يزهينا اطراد الزيادة في العدد، إذا كان قدر عظيم من الزائدين من هذا الطراز!
على أنه لو تيسر لنا أن نسقط جميع هؤلاء من التعداد؛ لأنه لا جدوى منهم على الأمة؛ بل لأنهم غير أكفاء للحياة، لو تيسر لنا أن نسقطهم من الحساب لهان الخطب، ولكنهم في جسم الأمة عضو متآكل لا يلبث أن يمتد بالفساد وأسباب العطب إلى ما حوله من الأعضاء، فهم أداة متنقلة جوالة لنشر الأوبئة في الصحة وفي الأخلاق إلى ما يؤذون به غيرهم من السرقة والعدوان.
إذن فكيف الحيلة في دفع هذا البلاء الكبير عن البلاد؟
اللهم إنني لا أظن أن العلاج النافذ في أن نبث الجمعيات، ونجمع الأموال لنتلقط هؤلاء الغلمة من الطرق والأزقة، ونحشرهم في الملاجئ والمصحات.
نعم، ليس يجدينا هذا كثيرا في دفع هذا البلاء؛ ما دامت هذه البيئات قائمة على هذه الصورة، وما دامت الأرحام فيها تدفع الأطفال من غير حساب!
إن الداء لا يحسم بتلقط هؤلاء المشردين وحشرهم ذلك المحشر، مهما تتهيأ لنا الملاجئ ويحصل في أيدنا من جلائل الأموال.
لست أزعم أن إنقاذ هؤلاء الأطفال بإيوائهم إلى الملاجئ، وتعليمهم ما يفتح عقولهم، وينير بصائرهم، ويوقظ ضمائرهم، وتمرينهم في ألوان من الحرف تجديهم إذا انحدروا إلى ميدان الحياة، لست أزعم أن هذا القدر لا يجدي ولا يفيد، بل أزعم أنه يفيد بعض الفائدة على أن هذه الفائدة لا تعدو تلطيف العرض، ولكنها لا تحسم العلة ولا تجتث جرثومة الداء.
إن من تدفع الأرحام كل يوم من هذه البيئات هم أضعاف أضعاف من يستطيع الخيرون السعي إلى إنقاذهم على هذا الوجه، بحيث يرى المصلحون أن سيلهم سيظل متدفقا على المدن لا ينقطع له مدد.
والرأي الذي أرى، أن يبدأ المصلحون العاملون ببحث هذه المعضلة الخطيرة من عند أولها، لا من عند آخرها، بالنظر في رفع المستوى العقلي والصحي في تلك البيئات الوخيمة، وتقييد الزواج بالقدرة على كفالة الولد، أو السعي إلى منع تسرب الولد إلى هذه الحياة، ما دامت هذه سبيله في الحياة، على أنه يجيز ذلك أئمة الشرع الكريم ولا ضير؛ بل من الخير أن يظل هذا الإنقاذ قائما حتى يكتب لجسم الأمة البرء والشفاء، من هذه العلل والأدواء.
في الإجراءات
في آخر تقرير أصدره اللورد كرومر، المعتمد البريطاني عن مصر، وكان ذلك على ما أذكر في سنة 1905 أو 1906، أراد أن يشهر بالإدارة المصرية تشهيرا قاسيا، فروى الحادثة الآتية، قال: ضلت أتان صغيرة لرجل من أهل قرية في الصعيد الأعلى، فبادر بإبلاغ العمدة، وهذا أبلغ «النقطة» وهذه أبلغت المركز، وأنشأ المركز يتخذ الإجراءات اللازمة في مثل هذه الحال من التحقيق مع الرجل أولا، ومع الجيران ثانيا، ومع من عسى أن يكون قد رأى من الناس أو سمع ثالثا، ثم جعل يراسل المراكز الداخلة في سلطان المديرية، وهذه تراجع في الأمر ما دونها من نقط البوليس، وبعد لأي جعل يراسل بواسطة المديرية، المحافظة والمديريات الأخرى، وهذه تراجع ما يدخل في سلطانها من الأقسام والمراكز، وهذه تراجع ما دونها من نقط البوليس فعمد القرى وهكذا، ويدوم البحث عن الأتان الضالة على هذا الأسلوب بضع سنين! ولقد فاتني أن أذكر لك أن صاحب الأتان قومها في أثناء التحقيق بثلاثين قرشا صاغا لا تقل مليما!
ولقد بدا للورد كرومر أن يحصر الجهود والأموال التي بذلتها الحكومة في هذا السبيل، وكيف سوت أكواما من الملفات «الدوسيهات»، وما بري فيها من الأقلام، وما نفد من المداد، وما سود من الورق، وما اضطرب به البريد في أرجاء البلاد، وما استهلك من وقت الموظفين الذين لا يحصون عدا، ومع هذا لم تهتد الإدارة إلى تلك الحمارة، وهذا مع الأسف العظيم.
وحدثني الثقة الصادق وذلك من ثمانية عشر عاما قال: ضلت حمارة - أيضا - لرجل يقيم في قرية من أعمال إحدى المديريات في الوجه البحري، فأسرع إلى إبلاغ المركز، وهذا أحال التحقيق على أحد حضرات معاني الإدارة، ولم يمض غير قليل حتى قدم إلى ديوان المركز رجل آخر وهو يقود حمارة قال: إنه رآها على «السكة الزراعية»، وليس يقودها أو يسوقها أو يرعاها أحد، فأحيل التحقيق في هذا البلاغ على حضرة معاون إدارة آخر، وظل ذلك يحقق ابتغاء الاهتداء إلى الحمارة، كما ظل هذا في الحجرة المجاورة يحقق ابتغاء الاهتداء إلى صاحب الحمارة، وطالت الحال على هذا أشهرا، ولعلها كانت تطول سنين، لولا أن المصادفة السعيدة وحدها كشفت عن الصلة بين الحمارة وفاقدها، فردت إليه بعد استيفاء الإجراءات أيضا!
وألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينا بالإياب المسافر
وإليكم، يا معشر القراء، ما هو ألذ وأبدع ...
لاحظ مأمور قسم ثاني أوقاف وذلك في سنة 1911، وكنت يومئذ موظفا في سكرتارية ديوان الأوقاف، لاحظ هذا المأمور أنه كلما مر في ميدان العتبة الخضراء وجد دكانا بعينه مغلقا، وهذا الدكان داخل في وقف المكاتب والمدارس، فلما كثر ذلك وطال عليه الزمن، كتب إلى الديوان العام يسأل عن السبب في انغلاق هذا الدكان تلك المدة الطويلة، في حين أنه مما يغل أغلى الأجور؟
وانتهت المكاتبة إلى القسم المختص، ولكنه بعد البحث والتفتيش الأسابيع أو الأشهر ذات العدد، لم يهتد إلى السبب أيضا، فجعل يراجع الأقسام الأخرى التي يقدر فيها علما بالخبر واحدا بعد واحد، فلم تهتد هي الأخرى إلى شيء أبدا!
وأخيرا، وأخيرا جدا، تنبه أحد الموظفين إلى أن دكانا من دكاكين وقف المكاتب والمدارس في العتبة الخضراء كان يقوم في شأنه نزاع بين الديوان وبين المستأجر، وهو من رعايا إحدى الدول الأجنبية.
وهنا جد القسم في الطلب، وأنشأ يقص الأثر أعني أثر الورق، حتى انتهى إلى أن ذلك النزاع رفع إلى المحكمة المختلطة وموضوعه تأخر المستأجر عن أداء الكراء، وبعد الحكم ابتدائيا عليه بأداء المتخلف والإخلاء، رئي أن الرجل قد يبعد أجل التسليم بإطالة مدة النزاع، ولا يعرف له مال يرجع عليه، وهو لم يدع في الدكان إلا بضعة كراسي ونضدا - ترابيزة - من القش، وكل ذلك لا يقوم بأجر أسبوع واحد من أجر هذا الدكان، فرأى قسم القضايا، اقتضابا لهذه الخسائر أن يصالح هذا المستأجر على تسلم الدكان، أما المتأخر من الكراء فالعوض فيه على الله!
المفتاح في الدسييه
ولما اهتدي أخيرا إلى حضرة المحامي الذي تولى الصلح عن الديوان، وسئل كتابة عن مفتاح الدكان، وقع «أشر» على الورق - رحمة الله عليه: «المفتاح في الدسييه.» وكذلك تهيأ فتح الدكان، بعدما أصدأ غلقه طول الزمان!
على طرف وقفه
على أن الرواية لم تتم فصولا، فإنه لم تمض بضعة أسابيع على هذا الكشف الأثري الخطير «المفتاح في الدسييه» حتى رفعت إلى المجلس الأعلى مذكرة توج جبينها بهذا العنوان: «أطلب رفع مبلغ ... على طرف وقفه» وهذا تعبير مصطلح عليه، كلما عرض ما يدعو إلى التجاوز عن قدر من المال عجز الديوان عن تحصيله لإفلاس أو هرب أو نحو ذلك.
أتدرون يا سادتي القراء ما مقدار هذا المبلغ الذي رفع على طرف وقفه في هذه القصة الطريقة؟ إنه لا يزيد على بضع عشرات وأربعمائة وألف جنيه فقط لا غير!
ولقد كان هناك إلى وقت قريب، تقليد مأثور، مقدس مرعي عند الكثرة من موظفي الحكومة، وهذا التقليد المقدس هو «ركن» الورق في الأدراج قبل إنجازه والنظر فيه، وهذا «الركن» تتفاوت مدته بتفاوت العوامل التي تضطر الموظف إلى استخراجه وتحريكه، فإذا ما بادر أحد الموظفين بإنجاز ما بين يديه من غير قوة مرغمة قاهرة، اتهم من هذه الكثرة بالغفلة، وعد «غشيما» حينا، ومجازفا أحيانا!
وبسبب تعطل مصالح الناس، بحكم هذا الحال، وضياع المنافع عليهم في بعض الظروف، نجمت في مصر مهنة لا أحسبها معروفة لأية أمة من أمم العالم، وكانت تدر على محترفيها المال بقدر غير يسير.
ذلك بأنك إذا طفت في الصباح بالمقاهي التي تقرب من دواوين الحكومة، رأيت طوائف من الأفندية يجلسون وعيونهم تشك كل صادر ووارد من الناس، ومن سكان الريف على وجه خاص وهم يدعون: «الأفندية اللي يجروا ورا الورقة.»
فإذا ما كانت لأحد حاجة في بعض الدواوين أتحف أحد هؤلاء بريال أو بنصفه مقدما «ليجري عنه وراء الورقة»، وسرعان ما يشمر عن ساعده، ويهبط على حضرة الموظف الذي بين يديه المسألة، أو على الصحيح في درج مكتبه، ولا يزال به حتى يستخلص الأوراق منه، ثم يمضي وراءها إلى موظف آخر ثم إلى آخر، وهكذا لا يزال يحجل بين سي مرسي أفندي، وسي عبد التواب أفندي، وسي خلة أفندي، وسي متى أفندي يلح في رجاء هذا مرة، ويضحك هذا مرة، ويروي لذاك حديثا طريفا، ويتشفع إلى آخر بأحب الناس إليه وأكرمهم عليه، حتى يفضي بالمسألة إلى الرئيس المختص، وكذلك ينتهي الأمر بسلام، ويشتري الرجل وقته ومنافعه وكرامته التي تبتذل كلما طلع على موظف بين يديه أمره يشتري الرجل كل هذا بدراهم معدودات، ويستخرج حقه من لهوات الآساد، والله على كل شيء قدير.
وبعد فلقد كان هذا كله، وكان أعجب من هذا كله في وسائلنا الإدارية إلى وقت قريب، أما الآن فلا أدري ولا أظن، فإذا كانت قد بقيت منه بقيه فأحرى بهذه النهضات القوية أن تكتسحه بين يديها، وتطهر الدواوين الحكومية من هذا التعفن الذي يضرب في مصالح الناس بهذا القدر الجسيم.
خواطر في الصيف
بين الصيف والحر
قبل كل شيء ينبغي أن نفرق بين الصيف والحر، فالصيف هو صدر من العام له من الأيام مبدأ ونهاية رسميان يعرفهما أصحاب الفلك، وتدل عليهما التقاويم، أما الحر فهو وقدة الجو وسخونة الهواء، على أن بين الصيف والحر علاقة هي أن الصيف ظرف والحر مظروف، أعني أن الحر يقع عادة في فصل الصيف، كما يقع البرد عادة في فصل الشتاء، وإن كانت تختل هذه العادة في بعض الأحيان، فيلفح الحر في هذا كما يقرس البرد في ذاك.
وإنني أنتهز هذه الفرصة فأقرر أن من التجوز الشديد تقسيم الفصول في بلادنا إلى أربعة، أسوة بكثير من البلاد الأخرى: صيف، فخريف، فشتاء، فربيع. وأقول: من التجوز الشديد؛ لأننا لا نكاد نحس هنا إلا حرا وإلا قرا، فإذا اعتدل الجو في بعض الأيام فذلك نادر لا يستقيم به القياس في الأحكام، وإلا فخبرني بعيشك أين الربيع في مصر؟ اللهم إن أكثره لمحدود في وقدة الحر، وصدره منكمش في قبضة الشتاء!
ثم أين الخريف؟ أستغفر الله، فالخريف في بلادنا أعرف من أن تلتمس له وجوه التعريف، فهذه الحميات أشكال وألوان، وهذه الأوباء صنوان وغير صنوان، من تيفود وتيفوس، ومن أنفلونزا تقصف الأعمار وتخترم النفوس.
الصيف
ولقد تسألني: أي الفصلين أحب إلى أهل مصر؟ فأجيبك من فوري غير متردد ولا متفتر: إن أحب الفصلين إلى المصريين على وجه عام هو الصيف، الموسرون والبائسون في هذا الإيثار بمنزلة سواء، وإن اختلفت فيه السبل وتباينت الأسباب والعلل.
فالموسرون يحبون الصيف؛ لأنهم يشدون فيه الرحال إلى أوروبا ليصيبوا من اللهو واللذة إلى منتهى الجهد، ويبلغوا الصبا أو التصابي غاية الأثر، فإذا صرفهم عن الشخوص إلى الغرب صارف، فهناك المتسع في قصور الرمل، والتقلب في المتع على سيف البحر - البلاج.
وأما ثلاثة أرباع الموسرين وأنصافهم، وأعني جمهرة الموظفين فيحبون الصيف؛ لأنهم يتحررون فيه من كد العمل، ويخرجون فيه بالإجازات السنوية إلى الغرب أو إلى الثغور المصرية ليصيبوا ما يصيب الموسرون، فمن لم يستطع هذا ولا هذا فحسبه الراحة والدعة، وهيهات أن تضيق به الدنيا وفي الضواحي سعة، وطلاب العلم وسائر التلاميذ، ففي الصيف عتقهم من رق المذاكرة والدرس، وإطلاقهم من إسار الجسم وإسار النفس.
هذا ما كان من أمر الموسرين وأشباه الموسرين، والوجه في إيثارهم للصيف وتعجلهم لمقدمه طوال العام، أما المقترون البائسون فلعل حبهم للصيف أشد وإيثارهم له أعظم، فقد علمت - حفظك الله - أن برد الشتاء يحتاج إلى التدثر وتلفيف عامة الجسم بمختلف الثياب، وقد لا يغني منها إلا المتين الصفيق، كما يحتاج إلى اتخاذ الفراش وإثقال الغطاء، والتماس وسائل الدفء خلاصا من حدة البرد وتفاديا من أذى الضر.
ثم إن البرد كما تعلم، يفتح اللهاة ويهيج الشهوة إلى الطعام ويسرع بالهضم، وتدعو الطبيعة فيه إلى موالاة الأكل تحريكا للدم، وبعثا للحرارة في الجسم، وكيف للمعسر إذا واتى نفسه بكل هذا بمواتاة الولد، وسد جوعهم ونهمهم ومطاوعة شرههم وقرمهم؛ إلى ما يقتضي من النفقة في الثوب والرداء، والفرش والغطاء والقدة والاصطلاء؟
أما الصيف وحبذا وقدة الحر في الصيف، فهي كما تعلم أيضا مما يسد اللهاة، ويقبض شهوة الطعام ويفتر الجسم ويخذل المعدة، ويأبى عليها الحركة إلا بقدر يسير، فهي في هضم الطعام محتاجه إلى الزمن الطويل، فإذا زاد الطعام في المقدار أو أكثر فيه الدسم أثقلها وأبهظها، وأغناها بالوجبة الواحدة في اليوم الأطول.
وأما الرداء فخيره أخفه وأشفه، وأما المنام فعلى جلدة السطح أو بين يدي الباب، وإلا ففي عذاري الطرق متسع للجميع.
أصدقت الآن أن الصيف أحب إلى الفقراء أيضا، وآثر عندهم لرفقه في أبواب المعيشة بهم، وتخفيفه في وجوه النفقات عنهم، ولا تظن أن وقدة الحر ترهقهم كما ترهقك، وأن شدة القيظ تبلغ منهم بعض ما تبلغ منك، فإنه لا يصنع بك هذا إلا تعود الترف وإرسال النفس في فنون النعيم، وحسبك أن تتفضل بزيارة شارعنا في منتصف الساعة الثالثة بعد ظهر يوم حلقت حرارته إلى السادسة والأربعين؛ لترى هذا الذي يحمل على رأسه هرما من البرتقال أو الموز أو التفاح ، وهذا الذي يدفع بين يديه قطارا من «الشمام» أو «العجور» أو «الخيار»، وذاك الذي يقود برذونا يجر عربة بترول، وهو لا يفتأ يلهبه بالسوط ليتحرك؛ لأن هذا البغل إنما يضيق بالحر ويتخاذل به بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صاحبه، حبذا لو جزت بشارعنا في تلك الساعة وسمعت من حناجرهم ذلك الصريخ؛ لتشفق على النوام من سكان الأرض والأيقاظ من سكان المريخ، ولجزمت من أن واحدا من هؤلاء لو كان يستشعر قيظا أو يحس حرا، ما استطاع دفعا ولا استطاع جرا، ولكان جهده نفثا وصياحه لهثا! آمنت بالله المعين!
مصايف
على أن الله الذي قدر الأرزاق على بعض عباده قد مد لهم أسبابا من المتاع والسلوى والتفرج من كد الأيام، وإن للمعسرين من أهل القاهرة وغيرها من كبريات المدن لمصايف جميلة لا يكلفهم غشيانها من النفقة جليلا، بل إن شاءوا لا يجشمهم فتيلا، وحسبك أن تسلك في ساعة الغروب من أيام الصيف هذه «الكباري» التي تصل بين القاهرة؛ لترى أفاريزها تموج موجا بالواقفين المطلعين على النيل المتنسمين نسيمه العليل، وأكثرهم الشباب وأكثرهم هؤلاء تجدهم!
Chacun avec sa chacune
ومن سنين يسيرة كنت ترى جميع هذه «الشاكينات» ملففات في الملاء، أما الآن فترى كل ملاءة قد انحسرت عن فستان أو شبه فستان!
وقلت لك: إن هذه المصايف لا تجشم الرواد شيئا، فالرجل هي المركب في الغدو والرواح، والمرتع ظهر «الكوبري» فإذا أتحفت «الشكينة» من الحلوى بما يساوي «تعريفة»، فحبذا الهدية الثمينة والتحفة الطريفة!
وأخيرا فإنني لا أحب أن أنصرف عن هذه الخواطر العجلى دون أن أثبت ملاحظة، أو على الأصح دون أن أدل على ظاهرة طبيعية اختص الصيف بها مصر دون سائر بلاد الله.
هذه الظاهرة العجيبة أن هناك اتفاقا وثيقا لا شك أنه أوثق من اتفاق دولتي المحور، بل إنه لأشد وثاقة من الاتفاق بين إنجلترا وفرنسا القائم في هذه الأيام، وهذا الاتفاق الوثيق المتين معقود بين الطبيعة و«وابورات» الثلج في مصر، ومقتضاه أنه بمجرد ارتفاع درجة الحرارة إلى الحد المرهق تنكسر «وابورات» الثلج من تلقاء نفسها كسرا لا يجبره إلا اعتدال الجو وابتراد الهواء، وبرغم أصحاب تلك «الوابورات» وبرغم الثلاجين المساكين يرتفع ثمن «اللوح» إلى العشرين والثلاثين والأربعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أصدقت الآن أن هذا الاتفاق أوثق خمسين مرة من الاتفاق بين من ذكرنا من الدول!
وحاشا أن يبلغ اتفاق الساسة مهما كانوا من الأبرار، اتفاقا تعقده الطبيعة وتبرمه الأقدار!
في التليفون
لقد أدركنا من صدر نشأتنا جمعيات كانت هنا وهناك من أحياء القاهرة وغيرها من المدن الكبرى، وهذه الجمعيات كان يغشاها كل من يشاء، إذ تلقى فيها الخطب وتعقد المناظرات، يتولى أطرافها في الغالب متقدمو الطلاب، وحديثو العهد بالتخرج من المعاهد والمدارس.
ولعل أهم الأغراض من قيام تلك الجمعيات، إذا لم أقل غرضها الفذ، إنما كان التمرين في الخطابة، وتعويد الألسن الانطلاق في المجامع والمحافل، فكنت تسمع المحاضرة في منافع الهواء، وفي مزايا الشمس وفي فضل الماء على الخليقة مثلا، كما تسمع المناظرة في المفاضلة بين السمك واللبن، ولا تنس «فيض المنن في تفضيل السمك على اللبن»، والموازنة بين القطار والتلغراف «السلك والوابور».
وأرجو أن تصدقني إذا زعمت لك أنه كانت تعقد المناظرات أيضا في المفاضلة بين العلم والجهل، على أنه كان يتقدم للكلام في تفضيل الجهل على العلم من يظن أنه أنطق المتناظرين لسانا، وأطلقهما بيانا وأسطاهما قولا وأحضرهما حجة، حتى إذا ما ظهر على خصمه، وأدحض على فضل العلم دليله، كان ذلك دليلا على فضله هو وسبقه في حلبة البيان! وما ضر ما دام الغرض التمرين في الخطابة، وشحذ ملكة الجدل والتماس وجوه الأدلة على صحة الرأي واقعا حيث وقع من الصواب والسداد، أو من البطلان والفساد؟
وبعد، فلا ريب في أنه أصبح سمجا كل السمج بكاتب أن يقول اليوم في منافع التليفون، وما يوفر من الوقت في الكثير من قضاء الحوائج، وما يسرع بالإسعاف في الكوارث، ويعين على ضبط الأمن وكف العوادي، ويؤذن بالأسعار لوقتها في التجارات الهامة فلا يغبن بائع ولا شار، وييسر المشافهة بين الأقرباء، والأصدقاء، والأحباء على بعد المسافة وطول المدى ... إلخ. إلخ. إلخ.
إذا كان سمجا بكاتب أن يعرض لمثل هذا في الزمن الذي نعيش فيه، فما أحسب أنه سمج بأحد أن يشكو التليفون، وما يبلغ من أعصاب الناس هذا التليفون!
ولعل قائلا يقول: ما بال فلان يعبر عن هذه الأداة بكلمة «تليفون»، ولا يعبر عنها «بالإرزيز» التي اختارها المجمع اللغوي، وهو أول الناس باتباع ما يقر المجمع من تسميات؟
وفي الحق، لقد كانت هذه الكلمة شؤما على المجمع، وكانت مفتاحا لكل ما أمطر من تندر وتقليس لا أشك في أنهما كادا يعوقان سعيه، إذا لم يكونا قد عاقا منه بقدر عظيم أو يسير، إذ المجمع بريء بريء بريء، فلا هو أطلق على التليفون إرزيز، ولا هو نظر قط في لفظة «إرزيز»، ولا عرض ولا عرض إلى هذه الساعة لتسمية التليفون وكيف يدعوه، وكل ما في الأمر أن للمجمع مجلة يصدرها طوعا لحكم المرسوم الصادر بإنشائه، وهذه المجلة مقسومة إلى قسمين: قسم رسمي، وينشر فيه ما يصدره المجمع من قرارات، وما ينتهي إليه رأيه في التسميات والتعبير عن المصطلحات، وقسم غير رسمي يكتب الكاتبون فيه من أعضاء المجمع وغيرهم ما بدا لهم من بحوث لغوية، ويقترحون فيه ما يشاءون من تسميات ومصطلحات ولا يعد المجمع مسئولا، ولا يمكن أن يعد مسئولا عن شيء من هذا، ولا يقال: إنه صادر عنه بحال، وكلمة «الإرزيز» خيبة الله عليها هي من هذه المقترحات في القسم غير الرسمي لا أكثر ولا أقل، أما «شاطر ومشطور وبينهما طازج» وأخواتها، فهي من بدع النكتة ومن خلق المقلسين!
نعود بعد هذا إلى التليفون ورزاياه، بعد أن آمن كل الناس بمنافعه ومزاياه: التليفون: عصمك الله من كل مكروه - كما تعرف - أداة سريعة للتخاطب، سواء في قضاء الحوائج أو في دفع الكوارث، أو في الاستنجاد في الأحداث أو نحو ذلك، على أن الكثيرين منا نحن المصريين والسيدات على وجه خاص لا يفرضون له ذلك البتة، بل إن بعضهم وبعضهن لينظمونه في جملة الآلات الموسيقية، كالعود والقانون والبيان، كما دعاه المجمع اللغوي، والكمان مثلا، فإذا أنعم الله على سيد أو سيدة من هؤلاء بالتليفون في دار صديق أو غير صديق، جعل يتحدث ويتحدث ما يكل ولا يمل، ولا يتعب ولا ينصب ولا تقفه شهقة، ولا يختلج له فك، ولا ينقطع له نفس، بل لعله في لذته واستمتاعه أمرح من مستمع إلى عود صناع، أو قانون ضارب حسان!
ومما حدثني به الثقة الصادق أن سيدة من صديقات أسرته، تختلف إليها للزيارة في أكثر الأيام، وما بلغت الدار قط إلا عدلت من فورها إلى التليفون، فتكلمت ثم تكلمت حتى إذا أذن الله للكلام بختام، رفعت السماعة ثانيا، وافتتحت مع آخرين حديثا آخر، وهكذا حتى إذا تمت لها ثمانية أحاديث أو عشرة قامت فجلست إلى صواحبات الدار، وما إن نفرغ من شرب القهوة بعد السلام وبث الأشواق وما إلى ذلك، حتى تهرع إلى التليفون أيضا، فنعيد ما بدأت وتستأنف من الأحاديث ما قطعت وهكذا!
قال صاحبي: ولقد أقبلت هذه السيدة ذات يوم وأنا جالس في غرفة قريبة من آلة التليفون، بحيث أسمع برغمي الحديث في يسر، فأنا أشد الناس كراهة للتسمع على الناس، ورحت أعد «النمر» التي تطلبها، فإذا هي ست عشرة قد استهلكت جملة الأحاديث فيها ما يقرب من الساعتين، وإني أستطيع مطمئنا على ديني وضميري أن أحلف لك بكل ما يحلف به البار والفاجر، على أنه ما سقطت إلى أذني من كل ذلك كلمة واحدة تدعو إليها ضرورة، أو تبعثها حاجة أو تنفع في أي شيء أو تضر في أي شيء، أو يترتب عليها في يوم من الأيام أي شيء!
وحدثني صديق من الظرفاء قال: كنت جالسا في مقهى - كذا - وكان ذلك في شهر يوليو، وكان اليوم شديد الحر وبدا لي أن أتحدث في التليفون إلى صديق في شأن عاجل، فإذا مقصورة التليفون مشغولة برجل يتحدث جاهدا، ويهز رأسه هزا عنيفا، كأنما يوقع به على نبر الكلام، أو يمسك «الواحدة» على تعبير أصحاب الموسيقى، وانتظرت طويلا عله ينتهي فلم ينته، فعدت إلى مجلسي حتى مضى نصف ساعة أيضا، ثم نهضت فنقرت له على الزجاج أتعجله فالتفت إلي وإن كان فمه لم يلتفت، وجمع أطراف أنامله وأشار إلي بالتمهل فأمهلته، حتى سمعته يحيي صاحبه تحية الختام، ثم لم يرعني إلا أن يستأنف الحديث فيقول لصاحبه: «إلا قل لي» ويمتد الحديث شوطا آخر، فإذا أذن الله وسمعت منه «نهارك سعيد بقى» مثلا فتنفست الصعداء - كما يقولون - عاد فقال: «لكن ما قلتليش على كذا»، وهكذا حتى كدت أخرج من جلدي، ولم يغظني أكثر من أن أسمعه يقول في وداعه لمحادثه: «بكره إن شاء الله نتقابل في محل كذا.» فاقتحمت عليه المقصورة، وقلت له: «يا أخي! لقد سرقك الكلام فلقد صرنا بعد بكرة.»
ولا تظنن أن هذا الرجل وتلك السيدة من الشواذ فينا نحن المصريين، وأرجو ألا يغيب عنك أن هذه الإطالة التليفونية قد تجر أحيانا إلى أخطار، بل لقد تجر إلى أشد الأخطار، فلقد يطلبك قريب أو صديق، أو أي إنسان بينك وبينه عمل؛ ليحدثك في أمر عاجل فلا يصل إليك، حتى يفوت الوقت وتفلت الفرصة، وتضيع المنفعة أو تقع المضرة!
ولقد يحدث لبعض أهل الدار حادث من جرح ينزف الدم أو يكسر العظم، أو تسمم أو نحو ذلك، فيلتمس طبيب الأسرة في المقهى الذي اعتاد أن يقضي فيه بعض الليل، فإذا التليفون يئن الساعات الطوال، ما يسكن في أثنائها لحظة ولا ينقطع، ذلك بأن «دغفا» من زبائن القهوة يحدث صديقا ... فإذا شاء الله وبدا له أن ينتهي تلقفه منه آخر من طرازه وضربه، وهكذا ...
هذه بعض رزايا التليفون من ناحية الإطالة في الحديث في غير جدوى ولا ضرورة أبدا.
وهناك رزايا أخرى، نعرض نماذج يسيرة منها، والله المستعان:
لقد يدق جرس التليفون في الصباح الباكر وأهل الدار نيام في السادسة إذا كان الوقت شتاء، وفي الخامسة إذا كان صيفا، فيهبون مذعورين وقد وجفت قلوبهم، وزاغت أبصارهم وتداركت أنفاسهم؛ لأن التليفون في مثل هذه الساعة لا يمكن أن يفضي بخير، بل قل أن يفضي فيها إلا بالشر الكبير والعياذ بالله، ويتقدم أشجع أهل الدار ويتناول السماعة بيد مرعشة، ويقف سائرهم وقفة منتظري الحكم في الجنايات الخطيرة، ثم إذا هم يسمعون: «لا، النمرة غلط»، فينصرف كل منهم إلى سريره، أو إلى بعض شأنه ما يتكلمون، فقد عقد الذعر ألسنتهم واشتف دماءهم، فما يقوى أحد منهم على الكلام.
وكل ذلك؛ لأن البارد السمج يطلب التليفون في هذا الوقت، لا يجشم نفسه التحري عن الرقم المطلوب، ثم إدارة الآلة طوعا له، فيكفي الآمنين كل هذا البلاء!
ولقد يدق جرس التليفون فتجيبه، فيجري الحديث هكذا: - أنت س عطوة؟ - لا. - أمال أنت مين؟ - أنا مش س عطوة وبس! - طيب ما تقول أنت مين؟ - يا أخي، أنا لست س عطوة الذي تطلبه وكفى! - ده مش محل فلان؟ (ويعين متجرا أو مصنعا). - لا يا سيدي، هذا منزل! - منزل مين؟ - منزل لا شأن لك به يا سيدي! - أما شيء بارد! أما ابن ... صحيح! ويسرع إلى قطع طريق الحديث، والحمد لله!
ولقد يطلبك الطالب، فيسألك: أأنت فلان؟ فإذا سألته اسمه أبي أن يجيبك، أو تبدأ أنت أولا بالجواب عما سأل، وتراجعه في هذا فيلح ويأبى، إذ العرف واللياقة يقضيان بأن يفضي باسمه هو أولا؛ ليدع لك الخيار في حديثه أو الانصراف عنه.
ومما يتصل بهذا المعنى أن يطلبك طالب، فإذا سأله الخادم عن اسمه كان جوابه: بس قل له واحد عايزك، ولا يأذن باسمه أبدا!
ومما يتظرف به الكثير أن يطلبك بعضهم، وقد تكون مشغولا جدا، فإذا استوثق من شخصك، بدأك بالتحية فتحييه بأحسن منها أو مثلها، ثم كررها على ألوان وصور شتى، ولا يسعك إلا أن ترد عليه التحية بالتحية، ثم ما يروعك إلا أن يفاجئك بهذا السؤال: طيب أنا مين؟ - يا سيدي، قل لي حضرتك مين! - بقى مش عارف أنا مين؟ - بماذا تأمر يا سيدي؟ - لازم تقولي أولا أنا مين! - لعل خللا في أسلاك التليفون يغير من صوتك، فاعمل معروف وقل لي من أنت؟ - طيب افتكر كده؟
ولا يزال يلون لك هذا العذاب، أو تخبره من هو أو بعبارة أخرى لتلقنه اسمه، وتقدم إليه شخصه وتعرفه نفسه!
وكيفما كان الحال فقد أضاع وقتك وأثار أعصابك، وأفسد تفكيرك وأحبط سعيك، وحال بينك وبين معاودة عملك، وهكذا يكون التظرف وكذلك يكون الظرفاء!
أما حوادث الخدم، إذا كنت غائبا عن الدار أو كان متعذرا.
عليك الوصول إلى التليفون لوقتك، أما حوادثهم في تسجيل أسماء المتكلمين في ذاكراتهم، وفي تسجيل رسائلهم، وفي التبرع بالأجوبة عنك، فأيسرها ما يكدر بين الأخوين، ويفسد ما بين الصديقين، ويحبط ما عسى أن يكون لك من سعي، ويبطل ما عملت من عمل، لعلك نطت به أعظم الأمل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وبعد، فإذا كان لي أن أسأل الله لمجموعنا شيئا، فإني أسأله أن يعلمنا كيف نمشي في الطرق الحافلة بأسباب الدوس والصدام، وأن نلتزم في التليفون القصد والدقة وأدب الكلام.
وما ذلك على الله بعزيز!
كيف نمشي في الطرق
من الملاحظات، أو التشهيرات التي كان يتحفنا بها اللورد كرومر في تقاريره السنوية، أن أكثر الركبان في المدن - يعني ركاب الدواب من الجمال والحمير - إنما يسيرون على الطوار - الرصيف.
أما الرجال - الذين يمشون على أقدامهم - فلا يحلو لأكثرهم السعي إلا في وسط الطريق!
ولو قد بسط في عمر اللورد إلى هذه السنين لرآنا قد برئنا - الحمد لله - من نصف هذه العلة، وليس بمستنكر على الله أن يبرئنا من النصف الآخر في بضع سنين!
وإذا كنت أعرض للأخطار التي يستهدف لها السابلة في القاهرة على وجه خاص، فليس معنى هذا أنني أعض الساقة على اختلاف آلاتهم من المسئوليات، فهذا سائق سيارة يطير طيرا، لا يبالي أحدا ولا يبالي شيئا، كأن الله تعالى قد بسط هذه الأرض كلها له وحده، وصقل له وجهها مستقلا، فلا تعترضه حفرة ولا نتوء، ولا يعوقه شجر ولا حجر، وما تقوله في ساقة السيارات تقول أشنع منه في قادة «الموتوسيكلات»، وأما الغلمان الذين يحجلون بالدراجات فأولئك ندع حديثهم إلى القول في سالكي الطرق على وجه عام.
أما الترام وما أدراك ما الترام، فكثيرا ما يرى «الكمسارية» بعينيه الرجل، وقد يكون شيخا كبيرا وقد يكون رجلا مريضا، وقد تكون امرأة حاملا، وقد يراها تحمل طفلا، وتأخذ بيد آخر قد يرى بعينيه أحدا من هؤلاء يهم بالصعود إلى المركبة، إذ رجله الثانية لما تزل ثابتة على الأرض، فيسرع إلى النفخ في صفارته، وسرعان ما يتحرك القطار، وأنف وأرواح الناس، وسلامة جوارحهم من البتر والتهشم، راغم!
ودعنا من سائق السيارة يضرب بجهد سرعته في زحمة الناس؛ إذ هو مقبل بالحديث على من بجانبه أو مول ظهره وجه الطريق، مستغرقا في الحديث مع من في داخل العربة.
هذا كله معروف مشاهد لا نرى محلا للإطالة فيه وإقامة الأدلة عليه، وما لهذا سقنا الحديث، إنما سقناه لهذه الكثرة الكثيرة التي لا يحلو لها السعي إلا في وسط الطريق برغم احتشاده بالمهلكات المتلفات.
ولقد يلتمس ملتمس لهؤلاء عذرا بأن الطوارات - الأرصفة - في القاهرة أكثر حفرا من وسط الطريق، فهي أدنى إلى عثرة القدم، ولعل آخر يلتمس العذر في أن طواراتنا دائما أشد وساخة وأكثر قاذورات من عرض الطريق، وهذا - مع الأسف العظيم - ما لا أحسبه يقع في بلد آخر! وكيفما كان الأمر، فإن هذا وهذا لا يصلح عذرا للتعرض على هذه الصورة لكل ذلك البلاء المحيق!
وإذا تمثلنا هذه الكوارث التي تقع كل يوم في شوارع القاهرة وجوادها، فإن من الظلم الواضح أن نضيفها كلها إلى جنون السائقين أو إلى عجلتهم أو إلى قلة كفايتهم، بل إن من الإنصاف أن نفرض قسطا كبيرا من أسبابها إلى أولئك الساعين على الأقدام، وإلى أولئك الذين يحجلون بالدراجات في مزدحم الطريق.
وبعد، فلعل بعض قراء «الثقافة» ما برحوا يذكرون أنني ختمت مقالي السابق «في التليفون» بالابتهال إلى الله - تعالى - أن يعلمنا كيف نمشي في هذه الطرق الحافلة بأسباب الدوس والصدام، كما يعلمنا في التليفون القصد والدقة وأدب الكلام، والآن أعرض نماذج مما يجري في طرقاتنا وبعضها مما «يشيب الطفل من قبل المشيب».
ولقد عرفت بل لقد رأيت إن كنت من سكان القاهرة أو ممن يغشونها كيف يهجر الساعون مع أقدامهم الطوارات، ويتدفقون في عرض الطريق تدفقا، ما يبالي أكثرهم ما عسى أن يعتريه من قدامه أو من وراء ظهره، أو من يساره، أو من يمينه من تلك الفواتك بالأعمار والمفرقات للأعضاء، والمحيلات للأجسام الصحيحة في لحظة أشلاء بجانب أشلاء؟
ولقد ترى الماشي بين شريطي الترام وهو يسمع دويه وراء ظهره، إذ السائق جاهد في دق الجرس وموالاة هذا الدق، وصاحبنا لا يعدل ولا يتحول كأنه استحال هو أيضا تراما لا يستطيع السير إلا على الشريط، وفي اللحظة الأخيرة؛ اللحظة التي يعقبها البلاء الفاتك، يسمح حضرته بالتحنس في تثاقل عظيم ثم تراه يعود إلى سبيله وهكذا ...
وكثيرا ما ترى ناسا يمشون في يمنى الطريق وتقبل السيارة في جريها من ورائهم، والسائق ينبههم جاهدا إلى إخلاء السبيل بالاعتصام بالطور، أو على الأقل بالمشي بجانبه؛ ينبههم جاهدا بالبوق مرة، و«بالكلاكس» مرة، فلا يسمعون ولا يحفلون؛ إذ السائق المسكين أحيانا بين ثلاث: إما أن يسرع إلى وقف السيارة فجأة، وقد تنقلب في هذه الحالة وخاصة إذا كانت مسرعة، وفي ذلك هلاكه وهلاك من معه من الراكبين، وإما أن يعدل هو عن الطريق مفاداة لهذه العمد الساعية على الأرض، وقد يصطدم بجدار أو حامل مصباح، أو يدوس من لا جناية له من السائقين، وإما أن يتوكل على الله ويدوس في طريقه من يدوس من هذه العمد، ولعل هذا أرفق الحلول إذا لم يكن من إحدى تلك الحالات الثلاث محيص؟
ولقد أذكر أنني كنت ذات صباح شاخصا إلى الجيزه، فإذا الترام مزدحم جدا، وأكثر زاحميه من الطلاب الذاهبين إلى مدارسهم ومعاهدهم هناك، فلم أصب لي مكانا إلا وقفة بجانب السواق، ولم يرعني ونحن في بعض الطريق إلا أن أرى رجلا مقبلا على الترام من قدامه، وقد تحرى المشي بين الشريطين، والسائق يجهد في دق الجرس له، وهو لا يعدل ولا ينحرف ولا ينثني، حتى إذا اقترب منه الترام - أو على الأدق - حتى إذا اقترب هو من الترام اقشعر جسدي ووقف شعر رأسي؛ فأسرعت إلى المفتاح. ورجعته في عنف ليقف القطار، فالتفت إلي السائق وقال لي في شيء من الغضب: ما الذي دعاك إلى هذا؟ قلت له: ألم تر كيف أن الرجل كان عازما على أن يدوس القطار في غير إشفاق؟! فاشكر لي أن نجيتك كما نجيت نفسي وسائر الركاب من هذا الخطر العظيم!
أما الذين يحاولون قطع الشارع من العبر للعبر، فأولئك شأنهم أعجب وأغرب، وصنيعهم ألذ وأطيب، ومن الظواهر التي تسترعي للنظر حقا في هذا الباب أنك تجد هؤلاء دائما مستعجلين جدا وشجعانا مقاديم، لا يهابون أشنع الموتات في سبيل ... لا شيء مطلقا من الأشياء!
يريد أن يعبر الشارع، فسرعان ما يعبره ما يجشم نفسه الالتفات ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولعل أكثرهم يفحص عينيه من وقت العبور؛ لكيلا يرى الفواتك الجارية من هنا ومن هنا، وهذا ممكن ولعله في بعض الأحيان حسن، على أن هناك أمرا غريبا لا بد أن يكشف العلم عن سره في يوم من الأيام، ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يفحص عينيه لكيلا يرى، فهل ترى لآذان هؤلاء الناس جفون أيضا يستطيعون أن يطبقوها؛ لكي يستريحوا من استماع دوي الترام وجرسه، وزمر الأتومبيل وكلاكسه؟
وإنك يا سيدي القارئ لترى في كل شارع، في كل يوم، وفي كل ساعة، وفي كل دقيقة من لا يرضون أن يطمئنوا في مواقفهم حتى يجوز الترام أو تجوز السيارة مهما تكن سرعتها وقربها منهم، بل لا بد من القفز أمامها وقطع الشارع فورا، ولماذا ينتظر المرء دقيقة أو بضع ثوان، والوقت كما تعرف من ذهب؟
ولقد كنت في يوم من أيام الأسبوع الماضي أمشي في شارع قصر ابن العيني على الطوار طبعا، وإذا بالترام القادم من ميدان الإسماعيلية يجري بآخر جهده، وإذا بشيخ مرسل اللحية؛ مخفوض الشارب، يضع على قبائه - قفطانه - معطفا، وعلى رأسه طربوشا، وفي يمينه عكازة وفي يساره مسبحة تتلقط أنامله حباتها دراكا، وأنت خبير بما تفعل مع ذلك شفتاه أما ما يشغل قلبه فلا يعلمه إلا الله! أقول وإذا هذا الشيخ يقفز من بين يدي الترام قفزة عنيفة نجا بها - والحمد لله - وإذا كان ظله القصير لم ينج من وطء العجلات الأولى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ولقد لحقت به، وقلت له: يا عم! قد يجوز أن حسابك دقيق مضبوط في قياس سرعة الترام، ومقدار المسافة التي عليك أن تقطعها بين يديه، ومدى جهدك في القفز، والمدة التي تحتاج إليها في ذلك، لقد يكون حسابك في كل أولئك دقيقا مضبوطا، ولكنك لم تدخل في هذا الحساب عثرة الرجل مثلا، أو اعتراض سيارة مفاجئة من شطر الطريق الذي تطليه، فكيف كانت تكون الحال؟
فأقبل علي وقال: أي والله يا ابني! صدقت، ولكن ... ربنا يستر! ... آمنت بالله!
وأرجو ألا تنسى أن هذه الكلمة «ربنا يستر»، هي في هذه البلاد شعار كل ملق بنفسه إلى التهلكة، أو بغيره إلى الهلاك.
ومن بضع عشرة سنة كنت أركب الترام، وكان مجلسي خلف السائق مباشرة، وبينا كان يجري بأقصى سرعته في شارع كلوت بك إذا فتى يجوز من أمامه، ولولا أن السائق أسرع فضبط العجلات «بالفرامل» ضبطا عنيفا رج الركب رجا عنيفا وأزعجهم ازعاجا شديدا، لصار هذا الفتى «المستعجل» للحظته أنقاضا على أنقاض.
إذن لقد وقف القطار، ومر الفتى لم يكلم أي عضو من أعضائه كلما، بل لقد امتاز على هؤلاء الراكبين بالدعة، فما وجف له قلب ولا نبض فيه عرق، ولا امتقع لونه ولا جف ريقه، ولقد بدا لي أن أنزل فأتبعه لأرى ما الذي أعجله من جلى الأحداث العالمية، حتى خاطر بحياته بهذا القدر المرعب المهول.
وأتبعه حتى بلغ الطوار الثاني، فإذا هو فتى متشرد من هؤلاء الفتيان المتشردين، خلق الثوب، حافي القدم، وسخ الوجه والقفا، ثم وقف بحذاء دكان تبيع الشمال،
1
وجعل يحك قفاه بيده ثم قبض على دابة، قصعها بين ظفري إبهامه، ثم انكفأ يريد الطوار الثاني، فقلت في نفسي: لا بد أن يكون قد صدر قانون بتوقيع أشد العقاب على من يقصع ال ... على غير هذا الطوار!
بقي الحديث في راكبي الدراجات، وأكثرهم - كما ترى - من الغلمان الحفاة، وهو - ولا ريب - حديث يطول، ولا يعود يحتمله هذا المقال بعد كل الذي مضى من الكلام، ومبلغ القول فيهم أن الغلام الحافي من هؤلاء ما كاد يحصل على «قرش تعريفه» يهيئ له استئجار دراجة ساعة أو بعض الساعة، حتى يفرض أن شوارع القاهرة وجوادها وميادينها، وحواريها، وأزقتها، ومسالكها ودروبها، قد أخليت له إخلاء كاملا، ونفض من فيها من الناس والدواب وسائر وسائل المواصلات نفضا، فإذا لم يكن هذا متيسرا فلا أقل من أن يقف كل سائر، ويتربص في مكانه كل عابر، ويجمد كل متحرك حتى يجوز هو بسلام، ما تكلف أن يدق جرسا أو يرفع بالتنبيه والإنذار صوتا!
ولقد ترى الحافي من هؤلاء راكبي الدراجات، وقد اعترضته في سبيله سيارة من نوع «البويك» أو «الاستوديو بيكر» أو «الدملر» بل «الرولز رويس»، وهي تجري في سرعة عظيمة، إلا بسط إحدى ذراعيه إلى سائقها يشير إلى بالوقوف أو بالتمهل، على الأقل حتى يجوز هو، فله حق التقدم على كل حال بها، وسنده رجله الحافية بلا نزاع ولا جدال!
وكثيرا ما يفسد هؤلاء الغلمان الأمر على السائقين، ويقعونهم في الحيرة والارتباك، لقد يفضيان أحيانا إلى الأخطار الجسام.
وبعد، فإني أعود فأرغب إلى الله - تعالى - أن يخلصنا من هذه الآفات، ويعلمنا - بفضله - كيف نحسن السعي في الطرقات، آمين.
الانتقام اللذيذ
لقد تعرف أن من أسماء الله الحسني «المنتقم»، ولكن إياك أن تظن أن انتقام الله تعالى كانتقام الخلق، أخذ بالثأر، وإرضاء للحقد، وشفاء لغلة الصدر، فلقد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل إن المراد من الانتقام بالإضافة إليه - جل مجده - هو لازمة من التأديب وبسط العقاب المستحق، وإطلاق العبرة البالغة.
والانتقام قد يكون الأناسي، وقد يكون الحيوان، وقد يكون مما يعقل ولا يحسن من سائر الأشياء، وأرجو ألا تعجل بالعجب فستعلم نبأ هذا بعد حين!
وأحب، يا سيدي القارئ أن أؤكد لك أنني بحمد الله تعالى ما انطويت قط على حقد، ولا بت قط على ضغن ولا سرتني قط مساءة إنسان ولا حيوان، فلقد وقى الله بفضله صدري من هذا الداء، ونجاني برحمته من ذلك العناء.
على أنني - ولا أكتمك - أجد في بعض الانتقام، وأعني انتقام الله تعالى لذة وطربا، نعم لقد أحس لبعض ألوان الانتقام لذة لا أكاد أحسها للفرج بعد الضيق، وللين بعد الشدة، بل لا أكاد أحسها وقد جلست في ساعة اطمئنان النفس وهدوء البال للاستماع إلى غناء حلو يلتقي ببارع النبر على عود حسان صناع.
إذن فمن الانتقام ما يلذ ويطرب، كما أن من الانتقام ما يروع ويهول!
ولقد تقدمت إرادة الله في هذه الأهوال العالمية المهولة بانتقامين بديعين لذيذين، لا أخفيك أن نفسي قد أصابت منهما قسطا كبيرا من الراحة والمتاع.
أما أول هذين الانتقامين البديعين فمن بغض الناس، وأما ثانيهما فمن بعض الأشياء وإليك البيان: (1)
لقد جرت عادة الكثير من الموسرين وأنصاف الموسرين من سكان القاهرة وغير القاهرة أن يقضوا أشهر الصيف في رمل الإسكندرية، كما جرت عادة أصحاب الدور في هذا الرمل ومن في حكمهم من مستأجري دورهم للمدد الطويلة أن يشطوا في الأجور، ويبالغوا فيها مبالغة لم يكن يعبأ بها المصيفون بجانب استراحتهم إلى المصيف، واستمتاعهم وأولادهم بماء البحر وتنسم الهواء العليل، بعدما عانوا في عامهم، كبيرهم من كد السعي والعمل، وصغيرهم من كد الدرس والاستذكار، فلا بأس مع هذا بأن ينفق المرء في كراء البيت ضعفي ما يستحقه، ولا بأس بأن يشتري الخبز، واللحم، والسمك واللبن، والفاكهة، والجبن، والبصل ... إلخ، بأكثر مما يعلم أن جاره الإسكندري يشتري به بحجة أنه غريب «مصيف» ينبغي أن يستغله التجار والباعة بعض الاستغلال!
بل لا بأس على ساكن القاهرة مثلا إذا قال للفاكهاني الإسكندري بكم الوقة من هذا التفاح، وأرجوك أن تقرأها بكسر الواو، وبإبدال القاف بالهمزة - على نطق أهل القاهرة - لا بأس على ساكن القاهرة إذا وجه إلى الفاكهاني في هذا السؤال، فكان جوابه: «بعشرة جروش». ثم يهبط إسكندري فيسأله: «بكم الوجه»؟ فيكون الجواب: «باربعتاشر جرش» «يعني تعريفه»، يعني سبعة قروش صاغ لا أكثر!
لا بأس بهذا كله، فهو استغلال رقيق محتمل على كل حال!
أما الذي به كل الناس، والذي استحق من الله كل هذا الانتقام البديع اللذيذ، فهو أن ملاك الدور في الرمل ما كادوا يطمئنون إلى أن أحدا من المصريين لا يستطيع قضاء الصيف هذا العام في أوروبا، حتى أعلنوا تأرجهم في الأجر واشتطاطهم في الكراء إلى الحد المرهق المضني، فمن لم يطلب في كراء داره أربعة أضعاف ما كان يقتضيه في الأعوام السابقة، اقتضى ثلاثة أضعاف، أشدهم قناعة وزهدا فمن يرضى بالضعفين والنصف!
سكان القاهرة وغيرهم مضطرون هذا العام إلى اتخاذ المصايف المصرية؛ لأنهم لا يستطيعون تخطيها إلى البلاد الأجنبية، ويا لها من فرصة عظيمة تؤتي الغنى، وتجلب الوقت الوفر العاجل! أليس لنا البحر وشواطئه البديعة؟ أليس الله قد ورثنا نسيمه العليل؟ فما لنا نبذله في غير شيء لهؤلاء الفارين من حر القاهرة وغير القاهرة، وطالبي الاستجمام في هذا الجو المريح بعد العناء والكد في العام الأطول؟ ما لنا لا نقتضيهم عن روحه الموجة وهبة النسمة، ولو عصرناهم عصرا وبعناهم النظرة إلى الأفق شبرا فشبرا؟
هكذا شاءوا وعلى هذا جمعوا النيات والعزائم، وهكذا نسوا دورة الفلك الدوار، ونسوا أنهم يقدرون فتضحك الأقدار!
ولقد علمت أن المصريين جميعا وأعني مياسيرهم ومتوسطي الحال منهم، قد أمسكوا عن الشخوص إلى الإسكندرية هذا العام، نزولا على أمر الحالة الحاضرة ودور الرمل المهيأة للتأجير خزيانة تنظر! بل لقد علمت بعد هذا أن كثرة مالكيها ممن تضطرهم هذه الحالة الحاضرة إلى الهجرة إلى الريف، حيث يؤدون هم أجور السكن كارهين مرغمين!
أرأيت عدلا أحلى من هذا العدل، وانتقاما ألذ من هذا الانتقام؟ (2)
هذا ما كان من أمر الانتقام من بعض الناس، أما ما كان من الانتقام من بعض الأشياء فإليك الحديث: أنت - ولا ريب - تعلم أن القاهرة هي أجمل المدن المصرية، بل من أجمل مدن العالم كافة، ولعلي لم أحسن التعبير عن الواقع تماما، فأي جو غير جو القاهرة خانق يفر منه، وينبغي لبس القناعات الواقية فيه على الأقل؟
وإذا كنت في شك من هذا الكلام، فارجع إلى شأن تسعة وتسعين في المائة، أو تسعمائة وتسعين في الألف من موظفي الحكومة في الأقاليم نجدهم يصلون الليل بالنهار جادين جاهدين في التماس النقل إلى القاهرة، فمن لم يسع له أبوه عند كبار الحكام سعت له أمه عند نسائها، وهذه أم فلان تبكي حتى تستعبر بين يدي زوج الحاكم أو بنته أو أخته، فيرد عليها غربة ولدها المسكين الذي لا طاقة له بالغربة، فلم يألفها في حياته ولم يعرفها.
ولا تجد أحدا منا - نحن الموظفين - يعدم الحجة على طلب النقل إلى القاهرة، فمن ليس له أولاد في المدارس، فإن له - بحمد الله - أبا في «الاسبتالية»، ومن ليس له أم ضربها الفالج فإن له إخوة تربى على العشرة ... وهكذا!
وأما النقل من القاهرة فمصيبة دونها عندنا - نحن الموظفين - جدع الأنف وفقء العين، وصلم الأذن، وقطع اليد اليمنى التي نأكل بها ونشرب ونكتب، ونتناول بها أهم الأسباب، ونبسطهم لمصافحة الأهل والصحاب! ...
وصدقني إذا قلت لك: إن هذه الغربة تبتدئ عندنا نحن معشر المصريين من قليوب إلى الإسكندرية شمالا، ومن الجيزة إلى الدر جنوبا، كلها غربة تستدعي الحسرة، وتثير الزفرة، وتبعث العبرة، بل لا أكتمك إذا قلت لك: إن بعض من نقلوا من الأرياف إلى شبرا مثلا استأنفوا السعي لينقلوا إلى دائرة قسم عابدين ...
أصدقتني الآن في أن كل جو غير جو القاهرة، بل سرة القاهرة، خانق وجدير بالفرار، أو لبس القناعات الواقية على الأقل كما ذكرت؟
والآن، أين الريف الريف يا عالم؟ ومن لنا به؟ وكيف السبيل وا حسرتاه إليه؟
الريف البديع هواؤه، العذب ماؤه، الجميل رواؤه، من لنا به؟ من لنا به؟
أعوذ بالله! لا أنكر وجه القاهرة، وما أخبث مناخها، وأوخم هواءها، كيف كانت حكمة الله الباهرة، وكيف انتقم للريف المسكين من هذه القاهرة؟
بين الصفارة والريف
مما يجري على ألسنة المصريين في دعاء بعضهم على بعض «روح جتك غارة!» وكنا نحسب أن القدر كان يرد هذا الدعاء أولا فأولا، فلا يحل في موضع الاستجابة أبدا.
وها نحن أولاء نرى الآن أننا في هذا الحسبان كنا جد مخطئين، فإن القدر إنما كان يجمع هذه الدعوات ويحفظها، ولا يرد واحدة منها حتى إذا حل الوقت المقسوم، استجاب دعوة الجميع على الجميع!
كل يوم عواء صفارة ينذر بمقدم الغارة، فعلينا ونحن نجني ثمرات دعائنا بعضنا على بعض أن نثبت ونتجلد ونصبر، فإن الله مع الصابرين.
وفي الحق إن صوت هذه الصفارات كريه جدا، وثقيل على الأسماع جدا، ومضعضع للأعصاب جدا، حتى ليؤثر المرء وقوع الغارة نفسها على هذا النذير في صوته المزعج النكير.
وقد لا يحق لنا أن نطمع في أن تشد الحكومة إلى حناجر هذه الصفارات أوتار عود أو قانون، أو أن تقيم في كل حي فرقة موسيقية، أو أن تطيف بالبلد كلما جاء النذير بمقدم الغارة، كبار المغنيات والمغنيين، يهيبون بنا بأصواتهم العذبة على النبر الحلو والتنغيم البديع، أن احذروا والتمسوا المخابئ واطلبوا النجاة بقدر ما تستطيعون!
ولكن ألا من سبيل إلى التخفيف من هذا النكر ولو بعض الشيء، أو الاستغناء عن هذه الصفارات والتعويض عنها بالكثير ممن نسمع في هذه السنين من مغنيات ومغنين؟
وإذا زعمت أن من هؤلاء من هو أقسى حنجرة وأنكر صوتا، فلا يذهب عنك أن آذاننا قد ألفت هذا الغناء من بضع سنين، ولا شك أن الإلف والاعتياد يلطفان كثيرا من موقع الأهوال الجسام!
بقي أن نراجع أنفسنا في شيء من الصفاء والدعة، وهما موفوران في عامة النهار - والحمد لله - نراجع أنفسنا ونسألها، أمن الحق أن صوت هذه الصفارات كريه بهذا القدر مزعج إلى هذا الحد؟ أم أن اقترانه بتوقع الأحداث المزعجة هو الذي يخلع عليه هذا الوصف، ويحله من الأعصاب في هذا المكان؟
إن شئت الإنصاف في القول، والعدل في الحكم، رأيت لهذا التعليل نصيبا من الحقيقة غير يسير، بدليل أنك لا تجد للصوت المؤذن بانتهاء الغارة من الاستكراه والنبو على الآذان وشدة شك الأعصاب ما تجده في الآذان بمقدم الغارة، إذ الصفارة واحدة والحلق الذي ينطلق منه العواء واحد! إذن فللظروف والملابسات دخل في الأمر كبير، ولو أن الصوت في الحالين نكير نكير نكير.
إذن فلا مفر من الفرار ولا من صفارات الإنذار وطلب السلامة للأعصاب من كل هذه الأوصاب، وأين لعمري يلتمس الفزع والملجأ الحصين إلا في ريف مصر الجميل الأمين؟
وإذا كان أصحاب الأعمال في المدن لا يستطيعون أن يتركوا أعمالهم، فلا أقل من أن ينزح آباؤهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم، فلا تنالهم في الغالب الغارات، ولا تؤذيهم النذر بالغارات، وبعض الشر أهون من بعض.
وكذلك أشخص من أحملهم من الأهل والولد إلى الريف، يتقدمهم ما يحتاجون إليه في عيشهم الجديد من المتاع والعتاد.
ويشاء الله الكريم ألا تضيق صدورهم بالوحدة، ففي مكان قريب أهل وأصهار وأولياء كرام، كما شاء الله - تعالى - ألا يستوحشوا إذا جن الليل عليهم، فالريف ينام من العشاء الأولى، فأنسهم بالراديو يغنيهم ويفاكهم ويحاضرهم ويسامرهم، وينبئهم مختلف الأنباء، فالقرية على دقة جرمها وقلة سكانها تستصبح لحسن الحظ بالكهرباء، يبعثها «وابور» كبير أقامه المجلس القروري هناك، فالحمد لله الذي قرن ما أجرى من القضاء بلطفه، وأردف ما قدر من البلاء بكرمه وعطفه، وصدق المثل العامي القائل: «قبل ما يبلي يدبر!»
ولا بد لي من أن أراهم وأشهد مثواهم، وأشركهم في عيشهم الطريف ولو حينا بعد حين، وأتوكل على الله فأشد الرحال إليهم، لا بل أستقل من القاهرة القطار السريع، وبعد جري غير طويل أنقلب إلى القطار البطيء، وسواء أكنت في هذا أم في هذا، فلقد كان شغل عيني وشغل نفسي طول الطريق هذه السيارات الكبيرة والصغيرة التي تقل المهاجرين من المياسير وغير المياسير، وسيارات النقل الكبيرة تحمل أمتعة النازحين، بل عربات «الكارو» يجرها جواد، وقد يجرها حمار لا يعلم إلا الله مبلغ جهده في هذا السفر الطويل الثقيل!
أما إذا كان هذا الحمار عاشقا قد شفه الوجد وبراه طول القلى والصد، فقد أولاه المبيت في العراء خير ما يسعد العاشق المهجور على بلواه، ويبرد من حرقة جواه بمناجاة النجم الساهر، وشكوى صد الحبيب الغادر، فإذا تعذرت عليه رؤية الحبيب وقد قلى فهو ولا شك رأيته في صفحة البدر إذا تجلى، ولقد يحمل البدر رسالة الوله والشوق إلى الأتان، والبدر خير من يبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة.
أليس في هذا بعض الفرجة من ذلك الضيق، والتلطيف من تلذيع سوط السائق طول الطريق؟
وكيفما كانت الحال فلقد يستطيع الشاعر أن يشبه السكة الزراعية بعقد وإن كان متلاحم الحبات، فإنه لم تنظمه يد جوهري صناع، فهذي لؤلؤة صغيرة إلى جانب خزفة كبيرة، وهذي حبة من ذهب تليها أخرى من خشب وسبحان مقسم الحظوظ والأرزاق!
وكيفما كان الأمر، فسرعان ما أحضرني هذا المشهد قول المتنبي - رحمة الله عليه:
وهجان على هجان تواتي
ك عديد الحبوب في الأقواز
صفها السير في العراء فجاءت
فوق مثل الملاء مثل الطراز
حقا، لقد انتفضت القاهرة انتفاضة عنيفة، فتطاير عنها أهلها «تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض» وراحوا يطلبون المثوى ذات اليمين وذات الشمال، ولعل بينهم من لم يتخيروا المأوى، ولعل منهم من لا يعرفون الوجه، وإنما هم يهيمون هيمانا حتى يأذن الله لهم بالمستقر والمقام!
هذه - ولا ريب - حالة جد مؤلمة، وخاصة إذا كان هؤلاء النازحون ممن يجرون بأيديهم غلمانهم، أو يحملون على أكتافهم أطفالهم الصغار، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
على أنه بقليل من التسامح، ويسير من التضحية يمكن إيواء كل هؤلاء الفارين، وإنالتهم المأمن ومعونة المحتاج إلى المعونة منهم، «والناجي يأخذ بيد أخيه».
هذه شدة عامة ينبغي أن تتظاهر على دفعها الأيدي عامة، فمن كان في بيته سعة فلا ضير عليه في أن يودي إليه من لا يجد المأوى، ومن كان في حالة فضل، فلا بأس عليه إذا رزق من فضل ماله بعض من لا يجد إلى القوت سبيلا، وإذا كان عدد هؤلاء كثيرا، فإن عدة سكان القرى واللاجئين من الموسرين أكثر كثيرا.
على أن ترك المعونة للمصادفات والحظوظ ليس من الحكمة في شيء، بل لا بد من الإعداد والتنظيم المحكم، فلا يتعذر المثوى على لاجئ، ولا يسرف الجوع على أحد من المهاجرين.
نعم، إن أهل الريف هذه السنين في بؤس ظاهر وفقر بين، على أنه لن يتكابد أعيانهم ومتوسطي الحال منهم أن يخرجوا لهؤلاء العائذين بالريف ما يمسك الرمق ويعصم الحياة، فإذا بسطت الحكومة ولو يسيرا من المعونة لهم أينما كانوا فقد هان الخطب، وكفيت البلاد الشرور الكبار.
وإذا كان لي ما أقترحه في هذا الباب، فإنني أرى التعجيل بفرض ضريبة على تجار الريف لا يعفى منها كبارهم ولا صغارهم، على أن ما يجيء من ذلك يرصد لتلك المعونة، فتجار الريف أصبحوا يجنون من الربح بفضل النازحين من الموسرين وأنصاف الموسرين، ما لم يكن يدخل منهم في الحسبان!
وبعد، فلقد كنت أحب أن أتحدث عن الريف، وهذين اليومين اللذين قضيتهما في الريف، ولكن لم يبق في مساحة المقال متسع، فلنرجئه إلى مقال آخر إن شاء الله رب العالمين.
الأفندي
لا أحسب أن كلمة صارت من أعز العز إلى أهون الهوان كما صارت هذه الكلمة في مصطلح الزمان!
وقبل كل شيء لعلك تعرف أن كلمة «أفندي» معناها السيد، وهي من ألفاظ التشريف التي انحدرت إلينا عن سادتنا القدماء أعني الأتراك، وعلى الرغم من أننا خلعنا عنا، أو خلعت عنا السيادة التركية، وعلى الرغم من أننا قد ظفرنا باستقلالنا، فإن أكثر ألقاب التشريف في بلادنا ما برحت تركية، «فأفندي» تركية، و«بك» تركية، و«باشا» تركية أيضا!
وكل ما صنعنا في هذا الباب، عندما اختلعنا من سيادة تركيا أننا أصرنا في توجيه الخطاب، هذه الألقاب إلى النهج العربي، أما جوهرها فباق كما هو تركي وابن تركي، فبدلا من أنه كان يقال مثلا: «عزتلو أفندي»، أصبح يقال: «صاحب العزة» وبدلا من أنه كان يقال: «سعادتلو أفندي حظر تلري» أصبح يقال: «حضرة صاحب السعادة»، على أن تلحق الأولى بلقب «بك»، والثانية بلقب «باشا».
أما «أفندي» فلقد علمت أن معناها السيد، وأما الميم التي توصل بها أحيانا فهي أداة الإضافة للمتكلم، «فأفندم» معناها «سيدي»، ولهذا كان ولي الأمر إذا وجه الخطاب إلى رئيس «النظار»، أو إلى من يقوم مقامه في المناسبات المختلفة لا يكتب مطلقا: «دولتلو أفندم»، أو «عطوفتلو أفندم» بل يكتب: «دولتلو باشا»، أو «عطوفتلو باشا»، لما تعلم من أنه أجل محلا من أن يدخل في سيادة أحد على أي وجه من الوجوه.
ونعود إلى كلمة «أفندي»، فنقول: إن أصحابها الترك كانوا يضنون بها أعظم الضن، ويغلون قدرها أيما إغلاء، وذلك على العكس من كلمة «بك» فإن كل رجل ... هناك يكاد يكون «بك»، وأرجو أن تنطق بالكاف باء، فذلك هو المنطق الصحيح، أما «أفندي» فكانت لقب ولي عهد المملكة العثمانية ووارث منصب الخلافة الإسلامية، كما كانت لقب أعضاء البيت المالك هناك، كذلك كانت لقب شيخ الإسلام.
ولما كان منصب قاضي القضاة في مصر لا يتولاه إلا تركي بحكم السيادة العثمانية إلى سنة 1914، كان يقال له أو عنه: «قاضي أفندي»، وقد نضح العرف هذا اللقب على القضاة المصريين أيضا، وأعني بالضرورة القضاة الشرعيين، على أن هذا اللقب ظل محصورا في دائرة هذا القضاء، ولا أدري أبقيت منه بقية إلى الآن، أم عفي عليه فيما عفي هذا الزمان؟
نعم؛ لقد كان يدعى المخاطب في درج الحديث «بك أفندي»، ولكن «أفندي» مطلقة لا تكون كما أسلفنا، إلا لأمثال من ذكرنا من سادة السادات وأعظم العظماء.
أما في مصر، وأعني في العصر الذي شهدنا أطرافه، فإن لقب «أفندي» وإن لم يكن له هذا الخطر ولا بعضه، فلقد كان له حظ من الإجلال غير يسير، فهو في الغالب الكثير لقب الموظف في الحكومة، وناهيك بالموظف الحكومي في تلك الأيام! لقد كان هذا «الأفندي» موضع إجلال أهل الحي وإعجابهم، وكان أكثرهم يعود من «الديوان» وقد رشق قلمه البسط رشقا أفقيا في أعلى أذنه اليمنى إيذانا للناس بما صرف من الأمر، وما قضى في حقوق الرعايا وأرزاقهم؛ إذن فإنه يقضي في دمائهم وأعناقهم، ولهذا كنت تراه يمشي متمهلا متتايها، يتلقى نظرات الاحترام والإعجاب.
ولم يكن حي من أحياء القاهرة تخلو رقاعه الكبيرة من بيت «ست أم الأفندي»، وبيت «ست أم الأفندي» هذا كان شرعة الرائدات ومثابة القاصدات، إليه يحج نساء الحي، وله يطلبن لا يرحل الناس إلا نحو حجرته، كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل وكان لسائر البيوت الصوى والمنار، فإذا استخبرت سيدة عن أحد المنازل، دلتها صاحبتها عليه ببيت «ست أم الأفندي»، فتقول لها مثلا: اجعلي بيت «ست أم الأفندي» على يمينك، ثم انعطفي في أول زقاق على يسارك وعدي من اليسار بيتين، الثالث هو البيت الذي تطلبين.
ولقد كان هناك أيضا بيت «ست أم البك» على أن هذه البيوت كانت نادرة جدا، بحيث لا يقع في الحي كله إلا اثنان منها أو ثلاثة على الأكثر.
وكيفما كان الأمر فإنني أرجو ألا يميل بك الظن إلى أن «ست أم البك» كنيت بذلك؛ لأن ابنها «البك» موظف في الحكومة كشأن «ست أم الأفندي»، العفو! العفو! وهل كان يبلغ الموظف مرتبة «البكوية» في الحكومة وأمه لا تزال على ظهر هذه الأرض؟ بحسبه أن يسعى سعادته سعي الأحياء، وإن ضربته السنون بمائتي داء! «فست أم البك» إذن لم تكن أم موظف، ولكن كانت في الغالب مرضعا لولد من أولاد الذوات! ولكي تزداد علما بموضع كلمة «أفندي» من جمهرة الشعب، أذكر لك ما روي لي من أنه من نحو خمسين سنة، أراد بعضهم أن ينشئ في حي الحسين - رضي الله عنه - «قهوة» فخمة عصرية «مودرن»، تليق بمجالس الخاصة والمترفين من الناس، فلم يجد أكرم ولا أعظم ولا أفخم من أن يدعوها ويكتب على جبينها بالخط الطويل العريض الجميل «قهوة أفندية!»
وبعد، فذلك بعض العز الذي ناله لقب «أفندي» في الزمان الطويل، أما الآن فكفاك الله شر الهوان، وعصمك من الاستكانة بعد السلطان، وحفظ مجدك من غدر الزمان!
أفندي! وهل أصبح يطيقها موظف أو طالب أو فتى يعيش بفضل إرث أو شاب تجري عليه وظيفة من وقف؟ فإذا دعوت أحدهم «بالأفندي» تجهم لك، وانعقد ما بين عينيه ألما وغضبا، وربما ابتدرك من القول أو الإشارة بما يسوءك، فإذا هو قبلها منك لشأنك ولموضعك، فهو إنما يتجرع ولا يكاد يسيغ!
ولقد أضحى الجميع يتداعون بلقب «البك»، صغارهم وكبارهم في هذا بدرجة سواء! ولا بأس بهذا وليكن شأننا فيه شأن إخواننا الأتراك.
بقيت «الأفندي» التي ذلت في هذا العصر وهانت ولم يبق لها من أمل تعيش عليه إلا في جماعات الحجاب والسعادة في الدواوين، فهم الذين يرضونها ويطمئنون بها، ويستريحون إليها دون سائر المطربشين.
أستغفر الله! فلقد نسيت عسكري الدورية، وهل يستطيع حوذي من أي صنف، أو بائع من هؤلاء المترفقين بأبدانهم، أو نحو هذين ممن يرهبون سطوة جندي النوبة أو يدعوه بيا عسكري، أو يا جاويش، إنهم جميعا ليدعونه «بيا أفندي» وكثيرا ما تكون هذه الدعوة المحببة سببا في الإغضاء، أو التلطف في القضاء!
أرأيت كيف صحت العبارة العامية في هذه الكلمة: «يقطع من هنا ويوصل من هنا!»
ولا أرى قبل أن أختم هذه الكلمة بدا من الإشارة إلى كلمة أخرى، بعثها السعد من الأرض وعلا بها على السحاب، فأضحت لأجل أصحاب المناصب أجل الألقاب.
لا أدري إن كنت تدري أو لا تدري أن ألقاب التشريف كانت تجري صعدا على النحو الآتي: حميتلو «بتشديد الياء»، وهذه لأصغر طبقات الموظفين. فرفعتلو، فعزتلو، فسعادتلو، فعطوفتلو، فدولتلو. وترجمتها على التوالي: صاحب الحمية، صاحب الرفعة، صاحب العزة ... إلخ.
فترى أن هذه الرقعة قد طارت من هذا المكان، وحلقت حتى أمست أعظم تشريف لرئيس الحكومة ولرئيس الديوان!
آمنت أن من الألقاب ما يهبط ومنها ما يصعد، ومنها ما يشقي ومنها ما يسعد، «وكذلك الدهر حالا بعد حال» ولله الأمر من قبل ومن بعد.
في الضمير العام
يعتريك البياع من هؤلاء البياعين المضطربين في الطرق بسلعهم فيطرحها لنظرك، وقد تجيلها يده بين ذقنك وفخذك إن كنت جالسا حتى يحك بالوعاء: صندوقا أو عدلا أو سلة، صدرك. وقد تنازعك نفسك إلى أن تشتري، فتسأله الثمن فتراه يحلف لك مبتدئا مرتجلا متبرعا محتسبا، ولم تكن قد باديته بشك في قوله أو جرح في ذمته، يحلف لك بكل مؤثمة من الأيمان أنه إنما اشترى بعشرة قروش، ولا يطمع في أكثر من قرش واحد أو نصفه ربما لا يقوم بشيء من طول سعيه وكده، وإنه لا يتحرج من أن يدخل في يمينه الطلاق وفقد الولد، وذهاب البصر، وبطلان الشق بضربة الفالج ... إلخ! وتعرض عليه ثلاثة قروش مثلا أو ما دونها، فيتأبى ويعتذر، وقد يتركك ويمضي مهرولا مغذا، ليدخل في وهمك أنه لم يكن غاليا في عرضه ولا متأربا فإن راجعته وإلا ظل في هرولته حتى يغيب عن نظرك، ثم لا يلبث أن ينقلب إليك، فيحط الثمن إلى ثمانية، فإلى ستة، وهكذا لا يزال يتدلى حتى يصل إلى ما عرضت عليه أول الأمر، وكذلك تعقد الصفقة في سراح ورواح!
إن ما يستدعي البحث حقا، بل إن ما يشير الفزع حقا أن يحاول هذا الرجل أن يغشك ثم لا يلبث أن تنكشف محاولته، وأن يحلف بكل ما يحلف به، وسرعان ما يظهر كذبه ومينه وحنثه، ومع هذا وهذا لا يبض جبينه بقطرة واحدة من خجل أو حياء؛ بل إنه ليقاومك في ألوان من الحديث كأن لم يحمل وزرا ولم يقترف إثما، ولم يأت أي شيء مما يعاب به الناس!
وإن مما يستدعي العجب الأعجب، بل إن مما يثير الفزع الأفزع أن أكثر الناس حتى المتعلمين المثقفين منهم، لا ينكرون هذا على أولئك الباعة ولا يزجرونهم، ولا يظهرون الاشمئزاز منهم، ولا ينهونهم عن العودة لمثله!
وإن اطراد ذلك من جمهرة الباعة، واطراد هذا من جمهرة المشترين ليبعث على الحكم، مع الخجل الشديد بأن الغش والكذب والحنث بأغلظ الأيمان، هو من العرف المعروف في هذه البلاد.
ومن الحق الذي لا يعتريه شك الحق المؤلم الموجع، أن هذه الطبقة الدنيا في بلادنا - على وجه عام - لا تشعر البتة بشيء يدعى الضمير؛ يغشك البائع في السلعة، وإذا استطاع طفف الكيل أو أخسر الميزان، ثم تراه يكذب في القول ويحنث في اليمن، ما يجد لشيء من ذلك ألما، ولا يحس له خجلا ولا ندما، إنه لا يحس شيئا من ذلك البتة، بل إن نجاحه في غشه وزيفه واستراحة الناس إلى كواذب أيمانه لمما يبعث فيه عجبا وأريحيه، حتى إذا خلا إلى أمثاله وأكفائه جعل يباهي بذلك ويكاثر كما يتبارون هم أيضا في التباهي والتكاثر بما وقع لكل منهم من مثله!
هذا هو الخطر الأعظم، يجرم المجرم ولا يرى أنه أتى شيئا، ولو قد شعر حتى أضعف الشعور بأن في الجرم إثما، وأنه أمر مكروه لا يليق بالإنسان أن يقارفه، فإنه ولا ريب مما ييسر السبل إلى إصلاح هذه النفوس، فإن بعث الضمائر من الرقود أهون على الداعين من خلقها من العدم، قلت: إن غش الباعة وحنثهم بأغلظ الأيمان هو من العرف المعروف في هذه البلاد، وأذكر أن من قرابة ثلاثين سنة، إذا كان موسم الخيار وأقبل الليل، صف باعته عرباتهم بجوار مسجد السيدة زينب - رضي الله عنها - وعلى كل منها مصباح كبير وجعل كل منهم يصيح ملء لهاته بسمع مأمور القسم ومن قبله من رجال الشحنة: «بالحلال خمسة وبالحرام ستة، يا جمع العصاري يا لوبية.»
ولقد رأيت هذا بعيني وسمعته بأذني، وإنما خصصت هذا المكان؛ لأن حي السيدة هو الحي الذي نشأت فيه، ولا بد أن الأمر كان كذلك في سائر الأحياء.
بالحلال خمسة وبالحرام ستة! ولست بحاجة إلى أن أبين أن المراد بالحرام الوزن الناقص، ومعنى هذا أن إخسار الميزان مما يجوز أن يقع عليه التعاقد بين البائعين والمشترين! وأحسب أن هذا ما لا يقع له شبيه في أي بلد آخر من بلاد الله.
وأغلب الظن أن إمساك الباعة الآن عن عرض التصافق على الحرام، إنما مرجعه إلى خوف العقوبة القانونية التي تغلظ عليهم هذه السنين في النقص من الموازين.
ولقد أبرزت في هذا الحديث جماعات البياعين؛ لأنهم يطالعون الناس في كل ساعة ويعترضونهم بكل سبيل، على أننا لو بسطنا في آفاق النظر لراعنا أن نرى ما نرى من أكثر جماعات الصناع ومن يعالجون ألوان الحرف في هذه البلاد، أما خلف المواعيد فهذا قدر مشترك بين الجميع.
وأما استبدال مادة رديئة بأخرى جيدة - وهي المتفق عليها في عقد الصفقة - وأما قلة العناية بتجويد صنعة، وعدم التأنق فيها طوعا لمطالب الفن، فهذه الخلال يقع فيها الاختلاف بين جماعات الصانعين.
وهذا الاختلاف يرجع في الغالب إلى يقظة المستصنع من جهة، وإلى كفاية القائم على شأن الصناع ومبلغ حرصه على السمعة من جهة أخرى، أما الضمير، الضمير وحده فلا غرو عليك إذا أسقطته من الحساب!
وبعد، فإن العلة الحقيقة لمعظم ما نشكو من التدهور الخلقي هي شيوع الكذب، وإن شئت الدقة قلت: هي أننا على الجملة لا ننزل الكذب المنزلة الحقيقة به من الإنكار والاستفظاع، ولا نحتفل للنهي عنه فضلا عن المبادرة بالعقوبة عليه.
وشيوع الكذب - مع الأسف العظيم - ليس مقصورا على الطبقة الدنيا من الناس؛ بل لقد عدا على الكثير ممن أخذوا بحظ من العلم والتهذيب حتى لقد ترى الرجل أو الفتى يكذب في غير حاجة ملجئة إلى الكذب، أو لدفع ما إن دفعه بالصدق والصراحة لم يمسه من غوائله شر كبير ولا صغير!
ولو أننا ننزل الكذب منزلته التي مهدتها له قواعد الأخلاق ما أسفناه في هذا اليسر العظيم!
وأثر الكذب وعدم الاكتراث بالإقدام عليه يختلف باختلاف الناس، وحظ كل منهم من التربية والتفكير والنظر إلى عواقب الأمور، ولهذا تراه في بعضهم يسهل ارتكاب أفظع الجرائم إذ هو لا يعدو في سواها إلا على التافه من المخالفة لقواعد الأخلاق، وبين هذين الحدين مراتب تتفاوت طوعا لتلك الخلال في الناس.
البيئة عندنا لا تحارب الكذب بل لا تكاد تنكره، وإني لأكره أن أقول: إن كثيرين من الآباء والأمهات في بلادنا يحملون الولد عليه، وقد يضطرونهم إليه.
وإذا قدرت أن قوام عيش الجماعات هو الثقة، فانظر كيف يعيش معشر لا ثقة لأحد فيهم بأحد؛ لأنهم بين كاذب ومكذب لا يركن من صاحبه إلا على حذر وارتياب!
فالنجدة، النجدة! يا معشر القائمين على تربية النشء وعلى حراسة الأخلاق.
فن الإعلان
وهل بقي من لا يؤمن بأن الإعلان أصبح فنا له كسائر الفنون، قواعد وأصول؟ بلى! هو فن له أثر وله خطر، يتدارسه طلابه ويستذكرون مسائله وقضاياه، ويراجعون الأساتيذ في ما يتبهم عليهم من تلك المسائل، ويتبارون في حذقه وتجويده، حتى يبلغ بعضهم فيه رتبة العبقرية والنبوغ.
وما لفن الإعلان لا يكون له هذا الشأن وأجل من هذا الشأن، وهو الوسيلة الفذة إلى تحريك التجارات ونفاق الأسواق، وإيثار الفتى، وذهاب الصيت في كل مكان، بل لقد يكون إحسان الإعلان أهم الداعيات إلى ميل جماعات الدول إلى دولة، وصفو قلوب الأمم إلى أمة، واصطفافها على عدوها مهما يكن خطبه، ومن شأن هذا العطف وهذا البغض أن يبعث على الإمداد بألوان المعونة المادية من جهة، والكيد بالمنع والمضارة من الجهة الأخرى، مما يساعد على النصر ويعجل للخصم الغلب والقهر.
وروي أن سائلا سأل المثري العظيم المستر فورد صاحب مصانع السيارات المعروفة باسمه: لو تجردت من الغنى ولم يبق في يدك إلا ألف جنيه، فما عسى أن تصنع؟ فقال: أخرج منها أولا سبعمائة وخمسين للإعلان وأستأنف السعي في الحياة بالباقي!
ولقد أدركت مصر حظ فن الإعلان وأثره البعيد في المطالب الخاصة والعامة، فجعل سكانها أو من يعنيهم الأمر من سكانها، يتبارون في تجويد الإعلان ومد رواقه، وبسط آفاقه حتى بذوا الأمريكان، وكانوا مضرب المثل في هذا الشأن!
وأرجو ألا تتعاظمك هذه الدعوى، فتعجل بالحكم علي بالتزيد أو الغلو، فسأقيم لك الدليل، إن شاء الله!
ولنمض أولا فيما كنا فيه من أثر الإعلان، سواء في استخراج الأموال، أو في استدراج العواطف بشتى الأساليب، ولقد تكون ماضيا في طريقك، ما بك أن تشتري أي شيء، فيميل بصرك إلى معرض من معارض بعض الدكاكين - الفترينات - فيستهويك بعض السلع المعروضة بجمال شكلها، بل بجمال وضعها في بعض الأحيان، فتتقدم لابتياعها مهما يجشمك الثمن، وهذا كما أسلفنا من أثر جودة الإعلان.
ولست بحاجة إلى من يقول لك: إن جميع مدن المملكة المصرية، لا فرق بين كبيرها وصغيرها، دانيها وقاصيها أصبحت تزخر بفنون الإعلانات، فهذه الصحف السيارة والمجلات الدورية وغير الدورية، تسيل أنهارها بالإعلان وهذه جدران المباني العامة والخاصة لا يكاد يعرى متر مربع فيها من الإعلان، بين مطبوع على الأوراق أو مكتوب على الحائط، أو متألق في أعلى المباني بنور الكهرباء، دع آلاف الإعلانات التي يلقاك بها الموزعون في كل سبيلها، والإعلانات الصوتية - الميكرفون - التي تجول بها السيارات في الطرق والأسواق ... إلخ.
ومن أظرف ما يذكر في هذا المقام أن للحكومة معهدا كبيرا يقع على شارع من الشوارع الرئيسية في قلب القاهرة، وسور هذا المعهد يمتد إلى مسافة كبيرة من جانب الشارع، وقد بدا للقائمين على تكليسه - بياضه - أن يبالغوا في تزيينه وتبهيجه بتقسيمه إلى مربعات متساوية المساحة، ولم يمض على هذا التزيين والتبهيج بضعة أسابيع بل بضعة أيام، حتى كانت جميع هذه المربعات محلاة بالإعلانات المختلفة، ما خلا مربعا واحدا لا أدري لماذا ترك المسكين عريان، لا أثر للنقش ولا للكتابة فيه!
فهناك المهلك، والمبيد، والبط، وورنيش العمدة، وطربوش النسر ... إلخ. ومن العجيب أنها كلها مكتوبة بالحبر الأسود وبأردأ الخطوط، حتى يخيل إليك أنها منضوحة بوعاء الحبر نضحا لم تجر بها أنامل، أستغفر الله بل أكف الكاتبين!
وطال الزمن على هذا ثم طال، وأخيرا يظهر أن القائمين على شأن هذا المعهد الحكومي قد عز عليهم أن يبقى ذلك المربع فذا بين سائر المربعات، فاستخاروا الله وكتبوا فيه: «ممنوع لصق الإعلانات.»
ولقد زعمت لك أن مصر قد برعت أمريكا فضلا عن أوروبا في فن الإعلان، واستنظرتك الدليل فهاكه الآن.
لعلك تعرف ولعلك لا تعرف أن الأطباء لا يعلنون عن شأنهم بأية وسيلة من الوسائل في بعض البلاد الأوروبية، ولا شك في أن هذا من الجهل بفن الإعلان الناشئ عن الجهل بفوائد الإعلان، فإذا أحلت الأمر على أن القانون في تلك البلاد يحظر الإعلان على الأطباء، فما كان عسيرا عليهم لو أرادوا السعي إلى إلغاء هذا القانون؛ ليفيدوا ما شاء الله من طيبات الإعلان.
أما عندنا ففوق إعلانات الأطباء والمحامين في الصحف السائرة وغير السائرة، فلقد ترى «اليافطة» الطويلة العريضة مرفوعة على ساريتين تطاولان السحاب، وهذه على جانب الشارع الرئيسي، ثم أخرى على مدخل الشارع الفرعي، ثم ثالثة على ناصية المنعطف، ثم رابعة على صدغ العمارة، وكلما انعطف بك السلم رفعت لبصرك «يافطة»، وهكذا حتى تبلغ باب العيادة أو المكتب، فإذا هو مرصع بجمهرة من «اليافطات»، المختلفة الأشكال والخطوط والأحجام.
ولا يبعد أن يتقدم فن الإعلان في بلادنا حتى يخترع شباكا سحرية تصطاد الزبائن، وتسحبهم في لطف ودعة، حتى نصل بهم إلى العيادة أو المكتب في أمان، وما شاء الله كان!
وأبدع من هذا وأبرع أن يعلن الطبيب أنه إذا لم يكشف عن المرض في 48 ساعة فقط، فإنه يرد إلى العليل ما دفع من النقود.
أرأيت مثلا أبلغ من ذلك في الكفاية والثقة بالنفس، والتمكن من الفن والقدرة المستيقنة على شفاء العلل، مهما تعاصت في 48 ساعة لا تزيد ولو دقيقة واحدة من الزمان؟
ولولا فضل الإعلان ما تسنى للذين ضربتهم العلل، وقست عليهم الأسقام وألحت الأوجاع والآلام أن يبرءوا من عللهم، ويتخلصوا من آلامهم وأوجاعهم في مثل هذا الزمن اليسير، والشفاء مكفول، وإلا فالمال مردود، وموفى غير منقوص.
ومن الآيات التي تشهد لمصر بالبراعة والفوقان في فن الإعلان، أنك ترى صاحب مصنع الأثاث مثلا، يجلو صورته هو بدل أن يجلو عليك صورة كرسي، أو سرير، أو ثريا، أو صندوق، أو منضد «ترابيزة»، فإن الإنسان، من غير شك، أكرم وأشرف من كل ما على وجه الأرض من صنع الإنسان، ثم إنه من غير شك أيضا، أحسن خلقا وأجمل شكلا من كل ما أخرجت مصانع الشرق والغرب من فاخر السرر والكراسي والصناديق والثريات والأنضاد، أليس قد قال الله تعالى في كتابه الكريم:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ،
1
صدق الله العظيم.
أما التبريز في العبقريات وإصابة غاية الغايات، ففي التفات صاحب المطعم عن أن يصور في إعلانه عن طعامه حملا مشويا، أو أرنبا بريا، أو ديكا روميا، أو سمكا طريا، أو طاجنا «فرنيا»، أو ثمرا جنيا، أو كامخا شهيا، أو نحو ذلك مما يزعمون أنه يبعث الشهوة إلى الطعام، ويحفز المعدة للازدراد والالتقام، بل تراه لا يلتفت في إعلانه عن هذا الكلام الفارغ، ويصور شخصه هو وعلى ثغره ابتسامة أحلى وأشهى من كل ما أنضجت الأفران من حلوى وسمك ولحمان، ومن كل ما حملت الأغصان من فاكهة ونخل ورمان.
أصدقت بعد هذا أننا قد بززنا الأمريكان في فن الإعلان؟
التأمين على الموت
وسيأخذك العجب حين يقع بصرك على هذا العنوان، وستوجه الأمر على الخطأ، فتظن أنني أردت أن أقول: «التأمين على الحياة» فقلت: «التأمين على الموت» فبين الحياة والموت تضاد، والتضاد من أقوى العلاقات، وقد يتبادر إليك الظن بأنني أعبث أو أمزح بقلب المعنى، والدلالة بالنقيض على النقيض!
أنني أؤكد لك يا سيدي القارئ أنني لم تلحقني خطأ، ولم يزلقني غلط فقد تحريت هذا القول تحريا وتعمدته تعمدا، وأؤكد لك ثانيا أنني لا أقصد إلى عبث ولا إلى مزاح، فالأمر أجل من ذلك وأعظم، وستعلمن نبأه بعد حين!
فإذا استشرفت نفسك إلى علالة تبل بها الصدا، أو لمجة - تصبيرة - تشد بها المتن حتى يأتي الوقت المقسوم للبيان، فلا بأس علي بذاك، إذن فاعلم علمك الله الخير وحجب عنك المكروه أنه لن يطوى من الزمن طويل حتى تقوم في مصر شركات «للتأمين على الموت» بجانب شركات «التأمين على الحياة»!
ولأول مرة تسبق مصر العالم جميعا في ابتكار هذا اللون من النظم المالية، بل إنها ستثتأثر بهذا النظام دون العالم جميعا!
وبعد، فلقد تعلم أن في مصر أزمة زواج تشتد عاما بعد عام، وهذه الأزمة تنحصر في المدن، لم تطرق القرى والحمد لله!
ولقد زعمت في بعض مقامات الكلام - لا أدري أفي الراديو أم في بعض الصحف أم فيهما كليهما - زعمت أن هذه الأزمة ترجع إلى أسباب عدة، أهمها ما أصبحت تقتضي حياة الزوجية في هذا العصر من جليل النفقات.
كانت البنت من أوساط الناس إذا تزوجت لا تكاد تجشم الزوج أو أولياءه شيئا، فطعامها من طعام أهل الدار، وكسوتها إزاران ورداءان في العام، وما حاجتها إلى حذاء وهي حلس خدرها طوال الأيام؟ إذن في الكوث - الشبشب - على رأي أستاذنا العلامة الشيخ مهدي خليل، إذن ففي الكوث والقبقاب غنى وكفاية.
ثم إنها توفر على الأحماء أجور الخدم وسائر تكاليفهم بما تقوم به من العجن والخبز، والطهي، وغسل الثياب، وكنس الأرض، ونفض الأثاث، وتقديم القهوة للزائرات، وصنعها للزائرين، وخدمة الطفل الصغار ... إلخ.
والآن لا تحسن البنت الحضرية شيئا من هذا وقد لا تعرفه، وإن عرفته وأحسنته لا ترضى بأن تعالجه أنفة وحفظا للكرامة، ودعنا من الأنفة والكرامة، وحدثني بعيشك متى تضطلع البنت أو الزوجة الحضرية بهذا أو ببعضه، ولا بد لها كل يوم من غشيان السينما وغيرها من دور التسلية والترويح؟ ولا بد لمن يسهر الليل من أن ينام صدرا من النهار، ولقد يتصرم سائره في الاختلاف إلى الخياطة، ومتاجر الثياب والزينة، وزيارة الأصدقاء والأتراب، والتفرج في المنتزهات في صحبة الزواج أو بعض ذوي الأرحام، واستقبال الضيفان، وناهيك بما يستهلك من الوقت بعض النهار ومهبط الليل في التجمل والتزين، وتصفيف الشعر طوعا لآخر بدع - مودة - سواء جرى ذلك في البيت أو في دكان الحلاق، ولا بد أن يكون لقراءة الروايات من مساحة اليوم حظ غير قليل.
ثم إن هذا وهذا وهذا لقد ضاعف نفقات الزوجية أضعافا كثيرة، فللسينما وسواها من دور التسلية أجر، والركوب في الغدو والرواح أجر، ولتنظيم شعر الرأس
coiffure
أجر، ولا تنس تشذيب أصابع اليدين وصبغهما
manicure ، فلذلك كذلك أجر.
وإياك أن تسقط من الموازنة بين نفقات المعيشة اليوم ونفقاتها بالأمس، إن تلك المخدورة في الدار طوال الأيام في غير حاجة إلى الاستكثار من الثياب ولا تعديد الألوان ولا الإغلاء في الأثمان، أما سيدة اليوم وفتاته فإن موجبات الأناقة، أو على التعبير العامي الشائع «الشياكة» لتقتضيها ألا تختلف عليها الأنظار وهي في ثوب واحد، بل لو استطاعت لاتخذت كل يوم من الثياب والأحذية جديدا، ولبست مستحدثا طريفا، بل إن من السيدات لمن تأنف أن تضع عليها من الثياب في الليل ما وضعت بالنهار.
والحاصل أنك إذا جمعت هذه النفقات الهائلة إلى الخسارة المالية الناشئة عن هجر السيدات للقيام بتدبير المنزل، ونفورهن من الاطلاع بشئون البيت، تجلى لك وجه العذر في إعراض الشبان عن الزواج في هذه الأيام، وكيف لهم بالمال الذي يكافئ هذه النفقات الجسام فوق ما تجشمهم تكاليف السكن ونفقات الطعام!
نعم، لقد أعرضت عن الزواج كثرة الشبان الذين يجرون على عرق من التثقيف والتهذيب؛ لأن عائداتهم - أو مواردهم بالتعبير الحديث - لا تفي بحاجاتهم الكثار الثقال في هذا الزمان، فإذا فكر أحدهم في تحصين نصف دينه اقترن هذا التفكير بالتماس الزوج ذات المال؛ لتعينه بمالها على شأنه وتضع عنه بعض حمله، فإذا لم يكن لها مال حاضر فحسبه غنى الأب أو الأم وإنهما إذا لم يعينا في الحاضر، ففي ميراث أحدهما أو كليهما عزاء وشد للمتن، وعون على موالاة السير في طريق هذه الحياة.
وإنني أعرف أن كثيرين من الشبان لم تطلب نفوسهم بتوثيق عقدة الزواج إلا بعد أن أخرج لهم الأحماء حجج أملاكهم، إن أطيانا زراعية وإن أبنية قائمة، فاطمأنوا إلى صحتها واستيفائها لشروط عقود الملكية، وربما مضى أحدهم في سر من أولياء الفتاة إلى المحكمة المختلطة، فاستخرج الشهادات العقارية الدالة على خلو الأعيان من كل رهن أو اختصاص أو امتياز، حتى يقبل مطمئن الضمير على الزواج.
ولكن! ... آه ولكن! ... ولكن من ذا الذي يضمن أن تقصر آجال هؤلاء الأصحاء، لتحق التعزية ويعجل المقدور بالرجاء؟ وما يدرينا لعل أعمارهم تطول وتطول، حتى يقيموا هم المناحات على البنات وأبناء البنات؟
إذن فينبغي أن يضاف إلى الاطمئنان على صحة عقود الملكية الاطمئنان إلى أن الرجل قد أسن وهرم، وتزاحفت عليه العلل من كل جانب؛ ليضمن العريس أن أيام حميه في الدنيا غير محدودة، وأن خطاه إلى الضريح أصبحت إن شاء الله معدودة !
وإني لأعرف رجلا واسع الغنى ذا وقار ودين، له بنت أوفت على غاية من الجمال والرشاقة وحسن الأدب، وقد أخذت بحظ من علوم العصر وفن تدبير المنزل، وأسرة هذا الرجل على استنارتها وقوة ثقافتها ما برحت تحافظ على جميع التقاليد التي تحرص عليها كل أسرة تشعر بالكرامة والاحترام في هذه البلاد.
ويتقدم شاب موظف في الحكومة لخطبة الفتاة وترضى الأم في سر من بعلها بإخراج أسانيد الملكية للخاطب، وأنت خبير بلهفة الأمهات على تزويج البنات، وبعد إجراء اللازم من فحص هذه المستندات ومراجعة دفاتر المحكمة المختلطة، والاطمئنان إلى أن الأعيان نظيفة لم يعلق بها شيء من الحقوق وحينئذ صرف عنان السعي إلى تفقد صحة حميه العزيز.
وأول ما بدا له من هذا أن يجعل لإحدى خدم الدار جعلا على أن تريه مناديل البك التي في طريقها إلى الغسل، فتظاهرت الخادم بالرضى وواعدته زمانا ومكانا، ومضت من فورها إلى سيدتها فأخبرتها الخبر، فأشارت إليها أن افعلي، وحذرتها مطالعة سيدها بذاك.
وما أشد خيبة المسكين إذ يبسط المناديل كلها ظهرا وبطنا، ويحد النظر في خيوطها خيطا فخيطا، حتى يكاد من شدة التحديق ينقض نسجها نقضا، فلا يرى في أيها أثر الدم من نفثة صدر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وما له ييأس؟ وما له يقنط؟ أفكتب على الناس ألا يموتوا إلا بذات الصدر؟ وإذا كان السل معجلا للآجال، فلا شك في أن السكر والزلال من حبائل عزرائيل.
وهنا تقوم مشكلة، فإن أخذ النماذج - العينات - من بول الرجل لتحليلها يقتضي ولا بد علمه ورضاه فليس للأبوال شأن المناديل، إذن لم يبق إلا اتخاذ الصراحة، ولا شك أن كل زواج لا تقوم وسائله على الصراحة لا خير فيه، بل قل أن يكفل له بقاء. وما كاد الرجل يسأل في هذا حتى ثار ثائره وجن جنونه، وهم بالبطش بالرسول لولا أن أسعفته ساقاه بالفرار، وأرسل البك في دعوة ابن أخيه غير المتعلم وعقد له على ابنته لساعته.
وبعد، فليس كل الناس بقادر على أن يرغم ابنته على الزواج من قريبه، واقعا شأنه في الحياة ومن هوى الفتاة حيث وقع، وليس كل الناس بقادر إذا طاب له على أن يعضل ابنته حتى تشيخ وتعنس، وليست الآجال بأيدي الخلق حتى يعجل الآباء الموسرون بآجالهم؛ ليتقدم لبناتهم الخاطبون من شباب هذا الزمان.
إذن لم يبق إلا حل واحد لهذه المشكلة الاجتماعية التي تعانيها مصر في هذه السنين، حل واحد يستدرج الشبان للزواج، ولا بأس به على البنات ولا على آباء البنات، بل إنه فوق هذا وهذا ليفسح في النظام الاقتصادي ويضيق من مساحة العطلة في البلاد.
وهذا الحل الفذ الذي لا حل قبله ولا بعده، هو أن تؤسس في مصر شركة أو شركات للتأمين على الموت تقوم بجانب شركات للتأمين على الحياة، وهذه شركات التأمين على الموت - وقاك الله البليات، وعصمك من خطبة الشباب للبنيات - تجري في معاملاتها على عكس ما تجري عليه شركات التأمين على الحياة، وإليك البيان.
يؤمن الشاب الخاطب على موت حميه الموسر أو حماته الموسرة بمبلغ معين، يؤديه هو للشركة إذا حم القضاء وحل إرث الأحماء، وذلك لقاء قسط شهري أو سنوي معين، تؤديه الشركات للشاب المؤمن، وهذا القسط يقل ويكثر طوعا لمبلغ التأمين من جهة، وصحة الحم العزيز أو الحماة المحبوبة من جهة أخرى، وبهذا النظام يكفل اليسر العاجل للشاب، والمغنم الآجل للشركة في حين لا يوتر المرحوم أو المرحومة في زيف ولا صحيح، اللهم وهو ملحود في الضريح، وإن من قد دس في التراب لفي شغل بحساب غير هذا الحساب!
ولعلك قد وفقت على هذا النظام المالي البديع في غير حاجة إلى من يزعم أن أحسن «زبائن» الشركة وأولاهم بالأغلاء في الأقساط وأجورهم بعدم المبالغة في مقدار التأمين، وهم الذين شاعت فيهم الأسقام وألحت عليهم العلل ومن خنقتهم الذبحة أو أبطلهم الشلل، فإذا كان في البول سكر أو زلال فقد تراءت المنى وتدانت الآمال، وإذا كان مع السكر أستون
acétone
فالحظ مكفول مضمون، وإذا كان في الزلال سلندر
cylindre ، فذلك السعد الذي لا يقدر، إذن فقد حق اليسر والبسط وهبط التأمين وارتفع القسط، والله يرزق من يشاء بغير حساب، ولو من طريق العلل والأسقام والأوصاب!
فليبتهل إلى الله من شاء من ذوي اليسار أن ينعم عليه بالعلل التي تقصف الأعمار، حتى يفرح بالأكفاء الظرفاء من الأصهار، دون أن يوثر من درهم ولا دينار، فاللهم قنا الغنى في الدنيا وقنا في الآخرة عذاب النار.
شركة تنشيف الريق
أكثرت الصحف في هذه الأيام من ذكر مقابلات لحضرة صاحب المعالي وزير الأشغال، خاصة بتخفيض ثمن المياه في القاهرة، كما تردد خبر اجتماعات اللجنة المؤلفة لهذا الغرض من قديم الزمان وسالف العصر والأوان؟ ولقد زعم لي زاعم من المؤرخين أصحاب الإحصاء أن اجتماعها الأخير كان الاجتماع ال 411.
فترى هل آن أن ينجح المسعى وتحط الشركة من أثمان الماء، فقد مضى على سكان القاهرة ستون عاما، وستون عاما غير قليل، وهم يغصون بماء النيل، وكأن الشاعر كان ينظر بلحظ الغيب إلى القاهريين وما يعانون من شركة المياه حين قال:
نفر إلى الشراب إذا غصصنا
فكيف إذا غصصنا بالشراب؟
ترى هل ينجح السعي هذه المرة، ويحق لساكن القاهرة أن يتمثل بقول الشاعر:
فساغ لي الشراب وكنت قبلا
أكاد أغص بالماء الفرات؟
يا قومنا، أقسم لكم بالله - تعالى - غير حانث ولا آثم، إن الشركة ليست تأتينا بالماء من إفيان، ولا من إكس ليبان، ولا من فيشي ولا من بلاد اليابان حتى يلتمس لها العذر، بنفقات النقل في البر والبحر، أجور الحزم واللف والتعبئة والصف، والتأمين خوف الغرق والحريق، وما عسى أن يدركه من العطب في أثناء الطريق، وناهيكم بحساب ما قد يكسد في الأسواق منه، وما قد يبور في المتاجر بانصراف الهواة عنه، ومن يدري فلربما ظهرت «ماركة» ماء جديد، أو «موديل» سنة 1938 أو 1939 فيها من المزايا ليس في هذا الماء، في ري العطاش وبل صدى الظماء!
ليست تجيء بشيء من هذا حتى تغلو هذا الغلو في الأسعار، توقيا للنفقات وتوقيا للخسائر، إنما تدفع إلينا الماء من نيلنا الذي يشق مدينتنا، والذي يجري بين أيدينا، والذي طالما طفى وزاد حتى أغرق البلاد، وأهلك العباد وأتى على اليابسة والخضراء، وألقى بربات الخدور إلى متن العراء، بل إن من يرى متدفقه في دمياط أو في رشيد ليحسب أنه ماض لري العالم القديم والعالم الجديد، وتراه يغذو في شمالنا وجنوبنا ألف ترعة، فإذا جاز بنا ضيقت الشركة ذرعه، وباعتنا ماءه «بالشربة» والجرعة! حتى أصبحنا ونحن نغدو على حفتيه ونروح، نتناشد قول الشاعر:
يا سرحة الماء قد سدت موارده
أما إليك طريق غير مسدود؟
حقا يا سيدتي الشركة، لقد سامتنا «عداداتك» رهقا وعذابا، وجرعتنا من نيلنا علقما وصابا، وكان من قبل سكرا مذابا، وكان شهد أو جلابا، لقد ساغ وردا وحلا شرابا!
حقا يا سيدتي الشركة، إنك لتروقين الماء ولكنك تعكرين النفوس، وتملئين الآنية ولكنك تخلين الجيوب حتى من الفلوس!
يا سبحان الله، يا شركة! تعطيننا الماء وتقتضين الذهب، ولو كان مالنا نيلا لجف يا شركة من كثرة النزع ونضب!
ارحمينا، يا شركة واعملي معنا بالمثل الذي قالته العامة من قديم الزمان: «المية ما تفوتش على عطشان!»
وبعد، فعندي يا سيدتي الشركة أكثر من هذا، ولكن في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟
ونرجع إلى سياقة الحديث فنقول: أما آن لوزارة الأشغال أن تنجز الوعود، ولشركة المياه أن تعدل عن دلها المعهود، فتترفق في ثمن الماء، وتخفف عن كواهلنا ما يهددها من الأعباء، فقد اعترانا الداء من ناحية الدواء ولله در شاعر الغبراء:
من غص داوى بشرب الماء غصته
فكيف حال الذي قد غص بالماء؟
فإن فعلت، وإلا فقد طابت الهجرة إلى البراري والقفار، لنتعوض عن ماء النيل ماء الآبار والأمطار، وإني لأخشى أن تلاحقنا الشركة هناك، وتبسط علينا سوط الاشتراك، بعد أن تحوز ماء الغمام في مواسير، وتختم بالعداد على كل بير، فالشركة وراءنا ولو تعلقنا بالسحاب أو تدسسنا في التراب، وأمرنا إلى من له المرجع والمآب!
أرجو أن تنصفينا يا شركة المياه، وتفرجي عنا من هذا الضيق، وإلا لاضطررنا إلى أن ندعوك «شركة تنشيف الريق» والسلام.
بين الأدب والحرب
لا غرو علي إذا زعمت أن الأدب ليس مدينا لشيء من الأشياء بقدر ما هو مدين للحروب، هو مدين لها في قوته وازدهاره وسعة آفاقه، وكثرة تصرفه في فنون المعاني وتقلبه في شتى الأغراض.
لقد دخل حديث الحروب وأسبابها وما يتصل بها في أكثر أبواب الأدب، واحتل منها المكان الأوقع بما له من شدة القول وجزالة اللفظ، وتلاحم النسيج، وإشراق الديباجة، ورقة التشبيه، وبراعة التخييل، ولك أن تقلب النظر في أبواب الأدب لتدرك كيف أمد حديث الحروب وغذى، وكيف أعز وأغنى، وما ولد من المعاني واستحدث من الصيغ وأجد من رائع الكلام، وإنك لتجري هذا الحكم بدرجة سواء على أبواب الوصف والفخر وما إليه من الحماسة والمديح، والرثاء والهجاء حتى الغزل، وأي شيء لعمري وراء ذلك من أبواب الآداب؟
ولم يقتصر تصرف البلاغات الحربية على أحد الفنين، بل لقد شاعت في النظم والنثر جميعا، وكان في الذروة بالضرورة منها ما جاء به القرآن الكريم، ويأتي بعد ذلك كلام النبي - عليه الصلاة والسلام.
وبعد، فلقد قالت العرب وقال المستعربون في وصف الحروب وجياد الخيل، والسلاح، ووصف الشجعان، والخوارين الجبناء، كما قالوا في الصبر والإقدام، والمكيدة في الحرب، والتحفظ على العدو، وناهيك ما تفاخروا به من الشجاعة وتكاثروا، وما تذاموا به من الجبن وتعايروا، وما مدحوا به الكماة فأبعوا في الثناء، وما رثوا به قتلى الحروب فأفلقوا في الرثاء، وذلك إلى ما أثر في هذه الأبواب من حكم الحكماء، وما سار من أوامر القادة ووصايا الأمراء ... إلخ.
وإذا كان استقصاء ما قيل في الحروب وأسبابها وما يتصل بها مما يتجاوز جهد الطاقة، وإذا كان الإتيان على ما جاءت به كتب الأدب والتاريخ والسير مما لا يحتمله مقال، بل إن محله الأسفار الصخام، فإن من الحق علينا أن نأتي بألوان من النماذج في هذه الأبواب، ولنبدأ ببعض ما ورد في القرآن العزيز:
بسم الله الرحمن الرحيم
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم .
1
وقال جل وعلا:
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم .
2
وقال:
فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما .
3
وقال:
والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين .
4
وقال:
ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ،
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم
5
وأخرجوهم من حيث أخرجوكم .
6
وقال:
فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا .
7
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص .
8
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة .
9
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم .
10
فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم .
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم .
فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم
11
فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .
12
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله .
13
فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين .
14
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان .
15
يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم .
16
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس .
17
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين .
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه .
18
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا .
19
ونختتم ما أوردنا من آي الجهاد بما وصف القرآن به جياد الخيل في الغارة، قال - جل مجده وتعالى ذكره:
والعاديات ضبحا
20 * فالموريات قدحا
21 * فالمغيرات صبحا
22 * فأثرن به نقعا
23 * فوسطن به جمعا .
الله أكبر! هذه بلاغة تقطع دونها علائق الأفلام، وليت شعري هل يعدل كلام الله كلام!
في الشجاعة والإقدام
والآن ننتقل إلى ما قيل في الشجاعة والإقدام، ونبدأ بما كان من خير الأنام، عليه الصلاة والسلام:
روى الإمام البخاري بسنده أن رجلا سأل البراء بن عازب - رضي الله عنه: أفررتم يوم حنين عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم! لكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يفر، ثم قال: لقد رأيته على بغلته البيضاء، وأبو سفيان آخذ بلجامها، والنبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: أنا النبي لا أكذب، وزاد غيره: أنا ابن عبد المطلب. قيل: فما رئي يومئذ أحد أشد منه، إلى أن قال: فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يركض بغلته نحو الكفار.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: إنا كنا إذا حمي البأس، واحمرت الحدق، التقينا برسول الله
صلى الله عليه وسلم
فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي
صلى الله عليه وسلم
وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا، وقيل: كان الشجاع هو الذي يقرب منه
صلى الله عليه وسلم
إذا دنا العدو لقربه منه.
وقال له أبي بن خلف حين افتدى يوم بدر: عندي فرس أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليها، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم : أنا أقتلك إن شاء الله!
فلما رآه يوم أحد شد أبي على فرسه على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فاعترضه رجال من المسلمين، فقال رسول الله: هكذا، أي: خلوا طريقه، وتناول الحربة من الحارث بن الصمة، فانتفض بها انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة قد أدى منها عن فرسه مرارا، فرجع إلى قريش يقول: قتلني محمد، وهم يقولون: ألا بأس بك، فقال: لو كان ما بي بجميع الناس لقتلهم! أليس قد قال: أنا أقتلك، والله لو بصق علي لقتلني.
وهلك الخاسر في قفون قريش إلى مكة.
ومن أبلغ ما قال الشعراء في الشجاعة قول العباس بن مرداس السلمي:
أشد على الكتيبة لا أبالي
أحتفي كان فيها أم سواها
وقول المتنبي:
شجاع كأن الحرب عاشقة له
إذا زارها فدته بالخيل والرجل
وقول البحتري:
معشر أمسكت حلومهم الأر
ض وكادت لولاهم أن تميدا
فإذا الجدب جاء كانوا غيوثا
وإذا النقع ثار ثاروا أسودا
وكأن الإله قال لهم في ال
حرب: كونوا حجارة أو حديدا
وقول آخر:
قوم شراب سيوفهم ورماح
هم في كل معترك دم الأشراف
رجعت إليهم خيلهم بمعاشر
كل لكل جسيم أمر كاف
يتحننون إلى لقاء عدوهم
كتحنن الآلاف للآلاف
ويباشرون ظبى السيوف بأنفس
أمضى وأقطع من ظبى الأسياف
وقول آخر:
الضاربين بكل أبيض مخذم
والطاعنين مجامع الأضغان
في الجهاد والصبر على الشدائد
ومن أحسن ما قيل في فضل الجهاد والصبر على شدائده، قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها.» و«الجنة تحت ظلال السيوف.» و«والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل.»
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يوم صفين، وقد قيل له: أتقاتل أهل الشام الغداة، وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟ فقال: أبالموت تخوفونني؟ فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط الموت علي! بقية السيف أنمى عددا، وقيل له: إن درعك لا ظهر لها، فقال: إذا استمكن عدوي من ظهري فلا يبقى!
وقال خالد بن الوليد عند موته: لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع إلا فيه طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!
وقال عبد الله بن الزبير لما بلغه قتل أخيه مصعب: إن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفا، ولكن قعصا بأطراف الرماح، وموتا تحت ظلال السيوف!
وقيل للمهلب بن أبي صفرة: إنك لتلقي نفسك في المهالك! فقال: إن لم آت الموت مسترسلا أتاني مستعجلا، إني لست آتي الموت من حبه وإنما آتيه من بغضه، وتمثل بقول الحصين بن الحمام:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وهي قصيدة مشهورة منها:
فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
نفلق هاما من كرام أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وقال جرير:
قل للجبان إذا تأخر سرجه:
هل أنت من شرك المنية ناجي
وقال حبيب بن أبي أوس الطائي:
فأثبت في مستنقع الموت رجله
وقال لها: من تحت أخمصك الحشر
وقد كان فوت الموت سهلا فرده
إليه الحفاظ المرد الخلق الوعر
غدا غدوة والحمد نسج ردائه
فلم ينصرف إلا وأكفانه الآجر
تردى رداء الموت حمرا فما أتى
لها الليل إلا وهي من سندس خضر
في وصف الحرب
ومن أبلغ ما قيل في وصف الحرب: مشت الفحول مشي الوعول، فلما تصافحت السيوف، فغرت المنايا أفواهها، وقول الشاعر:
كأن الأفق محفوف بنار
وتحت النار آساد تزير
وقول الآخر:
ويوم كأن المصطلين بحره وإن
لم يكن حجر وقوف على حجر
صبرنا له حتى تجلى وإنما
تفرج أيام الكريهة بالصبر
وقول حسان:
إذا ما غضبنا بأسيافنا
جعلنا الجماجم أغمادها
وقول التنوخي شاعر اليتيمة:
في موقف وقف الحمام ولم يزغ
عن ساحتيه وزاغت الأبصار
فقنا تسيل من الدماء على قنا
بطوالهن تقصف الأعمار
ورءوس أبطال تطاير بالظبى
فكأنها تحت الغبار غبار
وقول الشاعر:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
وقول بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
وأسيافنا ليل تهادى كواكبه
ومن أبدع ما وصف به السيف قول البحتري:
يتناول الروح البعيد مناله
عفوا ويفتح في الفضاء المقفل
ماض وإن لم تمضه يد فارس
بطل ومصقول وإن لم يصقل
يغشى الوغى فالترس ليس بجنة
من حدة والدرع ليس بمعقل
مصغ إلى حكم الردى فإذا مضى
لم يلتفت وإذا قضى لم يعدل
وقول ابن المعتز:
ولي صارم فيه المنايا كوامن
فما ينتضي إلا لسفك دماء
ترى فوق متنيه الفرند كأنه
بقية غيم رق دون سماء
ومن أبدع ما قيل في الريح قول ابن تمام:
أنهيت أرواحه الأرماح إذا شرعت
فما ترد لريب الدهر عنه يد
كأنها وهي في الأوداج والفة
وفي الكلى تجد الغيظ الذي تجد
من كل أزرق نظار بلا نظر
إلى المقاتل ما في متنه أود
كأنه كان خدن الحب مذ زمن
فليس يعجزه قلب ولا كبد
ومن أروع ما قيل في الحرب، قصيدة أبي تمام التي مطلعها:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
متونهن جلاء الشك والريب
وهي مشهورة ومنها:
لقد تركت أمير المؤمنين بها
للنار يوما ذليل الصخر والخشب
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى
يشله وسطها صبح من اللهب
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت
عن لونها أو كأن الشمس لم تغب
ضوء من النار والظلماء عاكفة
وظلمة من دخان في ضحى شحب
فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت
والشمس واجبة من ذا ولم تجب
تصرح الدهر تصريح الغمام لها
عن يوم هيجاء منها طاهر جنب
في الجبن والفرار
ومن أحسن ما ورد في صفة الجبن، والتعيير بالفرار والذعر قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني
فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة لم يقاتل دونهم
ونجا برأس طمرة ولجام
وقال المتنبي:
يرى الجبناء أن الجبن حزم
وتلك خديعة الطبع اللئيم
وقال غيره:
يفر جبان القوم عن عرس نفسه
ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
وقال آخر:
وضاقت الأرض حتى إن هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وقال جبان يتحدث عن نفسه:
قامت تشجعني هند فقلت لها:
إن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته
ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضل الله سعيهم
إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
وقيل لجبان في بعض الوقائع: تقدم، فقال:
وقالوا: تقدم، قلت: لست بفاعل
أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو كان لي رأسان أتلفت واحدا
ولكن رأس إذا زال أعقما
وقال مثله:
تمشي المنايا إلى قوم فأبغضها
فكيف أعدو إليها عاري الكفن
وقيل لأعرابي: ألا تعرف القتال؟ فإن الله قد أمرك به، فقال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أمضي إليه ركضا؟
وقيل لزيد: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: إذا رأيت شخصا بالليل فكن للإقدام عليه أولى منه عليك، فقال: أخاف أن يكون قد سمع الحديث قبلي فأقع معه فيما أكره، وإنما الهرب خير.
وقالت عائشة - رضي الله عنها: إن لله خلقا قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت معها، فأف للجبناء أف للجبناء!
ولقي غلام أعرابيا فارا من القتال فقال له: كيف تفر يا عم من لقاء العدو؟ قال: يا بن أخي، كيف يكونون لي عدوا وما أعرفهم ولا يعرفونني؟
وعير آخر الفرار فقال: لأن يقال: فر لعنه الله، خير من أن يقال: قتل رحمه الله!
وكان أبو حية النميري من أجبن الناس وأكذبهم، وكان له سيف يسميه «لعاب المنية» ليس بينه وبين الخشب فرق، روى بعضهم أن جارا لأبي حية حدثه فقال:
دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصا، فأشرقت عليه وقد انتضى سيفه «لعاب المنية» وهو واقف في وسط الدار، وهو يقول: أيها المغتر بنا المجترئ علينا بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به مشهورة ضربته لا تخاف نبوته، أخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني أدع قيسا إليك لا تقم لها! وما قيس؟ تملأ والله الفضاء لفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله! ما أكثرها وأطيبها! فبينما هو كذلك إذا الكلب قد خرج، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا، وكفاني حربا!
في الغزل
ومن أجود ما أوصف صور الحرب إلى الشعراء في باب الغزل ما قال المتنبي:
يا بنت معتنق الفوارس في الوغى
لأبوك ثم أبر منك وأرحم!
وقال ابن هانئ الأندلسي:
لفتات لحظك أم سيوف أبيك
وكئوس خمر أم مراشف فيك؟
أجلاد مرهفة وفتك محاجر
لا أنت راحمة ولا أهلوك!
يا بنت ذي البرد الطويل نجاده
أكذا يكون الحكم في ناديك؟
وقال الشاعر:
رمتني وستر الله بيني وبينها
عشية آرام الكناس رميم
رميم التي قالت لجارات بيتها:
ضمنت لكم ألا يزال يهيم
ألا رب يوم لو رمتني رميتها
ولكن عهد بالنضال قديم
وقال عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف؛ لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
هذه نماذج يسيرة جدا جدا إذا أضيفت إلى ما قيل في الحرب وآلاتها وسائر أسبابها، على أنها فيما أرى كافية حق الكفاية في الإبانة عن مبلغ ما أجدت الحروب على الآداب.
وبعد، فلقد قال السابقون في الفوارس المعلمة والخيل المسوقة، والقسي الموتورة، والسهام المنصولة، والقنا الحظية، والسيوف الهندوانية، كما قالوا في خزف المقاليع ورمي المجانيق، وذلك كل ما شهدوا في زمانهم، وأدركوا من آلة حربهم وقتا لهم، ومع هذا فقد أطالوا وأكثروا وأبدعوا فيما خيلوا وصوروا، وانتظموا البديع من الفصيح، وآتوا بالعاجب من الصيغ، فضاعفوا ثروة العربية وأبعدوا آفاقها إلى غاية المدى.
فهل لنا أن ننظر من كتابنا وشعرائنا اليوم مثل هذا، وقد أجد العلم للحرب ما أجد مما لا يكاد يحصيه عد، ما بين مزمزمات في جو السماء، ومدمدمات على متن الغبراء، وغائصات في جوف الماء وسابحات على وجه الدأماء، وقاذفات من اللهب بأمثال الشهب وناضحات بالغاز الخانقة، وراميات بالقنابل الناسفة والحارقة ... إلخ. ما أعد المعلم المجرم ولاكراته من أهوال تشهد العالم أهوال القيامة.
عبرة العبر
هذه الشمس تطالع العالم بجفنيها من جانب الأفق، وما تلبث أن تسلل منه رويدا رويدا، حتى يستوي إطارها على متنه، وما تزال في خلال ذلك تضاعف ما ترسل على وجه الأرض من خيوطها العسجدية، وكذلك ما تزال تمطل فيها وتبسطها من الشرق إلى الغرب، وهكذا تظل تحبو في مدرجها إلى قبة الفلك، وكلما خطت بالزمن خطوة رأيتها تشتد وتترعرع ويسطع ضوءها، ويحمي وهجها إلى أن تبلغ الندوة وتسوي على أعلى الأوج.
وأنت خبير بأنه ليس بعد الصعود إلا الهبوط، فهذه سنة الله تعالى في كونه، وكذلك تجري سنته على هذا الكائن العظيم، فليس بعجيب أن يدعو الفلكيون هذه اللحظة، أعني لحظة استواء الشمس في أعلى الأوج بالزوال، إذا كان بدء الزوال هو غاية الكمال!
وهذه الشمس تمشي إلى الغرب في منحدرها كذلك رويدا رويدا، كما تتداخلها الشيخوخة فالهرم رويدا رويدا، حتى إذا كان اصفر لونها وبردت السن من جرمها، جعلت تتدلى في قبرها من مغرب الأفق مستمهلة مستأنية، وهكذا تغيب في لحدها غير تاركة من التراث إلا صبابة من الذهب المذاب، سرعان ما تتبخر في حلك الظلام، وقد تترك تراثها الغض على صفحة القمر، يرفد العلم به بعض ليالي الشهر.
تلك سيرة الشمس كل يوم: ميلاد فترعرع ففتوة، فتباب وفراهة وقوة، وكهولة فشيخوخة فهرم، فتدس في النهاية تحت الرجم، وسبحان الحي الذي لا يموت!
على أنها في جميع مراحل حياتها عاملة جادة جاهدة؛ لا تني عن السعي لحظة واحدة، فها هي ذي تستنبت الأرض وتزكي الزرع وتبسق الشجر وتنضج الثمر، وتفتح من أكمامه الزهر، ثم ها هي ذي - في عنفوانها - ما تفتأ تجتذب البخار عذبا سائغا من أجاج البحار،
1
حتى إذا انعقد سحابا سح فأخضل قفرا وأعشب يبابا، وهذه الأنهار الجارية سموتها في أقطار الأرض تبعث أسباب الحياة لكل متهيئ للحياة، وكذلك لا ننسى أنها ما تبرح تعمل عامة النهار في تطهير الأرض، مما يعلق بجسدها من الأخباث والأوضار، فأي عنصر لعمري من حياة هذا العالم يمكن أن يغني عن الشمس؟ ألا إنها لمصدر الحياة جميعا، فحق للعالم أن يقول: إنما الحياة الشمس وإنما الشمس الحياة!
أيتها الشمس! ما أحسنك وأجملك، وما أطيبك وأكرمك! تعملين لأول الدهر إلى غاية الدهر في غير وني ولا سأم ولا ضجر ولا برم، ولا صلف ولا استعلاء، ولا زهو ولا كبرياء، ولو شاء الله لأهلك بحرك بعض الأقوام، ولو قد شاء لأهلك بطول حجبك جميع الأنام!
وبعد، فما أخلق الذين يمسهم حظ من المجد في هذه الدنيا والذين يمسون صدرا من السلطان فيها أن يبتغوا لسيرهم من سيرة هذه الشمس أعلى المثل، فيعملوا كل في محيطه للنفع العام في جد ودأب مؤمنين كل الإيمان أن الموهبة والسلطان إنما ينبغي أن يكونا ملكا خالصا للمجموع لا لأحد من الناس ولا لشيء من الأشياء.
على أن مما يفجع حقا أن كثرة من هؤلاء الذين ينالون مجدا ويولون سلطانا، سواء أكان أقام من ثم لهم هذا في جماعة أم في شعب أم في شعوب، سرعان ما ينسون كل شيء؛ لأن الأثرة قد ملكت من نفوسهم كل شيء فنفوسهم هي المبدأ، ونفوسهم هي الغاية حتى إذا أجالوا الفكر في منافع الجماعات، فلا لأنهم يؤثرون لهذه الجمات نفعا أو يبتغون لها خيرا؛ بل لأنهم إنما يطلبون من هذا السعي مراما لأنفسهم لا لشيء آخر، وقد يكون هذا المرام في أعف الصور هو إحراز المجد، أما ما يقع من خير المجموع أو ما يحتمل أن يقع، فليس أكثر من طريق!
وكيفما كان الأمر، فإنه ما يكاد أحد هؤلاء يحس مجده ويستشعر سلطانه، حتى يورم أنفه، ويتداخله من الصلف المخيلة ما يملأ اعتقادا بأن الرأي في الأمر ليس إلا ما يرى هو، وأن ما سواه لا صلاح له ولا خير فيه، بل لقد يكون كله شرا وفسادا.
ولقد يشتد طغيان هذه الخلة على المرء، فيرى أن الناس لا ينبغي أن ينظروا إلا بعينيه، ولا يسمعوا إلا بأذنه بل إنه ليرى أن من العبث الضار أن يجري فكرهم بغير ما يجري به فكره، وأن تنتهي آراؤهم على غير ما ينتهي إليه رأيه فإذا خالفه امرؤ إلى غير هذا كان بين اثنين: إما ملتاث ممخرق وإما معاند مكابر يجب أن يعجل له سوء العذاب!
وفي الحق أن أكثر من يغمرهم هذا الطغيان، إنما يرون ما يرون ويفعلون ما يفعلون عن ثبات إيمان ورسوخ اعتقاد!
وما ظنك بمن تطبعهم شدة الأثرة على الإيمان بأنهم مبعوثون من لدن رب السموات لإصلاح ما فسد في رقعة من الأرض أو في رقاع الأرض جميعا؟ فإليهم وحدهم عهد الله بالاضطلاع بهذا المهم، وعليهم وحدهم تقع تبعة التقصير في علاجه، والراضي في إمضائه وإكمامه!
وهؤلاء لا يطلبون الأعوان والأنصار ليعاونوهم بصادق الرأي وصالح المشورة، ولكن ليعاونوهم بقوة المظهر وإمضاء ما قضى به الوحي الذي لا يخطئ أبدا!
فإذا تعاظمك ما يختلف على هذا الرأي من عصور العتو والطغيان تخرب العامر، وتدمر القائم وتقفر الآهل، وتراق فيها الدماء بغير حساب، وتزهق النفوس لغير سبب من الأسباب؛ إذا تعاظمك هذا في عصور الدهر المتتابعة، فاعلم أن علته تلك الخلة الفاجرة في الإنسان!
وأمسى، لقد أتمت دورة الشمس حولا سلكته في عقد التاريخ أيضا، وآذنت العالم بفجر حول جديد.
وإن ذاك العام المدبر وهذا العام المقبل، لهما - كما تعلم - من أعوام الهجرة، هجرة محمد
صلى الله عليه وسلم
وصاحبه من مكة إلى المدينة، وقد ساد بها الإسلام، فعد بسلطانه الأنام.
وبعد، فلست بحاجة إلى أن أحدثك عما كان قد غشي الأرض من ظلم وفساد، وتصدع في النفوس وتضعضع في الأخلاق، حتى كاد يقضي على الأمم بعدم الصلاحية للبقاء، إلى أن بعث محمد من عند الله حقا، فبلغ رساته إلى الناس كما أوحى إليه بهاربه حقا، فكان ما شهد التاريخ من ذلك الفتح والإصلاح والإسعاد.
ولا أحب أن أطيل في وصف ذلك الإصلاح والإسعاد، فبحسبهما أن تنزل بآياتهما وحي كريم من عند الله العلي العظيم.
وإنما أقف وقفة قصيرة عند سيرة من خلفوا محمدا
صلى الله عليه وسلم ، ولم يؤيد أحد منهم بوحي سماوي، ولا حبي بالعصمة التي حبي بها الأنبياء، إنما هم أناس مثل سائر الناس.
وإذا كان خلفاء الرسول قد ارتفعوا على سائر الناس، فبأنهم إنما ساروا سيرة هذه الشمس التي تطالعهم كل صباح وتغرب عنهم كل مساء، على أنها هي تعمل لعالم الأحياء والأجرام، أما هم فيعملون لعالم النفوس والأرواح.
يعملون جادين جاهدين لا يبتغون من سعيهم نفعا، ولا يريدون من ورائه فخرا ولا ذكرا؛ لأنهم أشد أمانة من أن يقتطعوا لأنفسهم أو لذويهم شيئا مما ينبغي أن يجرد كله للنفع العام.
يعملون لا مستبدين بالرأي ولا مستأثرين، بل مشاورين مصغين مسرعين، حتى إذا اتسق لهم الرأي الذي يرون فيه منفعة المجموع، أسرعوا إلى إمضائه ولو جاء من أصغر الجميع.
أما رأي الجماعة فشرع عندهم مشروع وقضاء مبرم محتوم، يعملون صادقين مخلصين لله وللنفع العام لا كبر ولا مخيلة، ولا استئثار بمنفعة من المنصب والجاه، بل ليس عندهم إلا الإيثار والتواضع، والرقة للضعفاء، وهيهات أن يؤثروا أحدا على أحد إلا بطاعة الله وما قدم من الخير للمجموع.
ولعمري، لتلك أعلى صور الديموقراطية التي يحلم بها أجل الفلاسفة من قديم الزمان.
إذا كان هؤلاء الخلفاء قد انعقد لهم أعظم المجد، المجد الخالد على الدهر، فلأنهم لم يريدوه ولم يسعوا إليه، ولم يشغل هو جزءا من نفوسهم جليلا ولا دقيقا!
وبعد، فلا أشك أن مما أصفاهم لطلب النفع العام، وتجافى بهم عن الاستئثار حتى بالنفع الخاص هو طول الذكر بالموت، وكيف لهم بنسيانه وهذه الشمس العظيمة، باعثة الحياة والحركة في العالم تموت كل يوم بمرأى منهم بعد أقوى الحياة، ولكل شيء نهاية ولكل سائلة قرار!
وإذا كانت الشمس تعود كل يوم فتوالي سعيها في النفع والتجديد والإحياء، فإن زعيما لن يعود بعد موته، ولو لإصلاح ما عسى أن يكون قد أفسد وتعمير ما عسى أن يكون قد خرب، فما له بعد الموت بالأمر يدان.
هذا بعض ما يلهمه حديث الهجرة، وإن فيه لعبرة.
أسعفوا التاريخ
ليت شعري - لو سألت - بعد عشر سنين مثلا شابا ممن سينضحهم العصر يومئذ، بل لو سألت اليوم شابا ممن هم في الثلاثين فما دون، أن يجلو عليك صورة من الحياة المصرية، وأعني حياة المدن قبل ثلاثين سنة فقط، فكيف تراه يقول؟
أخشى ألا يقول شيئا قط؛ لأنه لا يكاد يعرف منها شيئا قط!
لقد حالت الكثرة الكثيرة من أساليب حياتنا في هذه المدة القصيرة بسرعة لا أحسبها كانت مما يدخل في حساب مؤرخ ولا عالم اجتماعي، ولا غير هذين من سائر المفكرين وبحسب المرء منا أن يلتفت بالذاكرة إلى ما قبل أربعين سنة خلت أو ثلاثين، ويقلبها في نواحي حياتنا لترجع إليه بصفة قوم غير القوم، وناس لا يكاد يرتبطهم شبه بهذا الناس!
لقد تغيرنا سريعا جدا في أخلاقنا، وآدابنا، وأسلوب سكنانا، وطعامنا، ولبسنا، وسمرنا؛ ولهونا، وغنائنا، وزواجنا، وأعراسنا، ومآتمنا، وسائر أسبابنا، فلم يبق ثابتا من ذلك فينا إلا الأقل من القليل، ولا شك أنه كذلك في طريق التطور والتحوير.
وكذلك تختفي من الوجود صورة أمة؛ لتحل في موضعها صورة أخرى إذا قدر لحياتنا قرار قريب.
وإذا كان «لكل سائلة قرار» كما يقول الشاعر، فلا شك في أننا نسلك الآن برزخا بين عيشين مختلفين أشد الاختلاف مفترقين أبلغ الافتراق، عيشين لا يكاد يتسع التصور لأنهما لأمة واحدة، وخاصة في مثل هذا الزمن القصير!
وليس يتسع هذا المقام - بالضرورة - لاستقصاء كل ما تناوله التطور الشديد في بلادنا، ويكفينا أن نعرض الآن نموذجا واحدا يصلح أن يكون مثلا للجميع.
كان نساء الطبقتين العليا والوسطى في هذا العهد القريب، لا يتدلين في الطريق إلا مقنعات محجوبات أمنع حجاب، فللرأس غطاء وللوجه غطاء ولسائر الجوارح غطاء، بحيث لا يظهر منهن إلا العيون من خلل البراقع، وأطراف البنان في قبضهن على مصاريع الملاء.
وكانت هذه الأغطية تختلف باختلاف البيئات، فالسيدة أو الفتاة المتوسطة الحال، تتلفف في الملاءة الغالية نوعا، وقد تكون من الحرير «الكريشة»، وكيفما كان الأمر فهي تلبسها على زي خاص لا ترسلها كما ترسلها نساء الطبقة الدنيا، بل إنها لتضيق على مدار الخصر، وتضفي على ما دونه حتى الكعبين.
وأما قناع الوجه فالبرقع الأسود، يرسل من أسفل الجبين إلى غاية الصدر، ويحلى من وسط أعلاه بحلية من الذهب غالبا، أو من الفضة المموهة بالذهب أحيانا، وتدعى هذه الحلية «عروسة» البرقع ولا حاجة إلى وصفها، فلا يزال يضعها بعض «بنات البلد».
وأما الطبقة «العثمانلي» فيتخذن في العادة الحرير «الحبر»، وأما الوجوه فيسترنها بقناع أبيض لا «عروسة» له ولا سواها من الحلي، وربما وضعن بدل القناع «اليشمق»، وهذا كان خاصا بالطبقة الأرستقراطية جدا، لا يشركهن فيه غيرهن، وربما اتخذ نساء الطبقة الوسطى الحرير «الحبر» إذا دعت بعض المناسبات كحضور الأعراس والزيارات ذات الخطر.
ولم يكن التجمل بالمساحيق وما يؤدي مؤداها إلا نادرا جدا، وأكثر ما يكون ذلك في الأعراس ونحوها، وكان الإفراط فيه والمداومة عليه معيبا، وكانت السيدة التي تلزمه موضع حديث السيدات وإنكارهن، وكثيرا ما يتخذنها موضعا للأسمار!
وكيفما كانت الحال، فإن هذا الضرب من التبهج - أعني تلوين الوجوه - لم يكن ليؤذن به قط لفتاة، بل لست أغلو إذا زعمت أنه كان منكرا من سيدة ليست ذات بعل، وإن فتاة تفعل هذا لهي حقيقة بإرسال الألسن وذهاب الأقاويل، وإقفال بيوت الأشراف في وجهها، وانقباض المجالس دونها وتحرجها بغشيانها!
والآن - وبهذه السرعة السريعة - لقد تجرد نساء هاتين الطبقتين وفتياتهما من أرديتهن الخارجية جملة، ونضون الأقنعة فلا قناع البتة، وقصرن الثياب وربما حسرن عن الأذرع، حتى لقد يبلغ النظر أعلى الكتف وأسفلها جميعا، ولست ترى هؤلاء باديات في الطرق إلا كذلك، وأما صقل العوارض ودهانها بالمساحيق البيضاء وصبغ الشفاة بالأحمر القاني أو الأحمر الضارب إلى الصفرة، فلقد أصبح هذا وأمسى من ضرورات السعي في الطريق، بل كاد يصبح ويمسي مما تعاب المرأة بتركه، وتعير إذا هي تخلت عنه!
ولقد تصادفك البنت في الطريق، وهي لما تتجاوز الثانية عشرة أو الثالثة عشرة، وقد صبغت شفتيها بالأحمر صبغا، ولا أقول: دبغتها دبغا! ولقد كثر ذلك وشاع وفشا حتى أضحى لا يلفت من الناس شيئا من العجب، وخاصة عند الناجمين الذين لم يشهدوا الأمهات والأخوات منذ بضع عشرات من الأعوام.
ولقد كان التيار جارفا إلى حد أن سيدة لم تستطع أن تثبت في طريقه أو تثبت ابنتها، وأن رجلا مهما يكن محافظا شديد الحرص على التقاليد، لم يستطع أن يملك عن جرف التيار امرأته أو فتاته، بل إن بروز المرأة اليوم في الطريق ملففة مقنعة، هو الذي يسترعي النظر وقد يستدعي العجب!
بل إنك لقد تجد في طريقك السيدة وقد ذرفت على الستين أو طعنت في السبعين؛ أي ممن نشأن في الحجاب، وتوارين في شتى الألفاف دهرا غير قصير، لقد تراهن اليوم سافرات الوجوه مبديات ما أبقى المقص من شعر الرءوس، بارزات الأذرع والنحور، مقصرات الثياب إلى ما يتجاوز أعلى السوق، وقد بالغن في التبهج والتجمل بألوان الصبغ والدهان!
وأرجو من القارئ ألا يفهم أنني أسوق هذا الكلام على جهة الإنكار، أو أنني أبغي وعظا أو أطلب نصحا، إنما أنا في هذا الحديث مؤرخ واصف لا أكثر ولا أقل، أذكر ما كان في بعض أسباب عيشنا من ثلاثين عاما فقط، وما صرنا إليه بعد هذه الأعوام، وصفوة القول: أننا في هذه المدة القصيرة جدا في مراحل تحول الأمم قد تطورنا تطورا شديدا، وتغيرنا تغيرا كبيرا، ومع هذا فإنه لم تستقر بنا الحال بعد إلى إقرار!
وبعد، فلقد أصبح من الواجب الحتم والحال ما ذكرنا، أن يشمر جماعة من مشيخة الكاتبين في تسجيل هذا التاريخ القريب في مدته، وقد شهدوه وعاشوا فيه، وعرفوا الجليل والدقيق من مظاهر الحياة في إبانه، وإلا عفت معالمه ومحت رسومه وعز على الناس بعد أربعين أو خمسين عاما أن يلتمسوه ويتصوروه كاملا واضحا؛ لأنهم لا يجدون إليه السبيل.
ولقد قلت: «القريب في مدته»؛ لأنه أضحى بعيدا جدا في شخصه وصورته، وقد أحضرني هذا المعنى قول متمم بن نويرة في أخيه مالك:
فلما تفارقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
اللهم إن أخشى ما أخشاه أن نتهاون قرب العهد بهذا الصدر من التاريخ الذي شهدنا أطرافه، فيصرفنا هذا التهاون عن تدوينه وتسجيله ووصف مظاهر الحياة المصرية فيه، ثم يلتفت إلينا أبناؤنا أنفسهم، ولا أقول: أحفادنا، فلا يصيبون في التماسه وتمثله إلا عنتا كثيرا!
هذا عصر محمد علي الكبير وما تقدمه بقليل، ولا أمعن في التاريخ متقهقرا إلى عهود المماليك، فالأيوبيين، فالفاطميين فمن قبلهم، أقول: لولا بعثة الحملة الفرنسية، ولولا المستر لين الإنجليزي ما عرفنا كثيرا من عادات الأجداد، بل ما عرفنا ماذا كانت تلبس الجدات!
إن إعمال التاريخ لقرب العهد به كثيرا ما يجني على حقائق التاريخ، وخاصة إذا أعقبته رجات وطفرات كهذه الرجات والطفرات التي جازت بنا، وكادت تأتي على كل شيء من أخلاقنا وآدابنا وتقاليدنا وعاداتنا وسائر أسبابنا.
وإن من رحمة الله بهذا التاريخ القريب أن كان فيه «الفوتغراف» يسجل الصور، وأن قام فيه «الفوتغراف» يسجل الأصوات، وأن شاعت فيه الصحافة فسجلت أهم الأحداث، على أن هذا كله لا يغني عن التسجيل البياني يصف ما أخطأته تلك الوسائل، ويتدسس إلى ما لا تسلكه من بواطن الأشياء.
أرجو أن يشمر بعض مشيخة الكاتبين في هذا؛ تفقيها لأبنائنا وبرا بتاريخنا لا ينقطع على هذه الصورة، وتيسيرا لسعي المصلحين الاجتماعيين.
قبلة
قال لي صاحبي في بعض حديثه عن خطبه: «... لا أدري أكانت أحلى قبلة أصبتها في حياتي، أم كانت أمر ما ذقت في هذه الحياة جميعا؟ أكانت ألذ ما ظفرت به من لذائذ الدنيا، أم كانت أوجع ما أوجعني وآلم ما برح بي من كل ما لقيته من الآلام والبرح؟ أكانت بردا على كبدي وسلاما أم كانت لهبا وضراما؟
لقد أصبت من جميع أنواع القبل التي يتهيأ للمرء أن يصيب، قبلت الأم وقبلت الولد في جميع حالاته، وقبلت الزوجة وغير الزوجة، وقبلت الصديق آب من سفر مخوف بعيد، وقبلته وقد أبل من علة رجحت فيه كفة الموت على كفة الحياة، على أنني لم أجد لمذاق هذه القبلة نظيرا ولا لطعمها بين كل أولئك شبيها، هي غير أولئك كله وأشد وأعنف من أولئك جميعا!
لقد كانت قبلة طويلة استغرقت مني كل معاهد الحس، واستهلكت كل مجامع الشعور؛ حتى ولو وخزوني بالإبر أو لذعوني بالنار، ما شعرت بشيء ولا أحسست شيئا!
ثم لا أدري بعد ذلك أبدلت في هذه القبلة ما كان قد بقي من عصارة كبدي وحشاشة قلبي، أم ترشفت بها ما عوضني عما اعتصر من حشاشة قلبي، وعصارة كبدي؟
ثم لا أدري أهي التي شاعت في نفسي وملكتها من جميع قطارها، أم أن نفسي هي التي استمالت، بشدة الوجد، قبلة من القبل؟
ثم لا أدري أكنت أغدو بها حياء أم كنت أستمد منها الحياة؟
وسواء أكان الأمر هكذا أم هكذا، فلم تكن هناك نفس وقبلة، فلقد صارتا شيئا واحدا، لك أن تسميه قبلة ولك أن تدعوه نفسا!
يا لها من قبلة هائلة، ولو كانت أحلى ما التذ به إنسان في جميع هذا العالم!»
إلى هنا انتهى صاحبي من حديثه الموجع الأليم، وإذا كنت قد بدأت هذا الحديث من منتهاه، فاعذرني يا سيدي القارئ، فلقد أعداني صنيع قصاص هذا العصر، فكثرتهم إنما يبدءون القصة من وسطها أو من مآخيرها؛ ليبعثوا في قرائهم غريزة التشوق والاستشراف، فأخذت في رواية هذا الحديث أخذهم ونهجت نهجهم.
أما أول القصة، فإن لي صديقا كريم المنزلة عندي أعرف فيه رهافة الحس، ووضاءة النفس وطيبة القلب وشدة العطف، وهو شديد الكلف بأولاده، عظيم العطف عليهم، حتى لا يكاد ينتهي منتهاه في ذلك أحد، وهو لا يفتأ يدللهم ويرفه بكل ما اتسع له الجهد عليهم، ويسلي بشتى الوسائل عنهم، وكثيرا ما يستخفه ذكرهم حتى في المجلس الجامع لمن يتحشم ومن لا يتحشم، فيروي من أحاديث كبارهم ومن لغو صغارهم ما يبالي أظن الناس به ولها وعطفا، أم ظنوا به حمقا وسخفا.
ولقد هاجر هذا صاحبي إلى الريف فيمن هاجروا فرارا بنفسهم، أو على الصحيح، فرارا بولدهم، ثم انكفأ بهم إلى القاهرة بعد قضاء الأشهر الطويلة، ولقيته بعد مقفلة فإذا هو هزيل مغبر الوجه، فلم أشك في أنه قد لحقته علة فسألته عن حاله وما به فقص علي القصة التي سمعت آخرها وهاك أولها.
قال صاحبي - كان الله له: «هبطت القاهرة لألي بعض العمل وتركت ولدي في أتم خير وعافية، فرحين بعيش الريف الذي لم يعرفوه من قبل، وقضيت في مهبطي ليلتين اثنتين ثم عدت وقد حملت إليهم ما أقدرني الله عليه من التحف والألطاف، وكنت طول الطريق أتمثل لقاءهم، ورؤيتهم في هرجهم ومرجهم، وما عسى أن أدخل من السرور عليهم، فأجد لذلك لذة لا تكاد تعد لها لذة.
على أنني ما كدت أن أتخطى عتبة البيت؛ حتى رأيت جمودا لم آلفه ووجوما لا عهد لي به، فهرولت إلى السلم وما عرجت بعض الدرج حتى سمعت أنينا مؤلما يتخلله صراخ مزعج، فجعلت أطوي الدرج مثنى وثلاث، ثم انتهيت إلى مبعث الصوت فإذا صغرى ابنتي هي التي تئن وهي التي تصرخ، وإذا من حولها بين باك ينشج نشيجا عنيفا، وبين حاقن للبكاء إلا ما تنتضح به الجفون برغمه من قطرات الدموع، وبين واجم شديد الوجوم، وبين متحير العينين من شدة الذعر والهلع!
فسألت في جزع ولهفة عن الخبر، فأجابني من قوي على الكلام منهم: لقد شعرت الفتاة فجأة في أصيل أمس بآلام شديدة في الجنب الأيمن، فظن بادئ الرأي أن ذلك من أثر برد، وعلى ذلك عولجت بالعلاجات المنزلية المعروفة، حتى إذا تقدم الليل واشتدت عليها الآلام جئنا من الحاضرة بفلان، وهو طبيب مشهور فظل يعالجها ويحاول تخفيف آلامها، حتى انجلى عمود الصبح، ولم تخب البرح ولا خفت الآلام!
ورأيت المسكينة لا تطيق أن تسكن إلى وضع من الأوضاع، فهي تسأل أن يجلسوها فما تكاد تجلس حتى تصرخ، وتسأل إرقادها على الجنب الأيمن وسرعان ما تصرخ سائلة إرقادها على الأيسر وهكذا! وهي كلما أنت أحسست كبدي تذوب شعبة بعد شعبة، وينفطر سلاؤها قطرة بعد قطرة، فإذا صرخت أحسست قلبي يتوثب في صدري، كأنه كره تتقاذفها الصبية.
وهي تفتأ تستغيث بمن حولها واحدا بعد واحد؛ كأنها تظن أنهم قادرون على أن يرحموها مما تجد، ويدفعوا عنها هذا العذاب الأليم! وإنها لتستنجد بي فإذا بي أضرع إلى الله، وأسأله أن يحول ما بها إلي ثم أسرع فأستعيذ به تعالى من نزغ الشيطان، فالله أكرم وأبر وأرحم من ألا يدفع الأذى عن عبد من عبيده إلا إذا قذف به عبدا آخر، وأستغفر الله العظيم!
وتفترق جمهرة الأطباء الذين اختلفوا إليه، فمن قائل: إنه التهاب في المصير الأعور،
1
ومن ذاهب إلى أنه مغص في الكلية، ومن حائر متردد لا يقطع برأي ولا يرجح شيئا!
وأطمئن إلى الرأي الثاني طوعا لما قيل: إنه لو كان ثمة التهاب في المصير، لظهر من أعراضه كيت وكيت، وشيء من ذلك لم يظهر البتة.
وتعالج على هذا أياما وهي لا تزداد إلا برحا وآلاما.
وفي ذات ليلة من ليالي آخر الشهر سوداء فاحمة قد اشتد بردها، وللريح عزيف يزعج ويروع، أسرني الطبيب بأن لا بد من نقلها في الحال إلى الحاضرة؛ لإدخالها المستشفى فالأمر حق خطير؛ إذ لم يبق عنده ما جد من الأعراض الحادة؛ أي شك في صحة الرأي الأول، وأقول له: أليس في نقلها في مثل هذه الساعة وهي على هذه الحال، وفي مثل هذا الجو وقطعها أكثر من اثني عشر كيلومترا مجازفة؟ فأجاب: لا شك أنها مجازفة خطيرة، ولكن مبيتها هنا أشد خطرا!
وماذا عسى أن أصنع يا رب غير أن أطيع، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وأعد الذاهبون بها والذاهبات من الأهل عدتهم وجهزوا متاعهم ولم يبق إلا أن تحمل الفتاة المعذبة المذعورة إلى السيارة.
وحين أذن المؤذن بالرحيل، تغايرت في نفسي فنون من أعنف العواطف، منها ما ينطف رقة ورحمة ويترقرق جوى وإشفاقا، ومنها ما يشق الصدر من الأسى شقا، ويدق المنن من الجزع دقا، ومنها ما يتنظر لي بصور وأشباح تطير الألباب، وتمزق الفكر وتفقد الصواب أرسخ ذوي الصواب!
جمعت شملي وشددت على التحطم عزمي، حتى ثنيت على السرير صدري، وقبلتها قبلة التوديع للهول. ا.ه.»
وإنما يعني صاحبي تلك القبلة التي وصفها، أو التي عجز عن وصفها وقد قدمت هذا الوصف في صدر الحديث.
فاللهم يا من أذكى في الصدور حب الأبناء إلى هذا القدر، ووكد الرقة لهم في الكبود كل هذا التركيب، ارحم بفضلك الوالدين فإنك أنت الرحمن الرحيم.
مأساة
قال لي صاحبي وهو في بعض حديثه: ... ولم يكن سيد عشيرته فحسب، بل لقد كان زعيم الإقليم كله وكان - رحمه الله - ألمعيا شديد الفطنة، بعيد النظر، صادق الحكم، يظل القوم في مجلسه يتحاورون ويتناقشون ويتنازعون، حتى إذا فرغوا من شأنهم جلى موضع النزاع في يسر، وحكم فيه أعدل حكم.
على أنه كان عصبيا شديد العصبية إلا أنه كان قادرا على أن يأخذ نفسه بالحلم فلا يستفزه شيء، بل لقد كان يضحك أو يتضاحك مما يغيظ أحكم الحكماء، ولعل ذهنه كان يزخر بالمعاني، فإذا أراد الحديث تزاحمت على لسانه فجعل يضطرب بينها ويتردد حتى ما يكاد يبين!
وداره واسعة متعددة الأبنية وهي تقع في حديقة واسعة جدا، وهذه الدار لا تخلو مطلقا من عشرات الناس في ليل أو نهار، فمن طالب رفد، ومن صاحب حاجة تدعو إلى قوة المسعى، ومن متنازعين على مال أو على منصب يختصمان إليه، وجميعهم يأكل أحسن الطعام إذا جاء وقت الطعام، ومن طلب منهم المنام فله ذلك، فالدار كما قلت واسعة والفرش فيها كثيرة، وهي على الجملة كرحبة مالك بن طوق ظلت مضرب الأمثال من قديم الزمان، وما طالعت هذه الدار إلا حضرني قول مسلم بن الوليد في ممدوحيه:
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته
كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل
وأما حكمه بين الخصوم فهو أمضى من أي حكم نهائي تصدره أية محكمة؛ لأن الخصوم في ذلك قد يعوقون التنفيذ بشتى الحيل، أما حكمه هو فلا تعويق فيه ولا احتيال؛ لأن أحدا في الإقليم لا يجرؤ على أن يسر لهذا الرجل عداوة، فضلا عن أن يصارح بها، بل إن أحدا لا يرضى لنفسه أن يسوء رأي هذا الرجل العظيم فيه.
وكان يؤثرني ويحبني ويعطف علي عطفا عزاني عن فقد الأب أحسن العزاء، ولا يرضى فراقي له إلا مكرها، ولولا أنني رجل موظف في الحكومة يؤذيني في رزقي انقطاعي عن عملي لأمسكني على الدهر ولم يرسلني أبدا، فإذا طال إبطائي عنه في القاهرة بعث من يستدرجني إليه بشتى الوسائل.
وقد بدا لي أنه لا بد كان يلاحظني وأنا على طعامه؛ لأنني رأيت أنه كلما استطبت ألوانا من ألوان الطعام فأكثرت الإصابة منه، قرب إلى في اليوم الثاني هذا اللون نفسه فإذا هو أطيب وأجود، وهكذا حتى يلاحظ إعراضي عنه وإقبالي على غيره.
أحببته أكثر مما أحبني أو مثل ما أحبني، فإنني أشك في أن حبه لي وعطفه علي مما يحتمل المزيد!
وفي يوم أسود رجعت من عملي بعد الظهر، وما أن بلغت الدار حتى تقدمت بإعداد غدائي كنت جائعا متعبا، وفيما أنا في الانتظار إذ رن جرس التليفون، وإذا الأذان بأن الحديث من بلدة كذا وإذا المتحدث أكبر أولاده، قال في سرعة: احضر يا فلان حالا، فوالدي في حال شديد جدا، بحيث لا يجرؤ أحد على كلامه أو الدنو منه، فلعلك أنت لوضعك منه الذي يستطيع أن يستدرجه لحديث وأرجو أن نفرج عنه بعض الفرج، فقلت له: ما الخبر ويحك! فقال: إن فلانة، يعني صغرى إخوته جميعا قد غابت وانقطع الخبر عنها من ثلاثة أيام، ولم يجد البحث والتفتيش وقلب البلاد ظهرا لبطن في طلبها فتيلا، فهتفت من فوري بأهل الدار أن يمسكوا عن إعداد الطعام ويعدوا حالا جعبة السفر، وأرسلت في طلب سيارة أبلغتني المحطة في آخر لحظة، وتدليت هناك فإذا سيارة الباشا في انتظاري، وبلغت الدار وما كدت أطلع على الحديقة حتى تعاظمني منظر هذه الجماهير من الناس شغلت كل رقعة، واحتلت ظل كل شجرة وجزت إلى فناء الدار فإذا خلق كثير جدا، وكلهم جالس مطرق لا ينبس أحد منهم بكلمة، وقد اغبرت الوجوه جميعا والباشا جالس على طرف دكة لا يشغلها معه أحد، فلما طلعت على المجلس أومأ إلي أن أجلس بجانبه، فجلست وما سلمت عليه ولا هو حياني، وأطرقت كما أطرق سائر الناس.
ولقد قلت لك: إنه ساكت لا يتكلم، ولكنه كان في كل فترة يزفر زفرة حرى، لقد كانت ولا شك بخارا من لهيب يتسعر في الأحشاء، وجلسنا على هذا يومين، وفي الصباح الباكر لليوم الثالث أومأ إلي بأن أسافر، فنزلت على إشارته ورجعت إلى القاهرة؛ لأني أعمل فيها، ولم أتردد لحظة واحدة في الفكرة التي اعترتني من اللحظة الأولى، هذه الفكرة التي يوحي بها أبسط واجبات الحب والولاء وعرفان الجميل لهذا الرجل العظيم؛ وتلك أن أطلب إجازة طويلة أقضيها في التقلب في البلاد، باحثا مفتشا منقبا على بنته العزيزة، ولو دعا الأمر إلى التنكر والاضطراب في مختلف الأزياء، ولقد اشتد بي الوجد مما دهى صديقي العزيز، وقد علت به السن وتشرف على نهاية العمر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وقبل أن أسترسل إلى غاية هذا الحديث أصف لك وصفا موجزا هذه البنت المختفية من بضعة أيام:
لقد كانت سنها بين الرابعة والخامسة، حلوة جميلة جدا، بيضاء الجسم ذهبية الشعر، بالغة غاية الأناقة في ثوبها الغالي الثمين، تراها فتخالها دمية فرت من معرض نماذج «فترينة» لغالي الثياب، خفيفة الروح حلوة الحديث، وخاصة إذا عادت ما يلقى عليها من كلام خيالي يراد به الإطراف والإضحاك، ولي معها في هذا مواقف كلها ضحك وإغراب! وكانت لذلك تتعلق بي كلما هبطت إلى دارهم، وكنت أحبها كحب ولدي الأعزين، وكانت قرة عين لأبيها وناهيك بأصغر الأولاد، وخاصة إذا كانت مثل هذه الدرة في الحلاوة والنقاء.
هبطت القاهرة، وقد جمعت النية الصادقة الماضية على ما أسلفت عليك، وسألت الإجازة لشهر ونصف الشهر، ومضى يومان وأنا في انتظار الإذن لي فيها على أنني أوالي السؤال بالتليفون كل ساعة، فإذا مصير البنية ما يزال في الغيب المحجوب، وإذا والدها المسكين على حاله، ولم يزل يعاني في ذلك العذاب المضني الأليم.
وانقلبت الدار في اليوم الثالث قافلا من عملي، وتقدمت بإعداد غدائي فإذا جرس التليفون يرن وإذا ولد صاحبي يدعوني في فرح ظاهر أن أحضر لأهنئ أباه الشيخ، فلقد عثر على أخته فلانة والحمد لله، فقلت مسرعا: وكيف عثر عليها وأنى كان ذلك؟ قال: لقد أمر وزير الأشغال حين انتهى إليه احتمال غرقها؛ بتجفيف بحر «كذا»، وكذلك ألفينا جثتها في الموضع الفلاني - وهو يقع على بضعة أمال من الدار - وقد أكرمها الله تعالى، فلم ينل من جسمانها السمك كثيرا ولا قليلا.
وأسرعت بإعداد جعبة السفر وجففت إلى لقاء صاحبي، فإذا جموع كثيرة تلغو وتتقاول في مرح واغتباط، وإذا صاحبي يظهر عليه طيب النفس وانبساط أسارير الوجه، ولم يكد يراني حتى خف للقائي في بعض طريقي إليه، وما أن توافقنا حتى عانقني وجعل يقبلني وجعلت أقبله وأنا أشعر أن الدنيا لا تكاد تسعه من سرور ومراح!
ثم جعل يحدثني كعادته أحاديث هذه الدنيا حتى إذا انصرف من مجلسه، قافلين إلى ديارهم أو ثاوين في داره إلى فراشهم، وحينئذ جذبني إلى حجرة جلوسه الخاصة، ودعا بالنرد ورحنا نتلاعب به إلى ما بعد انتصاف الليل، وهو كلما انتهى دست يقبل علي بحديث طريف على أنه لا يلم بشيء من حديث بنته الغرقى لا من قريب ولا من بعيد!
الله أكبر! الله أكبر! إذن لم يكن هذا الوجد كله، ولا هذا الوله المرعب المهول من أن البنت قد أدركها الغرق أو أنها ماتت على أي شكل من الأشكال، وإنما الجزع كله من أن تعيش في ولاية خاطف مجرم من النساء أو الرجال!
ترى ماذا عسى أن يكون مصير الفتاة؟
هنا تتطاير أشأم الظنون كل مطار، وهنا يغلي صدر هذا الطود غليان القدر حتى لتكاد تتصدع الأضلاع، لولا ما كان يروح عنها من ذلك الزفير تتنفس به نار السعير!
لقد أصابها منية، وإذن لقد سلم الشرف وحبه، فالشرف هو كل شيء في هذه الحياة!
أكرمك الله يا حبيبي ميتا كما أكرمك حيا، وأمتعك بملاعبة ابنتك الحلوى في دار النعيم.
وهنا جعل صاحبي يبكي وينشج حتى لم يعد يقوى على كلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
مسألة
نحن ضعاف - ما في هذا شك - والغربيون أقوياء وما في هذا شك أيضا، وإنا لنبغي أن يكون لنا مثل حظهم أو جليل من حظهم من القوة والعظمة، ولكن كيف السبيل؟ اللهم إن السبيل واضحة لا عوج فيها ولا أود هي أن نأخذ أخذهم، ونسعى سعيهم، ونحذو في وسائل الحياة حذوهم، وبذلك نبلغ كثيرا مما بلغوا إذا لم يقدر لنا أن نصبح مثلهم، وأرانا بحمد الله فاعلين بل أرانا في هذا جادين جاهدين، ها نحن أولاء نتعلم علومهم وننقل فنونهم، ونتروى ما تنتضح به قرائحهم في آدابهم، ونمرن أيدينا في تقليد صناعاتهم، وننهج في تجارتنا نهجهم، نستن في أسبابنا المالية والاقتصادية سبلهم، ونطبع جيشنا على غرار جيشهم، ونعد من آلات الحرب ما يعدون لأنفسهم، ونجري في أنظمة الحكم وسياسة الجماعة على طرائقهم، ونشيد دورنا على طرز دورهم، ونتخذ لها من الأثاث كل جديد من أثاثهم ونتزيى بأزيائهم، ونتخلق بأخلاقهم ونتأدب بآدابهم، ونصطنع عاداتهم ونفكر على أساليب تفكيرهم، ونسلك في فنون النقد مسالكهم، والخلاصة أننا بتنا نقلدهم في كل كبير وصغير ونترسم أثرهم في كل دقيق وجليل، لا نستثني على هذا إلا بعض ما تحتمه علينا قواعد ديننا في زواجنا وطلاقنا، وما إلى ذلك من أسبابنا، وإلا ما لا تزال تمسك علينا العادات المستأصلة من آلاف السنين حتى كادت بذلك تتصل بالخلق وتلصق بالطبع، على أنها في طريق التحول والنصول ولا بد لها يوما أن تحول.
نحن صائرون إلى حياة غريبة لا شك فيها، وما لم يأخذه منها لنفعه ونحاكيه ابتغاء ثمرته، أخذناه جريا على سنة الطبعية في تقليد الضعفاء للأقوياء ومحاكاتهم - بظهر الغيب - لهم دون تمييز بين ما ينفع وما يضر، ولا نقد لما يسوء مما يسر.
نحن صائرون في عامة أمورنا إلى هذا العيش، ما لنا إلى غير ذلك حيلة وإن شئت قلت: ما لنا من ذلك بدا! على أن هنا أمرا جليل الخطر، أو على الأدق من أجل الأمور خطرا، قد سقط في هذه الوثبة من حسابنا، وأخشى إذا هو تخلف أن تكون مشيتنا في حضارتنا الجديدة عرجاء، وكيف للأعرج بمسايرة المغذين الأقوياء؟
فقد رأيت أن كل عناصر الحياة عندنا غربي خالص، اللهم إلا عنصرا واحدا لا غناء عنه ولا سداد بدونه، ومن ينكر أن اللغة من مقومات حياة الأمم، فهو كمن ينكر الشمس في وضح النهار كما يقولون!
كل سبب من أسبابنا أضحى غريبا، وما لم يستغرب بعد فهو ولا مراء في طريق الاستغراب اللهم خلا اللغة، فلغتنا ما برحت العربية التي تحدث بها الجاهليون من آلاف السنين!
إذن، أبات علينا لكي يتسق أمرنا ويستقيم منطقنا، لغتنا، كما ينضي الثوب الخليق، ونتخذ للساننا لغة غربية تستطيع أن تحيا مع هذا العيش الجديد؟
لست - علم الله - أمازح ولا أعابث، فإن المقام من الجسد الذي لا يحتمل العبث ولا المزاح!
هناك علوم تستوعب جميع سبل الحياة، وهناك فنون منها ما يتصل بصلب العيش، ومنها ما يسعى للتسلية والترفيه والتنعيم، وهناك آلات وعدد، وهناك مصنوعات لا يملكها عدو، وهناك ما لا يحصى من المستحدثات التي أصبح لا غنى عنها للناس، أستغفر الله، فإنما أعني المتحضرين من الناس، لا غنى لهم عنها في قضاء لباناتهم وتناول جميع أسبابهم.
وهذه العلوم والفنون وهذه الآلات والعدد، وهذه المستحدثات التي لا غنى عنها لأحد، هذه كلها أصبح طلبها والتفقه فيها وتجويدها كما يجودها أهلها هو همنا وشغل نفوسنا ومرامنا الأقصى ، ومثلنا الأعلى فكيف لنا بها ولغتنا لا تحيط بها، بل لا تكاد تلم منها بكثير ولا بقليل؟
لقد كانت لغتنا لغة العلوم والفنون التي جاءت بها حضارتنا عفى على اللغة كما أتى على تلك العلوم والفنون، ونحن الآن إنما نطلبه علوما جديدة، وفنونا حديثة، ومبتكرات طريفة ولكل منها في الإفرنجية اسم، ولكل منها تعبير يؤديه في غير عسر ولا التواء، فكيف لنا بهذا كله ولغتنا كما عرفت في هذا التقلص والانقباض؟
لا بد لنا من تناول العلم والفن، ومن تناول وسائل الرقي والقوة والعظمة جميعا، وتناول هذا في لغة ضرب من المحال، وتناوله في لغة قاصرة من معضل الأشكال!
وهنا تتصدع الآراء وتفترق الطرق؛ فقوم منا يذهبون إلى أخذ العلوم والفنون وسائر حاجات الحضارة في لغاها، وتناولها في أسمائها المعروفة ومصطلحاتها المقسومة في تلك اللغى حرصا على سلامة العلوم والفنون، واختصارا للزمن وتوثيقا للصلات بيننا وبين ينابيع الحضارة في بلاد الغربيين، وأرفق هؤلاء من يقولون بالتعريب في كل شيء حتى فيما له تعبير عربي قديم!
ويخالف هؤلاء آخرون إلى وجوب تناول كل شيء بالعربية الصميمة لا أثر فيها لأي استعجام، مهما يكن المعني مما لا عهد للعربية به في يوم من الأيام.
ينبغي أن يكون كل شيء عربيا مخلصا، فإذا كان بين أصحاب هذا الرأي مسرف في المرونة والترخص رضي بأن يصار إلى التعريب إذا عيت وسائل العربية جميعا بإصابة المعني المطلوب، وهيهات أن تعيا في ظن الكثيرين.
وهؤلاء إنما يذهبون هذا المذهب ويتشددون هذا التشدد إيمانا منهم بأن اللغة من أقوى مقومات الأمة، ومن أخص مشخصاتها، فإذا هي حالت ذهبت الأمة ولم يبق لها بين سائر الأمم كيان، وإذا كانت الإفرنجية هي لغة العلوم والفنون وسائر أسباب الحضارة، ولم يبق للعربية إلا تناول التافه في الأسباب الدائرة بين الناس، فقل العفاء والسلام على لغة القرآن لغة الإسلام! وعلى الجملة فإننا لو ذهبنا مذهب أولئك المعربين لأضحت لغتنا والمالطية بمنزلة سواء والعياذ بالله!
في العلوم والفنون والمستحدثات من مختلف الأشياء ، وللنبات والأزهار مئات الآلاف من الأسماء والصيغ والمصطلحات، فإذا نحن عربنا هذا كله طغى أشد الطغيان على سائر اللغة، وأنت خبير بأن ما يدور من صيغ العربية على ألسنة نصحاء الخطباء وأقلام بلغاء الكتاب، وما يتحدث به الخاصة في مجالسهم، ويجري في مقاولاتهم ومحاوراتهم، وما تنتضح به رسائلهم، كل ذلك لا يزيد على بضعة آلاف، وكيف لهذا بأن يقوم بإزاء ذاك؟ كيف له بأن يعيش بجانبه، ويحقق ما تحقق اللغات لها من كيان؟
هذه هي المسألة كما يقول شكسبير، فليت شعري ماذا يكون المصير، فاللهم اللطف بنا فيما جرت به المقادير.
كيف كان الشباب يزوجون (1)
أسوق حديثي هذه المرة للخطبة والزواج في مصر إلى مؤخرات الجيل الماضي، ولقد أعرض عليك صورا ما برح بعضها قائما إلى الآن، وبعضها وإن اختفى فإنه ما زال متمثلا للأذهان، وذلك أنني أحب أن أعرض مجموعة كاملة واضحة من صورة الخطبة والزواج قبل أن تحول، أو تعتريها الأيام بالنصول.
وتراني في ترجمة هذا الحديث قد عبرت بصيغة البناء للمفعول، فقلت: «كيف كان الشباب يزوجون»، ولم أقل: «كيف كانوا يتزوجون»، وإنني لأقصد هذا وأعنيه؛ لأن الشباب لم يكونوا يتزوجون، وإنما كانوا يزوجون لا رأي للشاب أو للفتى في متى يتزوج ولا كيف يتزوج ولا بمن يتزوج، وإنما يزوجه أولياؤه فيتزوج «وكان الله يحب المحسنين!»
كان الزواج مرحلة من مراحل الحياة لا بد للشباب منها مهما تكن الأحوال، كان شيئا لا بد منه ولا محيص عنه، اللهم إلا لنقص داخل على الخلقة، وهذا من النادر الذي لا يجري على سياقه الحكم العام.
فإذا ترعرع الفتى وبلغ الحلم، جعل أهله يفكرون في أمر تزويجه وأكثر هؤلاء هما بذلك وحديثا فيه وتدبيرا له هو أمه، تبادي به أباه ولا تني عن مراجعته فيه، والإلحاح عليه في التعجيل به، وكلما «اعتل عليها بعلة»، أو أنهض لها في التأخير عذرا، هونت عليه الصعب ويسرت له العسير، فإذا كان العذر في قلة المال، وكان هذا هو أبلغ الأعذار وأشيعها، عرضت بيع أعلاقها وحليها، فإذا لم يكن فيها غناء ففي بيع «حصة» من البيت، أو في الاقتراض غناء!
تريد الأم أن «تفرح» بولدها وتزوجه من أي سبيل، وهنا ينبغي أن تعلم على جهة اليقين أن تعلم الولد أو انقطاعه عن الدرس، أو نجاحه في أي ميدان من ميادين الحياة أو فشله، أو اشتغاله بأي عمل من الأعمال، أو تفرغه أو تبطله؛ اعلم أن شيئا من هذا لا يدخل، ولا يجوز أن يدخل في حساب تزويجه، أو يقام له أي وزن في هذا الباب، ذلك بأن تزويج الشاب أو الفتى - كما أسلفت عليك - مرحلة لا بد منها في اجتياز مراحل الحياة!
ولعل أهم ما كان يسهل أمر زواجه على والديه أن الزوجة لا تكاد تجشم أولياءه شيئا من النفقة، فهي تسكن في دارهم وتأكل مما يأكلون منه وتشرب مما يشربون، فإذا كانت مطالع الأعياد جيئت بكسوة لا تعيي على رب الدار في كثير ولا في قليل!
وكيفما كان الأمر فإننا إذا استثنينا مهر العروس وما إليه من الهدايا والألطاف، وإذا استثنينا معه نفقات العرس وأسبابه، فإن هذا الضيف الجديد لا يجشم وظيفة دائمة، ولا نفقة راتبة أو على التعبير الإفرنجي، لا يكلف أي
consommalion .
ولا ننسى - مع ذلك - أنها ستقوم بنصيب جليل في خدمة الدار إن لم تستقل بها جميعا: كالعجن والخبز، والطبخ، وغسل الثياب، وجندرتها، وكنس الدار، ونفض الأثاث، وصنع القهوة وتقديمها للضيفات ... إلخ.
وقد يكون من قسمها أيضا القيام على خدمة الصغار من إخوة الزوج وأخواته، إذا كان له إخوة أو أخوات صغار!
الخطبة
وفي النهاية سيرضى الأب بتزوج ابنه وأنفه في السحاب، أو أنفه في التراب! وسرعان ما تذكي الأم الخاطبات محترفات أو صديقات في التماس العروسة الحلوة في بيوت الأكفاء، حتى إذا عدن إليها بالخبر أرسلت إلى أم العروس من تعين معها موعدا لرؤية فتاتها، وفي هذا الوعد تمضي الأم وبنتها المتزوجة وأختها، وقد تستصحب بعض جاراتها من الصاحبات والمواليات، ولا تسقط من عدة الوافدات الخاطبة المحترفة إذا كانت الريادة لخاطبة محترفة يمضي كل هؤلاء إلى دار العروس، وقد أخذن زينتهن وتحلين بأغلى حليهن وأضفين عليهن برود الحبر، فإذا لم يكن لهن شيء من ذلك استعرنه من بعض الصديقات المترفات.
ويحسن بنا وقد بلغنا هذا الموضوع أن نسلخ بعض الحديث للفتاة المخطوبة، قبل أن ينالها الوافدات بالتوسم والتصفح والقياس والتقليب.
قل من كانوا يدفعون بناتهم للتعليم في المدارس، بل لم يكن هناك تعليم مدرسي للبنات البتة قبل خمسين عاما؛ أي قبل قيام المدرسة السنية، فالطبقة الأرستقراطية كانت تعلم بناتها في القصور، أما الطبقة الوسطى وهي الطبقة التي ندير عليها الكلام في هذا الحديث، فأكثر أهليها كانوا يشخصون بناتهم الصغار إلى «المعلمة»، وهذه «المعلمة» امرأة تخيط الثياب لمن شاء من أهل الطبقتين الوسطى والدنيا، وتتخذ من دارها شبه مدرسة تعلم البنات فيها هذه الصناعة بقدر، فإذا ربت الفتاة وبلغت سن المراهقة كفها أولياؤها في الخدر تعالج فيه مع أمها شئون البيت، ولا تزال كذلك في انتظار «العدل»، و«العدل» بفتحتين، يعني به النساء الزوج الكفء، الذي يكفل ويغني ويسعد ويهني، ومن هذا الوادي قولهم: «ربنا ما يعطي القحف عدل.» يدعون على الجلف الوضيع الفظ بألا يمكنه الله من جاه ولا سلطان؛ لأنه إنما يتخذهما أداة للسلاطة والعدوان!
يتلقى أهل البيت الواردات بأحسن مظاهر التأهيل والترحيب، وقد سبقوا فنظفوا الدار وأحسنوا تنضيض الأثاث، ودفعوا فتاتهم إلى الحمام فأحسنوا جلاءها وصقلوا عارضيها، وقلموا أظافرها ورتلوا شعر رأسها ومشطوه، ونضدوا على الجبين مقدمه، وضفروا سائره ضفيرتين ثم ألبسوها أجمل الثياب، وحلوها ما أسابوا من لبات وأساور وأقراط وخواتم.
ويبدأ بتقديم «الشربات» تطوف به امرأة أو شابة أو فتاة من فتيات الدار، أو خادم من خدمة البيت، أو من خدم الجار.
ثم لا تزال الأنظار تطلع إلى ناحية الباب ترقبا لطلعة العروس، ثم إذا هي مقبلة تمشي على استحياء وقد أسبلت جفنيها، وهي تحمل فنجان القهوة تقدمه إلى السيدة الكبيرة أولا، ثم تعود بالثاني إلى الثانية وهكذا. والأنظار تتناهبها من كل جانب؛ هذه تتوسم وجهها وهذه تتفقد عنقها وصدرها، وأخرى تسرح النظر في شعرها ورابعة تلاحظ خطوها لعل فيها ظلعا أو شكا،
1
لا يدعن في جسمها رقعة إلا أوسعنها تفقدا وتصفحا وتأملا، ولا يفوتهن - مع هذا - أن يلاحظن مبلغ مهارتها في حمل فنجان القهوة، وكان كما تعلم يعتمد على ظرف دقيق القاعدة، فإذا أبلغته ولم تسل منه على امتلائه قطرة كان دليلا على المبارة وحسن الخدمة أي دليل!
فإذا فرغن من هذا دعونها إلى الجلوس، فجلست على طرف كرسي في طرف الغرفة في خفر بعضه متكلف مصنوع، ثم رحن يستدرجنها إلى الحديث، لعل في لسانها حبسة أو عقدة أو رمة، أو لعل في بعض لفظها لثغة، فإذا اطمأنن على سلامة اللسان ونصاعة الأسنان ظللن برهة يسيرة يمدحن فهيا جمال الفتاة وحسنها، ويشدن بأدبها ولطف موردها، ثم استأذن في الانصراف وأقبلن على أمها وسائر من حضرن مسلمات مودعات مقبلات، وأذكين على الفتاة أدقهن حسا وأنفذهن أنفا، فانفلتت إليها تحييها وتبالغ في تدليلها وإعزازها وإظهار الحب لها والكلف بها، وراحت تواليها - تحت هذا العنوان - تقبيلا وضما والتزاما وشما، وهي إنما تفعل في تمهر لا يخفى زيفه على أحد؛ قصدا إلى تشمم فيها لعل فيه بخرا، وإبطها لعله يفوح دفرا، ولا تألوها لمسا ومسا، وغمزا وجسا، طائفة باليد على جوارح الجسد، لعل منها ما عراه الرهل أو أصابه الأود!
ولربما طفن من غدهن ببيت فلان وبيت فلان، ثم بعد غد ببيت فلان وبيت فلان، حتى يستعرضن السوق كلها وينثلن الكنانة نثلا، ما يدعن فيها سهما ولا نصلا!
ولربما رجعن إلى بعض من وردن لإعادة النظر، أو على الأصح لإعادة الفحص والتنقيب، والإمعان في الفر والتقليب، ما يرى أولياء الفتاة بذلك بأسا ولا يجدون في أنفسهم منهم حرجا!
فإذا أذن الله واجتمع الرأي على فتاة من هؤلاء خطبت إلى الأم أولا، فإذا اتفقت الأمان على المهر وإلا صار الأمر إلى الأبوين ومن إليهما من الأولياء، ولربما استعان ولي الزوج بعض الظاهرين من الجهة على ولي العروس في سبيل الحظ من مقدار الصداق المطلوب، فإذا لم يبق موضع لخلاف من هذه الناحية، قرأ الجماعة فاتحة الكتاب في خفوت تبركا واستكمالا لفضل الله العظيم، وكذلك يشيع بين نساء الحي وفتياته أن فلانة قد قرئت فاتحتها، وليس وراء الفاتحة إلا قبض مقدم الصداق، فالعقد في الأعراس يتخلل هذه الفترة ألوان من الهدايا تساق الفينة بعد الفينة إلى دار العروس، وتدعى هذه الهدايا بالنفقة وعلى قدر هذه النفقة يعلق النساء أبلغ الأحكام، ومثلتهن السائرة في هذا الباب «العريس يبان من نفقته» وهذه الهدايا لا تعدو النقل والحلوى، والسمك، والشياه، إذا طلع العيد الكبير.
ولقد جهد بي - يا سيدي القارئ - ولعله قد جهد بك أيضا، فلقد طال المقام وتجاوز القدر المقسوم له، فلنرجئ الحديث في حفلات العرس إلى يوم آخر إن شاء الله.
كيف كان الشباب يزوجون (2)
قد مضى قولنا في الخطبة وأسبابها، ولم يبق بين أيدينا إلا العقد فالأعراس، ويحسن بنا قبل أن نتناول شيئا من هذا بالحديث أن نعود فنؤكد لك أن البنت على وجه خاص لم يكن لها أي رأي في أمر زواجها، ولا فيمن يتزوجها ولا يسوغ لها أن تتطلع ولو إلى مجرد العلم بشيء من ذلك، إنما الأمر كله إلى أمها وأبيها يزوجانها متى شاءا وممن أرادا.
أما الزوج فيختلف شأنه في هذا بعض الاختلاف، فهو في الكثير الغالب لا رأي له في الأمر ولا خيار، على أنه قد يعلم عن عرسه الكثير أو القليل عن طريق أمه أو أخته أو خالته، وإنما يهيئ له الاستماع والاستخبار ما هو مفروض له من جراءة مهما ضعفت، فإنها لا تصل إلى خفر فتاة عذراء!
وقلت لك: «في الكثير الغالب»؛ لأنه في القليل النادر قد يكون الولد مدللا مرهفا، وحينئذ يكون له في الأمر رأي ولو بمقدار.
وكيفما كان الأمر فلقد كان محظورا على الخطيبين أن يتراءيا حتى بعد العقد إلى أن تحين ساعة الزفاف، بل لقد كانت الفتاة إذا خطبت إلى ابن عمها أو ابن خالها، أو ابن عمتها أو ابن خالتها ، ممن نشأت معهم وشبت ولاعبتهم في صغرها؛ أسرع أولياؤها فحجبوها عنه وبالغوا في حجابها إلى يوم الزفاف، شأن الأجنبية سواء بسواء، وكان لذلك حكمة لا تخفى على فطنة الفطناء!
وتحل ساعة العقد فلا يكون وكيل العروس إلا أباها أو عمها عند فقده أو أخاها وكلته أو لم توكل، تكلمت أو عقد الحياء لسانها عن الكلام.
وبعد أشهر تقضى في إعداد الجهاز الذي قد يكون موضوع مساومة عنيفة بين أولياء العروسين، يعين يوم العرس أو «ليلة الدخلة» في تعبير النساء!
وتسير «زفة» الجهاز من بيت العروس إلى بيت العريس تتقدمها الموسيقى، ومن ورائها حملة التحف والآنية الثمينة باسطين تحتها أيديهم، فهذا يحمل ديباجة من الحرير موشاة بأسلاك الذهب والفضة، وهذا يحمل طشتا وإبريقا من خالص الفضة، أو من النحاس المموه بالذهب والفضة، وهذا علبة تنكشف عن بضعة أكواب من الفضة، وهذا طاس حمام كذلك، ولقد ترى آخر يحمل بين يديه قبقابا مكفتا بالصدف والفضة!
ثم يلي هؤلاء رتل من «عربات الكارو» لا يدرك الطرف آخره، قد بسط الجهاز عليها بسطا ومط فوقها مطا، فهذه حشية - مرتبة - قد خص بها مركبة وهذه خمس وسائد قد أفرد لها عربة وقائد، وهذا «كنسول» عليه مرآة قد قصرت العربية عليه دون سواه، وهذا نضد - ترابيزة - قد شجر بالزهور، وهذا «دولاب» قدت أبوابه من البلور وهذه لحف مبسوطة وهذه نمارق مبثوثة، وهذه أريكة بين يديها شجاب، وهذان كرسيان قد نشر عليهما ستر باب وهكذا! وهكذا!
ولا تزال هذه العربات تجوز بك وهي في كلاءة الأحراس، حتى يختم الموكب بفضل الله بعربة النحاس وكان في عربتين كفاية، وفي ثلاث فضل ولكن لا تنسى أن للتباهي حكمة، وللتكاثر غرمه وغنمه!
ولقد ترى أن شيئا من هذا لا يزال قائما إلى الآن، ولكنه أضحى مقصورا على الطبقة الدنيا من الأهلين وكيفما كان الأمر، فلعلك لم تنس أنني قلت في الحديث السابق: إنني أحب أن أجلو الصورة كلها قبل أن تحول، أو يلحقها النصول.
وترسل الدعوة لوليمة العرس إلى الأصدقاء والجيران والمحبين، وهي رقعة في حجم الكف تكتب صيغة الدعوى فيها بماء الذهب، وتبدأ عادة ببيتين أو ثلاثة من الشعر وكانوا يدعونها الملحق؛ ولكيلا أشق عليك في إشاعة تخمينك فيما عسى أن يكتب في هذا الملحق، أعرض عليك نموذجا منه:
من دعي فليجب
ليالي الأنس قد طابت ورقت
وطير الصفو غرد بالسرور
وجاد الدهر بالبشرى علينا
وداعي السعد وافى بالحبور
فهيا يا أحبة شرفونا
بأنسكمو ومنوا بالحضور
بمشيئة الله تعالى سيحتفل فلان في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا بتأهيل نجله على كريمة فلان، وذلك بمنزله الكائن بجهة كذا.
فالمرجو التشريف ليتم بكم الأفراح وتزول عنا الأتراح، والحضور الساعة 10 عربي نهارا والعاقبة عندكم في المسرات.
وقبل أن أخوض بك في ليالي العرس، فكثيرا ما كان الاحتفال بالعرس يستغرق ليالي لا يقتصر على ليلة واحدة، قبل أن أخوض بك في هذا، أقرر أن المصريين كانوا دائما أهل كرم وإيثار، فما كانوا قط يستأثرون في أعراسهم ونحوها بأسباب تلذيذهم وتطريبهم، بل لقد كانوا يبسطونها ويبذلونها في الطريق العام، قصدا إلى أن يشركهم فيها كل من شاء من الناس.
ولقد قلت لك: إن الاحتفال بالعرس كثيرا ما كان يستغرق ليالي لا يقتصر على ليلة واحدة، وهذه الليالي كانت في الغالب ثلاثا: اثنتين منها تدعيان بالصمم - بضم ففتح - أما الثالثة وأعني بها الأخيرة فليلة «الزفة» أو ليلة «الدخلة»، ليلة تولم الولائم ويقرب لجمهرة المدعوين شهي المطاعم.
وأولى هذه الليالي تخص بخيال الظل، وهو عبارة عن دكة كبيرة تعلو واجهتها شاشة بيضاء تقرب مساحتها من شاشة السينما الآن، أما جوانبها الأخرى فتحجب بألواح من الخشب يداخل بعضها في بعض، وفيها باب لدخول اللاعبين وخروجهم، وفيها يضيئون مشاعل قوية لتجلو على النظارة ما يعرضون من الصور في وضوح وجلاء.
أما هذه الصور فلأناس، ودواب، وطيور، وأشياء، وتسوى هذه الصور من الجلد ونحوه، تصبغ بمختلف الأصباغ لتحاكي ألوان ما يبدو من الأجسام والثياب.
ويمثل خيال الظل رواية قوامها عشق وصبابة بين فتى مصري صميم، وفتاة بنت راهب مسكنها مع أبيها الدير! ويتخلل هذه الرواية صور استعراضية متنوعة، وكل من يحرك صورة من صور هذه الأناسي يجري الكلام على لسان صاحبها في دقة وبراعة تقليد، حتى كأنها هي التي تتحدث بأسماع الناس، فهناك المغربي، والسوري، والبربري وابن البلد المصري، ومن هؤلاء، ونسمع ما شاء الله من رائع النكت، وقد يكون بعضها من عفو الارتجال.
ولقد كان أفخم خيال للظل هو الذي يديره المعلم حسن قشاش، وكان سيد أصحاب النكتة فيه غير مدافع هو المرحوم ناجي، وقد رآه كثير من أهل هذا الجيل ممثلا بشخصه في الأعراس، أو في دور التمثيل في الفصل المضحك الأخير، أما دور ناجي في خيال الظل، فكان تمثيل الغلام بولس شقيق علم، والترسل بينها وبين صاحبها تعاتير حتى يصل بينهما الزواج، وكان - رحمه الله - يرسل بالنكتة بعد النكتة في خفة روح ولطف إيقاع، حتى يكاد يشق أضلاع النظارة من شدة الضحك المتواصل بغير انقطاع.
وقد ذهب عني أن أقول لك: إن الطبل البلدي كان له مجلس بين يدي الخيال ليعزف في أوقات الاستراحة أو ليرقص على توقيعه من يرقص من أشخاص الخيال.
أما الليلة الثانية فيبعث السمر فيها أبو رابية، وأبو رابية علم على تلك الفرق التي كانت تمثل بأشخاصها في مقدمات ليالي الأعراس، إذ كانت تصف الدكك والكراسي على عذاري الطريق لجلوس النظارة إذ يترك وسطها مسرحا لاضطراب هذه الطائفة من المفلسين، وكانت هذه الفرق تمثل كذلك روايات إذا أسفت مطالبها وسخفت مغازيها، فلقد كانت سرية بما يشيع فيها من بارع النكتة، ولقد كانت الحال تدعو إلى ظهور امرأة في بعض الرواية، على أن امرأة لم تكن تظهر أبدا فكان يتخذ لهذا الدور إما مخناث محترف، وإما رجل يحسن تقليد النساء.
ولا شك أن سيد هؤلاء المفلسين كان المرحوم الحاج أحمد الفار الكبير، والعجيب أن هذا الرجل على خصوبة بديهته، وتدفقه بالنكتة يشق الناس لها ثيابهم من ضحك ومن انبهار لم يكن يبتسم أبدا، بل لقد كان يتكلف الجد إلى حد أنك تراه دائم العبوس.
ومما يحسن في هذا المقام ذكره أن هؤلاء المفلسين كانوا يعتمدون رجلا من صلب أصحاب العرس أو من حواشيهم، ولعل ذلك كان بالاتفاق معهم، فيتخذون منه عامة الليل هدفا للنكتة حتى ما يدعو فيه أديما صحيحا والناس يضحكون، والرجل معهم من الضاحكين.
وحسبنا هذا اليوم، وسنفرد ليوم العرس حديثا خاصا إن شاء الله.
الأدب الفج
كان من مزايا صديقنا شاعر النيل حافظ بك إبراهيم - عليه رحمة الله - مطاوعة البديهة، وحضور النكتة، يتصرف فيها ويفتن لكل مقام، ما تتعاصى عليه ولا تتعثر على لسانه أبدا.
وكان إلى هذا يحفظ أظرف النوادر وأطرفها وأدعاها للعجب وأبعثها للضحك.
وقد سمعت منه - رحمه الله - النادرة الآتية قال:
قبل أن يوصل ما بين منيل الروضة والقاهرة بالجسور - الكباري - كان الناس يتخذون الفلك - المعدية - في طلبهم العبر من العبر.
وجاء رجل من المدينة ليعبر إلى الروضة من ساحل فم الخليج، وكان الليل قد تقدم فوجد الملاحين يغطان في نوم ثقيل من تحشيش الليل وكد النهار، فما زال بهما حتى بعثهما، ونهض أحدهما إلى موضع المجاذيف، وتولى الثاني الدفة، وأنشأ صاحب المجاذيف يضرب بمجذافيه جبت الماء على أنه ما كاد يفعل مرتين أو ثلاثا حتى تبهر وانقطع نفسه، وانخذلت قواه وأحس شدة جفاف الحلق من أثر الحشيش، فتناول الكوز ولم يكن يعلم أن زميله كان قد أذاب فيه ملحا ليعالج به أذنه، واغترف به من النهر غرفة وأصاب من الماء، فإذا هو ملح أجاج فصاح من فوره بزميله صاحب الدفة: يا ريس عويس! - هو! - إيدك! دخلنا المالح!
ولقد أذكرني هذه الحكاية بعد نسيانها السنين الطوال، شأن أبنائنا من رادة الأدب في هذه الأيام، وحرصهم على الظفر بالشهرة، بل بالبطولة والمجد والخلود بعد علاج منظوم أو منثور في بضعة أشهر أو في بضعة أسابيع، وأخشى أن أقول في بضعة أيام في بعض الأحيان!
وقبل أن أخوض في لجة الموضوع أرى من الخير أن أنقل إلى قراء «الثقافة» صدرا من حديث لمتحدث إذاعة بالراديو في غاية الأسبوع الماضي، كان بعضه يطوف بهذا الموضوع، قال:
لا ريب أن ما نسمع الآن من المقطوعات الغنائية إنما هو من النوع الواطي الرديء، الذي لا قيمة له ولا وزن، ألفاظ سوقية مبتذلة، وتراكيب سقيمة مفككة، ومعان منحطة، وأخيلة ظاهرة التزييف والترفيع، فإذا عدت هذه الأناظيم من الأدب على أي وجه من الوجوه، فهي من الأدب الفسل الوضيع، أو على التعبير العامي الشائع من الأدب «الفلصو» الذي لا محل له بين كرائم الآداب.
وإنني أشك في أن أكثر هؤلاء الناظمين قد أصابو حظا من اللغة، أو جروا على عرق ولو ضئيل من آدابها، إنني أشك في أن أيهم حفظ شيئا من شعر البحتري أو أبي نواس أو أبي تمام، بل إنني لأشك في أن أيهم شق ديوان المتنبي أو أرسل النظر يوما في ديوان ابن المعتز أو في ديوان مسلم بن الوليد، وما أحسب أحدا منهم طالع ولو بنظرة واحدة كتاب البيان والتبيين إذا كان قد سمع باسم الجاحظ، درى بأن لهذا الجاحظ كتابا يدعى «البيان والتبيين».
وما له - لعمري - يقرأ وما له يكد النفس ويعنيها في الحفظ والمراجعة، وما له يستهلك الزمن في تقليب النظر في روائع الآداب، وترشف ألوان البلاغات كما يترشف الماء الزلال ذو الغسلة الصديان؟ ما له يعاني كل هذا أو بعض هذا ولقب الأديب ولقب الشاعر مكفول له من غير كد ولا مطاولة ولا مفارقة جهاد؟ ... إلخ.
وبعد، فلقد يكون في هذا الكلام شيء من القسوة، ولكنه لا يعدو الرغبة في الخير على كل حال، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.»
وكيفما كان الأمر فإن هذا الضرب من الأدب قد انحط في الجملة، بل لقد هوى إلى قرار سحيق، وإن ما تسمع من هذه المقطوعات الغنائية ليشعرك حقا بأن كثرة هؤلاء الناظمين قد ارتجلوا حرفة الأدب ارتجالا، وانتحلوها انتحالا ما عناهم في سبيلها جهد ولا تحصيل، وإن من لا يبذل في سعيه إلا الجهد الرخيص لحقيق بأن لا يظفر إن ظفر إلا بالحظ الرخيص، وليس أدل على هذا من أن الكثرة الكثيرة من هذه المنظومات الغنائية لا يكتب لها العيش إلى اليوم الثاني، ولا أدري كيف لا يكون من هذا وحده لأولئك الناظمين؟
1
ولو قد تفقدنا السبب الحق في تدلي المستوى - في بعض أسبابنا - وأعني مستوى الأدب - على وجه خاص - إلى الحد الذي يضر ويؤذي، لأصبناه في هذا الطائف الذي يطوف بنا في هذه السنين، وهو ضعف العزائم وقلة الصبر وتعجل الثمرات، وابتغاء النتائج من غير تقديم ما يحتم المنطق وتقضي الطبيعة بتقديمه من المقدمات!
هؤلاء ناس يحبون المال ويشتهون الغنى، ولكنهم لا يبتغون المال من وسائله، ولا يطلبون الغنى من طريقه المقسوم من حسن القصد، وموالاة السعي والتخفف مما لا حاجة إليه من النفقات، وموالاة الجمع والتثمير، ولكنهم لا يجدون في أنفسهم الكفاية من الوسائل المقدرة لإصابة الغاية، ولا من قوة الصبر والانتظار ولا من احتمال الجهد في سبيل الجمع والادخار، ولا شيء من هذا الذي يدرك به في العادة الغنى واليسار، إذن فليقامر فلقد يكون إقبال الدنيا في القمار، والقمار - حرسك الله وعصم عليك مالك - وإن قل، سبيل ميسرة لكل إنسان، فمن ثقل عليه أن يستوي إلى إحدى موائده الخضراء لهوان شأنه وضيق يده، فلا يثقل عليه أن يخاطر في حلبة السباق، أليس الجواد «الفلاني» قد أغل الريال عليه مائتي جنيه؟ ومن ثقل عليه أن يؤدي نصاب الرهان على الخيل فليشارك في النصاب، وإلا ففي ورقة اليانصيب متسع للجميع، وفيها المائة والمائتان والخمسمائة والألف والآلاف، وهكذا يجيء الغنى عفوا بلا سعي ولا كد ولا عناء! ثم إذا كف المسكين صفر، سواء في آخر الليل أو في آخر النهار!
وإذا كان هناك فرق بين هذا الذي يطلب الغنى من غير سبيله، وذلك الذي يشتهي أن يجني ثمرات الأدب من غير سبيله، فإن الحظ محتمل لذلك ولو بنسبة 1 / 100000 أما هذا فغير مقدور له حظ أبدا.
لا، لا، يا بني، لا تظن أن المنزلة في الأدب أو في غير الأدب تواتي بمثل هذا اليسر كله، فالأدب يغتضبك مهما تكن قد رزقت الموهبة أن تسهر الليالي في حفظ الروائع التي جاد بها من سبقوك من أئمة البيان، وفي تقليب الذهن في بلاغات من تقدموك من كفأة أصحاب البلاغات، وشدة المطاولة في محاكاتهم، والتشبه بهم في منازع بلاغاتهم، فإذا تهيأ لك أن تستحدث طريفا أو تبتدع في الفن جديدا، فأنت الأديب الموهوب بفضل الله، أما أن تطلب الطفرة وتلتمس النتيجة من غير مقدمات، فالطفرة - لو علمت - محال، لن تكون أكثر من أديب مرتجل، أو بالتعبير العامي أديب شيطاني ما دمت تقنع من السعي بأن تنظم كلاما فارغا مليخا، تلفقه تلفيقا لا براعة فيه من كلمات جمال الطبيعة والأشجار والأزهار والأطيار، والعبير، والغدير، والهدير، والقمر والنجوم، والسحاب والغيوم، فإذا وصلت بسلامة الله إلى «لحف الخلود» فقد أديت «رسالة الأدب» وحق أن يذهب لك صيت وذكر في التاريخ، وما شاء الله كان!
لا، لا يا بني، لا يكفي أن تؤلف، أو على الصحيح أن تلفق من هذه الكلمات، أو منها ومن سواها، كلاما بائخا مليخا، لا طعم له في مساغ النظام ثم تطلع به على مغن حدث أو مغنية حدثة لتصك بترديد أسماع الناس صكا، لا يكفي هذا في ابتغاء الرزق من الأدب والمنزلة في الأدباء.
وسامحني يا بني إذا قلت: إنك وأمثالك من أصحاب هذا الأدب الفج - العجر - لتجنون على أنفسكم أولا، وتجنون ثانيا على الأدب في هذه البلاد وغير هذه البلاد!
وأرجو ألا تصغي إلى أصحابك ولداتك الذين ينصحونك بالثناء نصحا، فيصفونك بالعبقرية ويضيفون منظموتك إلى الخلود، وكذلك يوم أنفك وكذلك يطمعونك في المنزلة بين السماكين، وكذلك تقطع كل سبب بينك وبين مساعي الحياة، إذ كفك صفر وإذا أنت لا تزال هائما في القفر، فأنت إذن «كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى»، وصدق رسول الله.
أما أن يصدق هؤلاء الناشئون أنهم قد رزقوا الموهبة جميعا، فلا حاجة لأحد منهم بسعي ولا تحصيل ولا جهد كثير ولا قليل، فليعلموا أن الناس لا يمطرون المواهب بمثل هذه الفداحة الفادحة، وإذا كانت أمثال هذه المواهب مما يباع ويشرى، لما ابتغت لها معرضا أليق من سوق العصر.
هذه - شهد الله - نصيحة صادقة مخلصة يسديها إلى جمهرة الناشئين من الناظمين، من لا يشعر لهم إلا بعطف الوالد على الولد.
فإذا أصروا بعد هذا على أنهم بضربتين من المجذاف «قد دخلوا المالح»، فأمرهم وأمر الأدب إلى الله.
ذكريات
بيني وبين حافظ إبراهيم
وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل: لن نتصدعا
فلما تفارقنا كأني ومالكا
لطول افتراق لم نبت ليلة معا
وبعد فما أدري ما خير «الهلال» في أن تريدني على الكتابة فيما كان بيني وبين شاعر النيل حافظ بك إبراهيم - عليه رحمة الله؟
لا أدري ما خيرها في هذا، وما الذي يغريها به ويدفعها إليه، وكلما اعتذرت ردت الاعتذار، وكلما حاولت التملص سدت علي المنافذ، وأخذت بين يدي المذاهب، ويا عجبا! ماذا يكون بيني وبين حافظ إلا ما يكون في العادة بين جميع الأصدقاء، أو بين جميع الأعداء!
كنت أصحب حافظا ويصحبني، وكنت ألقاه ويلقاني، وكنت أسمر معه ويسمر معي، على أنني لم أكن وحدي الذي ظفر بهذا الحظ من حافظ إبراهيم، فمن صاحبوه ولازموه كثير ومن غشوا مجالسه، واستمتعوا بملحه وطرائفه أكثر، وحافظ لم يكن متحجبا ولا منقبضا عن الناس، ولا برما بلقائهم وغشيان مجالسهم وفسح مجالسه لهم، والتبسط بألوان الحديث معهم، بل لقد كان فياضا ثرا متدفقا يسمح بطرائفه، كما يسمح بماله وبطعامه ما يضن على أحد بما طالت يده ولا بما يطول لسانه، ففيم إيثاري بالتحدث عنه، وفيم اختصاصي بالقول فيما كان بيني وبينه؟ على أنني ما برحت مقروح الكبد لفقده، ما ترقأ لي عليه دمعة، ولا تبرد لي كلما ذكرته لوعة، فكيف لي مع هذا بالخوض فيما يروق من شأنه، كل ما يعجب وما يسر من حديثه وما يطرب؟
في الحق إن تكليفي هذا دون الناس جميعا عجب من العجب!
وبعد، فإذا كانت «الهلال» إنما تحرص على إيثاري بهذا؛ لأنها تحسب أنني كنت أوثق أصدقاءه به وأقربهم محلا من نفسه، فقد خالفها الظن وأخطأها الحسبان.
عاشرت حافظا وصاحبته ولازمته أكثر من خمس وعشرين سنة متوالية متصلة، حتى مضى إلى فضل الله ورحمته، ومع هذا لا أدري أكان لي أصدق الأصدقاء، أم كان لي أعدى الأعداء؟ ولا أدري من جانبي أيضا أكنت له أصدق الأصدقاء، أم كنت له أعدى الأعداء؟ وهل كان يحبني أشد الحب، ويضمر لي أخلص الود، أو كان يكرهني أشد الكره، ولا ينطوي لي إلا على أبلغ المقت؟ كذلك لا أدري إذا كنت أحبه أشد الحب، ولا أكن له إلا أصدق الود، أو أنني أكرهه أعنف الكره، ولا أنطوي له إلا على أقسى الحقد والبغض؟ أكان يكبرني ويجل موضعي وكنت أكبره وأجل محله، أم كان يزدريني وأزدريه، ويرى ألا فضل لي وأرى ألا خير فيه؟
وترى أنه كان لا يبغي لي إلا النفع والخير، ولا أبغي له إلا النفع والخير، أو أنه كان لا يرجو لي إلا الأذى والضر، ولا أرجو له إلا السوء والشر!
ما زلت - لعمري - بين الأمرين في أحير الحيرة وأضل الضلال!
كنت لا استطيع صبرا على فراق حافظ، وكان حافظ لا يستطيع صبرا على فراقي، ولا أستطيب طعاما شهيا إلا إذا كانت يده مع يدي، ولا تطيب له نزهة مفرجة إلا إذا كانت رجلي مع رجله، وهل مهد لإتيان مجلس غناء أو لهو أو سمر فاستوى فيه، واطمأن إلى موضعه منه، إلا إذا كان صاحبه معه واحتل من المجلس موضعه، لا يحقن أحدنا عن الآخر سرا، ولا يكتمه من مداخل أمره أمرا.
ولقد يدعوني بعض الأمر إلى الشخوص إلى الإسكندرية على أن أبيت فيها ليلة، فيثبط من همتي ويدغدغ من عزمي، ويهون علي من خطب طلبتي، وينطلق يذم الإسكندرية ورطوبة الإسكندرية، وضيق مساحة الإسكندرية، حتى لتلقى من تكره في اليوم الواحد عشرين مرة في الإسكندرية، فإذا أصاب مني العزم والإصرار، زم متاعه ومضى معي إلى الإسكندرية ما يفتر لسانه طول الطريق لحظة واحدة عن لومي وتقريعي، والإبانة عن سوء رأيي وفساد ذوقي، يفعل هذا وهو متجهم الوجه بادي الغيظ! ولقد تدعوه بعض الحاجة إلى سفرة كهذه السفرة، فأفعل معه مثل هذه الفعلة، وسرعان ما أرزم حوائج السفر وأمضي معه متى استيقنت من عزمه وإصراره!
وكيفما كان الأمر فإنني أعود فأقرر أن حافظا - رحمة الله عليه - كان لا يستطيع على فراقي صبرا ولا أستطيع على فراقه صبرا، ومع هذا فإنه ما جمعتنا خلوة إلا جعل يصارحني ببغضه وأباديه بمقته، ويذكرني ما أسلفت من أذاه، وأذكره ما أسلف من الكيد لي، ولا نزال على هذا حتى يبدو ناجذ الفتنة ويهيج هائج الشر، ومع هذا لا توسوس لأينا نفسه بالفرقة وطلب الخلاص من هذا البلاء!
لا أذكر أنه ضمني به مجلس قط سواء كان فيه من نعرف أو من لا نعرف، وكان فيه من نعلي أقدارهم ونجل أخطارهم، أو كان فيه من نتهاون شأنهم، ولا تضمر أنفسنا إلا استحقارهم والزراية عليهم، لا أذكر أنه ضمني به مجلس قط إلا جلا له مداخلي وبذل بين يديه أكره مكارهي، فإذا أعوزته المكاره خلقها خلقا وارتجلها من عفو الخاطر ارتجالا.
ولقد يوغل في الكيد ويمعن في الأذى! فيشرك نفسه معي فيما يرميني به من ألوان التهم، ولو قد صح أكثرها لأفضت بنا كلينا إلى محكمة الجنايات والعياذ بالله، فيقول: لما فعلت أنا وفلان كذا ولما افترقنا كذا وكذا ... وكل هذا ليؤكد على التهمة ويوثق الجريمة، وتراه يضع في هذا الموضع نفسه، ويبلغ منها به ما لا يبلغ أعدى عدوها؛ ليرضي نقمته مني واضطعانه علي ولا أجر الله القائل:
فاقتلوني ومالكا
واقتلوا مالكا معي
انظر يا سيدي كيف يكون غيظي حتى لأكاد أخرج من جلدي، ثم فكر فيما يرمي به لساني منكر القول، مستكره اللفظ نضحا عن نفسي وشفاء لصدري! ثم تدبر بعد هذا ما يعتريني من الألم، وما يلحقني عليه من واخز الندم: ولعنة الله على الغضب وما يفعل الغضب!
ولقد يتوافق رأيانا في رجل، فنذكره بما نحسب فيه من ثقل الظل، أو شدة البخل، أو الكذب والتزيد، أو التنفج وعرض الدعوى، أو غير ذلك مما يكره الناس أن يذكروا به، فيلقاه في سر مني، ويقول له: «إن فلانا يرميك بكيت وذيت فتعال معي أسمعك بأذنك.» ويواريه في غرفة مجاورة أو يدسه من حيث لا أرى خلف ستار أو تحت سرير، ثم يقبل علي فيستدرجني إلى حديثه، وما عسى أن نكون قد أرسلنا من النكات على خلاله تيك، فإذا بلغ من هذا كل ما أراد سل صاحبنا من حيث كان، فطلع علي مغبر الوجه، متكرش الجبين، محمر الحدق، بارز الناب!
وانظر يا رعاك الله أي جهد يجب أن أبذله وقد يعينني حافظ بإنقاذ الموقف - كما يقولون - وصرف الأمر كله إلى النكتة، حتى يسكن غضب الرجل وينفرج غمه وتطيب نفسه، ويشيع البشر في وجهه، على أنني إذا خرجت من ثائر شره على سلم، واطمأننت منه إلى الأمن، فإني لأقضي بقية نهاري وسواد ليلي قلق النفس مقشعر الجلد مما عسى أن كان يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن أعجب العجب وإن شئت قلت: «من بركة العجز» أن هذه الحوادث قد انتهى أكثرها، إذا لم يكن قد انتهى جميعها، إلى استيثاق الصلة، وعقد الإلف بيننا وبين هؤلاء الذين كان يغريهم حافظ بي ويثير حفائظهم علي بما يسمعهم من حديثي فيهم، وتناولي لمكارههم، وقد يزداد هذا الإلف على الأيام حتى يصبح صداقة متينة وودا خالصا!
وأغلب الظن في هذا أننا لم نكن نعرفهم حق المعرفة، ولم نخالطهم حتى نقلب عن يقين حقيقة شأنهم فنسرع إلى الحكم عليهم بما نرى من ظواهرهم أو بما نسمع من خصومهم عنهم، حتى إذا عرفناهم وبلوناهم تجلت لنا فضائلهم ومزاياهم، وإذا ما ذهبنا إليه إنما كان أوهاما في أوهام لم نخرج منها وا حسرتاه إلا بالمناكر والآثام! اللهم اغفر لنا خطايانا وتب علينا واعف عنا، إنك أنت التواب الرحيم!
على أن مما يعزينا في هذا الباب أننا ما تناولنا - والحمد لله - عرضا، ولا اتهمنا أحدا في ذمة، ولا رميناه بكبيرة، إنما هي الشهوة إلى التندر على الناس والسلام!
ولقد كان حافظ يعرف مني شدة الخوف مثلا من سرعة السيارات، فيستدرجني إلى إحداهن لنزهة أو لعدة، ولا أركب حتى أستوثق من أن السائق لا يفعل، وإذا هو قد أوصاه، وربما رشاه، فما يكاد الخنزير يبعث عجل السيارة، حتى يجريها في سرعة الكوكب الهاوي، أو البرق الخاطف ما يبالي زحمة الطريق، ولا مواجهة الترام ولا يطامن منه أنه يرقى تلعة، أو يمشي على حافة ترعة أو نحو هذا مما يغلب توقع التلف فيه على توقع السلامة!
وبعد، فأرجو ألا تظن أنني كنت أتمثل مع حافظ على شيء من هذا بالحكمة الرفيقة القائلة: «المسامح كريم»، فإنني ما كنت أجزيه إلا شرا بشر وغيظا بغيظ، وكيدا بكيد! ولعلي كنت أخبر الناس بما يخبث نفسه ويكدر صفوه، ويذكي همه وغمه ويسود نهاره، ويقض الليل مضجعه، فما حرمت شيئا من هذا شهوة الحقد أبدا، والبادي أظلم!
هذا ولا نتفارق؛ لأننا كلينا لا نستطيع على الفراق صبرا.
وإذا أردت أن تعرف بالضبط والتدقيق لون الصلة التي كانت بيني وبين حافظ، فالتمسها فيما كان يصفني به ويردده على الأسماع عني: «فلان ضرر لا بد منه.» وكان ذلك رأيى فيه أيضا - رحمه الله، وألحقني به على الإيمان إن شاء الله.
وأرجو إذا كان في العمر فسحة أن آتي بشيء من التفصيل عن بعض ما كان بيني وبينه من هذا القبيل.
مهم الأديب في الشرق
أن يكون أديبا شرقيا
ولست أعني بالأديب كل من يجيد سبك الشعر أو يحسن تزويق الكلام، إنما أعني بالأديب الأديب حقا، وذلك الذي استنارت بصيرته، ورهفت حسه، ولطفت مشاعره، وأضحى له من حد النظر في بواطن الأشياء وما ينقطع دونه جهد الأنظار، إنما أعني بالأديب ذلك المفتن الذي يلمح بالنظرة المومضة ما لا أدركه أنا ولا أنت ولا يقع عليه حسي ولا حسك مهما أذكينا من الذهن وشحذنا من الإحساس.
لست أعني بالأديب هذا الذي يشمر في اختلاف الأخيلة لم تنتظر لنفسه، وفي تلفيق الصور ما تجلت على حسه، إنما أعني بالأديب ذلك الذي اتسع أفقه ونفذت إلى الأطواء بصيرته، فهو يرى بعينه الباطنة ما لا يرى غيره، فإذا تعاظمك ما جلا عليك من غريب الصور، وما سوى بين يديك من طريق الخيال، فلا تظن أنه ملفق أو مزور أو مختلق، بل إنه ليحدثك بما تتحدث به نفسه، ويجلو عليك ما يرى هو وما يسمع وما يشعر في غير زيادة ولا نقصان.
ولعلك قد أدركت من هذا أن ذلك الأديب النير الحساس لا يجدي الأدب ولا الناس إذا لم يكون متمكنا من ناحية البلاغة، حتى يستطيع أن يكون أمينا ودقيقا ورائعا فيما ينفضه عليك من صور البيان.
وبعد، فإن مهم الأديب في الشرق جليل الخطر بعيد الأثر، مهمه الأول أن يوجه حسه إلى الشرق، وأن يحرر عاطفته كلها للشرق، فقد استدرج الغرب إليه حس أدباء الشرق وعواطفهم جميعا، أستغفر الله بل لقد سطا بها سطوا، وانتزعها من بيئتها انتزاعا.
اللهم إن أعظم أدبائنا الشرقيين قدرا، وأجلهم خطرا لا يكادون يطرحون النظر إلا على الغرب، لا يكادون يتصورون الأشياء إلا بذهن الغرب ولا يكادون يصورون ما يجدون إلا على أسلوب الغرب بل لا تكاد أعرافهم تلين وتنفع! إلا لما يقبل عليهم من ناحية الغرب، لقد استهوتهم حضارة الغرب، وفتنهم جمال الغرب وملك فكر الغرب عليهم كل مذهب، فلم تبق فيهم فضلة لتقليب النظر في هذا الشرق، ولا لتصفح وجهه والتدسس إلى ما تحت السطوح مما كثرت القرارات وأجنت الأطواء!
ولعل عذرهم كان في أنهم نشئوا في لغات ميتة، وآداب ميتة، وحضارة ميتة، وأفكار ميتة، وجو كله موت لا تترقرق فيه نسمة من نسمات الحياة! وما ظنك بمن أحس الاختناق لفساد الجو، أفلا تراه يجري لالتماس الهواء الطلق يتفرج به ويملأ منه رئتيه كلتيهما ليرد به على نفسه ما مضى عنها الحياة، وكذلك صنع أدباء الشرق، وكانوا فيما صنعوا حق معذورين!
في الحق إن الغرب قد استولى على أدبنا، وأعني أدبنا الحي أو أدبنا الذي يزعم لنفسه الحياة، كما استولى على أرضنا وعلى علمنا وفننا، وتجارتنا أو صناعتنا وكل سبب من أسباب الحضارة في هذا العالم، لقد استولى الغرب على كل شيء عندنا حتى على الأدب، وأصبحنا في جميع وسائلنا أشبه بالمكارين يسعون سعيهم لحساب أصحاب الأموال.
ولقد يتعاظمك ويشبع فيك العجب ما زعمت من أن الغرب قد استولى على أدبنا فيما استولى، ولقد يكون أهم الداعيات على إنكارك ما ترى كل يوم لكتابنا المجلين من لفظ عربي رشيق في نظم عربي أنيق، وما تجد من منازع بلاغات تطاول أذكى بلاغات العربية في أزهى العصور، فليس الأدب حلاوة لفظ وتلاحم نسج وإشراف ديباجة فحسب، بل إنه قبل ذلك لوضاءة نفس ودقة شعور، ورهافة إحساس، ونفوذ نظر، وتهيؤ فطري لبراعة التصور، ثم قدرة قادرة على براعة التصوير، وفي هذا المظهر الأخير إنما يحتاج إلى براعة النظم وصحة البيان!
وأرجو بعد هذا أن تحدثني بعيشك، كيف يكون أدبنا شرقيا وكيف يعد أدباؤنا أدباء شرقيين، وهم متغيرون لبيئتهم منكرون كل الإنكار لما يحيط بهم، لا حظ للشرق، ولا لطبيعة الشرق، ولا لشيء من أسباب الشرق فيما يتصورون وفيما يصورون؟
وبعد، فللشرق أرضه وسماؤه، وله هواؤه، له جباله ووديانه، وأنهاره وخلجانه، نباته وحيوانه، وله سهله ووعره، ومعمورة وقفره، وله صحاريه، وناهيك بصحاريه، وما ألهمت من الشعر في قديم الزمان! وللشرق عاداته وأخلاقه، وله أفكاره وأذواقه ...
للشرق جماله وفتنته وسحره، وله جلاله ورهبته، وهذا تاريخه الضخم، لقد احتشد بعوامل القوة والعظمة، كما سال بآثار الفلسفة والعلم والفن جميعا، ولقد أزل لنا هذا التاريخ من مجالي عظمة الشرق ما يحير الألباب، سواء منه ما طاول السحاب وما دسا في التراب!
ولعمري، أليس في هذا كله ما يبعث العاطفة ويستجيش الحسن، ويلين أبدع الصور تتراءى في أبدع البيان؟
لقد كان الشرق مهبط الشعر كما كان مهبط الوحي وفيه رقي بيان الأرض كما تنزل بيان السماء.
ولقد كان لأجلاء أهل البيان عذرهم الذي أسلفت، فما عذرهم الآن وقد انبعثت اللغة، وحي الأدب، وذكا الشعور، ورهف الحس، وراح منا خلق يعالجون ما يعالج أدباء الغرب من تحليل الأشياء، والنفوذ إلى الأطواء، واستظهار الطريف البديع من مختلف الصور في شتى مظاهر الحياة.
ما لنا وقد بلغنا هذا القدر ولو بفضل تروينا من أدب الغرب لا نوجه إحساسنا وعواطفنا إلى هذه البيئة التي نعيش فيها، فنتصفحها ونمعن في تصفحها ونتوسمها ونطيل في توسمها، فإنها قمينة بأن توحي إلينا أبلغ مما نرجو من ابتهار ومن روعة وجمال!
اللهم إن أكثر أدبائنا العظام إنما يغذون أرواحهم بآداب الغرب في الكتب والرسائل، وفيها يقلبون الذهن ولها يفتحون الأعراق، وفيها يغرقون الحس وبها يذكون العاطفة، فأضحت هي متاعهم الروحي لا يزاحم نفوسهم عليها متاع، وهي في الغاية سبيل إنشائهم ومادة إنتاجهم، إليها يردون وعنها يصدرون! فيتهيأ لنا مع هذا أن نزعم أن هناك أدبا شرقيا وأن هناك أدباء شرقيين؟
1
إن مهم الأديب في الشرق - وما وقعت في كلمة الشرق في هذا المقال إلا تمثلت مصر أولا وجمهرة البلاد العربية ثانيا - أقول: إن مهم الأديب في الشرق أن يفطن نفسه إلى بيئته أولا ويشعرها أو في الشعور بأنه إنما يعيش في بلاده، فيها يدور الفكر ويجول التصور، ومنها يشتق التخييل ويستنزل الإلهام، وكذلك يكون لنا نحن المصريين أدب مصري وأدباء مصريون، وكذلك يكون لجارتنا سورية أدب سوري وأدباء سوريون، وكذلك يكون للعراق أدب عراقي وأدباء عراقيون، وهكذا، فإذا فرقت بين هذه الآداب بعض العوامل المحلية المختلفة من طبيعة البلاد ومناظرها وتاريخها وعرفها ونحو ذلك، فلا بأس بهذا فسيجمعها ذلك الطابع العربي العظيم، أما الآن فلا شك في أن هذا الأدب غريب فينا أو نحن في هذا الأدب غرباء!
أستغفر الله أن أدعو إلى هجر أدب الغرب ونحرم قراءته وترويه، أو عدم استعانته في التحليل والإنتاج والتصوير، أستغفر الله أن أدعو إلى هذا أو أشير به، فإنني إذن آثم في حق أدبنا أعظم الآثام، وأجرم عليه أبشع الإجرام!
بل كل ما أريد أن ما نصيب من أدب الغرب وما نتذوق ، لا ندعه يطغى هذا الطغيان على أدبنا الشرقي، فإن الخير كل الخير أن نسيغه ونهضمه ونغذي به أدبنا على أن لا يبدل خلقه ولا ينكر صورته، كدأب الأمم التي تعتد بآدابها وتريغ لها قوة الحياة من كل سبيل.
فقد عرفت أن المهم الأول للأديب في الشرق أن يكون أديبا شرقيا مصريا إذا كان في مصر، وسوريا إذا كان في سوريا، وعراقيا إذا كان في العراق، وهكذا يشعر بأنه يعيش في بلاده - كما أسلفت - أو في الشعور، ومما يحيط به يشتق التصور ويستنزل الإلهام، فإذا كان الأديب الشرقي كذلك بعث من عواطف قوية كل ممكن، واستخلص من بواطن النفوس كل دفين، واتخذ من أخلاقهم وعاداتهم مادته في الفحص والتحليل، ومن ميولهم ومنازع نفوسهم أداته في التصوير والتخييل وشاد بجليل مفاخرهم، وتغنى بسالف مآثرهم، وكذلك يبعث الأدب الحق ويبعث الشعور القومي جميعا.
اللهم إن الأمم العربية لتجد في السعي إلى تحرير الأوطان، فمتى تسعي إلى تحرير الآداب فلا يكون للغرب عليها هذا السلطان؟
عباقرة الفن
قبل أن نقص ما هيأناه لهذا المقال من القصص، نعيد ما سبق لنا أن ذكرنا في مثل هذا المقام من أن الكذبة الفنيين ليسوا جميعا على غرار واحد، ولا يلزمون موضوعا مشتركا، بل إن منهم لأخصائيين تجرد كل منهم في مطلب، وحبس سعيه وجده عليه لا يعدوه إلى غيره، أما رأيت الأطباء كيف يتخصصون، هذا للأمراض الباطنية، أو لأمراض المعدة منها، أو لأمراض الصدر دون غيرها، وهذا للأعصاب وهذا للجراحة، وهذا للحنجرة والأنف، وهذا للعيون ... إلخ. وكذلك عباقرة الفن منهم من اختصت عبقريته بالحديث في الطعام، ومنهم اختص بالبطولة والفروسية في القتال والصدام، ومنهم لا يعدل وله النساء عليه وغرامهن به أي غرام، وهو يضن على الآلاف منهن بالنظرة، ولا يبرح يقدم في صدورهن نار الغيرة ويذيب كبودهن من شدة الوجد والحسرة، والمسكين وخمسة من سكرتيرية قد استهلك نهارهم وليلهم، ففي الرسائل الغرامية يسطع أريجها ويتضوع في الحي والأحياء المجاورة عبيرها، حتى لو صبت أوعية أكبر «فابريقات » الروائح العطرية في العالم ما فعلت في الجو فعله، ولا نشرت في الأفق العريض مثل شذاها وطيبها، وهذه الرسائل كلها قد جادها الشغف والولوع، بالعارض الهتان من سخين الدموع، حتى إذا فرغ المسكين المرهق بإلحاح ربات الحجال المضني بمطاردة جميع ملكات الجمال، تراه قد أرخى حفنة، ورمى بنظرة ساحرة تسلك أعصى الكبود وتذيب الحجر الجلمود!
وهنا لا أخصائيون في غير هذا أو ذاك، على أن هذا لا ينفي أن هناك من عباقرة الفن من لم يلتزموا موضوعا، ولم يتخصصوا في أمر فهم كبعض أطباء الريف المصري، يعالجون كل مرض ويطيبون كل علة، فمن رمديين إلى التهاب جلد إلى شق دمل إلى تجبير عظم إلى توليد حامل إلى انسداد أنف، إلى تمدد كبد، إلى التهاب صدر، إلى وجع بطن! فهؤلاء الفنانون العموميون - إن صح هذا التعبير الشائع - يضربون في كل مجال، ويأتون في كل مقام بأبدع المقال، فهم أغنى الناس إذا ذكر الغنى وهم أشجعهم إذا دار الحديث في الشجاعة، وهم الأجزل سائدة والأشهى طعاما إذا مال القول إلى الطعام والدسم، وما يحدث الكظة ويدعو إلى البشم، وهم أشغل الناس لقلوب النساء إذا جرى ذكر الهوى وما تفعل الفرقة والنوى، وكيف تصنع بالعاشقات تباريح الهوى، فإذا جاء حديث أولياء الأمور وكبار الحكام فخذ ما شئت من تهافتهم عليه، وتباريهم في الزلفى إليهم واستنارتهم برأيه في المهمات، واتباعهم لنصحه في الأحداث الملمات وهكذا ...
والعجيب في أمر هؤلاء جميعا أنك تجدهم حاضري الذهن، حافلي الخاطر، مستيقظي الذاكرة، لا يند عنهم كبير ولا صغير، ولا تنشز عليهم شاردة ولا واردة، ولا يغيب عن ذاكرتهم شيء مما وقع لهم في الماضي الطويل، مهما دق أمره وهان قدره، فما يكاد أحدهم يسمع في المجلس الكلمة يهتف فيها هاتف بتقدم أحد في باب من هذه الأبواب، إلا انبرى من فوره يشيد بما له من السبق والتقدم، ويستشهد على هذا بالقصص المسبوكة المحبوكة، يرويها متدفقا غير متحبس ولا متوقف ولا متلجلج ولا متتعتع، ولا مستعين متنحنح ولا يتعسل ، كأنما يصدر حديثه عن المؤنس - موسيقى القرب - لشدة اتصاله، وعدم الشعور بانقطاعه ولوحدة جرم النفس!
وكان لي صديق - رحمة الله عليه - يتمالح بهذا الكذب، وما برح من نشأته يوالي هذا ويدأب عليه حتى صار له عادة وجبلة، وكثيرا ما سمعت أنه إذا لم يكذب لا يستريح عامة يومه! على أن كذبه كان حلوا عذبا يشعر من فوره بأنه كذب.
كنت أتمشى معه في صدر إحدى الليالي وقت الغلس والجو أدنى إلى الظلمة، وكان وقتئذ طالبا في إحدى المدارس العليا، إذا نصب عليه رجل لا أدري ولا يدري هو من أين طلع ولا من أين هبط، بادره بطلب دين عليه وقبل أن يتم الرجل مسألته، عاجله صاحبي مقسما على أنه ليس معه إلا الريال مسحة الجزمة، فانصرف الرجل عنا وهو يضرب كفا بكف! يا لطيف!
واشترى ذات يوم قميصا وأرانيه، وجعل يدلني على جودة قماشه وحسن تفصيله، فقلت له: بكم اشتريته؟ قال: بجنيه مصري! ولكنني رأيت مكتوبا على عنقه:
50 ، فقلت له: يا أخي إن الثمن خمسون قرشا، فأجاب فورا: بل هي خمسون نصف فرنك.
وسافر في بعض السنين إلى أوروبا يقضي أشهر الصيف وسلخ أكثر المدة في إنجلترا، ثم عاد سالما وجعل يروي ما وقع له من طرائف الحوادث، وهي كثيرة جدا تثقل العد والحساب، وكان أطرفها حقا أن إحدى نجوم السينما في لندن - وهي ممثلة زائعة الشهرة بالجمال والفن معا - أحبته وكلفت به كلفا شديدا، فكانت تقصر عليه كل أوقات فراغها، تصاحبه في نزهاته وفي غشيانه لدور الملاهي، وتمضي معه لشهود ما يجتمع لشهوده من المعاهد والمعابد والمكتبات ونحو ذلك، حتى لقد تركت قصرها الفخم لتبيت معه في نزله، فلما آذن الصيف بالإدبار طالعها بنية السفر والقفول إلى بلاده، فتعلقت به وجعلت تبكي وتستعير، وتنشج أشد النشيج وأوجعه وتضرع إليه أن يبقى، على أن تعوضه مما يخسر من ترك عمله في مصر عشرات الأضعاف، وهو يتأبى ويتجنى حتى إذا يئست من مقامه، صممت على ترك عملها في إنجلترا والشخوص إلى مصر، رجلها مع رجله!
وما زال بها يدفعها عن هذه النية الخطيرة فلا تتقلقل ولا تتململ إلى أن خوفها نقض التزامها للشركة التي تعاقدت معها، وما يلزمها من تعويضات جسيمة، ثم سكتت على أن تلحق به إلى مصر بمجرد انتهائها من عملها، وكذلك استطاع أن ينفلت من بين يديها، وكذلك خلا له وجه الطريق إلى مصر.
انتظروا يا معشر القراء، فإن الرواية لم تتم فصولا.
بعد قدومه ببضعة أشهر لقيته ذات يوم فقال: ألم أحدثك حديث ممثلة السينما الإنجليزية؟ فجمعت ذاكرتي ثم قلت: بلى. قال: لقد ذهبت ليلة أمس في جماعة من صحبي إلى دار سينما «كذا» فإذا صاحبتنا تمثل في إحدى الروايات المعروضة، وما أن رأتني حتى انفلتت من موقفها في الرواية، وأقبلت نحوي حتى ملأت وحدها وجه الشاشة، وحجبت كل ما يليها وانحنت انحناءة بديعة وهي تبتسم ابتسامة أبدع، ثم جمعت أطراف بنانها ولثمتها لثمة طويلة ثم فرقتها مومئة إلي بها ما تبالي النظارة ولا أصحاب الدار، ولا أولياء الشركة في سبيل الغرام، أرأيت يا فلان إخلاصا كهذا الإخلاص وغراما كهذا الغرام؟
فحلفت له بكل مؤثمة من الأيمان بأنه كان من يوم أرسل آدم وحواء إلى الأرض إلى اليوم، ولا يكون من اليوم إلى ساعة ينفخ في الصور إخلاص يداني هذا الإخلاص، ولا غرام يبلغ عشر هذا الغرام!
ولندخل الآن في البطولات الاختصاصية - إذا صح هذا التعبير - ولتجعل حديثنا الأول منها في البطولة العسكرية، فهي الأشكال بحال العالم في هذه الأيام:
فلان بك - رحمة الله عليه - انحدر من ناحيتيه من أصل تركي، أو تركي وشركسي، وكان أبوه الباشا ممن حكموا في مصر، واقتنوا الضياع وشيدوا القصور، وتركوا لورثتهم فوق ذلك جلائل الأموال، وحصل صاحبنا من العلم في أول نشأته ما لا أظنه يزيد على ما تلقته المدارس الابتدائية، اللهم إلا ما حصله من اللغة التركية فلقد كان يحذقها كدأب أمثاله من أولاد الذوات في ذلك العهد بحكم بيئتهم وكثرة حديثهم بهذه اللغة مع آبائهم، وأمهاتهم، وجواريهم وأغواتهم.
وقضى أبوه وأزل له بالإرث ما قضى الشرع من تلك الضياع والبيوت والمجوهرات والدنانير، وكان ذلك شيئا كثيرا،
1
وكان كلفا شديد الكلف بالدولة التركية، لا يرى جيشا أقوى من جيشها، ولا أسطولا أضخم من أسطولها - وإن كان محجوبا عن الأنظار الآن - ولا سياسة أحكم من سياستها، أما الحديث في «المايين» ورجال «المايين» والسلطان وما أدراك ما السلطان، فذلك شيء لا تتطاول إلى وصفه الأقلام.
شغل هذا ذهن الرجل حتى استغرقه وملك عليه جميع حواسه، واستهلكها استهلاكا فلا يحتويه مجلس في داره أو في دار غيره، أو في المقهى، أو في قطار السكة الحديد، إلا تحدث في هذا وأسرف في وصف ما رأى من عظمة تركيا، ودهاء ساستها، وقوة جيشها، وضخامة أسطولها أيضا!
ثم بدا له فجمع نحو أربعين غلاما أفرغ عليهم ثيابا عسكرية تركية، ودعا برجل من أساتذة الموسيقى، فقام على تعليمهم وتمرينهم في فنون الموسيقى التركية، وجاءهم بأحسن الآلات، وزودهم بأكثر ما دون من «النوتات» وأقام لهم دارا واسعة في إحدى ضياعه، فإذا أقبل عيد جلوس السلطان أو عيد ميلاده أو غير ذلك من المناسبات، دعا بالموسيقى إلى القاهرة فجعلت تطوف عازفة بشوارعها الكبرى، وهو يتقدمها وعليه الحلة العسكرية التركية على أنه كان متواضعا؛ فلا يضع على كتفه إلا شارة أمير اللواء «ميرالاي» التي نالها بكل استحقاق في أثناء خدمته في الجيش العثماني، وما أبلى في حروبه الكثيرة بعد تخرجه من المدرسة الحربية هناك، متفوقا على الأقران في الامتحان!
وهنا أرجوك يا سيدي القارئ ألا تكون فضوليا فتسأل: متى كان سعادته في القسطنطينية، ومتى انتظم في المدرسة الحربية ومتى غزا وقاتل إذ هو لم يغب عن عيون أهل مصر في يوم من الأيام؟ لا تكن بالله فضوليا، فتوجه إلى نفسك أو إلى غيرك مثل هذه الأسئلة، وأنت على كل حال حر في تقبل الحديث وفي رده، ولا ضير في هذا الرد على أحد، ولله در العامة إذ يقولون في مثل هذا المقام: «البايرة على بيت أبوها!»
وبعد، فقد عرفت أن صاحبنا قائد عسكري من أمهر قادة الجيش التركي، وما عرض أحد بين يدي مجلسه لذكر موقعة حربية حديثة، إلا هتف بما أبلى فيها وجاهد، ونازل وجالد، وما نصب للعدو من كمين، وما أوقع بهم من الشمال ومن اليمين.
على أن من واجب الإنصاف أن نقرر أن الرجل لم يكن قائدا عسكريا بريا فحسب، بل لقد كان في بعض الأحيان قائدا بحريا من أمهر أمراء البحر، ولقد أذكر أنه ضمنا به مجلس في قيام الحرب الكبرى الماضية، وجرى ذكرى الغواصات وكيف يعصف «تربيدها» بالسفن عصفا؟ فقال: اسمعوا: لقد كنت أقود ذات يوم طرادا تركيا في الدردنيل، فرمته إحدى غواصات الحلفاء «بتربيد» فنسف وغرق من فيه في الحال، ولم يبق منه إلا أنا ونرجيلتي - الشيشة - يحملنا لوح من الخشب، ولبثنا على هذه الحال اثنتي عشرة ساعة حتى أنقذتنا سفينة عابرة، وكانت الشيشة هي سلوتي في هذه الساعة المهولة!
فقال له خبيث من الحاضرين: ألم تنطفئ الشيشة يا فلان بك في كل هذه المدة؟ فأجاب من فوره، ما أنا كنت بكركر فيها!
ومن أروع عبقرياته التي لا تلحق أبدا والتي تعز على طول الزمان، وتعصى، أننا كنا في بعض الأمسية نسمر في دار قريب له، وكان معه أكبر أولاده، وكان ذلك في أثناء حرب البلقان سنة 1913 على ما أذكر، وجعل الحاضرون يهتفون بفضل رءوف بك قائد الطرادة حميدية، ويشيدون بجرأته ومهارته وفعله الأفاعيل بطرادته، فقال: ألا تعرفون أن رءوفا هذا هو ابني؟ فلم يتداخلنا شك في أنه يعني أنه تلميذه، تخرج عليه في مدرسة البحرية فلعله كان أستاذا فيها أيضا ومن يدري؟ فلما قلنا له في ذلك، قال: بل ابني من صلبي لا تلميذي، فقال ابنه: وكانت سنه تبلغ نحو الثامنة عشرة: وهل سبق لك يا أبي أن تزوجت غير «نينتي»؟ فأجابه في عنف وغضب بل هو ابني من أمك، اخرس بقى واخرج من هنا فتولى الفتى ساكتا مبهوتا؟
وأظن أن هذا أيسر جزاء لمن لا يعرف شقيقه الأكبر!
رحمه الله ومن مات من رصفائه الأجلاء، وبسط في أعمار تلاميذهم من الأحياء، حتى يبلغ الفن على ألسنتهم ما هو مقدور له من القوة والنماء.
تقاليد الفن في مصر
وكانت مصر إلى عهد قريب حريصة شديدة الحرص على التقاليد، فكانت من هذه الناحية أشبه بإنجلترا، إذا لم يكن أهلها أشد محافظة من الإنجليز.
والتقاليد - ولا ريب - من مشخصات الأمة، وعنصر من عناصر مقوماتها في الحياة، على أننا جعلنا من أعقاب الحرب العظمى إلى الآن نهدمها بأيدينا هدما، وننسفها بكل ما يدخل في طاقتنا نسفا، إما لمجرد المحاكاة والتقليد، وإما لمحض الإغراب والإتيان الجديد، ولو كان هذا الجديد الغريب شمجا مليخا ناشزا على الأوراق!
وليس يتسع هذا المقال بالضرورة للحديث عن جميع تقاليدنا التي كنا نعتنقها إلى ذلك العهد القريب، ولا عن أكثرها فذلك شيء يطول على الإحصاء، ولهذا أجرد مقال اليوم للحديث عن واحد منها، وأعني به الغناء.
وقبل أن أخوض في لجة الموضوع أنبه إلى أن مصر من أكثر الأمم، إن لم تكن أكثرها جميعا تلوينا للتغني والترنيم، فهي تتغنى بقراءة القرآن الكريم، وبالأذان للصلاة وما يتقدم أذان الفجر من أهازيج السحر، وكذلك تتغنى بالمولد النبوي الشريف، وتتغنى بالإنشاد وفي حلق الأذكار وأنت خبير بأن غناءها الرسمي هو التخت، وللعامة الغناء البلدي أو المحلاوي يوقعه موقعوه على صوت المزمار البلدي المتخذ من القصب الفارسي - الغاب.
ولا تنس غناء الصهبة وهذا خاص بجماعات الحشاشين يوقعونه في مقدمات الأعراس، وقد زاد العصر الحاضر على كل هذا المنولوج وما إليه.
أما الموسيقى الآلية فعندنا منها النحاسية المعروفة والطبل البلدي ولا زال معروفا أيضا، والنقارية أو النقرزان، وكانوا ينقرون عليه فوق ظهور الجمال بين يدي موكب العروس، ولا يزالون يضربون به في ذي المحمل الشريف، وقد زادنا للعصر الحديث الموسيقى الوترية - الأركسترا.
وقد تجاوزت ألوانا غير يسيرة من الموسيقى؛ لأن شأنها غير كبير.
وبعد فلست أدعي العلم بتقاليد كل لون من هذه الألوان، ولا بما كان يأخذ به أصحابه أنفسهم، ويلتزمونه ولا يعدونه في كبير من شأنهم ولا صغير، ولكنني أعرف شيئا من آداب بعض هذه الفنون منها ما شهدته بنفسي، ومنها ما أرويه عن الثقات الصادقين، ومن هذا وهذا ما عفى عليه الزمان، ومنها ما لا يزال قائما إلى الآن.
فمن آداب تلاوة القرآن الكريم، أو من التقاليد المرعية في ترتيله إذا صح هذا التعبير، أن قارئا له قدر ووزن لا يمكن أن يبدأ ترتيله إلا جاء في نغمة البياتي حتى إذا قضى فيها وقتا طويلا أو قصيرا، ثنى ... فلبث فيها ما شاء أن يلبث، ثم أقبل على غيرها وهكذا، لا يزال ينصب في فنون النغم كلما بدا له أو كلما توسم في إحداها الاستراحة وحدة التطريب، وقد يعود في أثناء القراءة إلى نغمة البياتي فيصيب منها أيضا ما شاء أن يصيب، وكيفما كان الأمر فإنه حين يؤذن الوقت بالانتهاء لا بد له من أن يختم بهذه النغمة، مهما يجشمه التحول إليها من النغم البعيد وكثيرا ما يكون هذا التحول سريعا وداعيا إلى الإعجاب!
فمتقدمو القراء في مصر لا يبدءون قراءتهم إلا من البياتي وبه دائما يختمون، وكذلك تسمع القرآن عن طريق الراديو من المشايخ العظام، محمد رفعت، وعلي محمود، وعبد الفتاح الشعشاعي، ومحمد الصيفي، وطه الفشني وغيرهم من مشاهير المرتلين.
على أنني لا أدري من أين جاء مصر هذا التقليد، ولا متى كان مهبطه من الزمان القريب أو البعيد! ولعل ذلك يرجع إلى أن هذا البياتي هو نغمة البلد الأصيلة، أو هو من أصل النغم، التي تتقلب فيها حناجر المصريين، ففي الحق أن هذه النغمة فوق سعة آفاقها، وتقبلها لكثرة التصرف والتلوين فإن المصري يجد من الاستراحة إليها والأنس بها ما لا يجد لكثير، أو لعله يرجع إلى هدوء في طبيعتها يلين للحناجر قبل أن تصقل وتجلى، ثم يتلطف لها بعدما نهكها الجهد الشديد.
هذا ما كان وما لا يزال قائما من أدب ترتيل القرآن الكريم عند كبار المرتلين، أما أهازيج السحر التي تتقدم أذان الفجر، وهي أناظيم فيها استغفار وفيها تشفع بالنبي
صلى الله عليه وسلم ، وفيها توسل بآل بيته تسليمات الله عليهم، ويدعوها العامة الأولة فهذه كان لها في القاهرة تقليد جميل.
ولقد تعرف أن القاهرة كانت إلى عهد غير بعيد لا تشغل إلا رقعة ضيقة من الأرض، وكانت المساجد والزوايا تتمتع فيها بنسبة كبيرة من عدد المباني، فأنى اضطربت رفعت لك المساجد الأثرية الجميلة والزوايا اللطيفة المتواضعة التي لا يكاد يخلو منها زقاق من الأزقة أو درب من الدروب.
وقد حدثني الثقات الصادقون من مشيخة القارئين أن جميع مؤذني المساجد في القاهرة كانوا إذا ظهروا المآذن للهتاف بالأولى أو الأولة وقفوا وقد أرهفوا آذانهم، وعلقوا أنفاسهم في انتظار الأمر الذي يصدر اليهم عن مئذنة الشيخ صالح أبي حديد بالنغمة التي يجرون فيها الأهازيج لليلتهم، فإذا جلجل مؤذن الشيخ صالح بنغمة الرصد مثلا، أسرع مؤذن المساجد حوله بالصياح بها، وأخذ أخذهم مجاوروهم ومن تقع للأسماع أصواتهم، وهكذا فلا تمضي دقائق إلا والقاهرة كلها تجلجل بنغمة الرصد، وإذا بدأ بالبياتي، أو بالحجاز، أو بالسيكاه ... إلخ. فهكذا وما شاء الله كان!
وهذا إذا دل من ناحية على القصد إلى ضبط المؤذنين لأصواتهم، وتحكمهم في نبراتهم، وعدم تأثرهم بالأنغام الأخرى وإلا اضطروا إلى الخطأ، ودفعوا برغمهم إلى النشوذ - النشاز - إذا دل هذا على هذا فإنه في الموقف نفسه دليل على أن أهل مصر، أو سكان القاهرة على الأقل كانوا أصحاب فن وأهل ذوق وعشاق تطريب!
وقبل أن أعرض لما أعرف من أدب الإنشاء على الذكر أرى من الخير الكثير أن أنبه إلى أن المنشدين الذين يجرون من الصنعة على عرق، لا يمكن أن يفسحوا في حناجرهم إلا على ذكر السادة الليثية، نسبة إلى الإمام الليث بن سعد المصري - رضي الله عنه - وذلك لأن أهل هذه الطريقة أصحاب فن موسيقي بقدر كبير، ففي طرائقهم بالهتاف باسم الله - تعالى - «لا إله إلا الله! الله الله!» ما يمكن للمنشد المفتن من أن يلقي أهازيجه، موشحة كانت أو دورا أو مقطوعة شعرية أو مواليا غير متعثر ولا متحير، بل لقد يكون ذكر الذاكرين لاسم الله تعالى على أساليب هذه الطريقة، خير يعينه على الإنشاد ويهديه في سبيله السبيل.
وإن أنس لا أنسى السيد علي الركبي - رحمة الله عليه - وكان قائد الذكر الليثي، أو ضابط الإيقاع في تعبير هذه الأيام، وقد أدركته شيخا تقدمت به السنون مرسل اللحية البيضاء، وقسماته تنبئ عن طيبة قلب، ولطف نفس، فإذا جلس أعلام المنشدين لشأنهم في صدر المجلس، جعل يدير أساليب التنغيم بالذكر تنغيما فنيا يهيئ لأولئك المنشدين أداء مهمتهم على أدق القواعد وأحسن الوجوه، ولقد يصرفهم هو في فنون النغم بتوجيه الذاكرين إلى هذه الناحية أو هذه الناحية، مسرعا مرة ومتمهلا أخرى ضابطا الوحدة بنقرة بخاتمه الفضي على حق سعوطه النحاسي، فكان بحق أكفأ «مايسترو» رأته العيون في هذه البلاد.
والأدب أو التقليد الذي أحصيه لهؤلاء القوم، أنه إذا جلست الجماعة للإنشاد ثم فرغوا مما استفتحوا به مجتمعين، جعل كل منهم يتغنى فردا مستغيثا بالنبي - صلى الله عليه وسلم وآل بيته - تسليمات الله عليهم، ثم عاد إلى التغني ببيت أو بيتين من الغزل الرقيق، والذي أسوق له القول هو أن أول من يبدأ بالإنشاد يجب أن يكون أعلى الحاضرين سنا، ولو كان أنكرهم صوتا ثم يليه من يكبر سائرهم وهكذا، وقد كان يجيء المرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي في بعض الأحيان، آخر المتغنين وهو غير مدافع ملك المنشدين!
فن الحزن
لأول مرة في حياتي أدس قلمي بين قلمين يتحاوران ويتنازعان في قضية من قضايا الدنيا أو الدين، وحين كنت قاضيا لم يكن يحرج صدري بقضية قدر حرجه بقضية يقتحم فيها على المتخاصمين ثالث، فتتشعب به وجوه الخلاف، ويطول أمد النزاع ويجتاز صدرا كبيرا من هم القاضي في البحث والتحري عما إذا كان هذا الخصم الثالث جادا في دعواه، جاريا على عرق من الحق في مطلبه، أو هو متواطئ مع أحد الخصمين ليدفع يده عن بعض حقه، أو ليدفعها عن حقه كله؟ ولقد بان لي بعد امتحاني بمنصب القضاء بزمن يسير أن أكثر قضايا المحاكم الشرعية التي يقتحمها هؤلاء الخصوم هي قائمة على التواطؤ مع أحد الطرفين، كيدا وعنتا وأذى للطرف الآخر بغير حق ولا سبب مشروع! على أن ذلك لا يعفي القاضي من البحث والتحري وشدة التدقيق، فلعل هذا الخصم الثالث جاد ولعله صاحب الحق دون المتنازعين جميعا!
ولقد كان من أثر هذا في نفسي أن أكره إليها الدخول بين متجادلين، ولو في شأن عام ولو في قضايا العلوم والفنون والآداب، فيما يقع عليه الخلاف بين الباحثين والكتاب، ولكني رأيت أن حجتي في هذه المرة واضحة وأن سلطاني في الأمر مبين، بحيث لا يستطيع أحد المتنازعين أن ينكره أو يكابر فيه، ويعتريه بشيء من الشك كثير أو قليل، إذن فمن الإثم أن أسكت وخاصة إذا كان النزاع إنما يتعلق بالشأن العام، وعلى الأخص إذا لم يكن بيني وبين أحد الطرفين نزاع أو خصام!
ولقد كتب صديقي الأستاذ المحقق أحمد أمين في «الثقافة» مقالا ممتعا، يدعو فيه إلى استغلال فن السرور ومما جاء فيه:
مع الأسف ألاحظ أن كمية السرور في الشرق قليلة، كما لاحظت من قبل أن كمية الحب في مصر والشرق قليلة، وليست تنقصنا الوسائل فجونا جميل، وخيراتنا كثيرة، وتكاليف الحياة هينة، ووسائل العيش يسيرة، ومصايب الشرق من الحرب أقل منها في الغرب، ومع هذا كله لا تزال كمية السرور في الشرق أقل.
أكبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فن، والسرور كسائر شئون الحياة فن، فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظي به، ومن لم يعرفه لم يعرف أن يستغله وشقي به.
وسرعان ما انبرى له صديقي العظيم الدكتور طه حسين «بك»، فأثنى على الفكرة بادي الرأي، ثم راح يشكك في إمكان تحقيقها، ثم ما لبث أن أطلق العنان لمداعباته العذبة الفخمة، التي تسح في الوقت نفسه فنا وأدبا، وجعل يتساءل عن الجماعة التي ينبغي أن تضطلع بتنظيم «فن السرور»، وهل تكون من بين علماء النفس أو من بين علماء الاجتماع؟ وبعد أن دوخ الفكرة بشدة الترجيح بين هاتين الفئتين، انطلق يحيرها بين «جهات الاختصاص»، إذا صدق هذا التعبير الديواني، فإذا هي قد ضلت المسالك جميعا، فلن تجد إلى مثابتها السبيل!
وأخيرا وأخيرا جدا رأى الدكتور طه حسين «بك» أن يعدل بالحديث إلى ما هو أرفق وأقوم، وأجدى وأنفع، وأيسر كلفة، وآكد تحقيقا قال - حفظه الله:
ومن المحقق أني لم أكد أفرغ من قراءة مقال الأستاذ أحمد أمين وأتخيل الآفاق البعيد التي تمتد أمام اقتراحه أو أمام فكرته، حتى أخذني الحسد ورغبت في ألا يستأثر من دوني بإنشاء فن السرور، وأبيت إلا أن أكون مثله صاحب فكرة خطيرة، وداعيا إلى إنشاء فن خطير فأمليت هذا المقال لأدعو به إلى إنشاء فن الحزن، وأنا أبرع من الأستاذ أحمد أمين وأمهر في التصور، والفن الذي أريد إنشاءه لا يكلف مشقة ولا جهدا، ولا يحتاج إلى تأليف لجان، ولا إلى تحديد اختصاص ولا إلى نشر مقالات، وإنما يحتاج إلى شيء واحد يسير جدا، وهو أن تنظر في الحياة المصرية، ثم تعود إلى نفسك لتفكر فيما رأيت، وأنا ضامن لك بأنك ستجد في هذا النظر وفي هذا التفكير مصادر حزن لا تنقضي وألم لا يزول.
وإذا كان السرور خيرا؛ لأنه يرفه على النفس، ويحبب إليها الناس فقد يكون الحزن خيرا أيضا؛ لأنه يدعو إلى العمل ويدفع إلى محاولة الإصلاح. ا.ه.
وبعد، فلست أعرض لما اقترح الأستاذ أحمد أمين من إنشاء فن السرور، ولا أمتدح الفكرة ولا أهجنها، وعلى ذلك فليس بيني وبينه أي نزاع وقد كفيت المئونة من هذه الناحية والحمد لله بقيت الناحية الأخرى، أعني فكرة الدكتور طه «بك» حسين، وهي التي تدعو أو يدعو هو بها إلى إنشاء فن الحزن فهي التي نكثر عليها الحديث، والله المستعان.
وفي رأيى أن صديقي الدكتور طه قد غلط مرتين لا مرة واحدة، غلط بدعوته أولا إلى إنشاء فن الحزن، وغلط بزعمه ثانيا أن إنشاء هذا الفن لا يكلف مشقة ولا جهدا، ولا يحتاج إلى تأليف لجان ... إلخ.
ولا أدري كيف غاب عن صديقي أن فن الحزن فن قديم ولعله من أقدم الفنون، وما لنا نسافر إلى التاريخ البعيد، فنتقرى الأخبار من نقوش الآثار، وحسبي أن يعلم الدكتور أكثر مما أعلم أن الحزن كان في صدر الإسلام فنا له خطر غير قليل، وأظن أن أحدا لا ينازعني في أن المراد بالحزن في هذا المقام إثارته وإذكاؤه؛ لأن أحدا لا يرتجل الحزن ارتجالا ولا يستحدث الشجن استحداثا.
أعود فأقول: إن الدكتور أعلم مني بأن «الحزن» على هذا المعنى، كان في صدر الإسلام فنا له خطر، والدكتور أعلم مني بأن ابن سريج، وأن الغريض كانا كلاهما نائحين قبل أن يكونا مغنيين، وهما من نعلم جلالة فن وجودة صنعة، وبراعة أداء، وابن سريج والغريض بعد إذا غنيا وذهب لهما في الغناء صيت وذكر، لم يكن أحد منهما ولا من أضرابهما ليخرج من تلحين الأصوات؛ لتنوح بها النائحات في جلى الحادثات.
وهذه كتب الأدب العربي بأخبار النياحات، فلندع إذن هذا الحديث المعاد.
أما مصر فلها في فن الحزن عرق عريق وخاصة في العصر الحديث، ولا يزال هذا الفن قائما إلى الآن، وإن جعل يقبل على الدثور مع الأسف العظيم، ما دمنا نرانا بحاجة إلى إنشاء فنون الأحزان!
لا يزال في مصر إلى الآن الندابات،
1
ولا يزال فيها النائحات أو بالتعبير الشائع المعددات،
2
أعاذنا الله وأعاذ القراء جميعا من الحاجة إلى هؤلاء وإلى هؤلاء.
أما الندابات فجماعة من النساء يلقين ترانيمهم على نقر الدفوف في قوة وعنف، إذ النساء من أهل الميت يثبن على هذا النقر وثبا، ويوقعن على هذا النبر لا ضربا على أوتار العود بل لطما على الخدود، حتى يفرى أديمها وتهرى لحومها.
وأما النائحات المعددات فلا دفوف في أيديهن ولا يصوتن بالعديد إلا فرادى، وكلما انتهين إلى موقف عج النساء جميعا بالصياح وبكين فاستعبرن، سواء في ذلك أهل الميت ومن لا شأن لهن به من المعزيات، ويظل هذا ثلاثة أيام من وفاة الميت وكل يوم خميس، ثم تختم هذه النياحات بيوم الأربعين.
ولقد فاتني أن أقول لك: إن المعددات منهن المحترفات ومنهن الهاويات، وإن جماعات الهاويات ليفعلن هذا احتسابا أو مجاملة لأهل الميت، أو مصانعة لعواطفهن إذا كان الدهر قد امتحنهن أيضا في كريم، أما الندابات فلا يكن إلا محترفات.
ولكي تعرف مبلغ فن الحزن في مصر والإسراف في إذكاء عاطفة الأسى والشجن، أنك كنت إذا سعيت صباح يوم الخميس في أي حي من أحياء العاصمة، رأيت الجماعات من النساء عليهن السواد وقد ضربن بالخمر السود على رءوسهن وعوارضهن، وفي أيديهن المناديل السود، وهن يمشين على غير هدى، حتى تصادفهن مناحة فينزلقن إليها، ما يعرفن الميت أو الميتة ولا لهن عهد بأحد من أهلهما أبدا، وذلك كلة انتهازا للفرصة السعيدة في البكاء الحار وسفح الدمع السخين.
ولقد تجاوز فن الحزن المصري نطاق التبكي على الموتى إلى سائر مواجع النساء، حتى لترى كثيرات ممن يطلبن المناحات إنما يطلبنها ليعولن ويطرحن أثقالا من الدموع على ما لا سبب له إلى الموت ولا إلى الأموات، فما تكاد النائحة تؤذن بفترة الاستراحة
entr’acte
بعد الفصل، حتى تقبل عليها النساء من كل جانب فيلقين في حجرها بالدراهم، ويدعوها العامة «النقوط» هذه تسألها أن تقول فيمن هجرها زوجها وهذه فيمن اتخذ عليها الضرة، وهذه فيمن مال بخت بنتها بزواجها من المضار غير الكفء، أو بكيد حماتها وكثرة إيذائها، وتلك في خيبة سعي ولدها وأخرى في سرقة حليها، وما ادخرت من المال في الدهر الأطول لليوم الأسود ... إلخ.
وعند النائحة المعددة الكفء ما يزكي نار الأسى على كل هذا، ويستدر الدمع الغزير، فإذا لم يكن حاضرها شيء منه ارتجلته ارتجالا، حيث تصيح صاحبة الشأن صياحا متداركا، أو تبكي وتنشج حتى تسكن عاطفتها وترضى!
والآن، والآن فقط لقد تفطنت إلى أنني ظلمت صديقي الجليل القدر الدكتور طه حسين فيما لعلي قد عزوت إليه من قريب أو من بعيد، تجاهله قيام فن للحزن متين القواعد، ثابت الأصول، مفصل الفصول، فالدكتور طه «بك» أجل من أن يتجاهل شيئا ليعاز صاحبه في الحوار!
وأكبر الظن أن الدكتور على علمه الواسع بفن الحزن القديم، وعلمه الضيق بفن الحزن القائم في مصر إلى الآن، لم ير شيئا منهما قادرا على أن يؤدي مطالب العصر الحديث، وكذلك أسقطهما من الحساب؛ لأن العصر الحديث عصر الجماعات والشركات والقوميات لا عصر الفرديات التي لا تتجاوز أقطار الأشخاص، هو العصر الذي ينبغي أن تندب فيه المواقف العامة وتبكي المنافع القومية، وهذا حق لا ريب فيه وهذا هو الأشبه بتفكير أمثال الصديق العظيم.
بقي أن الدكتور مع هذا تراه يتهاون فن الحزن، ذاهبا إلى أنه يكفي أن ينظر المرء في الحياة المصرية، ثم يعود إلى نفسه ليفكر فيما رأى حتى يجد في هذا النظر وهذا التفكير مصادر حزن لا تنقضي وألم لا يزول.
لا يا سيدي الدكتور، فليس الأمر بهذا الموضع من اليسر اليسير فكلنا ينظر في الحياة المصرية، وكلنا يعود إلى نفسه فيفكر فيما رأى ومع هذا فلم يشق أحد منا حنجرته بصيحة، ولا صك له خدا، ولا تبادر له دمع غزير ولا رقيق!
إذا لم يبق لنا بد من قيام فن للحزن قوي محكم، عظيم الخطر، بليغ الأثر ما دامت المصالح العامة في مصر لا تستقيم قناتها إلا بثوران الأحزان وغليان الأشجان.
وإذا كان الفن القائم لا يواتي مطالب العصر ولا يحسن الترجمة عن حاجاته، فلنعالج تحويله في رفق أو في عنف حتى يستطيع أن يقضي الحاجة، ويبلغ الطلبة، وينيل الأرب، وذلك بإطلاق أصوات النياحة في الأسباب العامة، بدل إرسالها في الشئون الخاصة، ولنوع الندبة والتعديد في ثكل الولد، وهجر الزوج، واتخاذ الضرة، وسوء بخت البنت في زواجها، وشقوة الولد وضياع السبد واللبد ... إلخ.
ونصوغ الأناظيم في انحطاط مستوى التعليم، وتدهور الأخلاق، وتعطل الشبان من حملة عليا الشهادات، وإهمال الانتفاع بمساقط مياه الخزان والأعراض عن الجد في استغلال الثروة المعدنية، ومشكلة القطن، والغلاء المصطنع، وأزمة الزواج بين الشباب، وإيثار المحسوبيات على الكفايات، ولا بأس بفرض أنشودة للموظفين المنسيين في زوايا المصالح والدواوين ... إلخ. مما لو طرى الناظمون نسجه، ورققوا لفظه وجود الملحنون لحنه، وأجروه في نغم بائس حزين كالصبا والرمل مثلا، ثم أحسن النائحات أو النائحون ترتيله وتوقيعه لأحزن وأبكى، وأشجن وأشجى، وهيج الزفرة، واستدر العبرة!
وكذلك ترقى سريعا مرافق البلاد، وتزول عنها أسباب الضعف والفساد!
وأرجو ألا تكون شخصية اللجنة التي يعهد إليها بهذا الإصلاح العظيم أو جهة الاختصاص، مما يكف عن مباشرته أو يعوق تحقيقه.
ولعل من الخير في هذا الباب أن يعجل بإنشاء كرسي لفن الحزن الحديث في كلية الآداب.
الموسيقى المصرية
قديم وجديد
من بضعة أسابيع سمعت من الراديو حديثا لصديقي المحقق الأستاذ أحمد أمين، أذاعته علينا محطة لندن.
وقد تناول الأستاذ في هذا الحديث وفي حديث قبله قديم الأدب وجديده، وعرض في الأخير عرضا يسيرا للموسيقى، خلص فيه إلى أنها تحتاج إلى نبي جديد كما أصبح الشعر يحتاج إلى نبي جديد.
وإذا كان الأستاذ المحاضر لم يطل الكلام في الموسيقى، ولم يجره على جهة التفصيل فلغير الموسيقى كان مساق الحديث.
وأرجو أن يأذن لي أن أتبسط بعض التبسط في حديث الموسيقى، وأن أتولى ما أجمل بشيء من التفصيل.
الموسيقى في حاجة إلى نبي جديد، لو أن الأنبياء يبعثون لتقويم الأذواق وهدايتها الصراط المستقيم!
الموسيقى في أشد الحاجة إلى زعيم مصلح يهدي إلى الرشد، أو إلى قائد يفتح بالسيف ما استغلق على جهد الكلام!
في الحق لقد أضحت حالنا من هذه الناحية في أشد الحاجة إلى الفتح المبين.
ولست أذهب بك يا سيدي القارئ في التدليل إلى بعيد فلقد فتحت أخيرا إحدى كبريات الصحف في مصر بابا تنشر فيه آراء الناس في محطة الإذاعة المصرية، ولو قد اطلعت على هذه الآراء فيما تذيعه المحطة من ألوان الموسيقى وفنون الغناء، لتعاظمك الأمر وراعك وحير لبك وذهب بك منه العجب كل مذهب، وذلك بأن الكاتبين جميعا ساخطون متبرمون متأففون، وليس عجبا أن يتوافق جمهور الناس على السخط والتبرم، فإن من الأشياء ما لا يعجب جميع الناس، بل إن منها لما يعجب أحدا من الناس، بل إن مناط العجب هو أن نصف هؤلاء الساخطين المتبرمين، إنما يسلقون المحطة والقائمين عليها بأحد الأقلام؛ لأنها تردد على أسماعهم الغناء البالي القديم، ولا تصغي الوقت كله للمستحدث الجديد!
أما النصف الآخر فيسلق المحطة أيضا بأحد الأقلام ويرميها بكل عاب وذام؛ لأنها تصدع آذانهم وتفرق أذواقهم بأسماعهم هذا المستحدث الجديد ولا تتحرر وقت الغناء كله للعتيق القديم!
ولقد تفترق أذواق الناس ولقد تتغاير أحكامهم على الأشياء، وخاصة في هذه الفنون الجميلة، التي يقصد بها إلى التطريب والتلذيذ، لقد يقع ذلك وهو واقع في كل زمان ومكان، ولكن اختلاف الآراء واختلاف الأحكام على ما يتنغم به من فنون الموسيقى الآن، ليس له شبيه في أي زمان ولا في أي مكان!
ذلك بأن المجموع في كل أمة مهما اختلفت فيه أذواق الأفراد وافترقت مذاهبهم في ألوان الموسيقى، فإن هناك ذوقا عاما يجمع شملهم ويضم جمعهم، فهم إذا افترقوا أو اختلفت مذاهبهم، فاختلافهم إنما يكون في حدود هذا الذوق العام، ومن هنا نجد الاختلاف في هذا الباب يسيرا والافتراق رفيقا كان يفضل هذا كذا على كذا، ويستريح هذا إلى كذا أكثر مما يستريح إلى كذا، أما أن ما ينشز على سمع هذا مما يشيع الطرب في ذاك ويدخل عليه الأريحية وبالعكس كما هو الشأن فينا الآن، فهذا كما زعمت لك مما لم يقع له شبيه في أي زمان ولا في أي مكان!
وإن شئت بعد هذا أن تثبت كل شيء في موضعه، وتجري عليه حكمه الصحيح الصريح، فقل في غير تردد ولا خشية: إن الذوق الموسيقي العام قد فقد فقدا في هذه الأيام، فإذا أبيت إلا رفقا في الحكم فقل إن الذوق العام الآن في حال من الثورة والاضطراب ليس من اليسير أن ينتهي معها إلى قرار.
كان يغني البلد في أعقاب الجيل الماضي من أعلام المغنين المرحومين عبده الحمولي، ويوسف المنيلاوي، ومحمد عثمان، ومحمد الشنتوري، وعبد الحي حلمي، وسلامة حجازي، وغيرهم. وكان لكل من هؤء طريقته في الغناء وأسلوبه، ولكل منهم شيعته ومؤثروه على غيره، يلتمسون مجلس غنائه أنى كان ، ويطلبونه مهما جشمهم الأمر من الجهد والمشقة، ويرددون تنغيمه إذا خلوا إلى أنفسهم أو إذا خلا الصحاب من أهل المراح إلى الصحاب، ومع هذا لم يزعم أحد أن غناء غير من يؤثر ينشز على سمعه أو يخمش مزاجه، أو يفرق ذوقه، كما هو حادث الآن؛ بل لقد كان يسمع جميع الناس من جميع هؤلاء فيستريحون إلى غنائهم، وقد يذهب بهم الطرب كل مذهب، وذلك بأن اختلافهم إنما كان في حدود هذا الذوق العام فهو لا يعدو إيثار فن على فن، واستجادة مذهب أكثر من استجادة غيره، على أنه في كل حال مستملح مستجيد، كانت تلاحين الملحنين قارة مطمئنة تجري على قوانين مرسومة، وتجول في حدود معلمة مقسومة، وكانت الأذواق كذلك قارة مطمئنة لا حئول فيها ولا اضطراب، فلا يكاد غناء المغني المجيد يقرع السمع حتى تراه قد سال من فوره في النفس، ونفذ إلى مجامع العاطفة، فأشاع طربا وبعث أريحية أو حرك شجى وأثار شجنا.
وأرجو ألا تفهم من كلامي هذا أن الغناء في ذلك العهد كان جامدا لا يتحرك، واقفا لا يتقدم، عاتيا لا يلين لتلوين ولا تجديد، بل لقد كان مفتنا متلونا متجددا، ولكن في تلك الحدود التي رسمها الذوق العام، ولهذا كان التجديد يجري في لباقة ورفق، فلا ينشز على الأسماع، ولا تأذى به الأذواق، وناهيك بما صنع عبده الحمولي في هذا الباب، وما صنع جد كثير!
وكيفما كان الأمر، فلقد كان بين ذلك الغناء وبين الذوق المصري إلف وبينه وبين النفس ود، حتى لكأنه لاحق بالفطرة، موصول بالطبع!
الموسيقى الحديثه
والآن حق علينا أن نميل بالحديث إلى صفة الجديد، وكيف جاءنا هذا الجديد؟
لهذا الانقلاب العنيف في الموسيقى المصرية سببان:
أحدهما طبيعي، والآخر صناعي، أما الطبيعي فهو تلك الثورة التي زلزلت عندنا كل شيء، فلم تدع شيئا من العادات، والتقاليد، والأخلاق، وآداب السلوك، والأزياء، والفن والأدب، وغير ذلك من مظاهر حياتنا إلا ترجمته بقدر كبير، وجمهور الناس مهرول مغذ إلى تقليد الغربيين في كل جليل ودقيق ، فكان من الطبيعي أن يقلدوهم في موسيقاهم، كما يقلدونهم في غيرها من شئون الحياة.
أما السبب الصناعي، فقد انبعث في هذا البلد شاب موسيقي جمع إلى العلم بالفن رهافة الحس، ودقة الشعور، والقدرة القادرة على الابتكار والتجديد وأعني به المرحوم الشيخ سيد درويش.
كان المرحوم سيد درويش يلمح النبرة تقع في بعض التنغيم الأجنبي، شرقيا كان أو غربيا، فيدرك أنها مما لو سوي بعض التسوية لأمكن إدماجها في موسيقانا، ولكان لها حلاوة في الآذان وطرب للنفوس، وعلى ذلك أدخل على موسيقانا كثيرا من التناغيم الأجنبية وطبعها فيها، وسرعان ما تقبلتها الأذواق في غير قلق ولا نفور.
كذلك أراد - رحمة الله عليه - أن يترجم بالموسيقى عن بعض المحسوسات فتقدم، وكان علاجه لما عالج من هذا في غاية الرفق والتواضع، وكذلك قدر له فيما أراد النجاح، ويطوي الردى سيد درويش، ويطوف بالبلاد طائف ذلك الانقلاب العنيف، ويأبى الملحنون والمغنون إلا الموسيقى إفرنجية لا يشوبها شيء مما ألفت الآذان من قديم الزمان، وعلى ذلك راحوا يحاكون الموسيقى الغربية التي يسمعونها هنا وهناك، ولكن كيف يحاكونها ولا علم لأكثرهم الكثير بما تتكئ عليه هذه الموسيقى الإفرنجية من القواعد والأصول؟
يحاكونها بأن يبدءوا بصياح مثل صياحهم، ثم عدم الإذن للترانيم بأن تأخذ سمتها، بل المبادرة إلى ليها عن وجهها حتى تصك الأسماع صكا وتطير الأمزجة تطييرا، فإذا بلغت غاية الجهد من الاضطراب ذات اليمين وذات الشمال، وبين فوق وتحت، ووراء وقدام، وصلت بها صرخة تحكي ما يختم الموسيقى الغربية من الأذناب والأذيال، وكذلك تظن جمهرة ملحنينا ومغنينا أنهم يجيئوننا بموسيقى غربية لا يلحقها شك ولا ارتياب، وما شاء الله كان!
وبعد فأما تنكير النغم، وأما ليه عن وجهه، وأما الصراخ في أوله وفي آخره، فذلك مما لا يعنى على أحد؛ لأنه لا يحتاج إلى علم ولا صلة له بفن، ولا علاقة له بذوق، فإذا هو احتاج إلى شيء من فساد الذوق فذلك موفور والحمد لله!
ومن هنا كثر الملحنون في بلادنا كثرة أصبحت تجهد العدد ، فلا تكاد تسمع مغنيا حدثا أو مغنية ناشئة إلا قيل: إن هذه الأغنية من تلحينها أو من تلحينه، وكذلك رخص التلحين وأصبح ميسورا لكل من شاء!
وعلى هذا تفتحت آذان وكذلك استدرجت اسم الموسيقى الغربية أهواء، وأرى الغربيين إذ يكتب عليهم أن يسمعوها إلا أشد تأذيا بها منا نحن المصريين!
تلحين رخيص وموسيقى رخيصة وفن رخيص، أما التحزن والتفجع في هذه التلاحين، وأما التميع وشيوع التخنيث، فذلك ما نسأل الله السلامة منه للرجولة في هذه البلاد!
ولقد تقول للرجل من كبار الملحنين في ذلك، فيجيبك في خجل عظيم: وماذا نصنع، وهذه البضاعة هي الرائجة في سوق الغناء في هذه الأيام؟ وكذلك جعل هؤلاء الملحنون أنفسهم يتبارون في هذا التشويه، يجنون به عامدين على الفن وعلى الأذواق معا ما دام القوت يأتي من هذه السبيل!
ولكي تدرك مبلغ رخص هذه التلاحين وهوانها، لاحظ أنك لا ترى شيئا منها يعيش حتى إلى اليوم الثاني، وكيف لما ولد ميتا أن يعيش؟
أما الذين لا يزال هواهم إلى القديم، فهم في برم دائم وملل لا يريم، فإن ما يسمعونه اليوم هو الذي سمعوه أمس، وسمعوه من سنة خلت ومن عشر سنين مضت، ومن شيوخهم من سمعه من ثلاثين وأربعين من السنين يتردد هذا الدهر الأطول على أسماعهم بنصه وفصه، ولفظه وتلحينه، وكل نبرة وتنغيمة فيه، وكل ذرة للحلق على موقف من مواقفه، وكل تركيشة تختم بها كل فاصلة من فواصله، اللهم إلا ما يدخله عليه المغنون من الخطأ والتشويه!
ليس هكذا أيها السادة يكون إحياء القديم، وليس بهذا التكرير الممل إلى حد الإزعاج ترضون هوى أصحاب القديم إلى القديم.
المراد بالقديم يا أيتها المطابع أو الأسطوانات هو الفن المصري القديم، الفن السلس السهل الذي يتفجر رجولة ويسيل طربا، والذي يتحدث إلى كبد المصري في غير عسر ولا حاجة إلى ترجمان، فيحرك فيه من ألوان العواطف ما شاء الله أن يتحرك، ويثير فيه من الأريحية ما شاء الله أن يثور.
هذا الفن الذي لا يفتأ يتطلع إلى التجديد الرفيق، لا ينشز على الآذان ولا تأذى به الأذواق، وناهيكم بصنعة عبده وعثمان والمسلوب وأضرابهم - عليهم رحمة الله أجمعين.
وبعد، فالحق إننا الآن في حال من البلبلة واضطراب الأذواق هي في أشد الحاجة إلى مبعوث للموسيقى جديد، فليت شعري هل يطول بعثته على الزمان؟
بلاغة التلحين
كنا وما برحنا نشكو من هذه التطرية التي لحقت الغناء المصري في السنين الأخيرة، بل لا غرو علي إذا قلت عن شيوع التخنيث في هذا الغناء، لا نستثني على ذلك نظم المقطوعات الغنائية في بعض الأحيان، ولا تلحينها في كثير من الأحيان، ولا أساليب أدائها في أكثر الأحيان.
تسمع المغني وكأنك تستمع إلى أنين عليل أو جريح أو حشرجة محتضر إذا استثنيت الصرخة الإفرنجية الأخيرة التي لا بد من أن تختم بها الأصوات في هذه الأيام، ولعلها الصرخة الأخيرة التي تشبه من المحتضر إيماضته الخمود!
ذل، وتوجع، وتميع، وتسايل، وتزايل، واسترخاء لا يليق بامرأة فضلا عن صدوره من الرجال!
ومن العجب العجيب أنك لا تجد أثرا مطلقا لهذا التخنيث في غناء مغنياتنا، وأعني مغنيات الطبقة الأولى - على وجه خاص - فإن غناءهن تشيع فيه القوة والرجولة، اللهم إلا ما يستكرهن عليه بعض السادة الملحنين! أما التميع والتزايل، فأكثر ما تجده الآن في أغاني الرجال، ومن أعجب العجب أن يكون صوت المغني بطبيعته قويا شديد الأسر، فيأبى هو إلا أن يتكلف تطريته وإلانته، يحبس جوهره في الحلق، وصوغ صوت له من سقف الحنك، ولا يذهب عنك أن الأصوات مما يمكن أن يصنع ويصاغ، وكذلك يتهيأ للمغني أن يلين ويسترخي ويسيل، وإنني أؤكد لك يا سيدي القارئ أن أكثر من تسمع الآن من هذا الضرب من المغنين، إنما يتنغمون بأصوات مستعارة لا بالأصوات الطبيعية التي تجري في الحلوق!
وأرجوك، ألا تعجل بلوم محطة الإذاعة ولا بلوم هؤلاء المغنين، فهم إنما يواتون نزوة تعتلج في الصدور في هذه السنين مع الأسف الشديد ولست أكتمك أنني من بضعة أسابيع سمعت نشيدا حماسيا جعل رئيس الجماعة يتكسر في إنشاده، ويتزايل في إلقائه، ويلين من صوته، ما أسعدته القدرة على التليين حتى لقد ظننت في أول الأمر أن هذا النشيد «الحماسي» إنما يغنى لحث الجند على الفرار! لا لحثهم على الإقدام لولا ما فطنت إليه أخيرا من أنه لا يصلح لهذا أيضا؛ لأنه يرخي الجوانب ويخذل الشوق، وهيهات لمنخذل الساق الفرار! وكل هذا إنما يتكلفه المغني مطاوعة لذلك الطائف الكريم.
وبعد، فإذا كان هذا سائغا فيما خلا من الزمن وهو غير سائغ في أمة من الأمم، في أي زمن من الأزمان، فإنه على كل حال غير سائغ في هذا الوقت الذي نستنفر فيه الشباب لحمل السلاح.
ليس سائغا البتة في هذا الوقت الذي ندعو فيه الأمة شيبها وشبابها، رجالها ونساءها وأطفالها إلى الحياة العسكرية التي لا تعرف ترفا ولا لينا، حتى تستطيع أن تلقي الشدائد مهما يكن لونها، بالصبر والقوة والعزم الحديد.
وأخيرا، يظهر أن أولياء الغناء في مصر تفطنوا إلى أن هذا، ولكن في الأناشيد الحماسية فحسب أمر سخيف مليخ، فماذا صنعوا يا رعاك الله؛ ليخرجوا أناشيد ترج النفوس رجا، وتستحمس الشباب أيما استحماس، ولا تذر في البلاد كلها فتى ولا شابا، ولا كهلا ولا شيخا إلا قذفت به إلى الميدان؛ ليروي غلته إلى الضرب والطعان ما يبالي أن يقع من الموت الزؤام أو أين يقع من الموت الزؤام!
أتدري ماذا صنعوا في سبيل إدراك هذا المطلب الجسام؟ لقد شمروا عن سواعدهم وشدوا متونهم، وقووا عزائمهم، ووحدوا أنيابهم أرأيت الليث وقد تهيأ للوثاب، أو «آخر نبق لينباع» كما يقول أئمة اللغويين، وأطلقوا الحناجر بأصوات ترعب سكان المريخ، لو كان في المريخ سكان!
وليت لي حظا من البلاغة يهيئ لي أن أصف لك بعض هذه الأناشيد الحماسية! ولكني عاجز أبلغ العجز عن أن أفعل، وكل ما أستطيع أن أصورها به لنفسي أن أذكر أيام كنا أطفالا، وكانت العجائز يسلين عنا بفنون الأحاديث «الحواديت»، حتى إذا انتهين إلى «أم الغولة» ونهوضها لافتراس العابر المسكين في جوف الفلاة، جوفن أصواتهن أشد التجويف وفخمن لفظهن أعظم التفخيم، وقلن يحاكين زمزمتها ساعة قرمها وافتراسها: «هم أكلك منين؟»
وأرجو أن أكون بهذه الصورة قد أجدت التعبير عن أكثر هذه الأناشيد.
وصدقوني يا سادتي القراء إذا قلت لكم: إن بعض هذه الأناشيد قد ألقى ذات يوم وأنا جالس، وولدي الصغير بين يدي وهو الآن في طريقه إلى الثانية عشرة، حتى إذا فرغ المنشدون من نشيدهم الحماسي أقبل علي وقال: «يعني يا بابا متحمثناث» وفي سينه وشينه لثغة، فأجبته من فوري: «الحق علينا يا ابني اللي متحمسناش، يا لله بنا نتوكل على الله ونتحمس!»
ما هذا أيها الإخوان الملحنون، وما هذا أيها الإخوان المنشدون؟ ولله أبو الشاعر يقول:
أوردها سعد وسعد مشتمل
ما هكذا تورد يا سعد الإبل
وما هكذا يكون الاستحماس، ولا استنفار الشباب للقتال، بل إنه لا شبه بما كان يدخل به الذعر على قلوب الأطفال في سالف الأجيال.
وبعد، فليست البلاغة مقصورة على فن الكلام، بل إن لكل فن جميل بلاغة، فللتصوير بلاغة، وللموسيقى كذلك بلاغة، وهكذا، فإذا خلا الفن من هذه البلاغة، خرج سميحا مؤذيا، أو سخيفا باردا، كما هو الشأن في الكلام الفسل الركيك، الضعيف التأليف سواء بسواء.
وأنت بعد، خبير بأن البلاغة قوامها الذوق ورعاية المقام، وهنا قد يقول قائل: إذا جاز لك أن تنكر من الملحنين تلك الأناشيد الحماسية التي يشيع فيها اللين والاسترخاء، فكيف لك بأفكار هذه الأناشيد التي وصفتها بالقوة فيما تقدم من الكلام؟
والواقع أن الأناشيد الحماسية كما تحتاج في لفظها إلى الجزالة، تحتاج في نظمها إلى المتانة، وتحتاج أخيرا في تلحينها إلى القوة نعم، تحتاج إلى القوة القوية فذلك هو الأشبه بأيام البأس والدعوة إلى ملاقاة الأهوال، ولكن لعله ذهب عن ذلك القائل: إن العنف لم يكن على الدوام دليلا على الشدة، ولا كان الصراخ عنوانا لقوة الأقوياء! بل لقد يدل هذا وهذا على الضعف والخور في كثير من الأحيان، وإن من يظن أن المعنى الشديد لا يؤدى إلا باللفظ الصاخب العنيف، وإن من يحسب أن الموسيقى الحماسية لا تصور إلا في التلحين الصاخب العنيف، لهو واقع في خطأ عظيم، ولأضرب لناشئة المتأدبين في هذا الباب مثلا من أبلغ الأمثال: كلمة هادئة رقيقة وادعة، قالها رجل هادئ رقيق وادع، ولعله لم يبرعه في هذه الخلال أحد بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وإذا صح أن هذا الرجل كان ممن شك السل صدورهم، فقدر مبلغ حظ هذه الكلمة من الظرف والرقة واللين، فليس أرق ولا ألين ولا أخف على الأذن من حديث مسلول ومع هذا لو تفطنت فإنك واجد هذه الكلمة من الترجمة عن القوة والسطوة والسلطان ما لا يكاد يدانيها في ذلك الكلام.
وجه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يزيد بن أبي سفيان على جيش إلى الشام، وخرج يشيعه راحلا، فتعاظم الأمر يزيد فقال: يا أمير المؤمنين إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال له الصديق: ما أنا براكب وما أنت بنازل! ثم أنشأ يقول: إن هي إلا خطى أحتسبها لله وفي الله ... إلخ.
لعلك استشعرت ما وراء هذه الكلمة الرقيقة الوادعة من سطوة وسلطان، فإذا تعاظمك - مع هذا - أنها خلت حتى من صيغة الأمر والنهي، فاعلم أن من أسباب قوتها وبأسها إذا لم يكن السبب الوحيد في قوتها وبأسها هو خلوها من ذاك، وكذلك يخبر قائده إخبارا بأن إرادته قد مضت بما سيكون، فليس له بتغيير الأمر يدان!
ونعود إلى القول بأن التدليل على القوة لا يحتاج البتة إلى عنف، ولا إلى صراخ واصطخاب، فمن لنا بذلك الملحن البليغ الذي يصوغ هذه الأناشيد في قوة تنزه عن مثل هذا الصراخ الحقيق بتخويف الصبيان؟
من لنا بذلك الملحن البليغ الذي يصوغ لنا هذه الأناشيد في لحن قوي يشيع فيه الطرب وأقول: الطرب؛ لأنه شرط أساسي في مثل هذه الأناشيد، فالطرب مما يثير الأريحية ويدعو إلى الإقدام.
ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن القوة والطرب كانا إلى وقت قريب، هما الطابع المصري لما يصاغ من التلاحين في هذه البلاد، كشأن التلاحين الشامية والتركية جميعا!
وأخيرا فلست أشك في وجود الملحنين القادرين على هذا، ولكن يظهر أنه قد جرفهم هم الآخرين هذا التيار مع الأسف العظيم.
في السياحة
أذاع حضرة «صاحب العزة أحمد صديق بك» مدير مصلحة السياحة في مؤخرات الشهر الماضي حديثا قيما، رمى فيه إلى حض المصريين على اتخاذ المصايف المصرية، وإيثار بلادهم بالأموال الجليلة التي ينفقونها في البلاد الأجنبية في كل عام، وقد قدر هذه الأموال بأربعة ملايين من الجنيهات!
وقد عرض في حديثه لمنشأ هذه البدعة بدعة خروج المصريين إلى البلاد الأجنبية لسلخ ما يتهيأ لكل منهم سلخه من أيام الصيف، وعلى وجه الخصوص في أوروبا، ورد هذه البدعة التي استحالت عادة إلى أن مصر لما كانت داخلة في ملك الدولة العثمانية، كان من المتعين على الحكام وأصحاب الأخطار في البلاد أن ينتجعوا الفينة بعد الفينة مثوى الخلافة للأغراض المختلفة، وإذا كان جو القسطنطينية لا يوائمهم في الشتاء، فكان من المعقول أن يحرروا فصل الصيف لهذه الهجرة، فجو الآستانة فيه جميل وهواؤها عليل، وجرى من دون هؤلاء على سنة هؤلاء بحكم المحاكاة والتقليد، ثم تحولت دفة المهاجرين شيئا فشيئا إلى بلاد الغرب، حتى بلغت عدتهم عشرات الألوف في كل عام، وأصبح ما ينفقونه يعد بالملايين، وما أحوج بلادنا إلى هذه الأموال، وخاصة في هذه السنين!
ولقد حمل الأستاذ صديق بك حملة صادقة على أولئك الذين يهجرون بلادهم في مطلع كل صيف، شادين الرحال إلى أوروبا في غير حاجة تدعوهم إلى ذلك من طلب علم أو استقصاء بحث، أو تحريك تجارة، أو إنماء صناعة، أو غير ذلك مما يخرج الناس من ديارهم، ويضرب بهم في غيرها من بلاد الله.
وإنني أؤيد حضرته بكل ما أملك من يقين، وأؤكد أننا إذا استثنينا طلاب العلوم والفنون وبعض الأساتذة والأطباء، لا نصيب أكثر من واحد في كل مائة من هؤلاء الذين يطلبون أوروبا في كل عام، وهذا على أسخى تقدير.
أقول: لا نصيب أكثر من واحد في المائة يضطره أي أمر من أمور الدنيا أو الآخرة إلى تلك البدعة التي تستهلك هذه الأموال في كل عام.
أربعون ألف مصري يطلب أكثرهم أوروبا في صيف كل عام، إذن فتعالوا نتحاسب ولنكن في حسابنا حق صرحاء وحق صادقين.
كم مصريا في العام يمضون إلى أوروبا ليستقصوا بحثا يفتح في العلم أو الفن فتحا، وينقض بعض القواعد المسلمة فيهما نقضا، ويطيرهم العلماء في شرق الأرض وغربها كل مطير! العفو!
ثم كم مصريا من هؤلاء الأربعين ألفا يطلبون أوروبا ليفتحوا بين يدي التجارة المصرية أسواق الغرب، فلا تلبث حتى تغزوها غزوا، وتدفع ما سواها من التجارات دفعا؟ العفو؟
ثم كم مصريا بين هؤلاء الأربعين ألفا من يشخص إلى الغرب لينقل عنه إلى بلاده أدق الصناعات وأفخمها، بحيث لا تستغني بصنع أيديها عما يرد إليها من الغرب والشرق فحسب، بل لتغمر بهذه الصناعة الأسواق في غيرها من البلدان؟ العفو أيضا؟
ثم كم مصريا في أولئك الأربعين ألفا من تعاصت علته على جمهرة الأطباء في مصر وطنيين وأجانب، حتى حلفت الطبيعة بكل مؤثمة من الأيمان، أن هذه العلة لا برد لها إلا في فيشي أو إكس ليبان؟
حقا، لقد نجد بين هذه الجموع الكثيفة التي تتدفق على أوروبا في كل عام من تبعثه تجارته، ومن تستدرجه الرغبة إلى تحسين صناعته، ومن قد أثقلته العلة حتى تحير فيها طب الأطباء في هذه البلاد، فلم يجدوا بدا من الإشارة على العليل بالشخوص إلى الغرب، حيث الطبيب الاختصاصي العالمي أو حيث الينبوع الذي عقد الشفاء بمائه ونحو ذلك، ولكن قل لي بعيشك: كم عدة جميع هؤلاء وأولئك من النازحين إلى الغرب في كل عام! عشرة! عشرون! ثلاثون! أربعون! أي: بحساب واحد في الألف لا واحد في المائة، على ما قدرنا أسخياء في بعض هذا المقال!
أستغفر الله! لقد فاتني أن أقدم السبب الرئيسي لهجرة هذا القدر الضخم من المصريين إلى الغرب في كل عام، وهذا السبب تطالعنا به الصحف السيارة في كل عام، وهل يقع لك عدد من جريدة في مصر طوال أشهر الصيف إلا قرأت فيه: «يبحر «فلان» إلى أوروبا تبديلا للهواء، أو ترويحا للنفس من عناء الأعمال»، أو نحو ذلك مما يدخل في باب الترفيه والاستجمام!
وليت شعري هل تستحيل بلادنا في الصيف فرنا تشوي فيه الوجوه شيا، وتفري الجنوب فريا؟ أليس في بلادنا الطويلة جدا والتي يسلكها النيل من أولها لآخرها، والتي تطل على بحرين لا بحر واحد - أليس في هذه البلاد كلها متنفس في الصيف، ولا متفرج من وقدة حره، ومنتبذ عن أذاه وضره؟ وأخيرا، أليس مصايفنا من وسائل التسلية واللهو ما يريح النفس، ويهيئ الاستجمام! بلى! إن فيها هذا كله وفيها غيره من مطالب رواد الغرب في كل عام!
إذن فما سر هذا التجني والبطر الجريء على البلاد وعلى مصايف البلاد؟
ودعني أزعم لك أيها القاعد أن الكثرة الكثيرة من هؤلاء المهاجرين لا يطيب لهم العيش، إلا في هذه الرحلات الغربية كما تتصور أنت، وكما يصورون لك، بل إني لأتقدم غير متزيد ولا غال، فأزعم لك أن كثيرا منهم لا يجدون فيها إلا ضيقا ورهقا، فإن في الغربة أولا لضيقا وإن في تغيير أسباب المعيشة فجاءة لعنتا ورهقا، وناهيك بازدراء أطعمة لم تألفها، والاضطراب في بيئات لم تعرفها، والتزام عادات لا عهد لك بها، وأخذك النفس بأمور لم يسبق لك علاجها ولا التمرين فيها، وكيف بالمرء مع هذا إذا كان لا يحذق لغة القوم الذين يعيش فيهم ويضطرب بينهم؟
وهذا إلى الهم بترك الوطن والبعد عن الأهل والولد وطول شغل النفس بإهمال العمل، إذا كان المهاجر من أصحاب العمل، وهذا وهذا إلى ما يجشم هذه الهجرة من ألوان النفقات، وما تستخرج من جليل الأموال التي قد يستعان عليها بالاستدانة، أو الانطواء في سبيلها على الضيق والعسر في سائر شهور العام!
ولقد يسقط الكثير من هؤلاء إلى باريس، فباريس قبلة الكثرة من هؤلاء المهاجرين، فيثوي في أحد فنادقها لا يغادره إلا إلى مقهى، أو ملعب من الملاعب أو مباءة من مباءات العبث، ويظل مضطربه بين هذه المواطن الثلاثة أو الأربعة طول مدة الإقامة هناك؛ حتى يأذن الله في عودته ولقد يوالي الهجرة إلى باريس عشرين عاما وهذا شأنه، ما يرى من باريس غير ما رأى، ولا يعرف عنها أكثر مما عرف. الفندق، والمقهى، والملعب، وما عسى أن تنزلق إليه رجله من مباءات العبث، وليس وراء عبادان بلد!
وبعد، فإذا طلبت حقيقة السبب في هجرة كثرة هؤلاء المهاجرين إلى الغرب على ما فيها من كثرة النفقة، وعظم المشقة، واحتمال ما وصفت لك من فنون الضيق والعنت، فهو لا يعدو الرغبة في التكاثر والظهور بالأبهة والفخفخة وتقليد المترفين من أصحاب الثراء، فالشخوص إلى أوروبا أصبح عند هؤلاء بمثابة الرتب وألقاب الشرف، ولولا بقية من حياء لطبع هؤلاء على رقاع الزيارة:
فلان الفلاني
سافر إلى أوروبا
على أن في ترديد اسم أوروبا كلما جلسوا إلى الناس، ولما سافرت إلى أوروبا وسنة ما كنا في أوروبا، وبينما كنا في باريس ... إلخ. مما تعي به الطاقة، ما يغني في التعريف عن ألف بطاقة وبطاقة!
على أن مما نحمد الله عليه أنه على تضاعف عدد الذين يخرجون عن البلاد وازدياد عدتهم سنة بعد سنة، فقد قل ولو في النسبة عدد الحكائين منهم.
وللحكائين من هؤلاء في الجيل الماضي عما رأوا في رحلاتهم إلى الآستانة ولبنان حديث يروق ويشوق، ولعلنا نطالع القراء بنماذج منه فهو حقيق بأن يسلي عنهم بعض التسلية، ويرفه عليهم في وقدة الصيف بعض الترفيه.
وإلى الملتقى إن شاء الله.
الحكاءون (1)
رجوت في غاية مقال «في السياحة» أن ألم بحديث الحكائين ممن كانوا يطلبون البلاد الأجنبية إذا كان الصيف، ولعلك تذكر أنني زعمت في ذلك المقال أن غريزة المحاكاة والتقليد كان لهما في تلك البدعة الأثر البعيد.
كان الكبراء من رجال الحكم ومن على شاكلتهم يشدون الرحال إلى الآستانة في مطالع الصيف وعلى رأسهم ولي الأمر نفسه، وجعلت العدوى تسري حتى أصابت أهل الطبقة الوسطى فمن دونهم، فمن عز عليه السفر إلى الآستانة اكتفى بالشخوص إلى الشام، وكانت كلمة الشام تطلق في مصر على ما ندعوه الآن سوريا، ولبنان، وفلسطين ... إلخ.
وكيفما كانت الحال، فإن السائح إذا عاد إلى مصر جلس في داره أياما للهناء، وربما سبق أهله فزينوا باطن الدار وظاهرها فرحا بسلامة القدوم، وترى الناس يقبلون عليه أفواجا يبدون له فرحهم بعودته سالما، وغبطتهم له بظهر الغيب على ما رأى وما شهد، ولا يلبثهم هو حتى يسألوه عن شيء من ذلك، بل إنه ليعاجلهم بالحديث الطويل، كلما أقبل فوج من الناس أعاد الحديث وكرره، وهكذا حتى تنقضي أيام الهناء، إذا يخرج للقاء الناس فلا يضمه بهم مجلس، بلى لا يكاد يلوح له اثنان يتحاوران في شأن لهما حتى يفسح لنفسه بينهما مجلسا، ثم طفق يتحدث فيما رأى في رحلته وما شهد، وما أكل وما شرب، ولقد تكون رحلته من يوم تحمله إلى يوم مهبطه مصر قد استهلكت ثلاثين يوما فقط، ولكنه مستهلك في الحديث عنها ثلاثين عاما!
ولقد ضاق بهذا جماعة من أهل الأدب والظرف وبرموا به برما شديدا، وكان على رأسهم المرحومان السيد محمد المويلحي «بك»، والسيد محمد البابلي «بك»، وغيرهما ممن لا يزالون في الحياة وصل الله في أعمارهم، وأسبغ عليهم العافية، فقعد والجماعة الحكائين كل مرصد، وكلما تحركت في مجالسهم شفتا حكاء، راحوا يوبخونه ويتلقونه بالنكتة الكاوية من جميع أقطاره حتى يعصروه عصرا، وما زالوا بجمهرة الحكائين كذلك حتى أزعجوهم عن هذه الخلة، وعقدوا ألسنتهم عن الخوض في هذا الحديث السمج المعاد! فالفضل في كف هذا البلاء عن المجالس لهم، جزاهم الله خير الجزاء!
والعجيب أن الحكاء من هؤلاء سواء تحدث عن اصطنبول أو الشام فإنه قل أن يلم في حديثه الطويل العريض بالطبيعة، وما آثرت تلك البلاد من فتنة وجمال!
وقبل كل شء ينبغي أن نفرق بين حكائي الشام وحكائي اصطنبول، فالحديث عن كل منهما مختلف عن الآخر أشد الاختلاف، وسترى هذا من عرض الكلام.
وبعد، فقد لا يكون من أخلاق الحكاء الكذب، وقد لا يكون من خلاله التزيد، فإذا آنست من حديثه شيئا من التزيد أو العلو الذي ينبو على كل تقدير، فاعذره فما كان الرجل ليضرب في الأرض، ولا ليعاني من ألوان المشقات ما يعاني، ولا ليبذل في وجوه النفقات ما يبذل ولا ليحتمل من آلام الغربة والغيبة عن الأهل والولد ما يحتمل، كل هذا ليقول لك: إنه مشى على أرض كالأرض التي تمشي عليها، أو رأى السماء كالسماء التي تنظر كل يوم إليها، أو أكل عنبا كالذي يأكله، أو يشرب ماء كالماء الذي تشربه ... إلخ.
اللهم إن هذا الرحالة الجواد بالمال والنفس إذا دعت الحال في سبيل الترف وتلذيذ النفس بأسباب الرفاهية؛ ليرى نفسه ملزما بأن يأتيك بالجديد، ويطالعك بالطريف، بل مما يذهلك ويدخل عليك الدهش والعجب.
ولنبدأ بحديث رواد الشام، وما أصابوا في بلاد الشام: أما العنب فالعنبة لا تقل في حجمها عن بلحة الزغلول، ولهذا ترى القطف منه أكبر وأضخم من عذق النخل، فإذا أنت قشرتها وعرضتها للهواء استحالت قمعا من السكر لا يميز بينهما إلا البذر، فإذا لم يكن ثم بذر فالتمييز ضرب من المحال!
وهناك أنهار وجداول، ماؤها أحلى من العسل وأبرد من الثلج إلى آخر ما انتهى إلينا من صفة الكوثر في الجنة، وهناك التفاح وما أدراك بالتفاح؟ لقد تلقي بالتفاحة في النهر أو الجدول، وسرعان ما تتناولها مقشرة وقد شطرها لك الماء أربعة شطور، فإذا قذفتها في فمك استحالت شرابا ولكنه زلال، وخمرا ولكنه حلال!
وأما الخوخ، فلا يقل في الحكم عن ثمر الجوز الهندي، وهل تراك تحرك فكا لتمضغه مضغا؟ بل إنك لتترشفه ترشفا وتعب من عسله عبا! وأما البطيخ فمما تنوء واحدته بالعبقريين الشداد!
وأما المشمش، وأما التين، وأما الكمثرى، وأما وأما مما تخرج الأرض وما تعالج الأيدي من ألوان الفطائر والحلوى، فعد ذلك مما يتجاوز الجهد ولا يتسع له نطاق الكلام.
ولقد زعمت لك في بعض هذا المقال أن الحكاء من هؤلاء قل أن يلم في حديثه الطويل العريض بالطبيعة، والآن ذكرت، وأستغفر الله مما عراني من النسيان، فإنهم يعرضون للطبيعة وفضل الطبيعة، فإن أحدهم ليصف لك ما كان يصيب في وجبته من لحم الضأن والطير والسمك والخضر والحلوى والنقل والفاكهة ... إلخ. حتى ليخيل إليك أنه قام وحده بالتهام مطعم كامل، أو أنه طهي له سوق خضار تزاد عليه صواني الكنافة والبسبوسة والهريسة، وما شئت أو لم تشأ من الفطائر والحلوى، وإياك أن تنسى صينية «الكبة الشامي» التي تقرب إليك في صدر الطعام!
وبعد أن يعرض على سمعك لا على عينك ولا على شفتك هذه القوائم أو هذه «المونيهات»
menus
تراه يحلف لك بالمؤثمات من الإيمان، أنه لا يكاد يمضي نصف ساعة على كل هذا الذي خضم وقضم، وافترس والتهم حتى يحس إلحاح الجوع، بل حتى يحس أن معدته تتنزى في جوفه تنزيا بعد أن اعتصرها شدة التحلب على الطعام!
ولعمري، هل كان هذا كله إلا بفضل جودة الهواء؟ أعود فأستغفر الله! فلقد كان هؤلاء الحكاءون يذكرون الطبيعة؛ بل لقد كانوا يشيدون بفضل الطبيعة، ولكن في العون على سرعة هضم الطعام! يا سبحان الله! وهل ثمة شيء وراء الطعام؟
وبعد، فلقد خرج لنا مما مضى من القول أولا: أن بدعة قضاء جمهرة المصريين الصيف أو فترة من الصيف، إنما كان منجمها شهوة المحاكاة والتقليد، اللذين ما برحا شائعين في خلالنا مع الأسف الشديد مهما عادا بالضر العظيم، وثانيا: شدة الرغبة في الأطراف والأغراب بالتزيد والإفراط في المبالغات إظهارا للاستئثار دون القاعدين، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب إنسان! وثالثا: إفراد الطعام وكل ما يتصل بشهوة البطن، واختصاصها بالوصف بين كل ما يرى المرء وما يصيب من السياحة في بلاد الشام، ولو قد جعلوا شطرا من حديثهم لوصف ما حبا الله تلك البلاد من سحر وفتنة، أو لما وثقوا من حبال المودة بيننا وبين جيرتنا الكرام، أو لذكر ما يلقى القوم من عنت ورهق وأذى تحت الحكم التركي في تلك الأيام، لما كان لحديث الحكائين شيء من تلك الفسولة والإبرام!
ولقد رأيت أن حديث الحكائين من رواد الشام قد استغرق المساحة المقسومة للمقال، فلنرجئ حديث رواد اصطنبول إلى وقت آخر، أرجو أن يكون قريبا إن شاء الله.
الحكاءون (2)
اصطمبول (1)
وترى أنني خالفت الكاتبين إلى رسمها بالصاد لا بالسين، وذلك لأجاري منطق الناس كافة، لثقل النطق بالطاء بعد السين الساكنة، ولقد يكتبونها في بعض الأحيان «اسلامبول»، فإذا نسبوا إليها - في الكتابة لا في النطق - كتبوا «الإسلامبولي» على أنهم إذا تكلموا قالوا: «رأيت سي محمد اصطمبولي»، «وسافر سي حسين اصطمبللي» ... إلخ.
ومن أسماء هذا البلد القصطنطينية، والآستانة، وفروق - وهذه لا أعرفها إلا من شعر شوقي «بك» عليه رحمة الله - ودار السعادة على ألسن الترك و«در سعادت» على ألسن الترك والمتتركين، وحقيق بمثوى الخلافة الإسلامية أن يكون كل هذه الأسماء، ولا تنس مثوى الخلافة الإسلامية في عهد العباسيين، فلقد كان من أسمائها: بغداد، بغداذ، بغذاد، بغدان، مدينة المنصور، مدينة السلام ... إلخ. ولقد قال المتقدمون: إن كثرة الأسماء دليل على شرف المسمى.
وبعد فلقد علمت أن كثيرا من المصريين كانوا يحجون في مطالع الصيف من كل عام إلى دار الخلافة، ثم يعودون إذا عادوا، فيحكون شأن رصفائهم من رواد بلاد الشام.
على أن الحديث - كما قلت لك في المقال السابق - مختلف بين الفريقين جد الاختلاف، فإنك قل أن تسمع من رواد اصطمبول حديث «البقلاوة» أو «البلنج ضلمة» أو «الأمام يبلدي»، وأرجو أن تفخم اللام في هذه بكل ما تستطيع من التفخيم.
إذن لم تكن جمهرة أحاديث هؤلاء مما تتحلب له الشفاء، ويتنزى على ذكره عصير المعد، بل لقد كان حديث «حكائيهم» في السياسة العليا، وفي شوكة السلطان، أو الخليفة، أو «الياديشاه» وما له من قصور تزخر بالعين الحور، وما تخرج يلدز للمقربين من موائد تعد في كل يوم بالآلاف، تجمع كل واحدة منها عشرات الصحاف ... إلخ.
أما جنود السلطان وفيالقه وجيوشه وكتائبه، فمما «لو رمي بواحدة منها مناكث الأرض لم تثبت على قدم!»
وناهيك بما أصاب هؤلاء الرواد من متع دونها ما وصف، نعيم أهل الجنة، وناهيك بما وقفوا عليه من أسرار السياسة، سياسة الباب العالي التي سيدين لها العالم، وتحشر بين يديها دول الأرض في قريب من الزمان!
وقبل أن أعرض عليك نماذج من أحاديث أولئك الحكائين، أرى لزاما أن أقرر أن عيش الحر في تلك البلاد في عهد السلطان عبد الحميد لم يكن إليه سبيل بحال من الأحوال، ويحسب المرء أن يرفع بصره إلى قصر من القصور السلطانية، أو يحرك لسانه بكلمة واحدة في السياسة أو يذكر الجيش ولو بالخير، أو ينطق باسم عبد الحميد يريد به أي إنسان كان يحسبه شيء من هذا ونحوه لتخطفه «الخفية»
1
خطف العقبان، وسرعان ما تلقي به في مطق
2
يظل يتخلج في ظلامه الأيام الطوال، حتى يأذن الله بطلعة المستنطق
3
فإذا قضى أياما أخر بين السين والجيم وقف المسكين على مفترك الحظوظ، فإما إطلاق وهذا هو الفوز الأكبر، وإما أمر بترك البلاد إذا لم يكن من أهلها، وهذا هو الفوز نمرة 2، وإما ترك له في السجن ونسيان، حتى يأذن الله بالفرج بعد عام أو أعوام، وإما نفي في بعض قواصي الولايات، وإما إلقاء في البسفور حيث يفرح له في بطون الحيتان!
والعجب أن عثمانيا لم تطل خلافته كما طالت خلافة عبد الحميد، والأعجب أن استبدادا وعسفا وتخريبا لم يقس في تلك المملكة كما قسا الاستبداد والعسف والتخريب في عهد عبد الحميد، ولم يخرج عنها من ولاياتها ولم يقتطع من أملاكه كما خرج واقتطع في عهد عبد الحميد، وأعجب الأعجب بعد هذا كله أن جمهرة المصريين لم يحبوا أحدا كما أحبوا عبد الحميد، ولم يدينوا بالولاء الحاد للإنسان كما دانوا لعبد الحميد، ولولا بقية تمسكهم من دين لعبدوه مع الله أو لعبدوه من دون الله، والعياذ بالله، وأستغفر الله العظيم!
وذلك الحب المتمكن من النفوس، والمتغلغل في القلوب يرجع إلى أسباب لا محل لبسطها في هذا المقال، وكيفما كان الأمر فإن السلطان عبد الحميد لقد بلغ من نفوس المصريين على الخصوص موضع التقديس والتنزيه، حتى إذا لاح في خاطر المرء لائح من الأفكار لبعض حكمه وتصريفه، أسرع فرده واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم!
ولم يكن أعوان السلطان على إدارة الشئون وتصريف الأمور هم الوكلاء - الوزراء - ولا من دونهم ممن يشغلون عليا المناصب في الدولة، بل لقد كان الرأي قسمة بين السيد أبي الهدى الصيادي - من مشايخ الطرق الصوفية - والشيخ ظافر «شرحه» وعزت «باشا» العابد، ولا أدري ماذا كان منصبه، ولا تنس نفوذ الباش مصاحب - الباش أغا - أو كبير الخصيان في قصر السلطان، أما آخر من يتحدث عن أي أمر من الأمور، أو يرجع إلى رأيه في شأن من الشئون فهو صاحب الفخامة الصدر الأعظم، وكان يتقدم بحكم البروتوكول على خديوي مصر في تلك الأيام، ولهذا ظل المرحوم خليل رفعت «باشا» صدرا أعظم في أكثر عهد السلطان عبد الحميد؛ لأنه لم ينطق في الشئون العامة بكلمة واحدة!
وعلى الجملة، فلقد أثمر هذا النظام كل ثمراته من إشاعة الدس والكيد، والسعاية والوقيعة، والبطش والتنكيل، وإهلاك أصحاب الكفايات أو إبعادهم، وتقريب الجواسيس،
4
وإطلاق أيديهم في أرزاق الناس وأعمارهم، وأضحت الرشوة هي السبيل إلى نيل الحقوق وإلى غصب الحقوق على السواء، وتبع ذلك ما ينبغي أن يتبعه من جذب العقول، وفقر الجيوب، وتقلص الأفكار، وضمور الحريات، وأسرع الفساد إلى جميع المرافق ولحق الخراب عامة البلاد، ولم يبق عامرا في الدولة كلها إلا «الجيب الهمايوني» الذي تعصر له الرعية عصرا كل صباح ومساء، في ضرائب لا يتناولها الحصر ولا يدركها الإحصاء!
ولقد جرى الولاة في ولاياتهم على هذه الأساليب، وكذلك المتصرفون في متصرفياتهم، والسناجق في سناجقهم، وسائر العمال في أعمالهم، وكيف لهم بالعيش إذا كانت وظائفهم وأرزاق من قبلهم من الجند تحبس عنهم الأشهر بل السنين.
وولي هذا ما يجب أن يليه من ضعف الدولة ووهنها، وعجزها عن حماية أرضها، وتمكين سلطانها من ملكها، فجعلت ولايتها تنسلخ منها واحدة في إثر واحدة، حتى بلغت عدة الولايات التي خرجت عن حكمها في عهد السلطان عبد الحميد وحده قرابة الثلاثين!
ومع هذا وهذا وذلك يأبى الحكاءون إلا أن يشيدوا في المجالس بما أصابوا في دار السعادة من المتاع وما تقلبت فيه أعطافهم من النعيم، وما شهدوا من مجد الدولة وسلطانها، وما اطلعوا عليه من أسباب قوتها وبأسها، وما انتهى إلى علمهم من أسرار سياستها التي تعيي الأفكار وتعز على الأفهام، وإن كانت ثمراتها الضخام ستجنى بعد أعوام أو بعد أيام!
ولقد استهلكت هذه المقدمات التي لا بد منها القدر المقسوم لهذا المقال، فلنرجئ عرض نماذج الحكائين الاصطمبلليين إلى آخر إن شاء الله.
الحكاءون (3)
اصطمبول (2)
كان بائع غرابيل يجول في الطريق هاتفا بغرابيله، فدعا به رجل واستنزله حمله وسأله أن يحل وثاقه، وينثر الغرابيل بين يديه نثرا، ففعل الرجل وجعل «الزبون» يعجمها واحدا بعد واحد، ويطيل النظر في تفقدها ويكثر من جسها وغمزها، حتى إذا أتى عليها جميعا عاد إلى تفقدها وجسها وامتحانها، وما زال يفعل ذلك ويكرره حتى استهلك فيه الساعات الطوال، والرجل ينظر إليه في غيظ وحنق، لما أضاع من وقته وامتهن من سلعته، حتى إذا انتهى اختياره إلى أصلبها خشبا، وأجودها جلدا، وألحمها نسجا، وأحكمها شدا، قال له: بكم هذا الغربال يا شيخ؟ فرأى الرجل أن يكافئ كل هذا العناء بالإغلاء في الثمن، فقال: بخمسة وعشرين قرشا! فقال له في دعة وفتور: بثلاثة قروش تعريفة! فثار ثائر الرجل، وضرب الأرض بإطار الغربال فوثب حتى صك ناصيته، فأعاد الضربة بأشد مما ضرب فصك الغربال ناصيته بأشد مما صك، وما برح الغيظ يفعل به هذا، والسابلة يجتمعون حوله من كل مذهب ليطالعوا هذا المشهد العجب، حتى شدخ الغربال رأسه وأسال دمه، فصاح فيهم: أيها الناس! أمنتظرون أنتم حتى يقتلني هذا الغربال؟
ولا أكتمكم يا معشر القراء أن هذا القلم كثيرا ما ينشز علي ويجمع، وتستعصب على سياسته وضبط عنانه، ولقد أسوقه في طريق فيخالفني إلى غيره، ولقد أرسم للمقال نهجا محدودا، فيأبى إلا تعدي الحد والعدول إلى نهج آخر حتى ينتهي في بعض الأحيان إلى الغاية التي يبغيها هو لا الغاية التي أطلبها أنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ومن هذا البلاء الذي امتحنت به من هذا القلم الجامح المتمرد، أنني بدأت مقال الحكائين على أن يجري كله لحال أو قصر في فنون من التسلية والتندر في هذا الحر وهذه الحرب، خيبة الله عليهما جميعا، وإن كنت لا أتزيد ولا أعدو الصدق أبدا، فإذا هو يتنظر لي بشبح عبد الحميد وحكم عبد الحميد، وحكايات من كانوا ينتابون الآستانة في عهد عبد الحميد ثم إذا هو يمعن في هذا الطريق إمعانا لم يدخل لي يوم بدأت الحديث في تقدير ولا تصوير!
والآن كيف الرجوع إلى النهج الذي بدأنا بسلوكه، وكان بحمد الله بين الحدود واضح الأعلام؟
كيف لنا بهذا وقد التوت السبل، وغشت السياسة وجه الطريق بما هو أحد من الحسك ومن شوك القتاد؟
أفترانا نستعدي على جماح هذا القلم جمهرة القراء، كما استعدى النظارة على غرباله صاحب الغرابيل؟
أريد مفاكهة وتندرا، ويأبى علي القلم إلا خوضا في ظلمات عبد الحميد، وما كان يعاني من ظلمة رواد الآستانة من المصريين وغير المصريين؟
اللهم إنه ليس من الرأي التصدي لكبحه وهو حمى ثورته، بل الرأي كل الرأي في مجاراته وإلانة قياده وإظهار المطاوعة له حتى تفطر حدته، ويطامن من جماحه، وحينئذ يتهيأ صرف عنانه إلى وضح الطريق، وكذلك نمضي في المقال على اسم الله العلي العظيم.
ولقد حدثتك في المقال السابق عن بعض ما جرى من المحن على دولة الخلافة باستبداد عبد الحميد وظلم عبد الحميد، حتى لقد انسلخ عنها في ذلك العهد الأشأم قرابة ثلاثين ولاية، وإن شئت قلت: ثلاثين مملكة.
وقلت لك: إن المصريين لم يحبوا أحدا كما أحبوا عبد الحميد، ولم يدينوا بالولاء لأحد كما دانوا لعبد الحميد، حتى لقد خالط حبه اللحم ولصق بالعظم، وجرى في أعراقهم مجرى الدم، فلم تجر بسوء حكمه على الإسلام محنة إلا جعلوها موضع منة، ولا دب إلى جسم الدولة بظلمه فساد إلا أحالوه على صلاح، فإذا غم عليهم الأمر ولم يهدهم إلى الرأي طول التعسف في التأويل والتعليل، أحالوا الأمر إلى الحكم التي تعلو على أفهام العباد!
وإن من الإنصاف أن نقرر أن أشد الناس كانوا استحماسا في هذا الباب هم سلالة الترك المتمصرين، وكان زعيم هؤلاء جميعا شيخا واسع الغنى يسكن في بعض أطراف القاهرة، ولا أسميه ولا أعين مسكنه لكيلا أدل عليه - رحمه الله وغفر لنا وله.
كان هذا الرجل أو هذا الزعيم العظيم حين أدركناه في حدود السبعين، وكانت داره الواسعة مثابة القصاد ونجعة الرواد، يؤمها في كل ليلة جماعات الظماء إلى أخبار الباب العالي، وما عسى أن يكون قد أجد لدولة الإسلام من مفاخر ضخام!
فإذا كان عيد الجلوس السلطاني رصعت الدار بمصابيح تخطف الأبصار، ووشيت بأذكى الورود وأنضر الأزهار، وصدحت الموسيقات بأحلى الأنغام، وقرب للفقراء أشهى الطعام من لحوم الأنعام، ووقف البك بالباب يستقبل جماعات المهنئين الداعين لجلالة الخليفة بالبقاء على السنين حتى يربو عمره على المئين، وغنى في الليل أعلام المغنين، ونثرت بدر الدراهم على الجماهير المحتشدين من المعوزين وغير المعوزين!
وقلت: إنه يقف بالباب في تلقي الهناء من الوافدين، وإنه ليكافئ هناءهم بالشكر والدعاء، كما يصنع أي امرئ في أسباب مسراته الخاصة وأمزاحه العائلية، وذلك لما يشعر به أو ما يريد أن يشعره الناس من أن له سهما ولو ضئيلا من شئون السلطان أو من شئون الدولة، يهيئ له تقبل الهناء والإثابة عليه بالشكر والدعاء، وكيف لا وقد كثر كل حبه وولائه وإخلاصه على الياديشاه، وهو عند الباب العالي مطلع الرأي ومتنزل السر، على الرغم من بعد الديار وشط المزار!
ولا تظن أن هذا الرجل كان في هذا الباب فذا منقطع النظير في فتح داره لجماعات الاصطمبلليين، فلقد كان نظائره كثيرين وإنما أفردناه بالذكر؛ لأنه كان أكبرهم سنا، وأبعدهم شهرة، وأوسعهم غنى، وأقدرهم على الوصف وتفخيم التصوير.
وبعد، فما يكاد يخيم الغسق حتى تحتشد دار صاحبنا ودور أمثاله بالوافد للاستخبار، والاضطلاع على ما أجد الباب العالي من جلائل الآثار!
واعلم أولا أن كل شيء يجري على الدولة لا بد وأن يكون برأي السلطان وتدبيره، ودهائه وجبروت حيلته ولو بدا لك في هذا الأمر كارثة، ورأيت منه مصيبة واقعة وبلية لاحقة، وهل بعد قوة السلطان قوة أو وراء دهائه دهاء؟
ولعمري، ما جاءت البشرى بانسلاخ ولاية من تلك الولايات الثلاثين، أو وقعت على الدولة بلية من إحدى الدول الغربية، كما احتلت الجنود الفرنسية بعد جماركها أو تذعن لبعض المطالب ما حدث شيء من ذلك ونحوه إلا قال قائلهم: «دي سياسة أفندم!» فيزر صاحبه على إحدى عينيه ويهز رأسه ويقول: «دي سياسة كبير» فيصيح الثالث: أمال أفندم، لازم يا ديشاه هو اللي عاوز كده، إذا كان مش عاوز ما كانش يحصل، إيش عرفنا إحنا؟ دي سياسة فوق عقول!»
وسرعان ما تشرق وجوه الجماعة ويتطارح الهناء وتتصافح الأيدي وتتضام الصدور إلى الصدور، وتبسط الخدود لتحيات الثغوب.
والآن وقد هدأت ثورة هذا القلم بما ناله من الجهد والتعب، نستطيع بحمد الله أن نصرف عنانه إلى حيث نشاء، فهلم إذن إلى معاودة الحديث في الحكائين والله المستعان، وإذا كنت سأقتصر على إيراد حكاية واحدة، فلعلك واجد فيها أفخم وأضخم وأبلغ وأعظم من كل ما انبث وانبسط، وشاع وذاع، وملأ الطباق، وسطع في الآفاق وعلى جميع ألسن الحكائين من يوم عبد الحميد إلى يوم الدين.
احتشد الجمع على العادة في دار صاحبنا، وجعلوا يتقاولون في أمر الدولة، وعظمة الدولة، وقوة جيوش الدولة، وسياسة عبد الحميد، وشدة دهائه، وبعيد مراميه ... إلخ.
وبدا لبعض الحاضرين - وكان مصريا - أن يسأل سؤالا، فخاف وجبن والسؤال لا غنى عنه، ولا مفر من العلم بالجواب عليه، فحط المسكين إلى الزعيم عنقه، وقال: «ولكن بس، بس!» أما باقي الكلام فكان يضطرب في حنجرته اضطرابا «لا يرتقي صدرا عنها ولا يرد.» فقال له: «بس ماذا؟ ما لك لا تتكلم؟» فأعرض الرجل جفنيه، وحد عزمه وقال، وكان صوته هجس هاتف يجيء من وراء الأفق: «بس مسألة الدوننمة»
1
يعني أن الدولة ليست معتنية بالدوننمة!» وسرعان ما استلقى الزعيم على ظهره مقهقها وهو يقول في نبرات مليئة بالتهكم والاستهزاء: «نعم! معك الحق. إن الدولة لا تعنى بأمر الدوننمة.» ثم اعتدل وألبس وجهه ثوب الجد، وجعل يدير طرفه في الحاضرين وتراه يتلفت ذات اليمين وذات الشمال، ويرفع بصره إلى فوق وإلى تحت وإلى قدام وإلى وراء، ثم قال: «فيكم من يكتم السر؟» فأجابوا جميعا في نفس واحد: «في بير!» «إذن فاسمعوا لقد زرت المابين ذات يوم، وأبديت لفخامة الصدر الأعظم مثل هذه الملاحظة، فأظهر الموافقة لي والندامة على تقصير الدولة في أمر الدوننمة، وغمز لي بعينه غمزة خفيت على جميع حاضري المجلس، فلما هم الجميع بالانصراف ضغط على يدي واستبقاني، حتى إذا خلا له وجهي ولم يبق معنا أحد قال لي: «إذا انتصف الليل فامض إلى شارع كذا، فإذا بلغت الموضع الفلاني فخذ على يمينك في أول شارع، ثم خذ على يسارك في ثالث حارة، ثم عد ثلاث حارات وادخل في الرابعة، وستلقى زقاقا على يسارك فاسلكه حتى تنتهي إلى خربة على يمينك، وستجد على مدخل هذه الخربة رجلا شحاذا رث الثياب، مقنع الوجه، فافعل ما يأمرك!»
ومضيت في الميعاد وإذا الشحاذ في الانتظار، فما أن رآني حتى أجال طرفه في الأرض والسماء، ولما أمن عيون الإنس والجن، ودابة الأرض وحدق الطير في أوكارها أسرع إلى زاوية في الخربة، وظل يفحص عن الأرض إلى أن انكشف له غطاء من الحديد فرفعه، ودفعه إلى ما دونه وتدلى ورائي وأعاد الغطاء فوقه، وتدلينا في سلم عددت له 127 درجة، ثم انتهينا إلى دهليز طويل، سلكنا منه إلى دهليز آخر أعرض وأطول، وما زلنا ننعطف من دهليز إلى آخر حتى أفضت بنا خاتمة السعي إلى فضاء يزيد على التسعين ألف فدان، وقد ازدحم «بالورش والترسخانات» العظيمة الهائلة التي لا نظير لها في جميع الدنيا، وإذا خلق من الناس لا يحصيهم إلا خالقهم. «ويكشف الشحاذ النقاب عن وجهه فإذا هو صاحب الفخامة خليل رفعت باشا الصدر الأعظم بنفسه! وإذا في هذا العالم ثلاثون مليونا من الصناع معهم نساؤهم وأولادهم - يولدون أو يستولدون - لا يرى أحد منهم صفحة السماء أبدا ، وكلما أتموا بناء مدرعة أو نسافة أو «فرديت»، أو خطاف «دردبو»
2
من شباك البحر «لا من شاف، ولا من سمع» حتى يأتي اليوم المعلوم وحينئذ تخرج الدوننمة للقضاء على أساطيل الدول جميعا!
الله أكبر! الله أكبر! ما شاء الله! نصر الله السلطان آمين آمين!
وسلام على فلان بك في الحكائين ورحمة الله عليهم أجمعين.
مع ذبابة
قال لي صاحبي في مستهل حديثه، ولقد رويت لقراء «الثقافة» أحاديث عن صاحبي هذا، ولكنني لم أقل لهم من هو؟ ولا ما صفته؟ ولم أكشف لهم عن أية خلة فيه، ولم أشر إلى أي شيء يعطي القارئ ولو فكرة ضئيلة عنه، حتى يحل أحاديثه من نفسه في الزواية التي تكافئها من التقدير، وفي الحق أنني في هذا معذور فالرجل صديقي من عهد طويل، وما نكاد نفترق إلا على نية لقاء، فليس من اليسر أن أهتف من صفته بما عسى أن يكره وكيفما كان الأمر، فإنني أكتفي في تقديمه اليوم بأنه رجل حاد الذكاء وحاد المزاج مرهف الحس، دقيق الملاحطة، سريع الخاطر، حاضر الحكم على كل ما يسنح له من الأشياء، وكثيرا ما يكون حكمه نقدا لاذعا تدفعه ثورة النفس، وأنه بهذه الخلال ليشقى الشقاء كله، ويتعب صاحبه التعب أجمعه!
يغضبه ويثيره أتفه شيء يلحظه من الناس مما لا يبعث انتباهي ولا انتباهك، ولو كان هذا الشيء مما لا يعنيه ولا يتصل به بأي حال، فإذا رأى مثلا بائعا من هؤلاء الباعة الجوالين يحلف لمساومه بأنه باعه بأقل مما اشترى، ثار ثائره وجعل يرغي ويزبد، ويرثي لحال الزمان من لؤم أبناء الزمان! وإذا أصاب ثلاثة يقفون في غير حاجة على الطوار - الرصيف - فيعوقون السابلة، وقد يلجئون بعضهم إلى التدلي في الشارع؛ ليمضوا لطياتهم فيتعرضون بذلك لتلك الفواتك العابرة التي أصبح لا ينقطع لها في طرق القاهرة مرد، رأيته يقف بهم فيلومهم ويبكتهم، ويضرب لهم أبلغ الأمثال على سوء عملهم، وقلة ذوقهم، وفداحة جنايتهم في وقفتهم السمجة، على من لا جناية لهم من الناس، غير مبال بما يلقى من مثل أولئك الأرذال!
على أنه - مع هذا - طيب القلب، صافي النفس، لا يحتاج في رده إلى الرضاء إلا إلى أيسر قدر من الاعتذار، مهما يقع على شخصه هو من أسباب الإعنات والأغضاب، وإن ليلة واحدة لكفيلة بأن تغسل صدره من كل ما أجن لامرئ من الحقد والاضطغان!
هذا صاحبي، وبحسبك اليوم معرفة هذا القدر من خلاله، فلنمض في حديثه على اسم الله.
زارني ذات يوم من أيام هذا الأسبوع، فكان أول ما لحظته منه اطمئنان الوجه، ووداعة النفس، ورفق الحديث، وهذه أشياء عهدي بها منه أقل من القليل.
وسألته عن حاله كما يسأل الصديق عن حال الصديق، فقال بعد أن حمد الله وأثنى على جليل فضله: لقد خضت عشية أمس ساعات ثقالا جدا، لقد غاظتني وأبرمتني وفرقت نفسي، وأطارت لبي حتى جازت بي أقصى حدود الصبر، وعصفت بكل ما يقدر للمرء من الاحتمال، فقلت له: «شنشنة أعرفها من أخزم»، ولكن قل لي: كيف كان ذاك؟
قال: استويت للعشاء، وكنت شديد الجوع، وبي من الشهوة للطعام ما لا أجده في أكثر الأيام، وطعامي كما تعلم قل وكثر إنما يوضع بين يدي جملة لأصيب من أي ألوانه ما أشاء في أية لحظة أشاء، وما كدت أسمي الله وأحور يدي إلى الصفحة بأول لقمة حتى رأيت ذبابا قد هوى إلى مهوى أصابعي من الصحفة، فذبيته فعاد لتوها إلى موضعه وجعل يلغ كما كان يلغ، فعدت إلى زجره فعاد كذلك، فأدرت الصحفة لأصيب مما لم يصب، فسرعان ما دنب إلى حيث أرسل يدي وأقبل من فوره على شأنه، ما دفع إلا رجع، ولا زجر إلا عاد، فلم يسعني إلا أن أرفع هذه الصحفة الملوثة الموبوءة، وأنحيها بعيدا وأقرب غيرها، وعوضي على الله، على أنه لم يعفها ولم يعفني، فلقد هبط منها مهبطه من أختها، فأدرت الطبق كذلك فدار معه حتى استقر منه في منحدر يدي، وكان الغيظ قد بلغ في قصارى قصاراه، فأهويت بكفي عليه لأقتله وأخلص من لؤمه وأذاء، فتكسر الطبق شظايا وتناثر الطعام على الخوان، وأصاب وجهي وثوبي منه رشاش، أما الذباب فلم يكفه الإفلات من هذه الضربة الساحقة، بل لقد راح يمرع في هذا الذي تطاير على الخوان! فقمت عن المائدة وأنا أحلف بكل مؤثمة من الإيمان ألا أذوق في ليلتي أي طعام!
أويت إلى فراشي، أرجو بهجعة خفيفة أن أستريح ولو من بعض ما أجد ولكن كيف لي بالنوم وقد قيل: «لا نوم لجائع»، ولو دار الأمر على الجوع وحده لهان الخطب، فإن وراء الجوع نار الغيظ وثورة الغضب، وهذان وحدهما زعيمان بنفي المنام الليالي الطوال.
وأفكر، وفيم لعمري أفكر إلا في الذباب، ولؤم الذباب، وتهافت الذباب، وأذى الذباب، وخطر الذباب، وما يجلبه الذباب من علل وأسقام، وأرزاء جسام!
وجعلت في مطرحي أسائل نفسي وقبل كل شيء أنبهك يا صديقي إلى ما تعلم من أنني عظيم الإيمان بالله تعالى، وثيق الاعتقاد بظهر الغيب في بالغ حكمته في كل جليل ودقيق من خلقه.
رحت أسائل نفسي: ترى ما حكمة الله الحكيم في بث هذا الذباب، وهو على ما ترى لا يحمل إلا قذرا، ولا يولي إلا أذى وضررا؟ ولكم يهدم بفرط تهافته الأعصاب، ويشيع ما لا يحصى من العلل والأوصاب، ويبلغ وحده ما لا تبلغ الحروب من أسباب الدمار والخراب، ومع هذا لم يظهر العلم له أية ثمرة ولو دقت، ولم يجل طول الزمان له منصفة ولو هانت، بل إنه لشر كله وأذى مستمر في أوله وآخره، وبلاء عظيم في ظاهره وباطنه، لا يدع الإنسان في لحظة من نهار في اطمئنان ولا قرار، وكلما زاده عن وجهه أو يده، أو عن طعامه أو شرابه، عاد من فوره فأثبت رجله حيث كانت ما تنحرف قيد 1 / 1000 من الشعرة؛ لا من وراء ولا من قدام، ولا ذات اليمين ولا ذات الشمال، بحيث لو استعان المرء بأدق الآلات الهندسية والفلكية ما بلغ هذا المدى في تحديد المكان، ولقد يبلغ من شدة تهافته أن يقع في الطعام أو الشراب، فإذا ترك وشأنه مات من الاختناق، بل إنه على حدة حسه ليقع في فنجان القهوة، وهي لم تزل تتنفس بالحر الشديد من البخار، وما أرى أنه خرج من هذه المنية الشنيعة بشيء إلا أنه أغثى نفسك ونغص عليك مزاجك!
وبعد، فأنت خبير بما يحمل هذا الطائر اللئيم من ملايين المكروبات، لا تفتأ تفرخ أشد العلل وأفتك الأوباء في حين تعيا السلامة منه، ويعجز الأمن من أذاه، فإذا زعمت أن من الفواتك ما يقتله، فذاك بقدر ما تظل الأبواب والنوافذ محكمة الإغلاق، حيث يغمر الغرفة ظلام ويدعو التنفس في جوها إلى الاختناق حتى إذا فتحت النوافذ والأبواب لتجديد الهواء دخل من الذبان أكثر مما خرج، وتطاير منها في الغرفة أعظم مما هلك!
اللهم إن هذا بعض ما ابتلي الناس من الذباب من قديم الزمان أو من أول الزمان، فترى أيكشف العلم فيه مزية، ويقع منه على منفعة تكافئ هذا القدر الهائل من الضر والفساد؟
وجعل الذهن - برغمي - يدور في هذا ملتمسا موطن الحكمة في هذا الخلق الضار الشديد، وكلما طلبت التفرج بالفكر في شيء آخر، رأيت الأمر يتعاصى علي، فقد استغرق حديث الذباب كل تفكير، وملك على الذهن جميع مذاهب التصور والتقدير!
وفيما أنا من ذلك إذ قرع مسمعي طنين ذباب، ولكنه أشبه ما يكون في عنفه وقوته، بهمهمة فهد أو زئير أسد، فحولت وجهي وأرسلت بصري، فإذا ذباب في جرم الغراب، ثم لم يرعني إلا أن جعل ينتفخ وينتفش حتى صار مثل الديك الرومي، ثم ما زال ينتفخ وينتفش حتى صار في حجم النعامة، لولا أن جسمه كله كاس بالريش لا يعرى منه شيء، ولولا أن رأسه موصول بما بين كتفيه لا يفصل بينهما عنق، فإذا حرك رأسه فمن أعلى إلى أسفل ثم من أسفل إلى أعلى، كأنما وصل بين رأسه وكتفه بمفصلة، ولولا أنه مزود في مقدم صدره بخراطيم على حين ليست للنعامة خراطيم.
ويقبل هذا الذباب الضخم علي وهو يرفع رأسه ويخفضه، فتداخلني من الذعر ما أزاغ البصر، وكاد يخلع شعبة من شعب القلب، فبادرني بقوله في لسان عربي صحيح: لن تراع! لن تراع! فإن الشيطان إذا كان قد أزلق فكرك إلى هذا فإنه ما زالت تعصمك قوة إيمانك، فقلت: الحمد لله رب العالمين. قال: فلو عملت بقول الله في كتابه الكريم:
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم
فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. قال: والآن فاسمع يا هذا: ما أشد ذهابكم، يا بني آدم، بأنفسكم وافتتانكم بعقولكم، وتباهيكم بهذا القدر الضئيل الذي تعلمون من ظاهر الحياة الدنيا
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
نتساءل يا هذا في حكمة الله - جل مجده - في خلق الذباب وبثه، وتنكر ما يلون للناس من الأذى في صحتهم وفي حياتهم، وقد ذهب عنك أيها الأبله أن هذا الذي تنكر من فعل الذبان هو بعض حكمة الحكيم في خلق الذبان، فلقد تعلم أنه لولا شيوع الأمراض والعلل لما مات أكثر من يموت من الناس في كل يوم وفي كل ساعة، وإذن لاطردت الزيادة في عدتكم يا بني آدم حتى تضيق بكم مساحة الأرض، ويعجز بطنها وسائمتها عن مواتاتكم بما يكفي لبعض طعامكم وكسوتكم، فلا مفر لكم من التناحر والتقاتل في التماس أسباب العيش، حتى ليقتل الوالد ولده وتأكل الأم طفلها، طوعا لغريزة استبقاء الحياة، وكذلك لا يلبث العالم كله أن تسوده الفوضى وهي أهم عوامل الفناء، فالموت إذن أيها الأبله هو أبلغ أسباب الحياة!
1
ثم إذا كنتم تنكرون أيها الأغفال ما ينشر الذباب فيكم من أسباب الأمراض والعلل، وتتمنون على الحياة لو تعيشون الدهر في صحة وعافية، فمن أين لعمري تعيش هذه الجيوش الجرارة من الأطباء والممرضين، والممرضات وخدم العيادات والمستشفيات، والصيدليين وعمال الصيدليات، وأصحاب مصانع الأدوية والعاملين فيها، ومنتجي المواد الأولية للعقاقير الطبية، ومن وراء كل هؤلاء مممن يعولونهم، ويعودون بهذا السعي على شملهم!
ثم لا تنس العاملين في أسباب الموت من «الحانوتية» واللحادين - التربية - وباعة الأكفان، وسواقي عربات الموت، وغير أولئك ممن لا يصيبون الأرزاق والأقوات إلا بفضل الموت والأموات!
وسكت برهة، ثم قال: أفآمنت الآن أن ذبابا واحدا أجدى على العالم، وأعود بالخير على نظامه منك ومن عشرة من أمثالك؟
فقلت: آمنت بالله.
ثم لم يرعني إلا أن أرى هذا الخلق الكبير، جعل يصغر ويضمر حتى عاد ذبابا في جرم سائر الذباب، ثم طار فوقع على رميق عيني وجعل يفحصه برجله فحصا غير رقيق، وما كدت أتهيأ للقيام حتى أدركت أنني كنت في أحكم الأحلام!
وفرغ صاحبي من حديثه، فقلت له: إذن فقد آمنت بأنك في هذه الحياة لا تساوي ذبابا؟ قال: ولا عشر ذباب، وكذلك يكفيني الله شرور الغرور والافتتان، وهما أشد مهالك الإنسان فقلت: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.
عواطف
لم أعثر في معجمات، ولا فيما وقع لي من تعبيرات المتقدمين أنهم كانوا يطلقون كلمة «عاطفة - عواطف» على ما يطلقها عليه أهل هذا العصر الحديث، وأعني هذا الاطلاق العريض، فأصل العطف على وجه عام، الالتفات ومنه عطف إليه: مال، وعطف الشيء: أماله وحناه وتعطف عليه، رق له وبره، وعطفت الناقة على ولدها: حنت ودر لبنها، ومن هذا المعنى - فيما أظن - جعلت هذه اللفظة تتسع في إطلاقها حتى أصبحت تدل على نوازع النفس وأهواء القلب جميعا، وكذلك تتطور الألفاظ مع اطراد الزمان حتى تكاد تلابس في كل عصر معنى جديدا.
وإذا كانت لفظة «العواطف» تدل اليوم أكثر ما تدل على خوالج القلوب ولواعج الكبود من هوى وصبابة، ووله لاحق، وغمز على الحشا من عشق وتبريح غرام، فإن هذه العواطف كثيرا ما يكون لها مثوى آخر غير القلوب وغير الكبود!
نعم، لقد يكون لها مثوى آخر وإن كانت جمهرة الناس لم تأبه له ولم تلتفت إليه، على أن من هذه العواطف ما هو أشد وأعنف، ومنها ما هو أطغى وأجرف ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
لقد يروعك مرأى عاشق أدنفه الحب، وبرحت به الصبابة وقد هجره المحبوب قلى أو تجبنا، فبات المسكين يساهر النجم ولا يغمض جفنه عن تصفح وجه البدر، لعله يصيب فيه بعض الغناء عن وجه الحبيب، ولعمري ما هو بمغن عنه شيئا وإلا فما هذه الأنفاس الحرى كأنما يتفرج بها من الحشا سعير بركان!
تشهد هذا المشهد، فيخيل إليك أن هذا العاشق المسكين لا يرى الوردة وقد تخرجت من كمها، والنرجسة وقد ضنت على ثدي أمها، والنسيم وقد تلطف، والجدول في الروض وقد تعطف، والأرج وقد شاع في الجو وتردد، والهزار وقد شدا على الأيك وتغرد، اللهم إنه لا يشهد شيئا من ذلك إلا ذكر به الحبيب، بل إنه ليرى هذا كله من بهاء الحبيب، ولولا أنه أعار الطبيعة كلها بعض جماله ما سطع فيها بدر ولا تأرج زهر ولا ضحكت الورود على الأغصان، ولا صدحت الفواخت على الأفنان، كلا! بل لشاه كل جميل، ولاستحال دبورا هذا النسيم العليل! بل إنه لا يرى الحياة كلها إلا جحيما لا يطاق فيه العذاب، ولا يرجي على الدهر منه ثواب.
لقد يروعك الأمر، إذ تشهد هذه العواطف ويتعاظمك، وسرعان ما ترثي للقلب وترثي للكبد، أو سرعان ما تغبط القلب والكبد، إذ استاثر من دون سائر الجوارح بجولان هذه العواطف التي تشقي المرء كل هذا الشقاء، وتسعده أحيانا بجميع ذلك الهناء!
وإنني أؤكد أن من ظن هذا فقد ضل ضلالا بعيدا!
ولقد أسلفت عليك أن هناك ألوانا من العواطف تثوي إلى غير الكبود وغير القلوب، وإن منها ما هو أشد وأعنف، ومنها ما هو أطغى على المرء وأجرف، وإني ملم اليوم منها بثلاث فحسب؛ أولها: عواطف البطن، وثانيتها: عواطف الغرام بالدرجة، وهذه مقصورة علينا نحن معشر الموظفين الحكوميين دون سائر العالمين، أما ثالثتها: فحب الشهرة وذهاب الصيت.
ولعلك تظن بي القصد إلى المزاح حين أزعم لك أن للبطن والدرجة والشهرة عواطف تجيش وتترقرق، بل إني لأزيد أنها قد تبلغ من بعض الناس ما لم يبلغ غرام قيس بن الملوح بليلاه، ولا هيام قيس بن ذريح في لبناه!
وأرجو ألا تظن أن هذا العاشق المهجور الذي طوى ليله وهو يساهر النجم، ويتصفح صفحة البدر ويذكر به الحبيب ، ويتمنى عليه اللقاء القريب بأشد حرقة، ولا أعظم لوعة من هذا الذي يتشهى الأكلة الشهية، ويتمنى الوجبة الجنية، وإنه ليتمثل صينية البطاطس وقد ديفت بالطماطم والبصل، ورصعت بالثوم ترصيعا، أما ما جللت به من مزع اللحم السمين، فجدير أن يزدرد بالشمال وباليمين!
ولا تنس هذا الطاجن الذي حشي رزا معالجا بالزبد، وقد دفن الحمام السمين فيه دفنا، وظل في الفرن الهادئ ساعات حتى نضجت قشرته، واحمرت بشرته!
وأما صفحة الكنافة فما أروع دلالها وأحلى وصالها، خصوصا إذا فاضت سمنا وسكرا، وحشيت زبيبا وفستقا وصنوبرا، وغشي وجهها بالقشدة الخالصة، وما شاء الله! وسبحان من أحسن وتفضل، والشكر لمن أنعم وتطول.
اللهم إن هذا العاشق الصب ليقضي ليله الأطول في تمثل هذا وتمنيه، وله من شدة اللوعة زفير أحمى من نار السعير.
ولقد يعمد في هيامه إلى باب الحاني وكبرى المطاعم، فيجد ما يسطع من ريح القنا أزكى مما تجد أنت من النسيم جاز بالروضة المعطار!
أفليس هذا وأمثاله محبين عاشقين، بل محبين والهين لا يفتئون يشكون لوعة البطون، كما يشكو غيرهم لوعة الكبود؟
أما حب الدرجة وما أدراك ما الدرجة! الله أكبر! هل سمعت بالسيل الجارف لا يصده حد، ولا يثبت بين يديه سد؟ وهل سمعت بالريح الصرصر العاتية، تدمدم رائحة أو غادية فتمتلخ في مغارسها الأشجار، وتقتلع من مبانيها الأحجار، وتأتي على كل قائم بالخراب والدمار!
هو كل شغل القلب، أستغفر الله! بل إنه لحب قد استولى على كل نوازع النفس، وملك جميع أقطار الحس حتى لقد تقول للصب المتيم: لقد اشتد البرد يا فلان في هذه الأيام، فيجيبك من فوره: يشاع أن «لجنة الترقيات» ستعقد في صدر هذا الأسبوع المقبل!
ولقد تقول لمتيم آخر: ما أهول هذه الحرب وما أروع فظائعها، فلا يكون جوابه إلا: أيجوز أن يرقى فلان إلى الدرجة الرابعة ولما يمض عليه أكثر من خمس سنين في الخامسة، في حين أنني سلخت فيها ثمانيا؟
ولقد تقول لأحد هؤلاء المتيمين الوالهين على الدرجة: إن فلانا رجل فكه حاضر البديهة، حسن الحديث فيكون رده: لقد رقي إلى الدرجة الثالثة في العام الماضي، وهكذا!
وما له لا تكون الدرجة كل شغله، وما له لا يجعل في الدرجة حديثه أجمعه، أليست الدرجة هي عينه التي بها ينظر، وأذنه التي بها يسمع، ورجله التي بها يسعى، ويده التي يعالج بها ما تعالج أيدي الناس؟
ولقد يكون العاشق المدنف من أصحاب القلم، أو من المنتحلين لصناعة القلم، فلا يستحي إذا لاح له شبح الدرجات من أن يكتب للناس: هل أدلكم على أكبر أديب وأعلم عالم؟ إنه والله الوزير القائم، ولقد عقدت له إمارة البيان فأضحى ولا يتعلق بغباره فهيا إنس ولا جان، وأما من يليه في هذه الإمارة، فهو ولا ريب سعادة وكيل الوزارة! وهكذا كلما انصرف وزير ووكيل، وخلفهما وزير ووكيل، ولو تصرم الجيل بعد الجيل!
ولعمري، لو قد ذكر الله تعالى أحد هؤلاء بعض ذكره للدرجة، لرقي في الآخرة درجة الصديقين، وتبوأ مجلسه معهم في أعلى عليين!
وأما غرام الشهرة فشأنه أعجب وأغرب، وإن في هؤلاء المتيمين بالشهرة وذهاب الصيت لمن يرجو أن تعيد الحكومة شنق المجرمين في الميادين العامة، حتى إذا عدم وسيلة إلى بعد الصيت، وسيرورة الذكر أدعى على نفسه جرما لم يقترفه، وقتلا عمدا لم يجترحه؛ ليحظى بالشنق على أعين الآلاف المؤلفة من الرجال والنساء والأطفال.
ولهذا غرام الشهرة مذاهب وفنون لا يتسع للتصرف فيها هذا المقال، ولعل من أبدع وأروع ما قد رأينا في الماضي القريب، أن خلقا من الخلق مغرمون متيمون بأن يشتهروا بالعلم والأدب، في حين ليست لهم وسيلة إلى شهرة في العلم والأدب، ولا ينعتهم أحد بعلم ولا أدب، إذن فليزجوا إلى الصحف المقال بعد المقال لا يضمن شيئا إلا تزكية أنفسهم، والإشادة بفضلهم، والهتاف بتفردهم بالأدب والبيان، وبراعتهم في هذا كل إنسان!
على أنه أيضا لم تظهر لهم شهرة، ولم يسر لهم ذكر ولم ينعتهم بشيء منه أحد، إذن فكيف الحيلة يا ناس في إطفاء هذه اللوعة، وإبراد هذا الغرام؟
لم يبق من سبيل إلى هواه إلا أن يهدم كل من يظن أنهم بسابقتهم وموضعهم من أهل الفضل والأدب، يحولون بينه وبين مناه حتى يصبح وإياهم بدرجة سواء.
ولكن أنى له ذلك كذلك، وليست له ساق يقوم عليها لهدم ولا لبناء؟
يا سبحان الله! وهل لا بد للتطاول من قدم وساق؟ اللهم إن له في النباتات المتسلقة كاللوف واللبلاب لمثلا جليلا، وإذن فليتسلق على كل مرتفع عال من الناس، فإذا عدم الهدم لخذلان يده لم يعدم أن يؤذن بعلمه وفضله، وأدبه وبيانه من هذا المرتفع السابق!
أصدقت يا سيدي القارئ، أن هناك عواطف ليس جماعها القلوب ولا الكبود، وأن هناك غراما غير ما يعهد الناس من الغرام له سعير أحمى من كل سعير وضرام ألذع من كل ضرام؟
علي إبراهيم في المرآة
لا شك أن المعروف عن جماعات الأطباء أنهم أهل إيثار وطيب نفس بالتضحية، بالغة ما بلغت، في سبيل الواجب. ولكنني أراهم اليوم قد ظهروا بأشد مظاهر الأثرة وحب الذات، فلقد أبوا إلا أن يستأثروا دون سائر الناس بالدعوة إلى تكريم الدكتور علي «باشا» إبراهيم!
اللهم إن الطب من مزايا الدكتور علي إبراهيم حقا، ولكنه ليس جميع مزاياه، فإذا كان للأطباء أن يحتفلوا به في يوم من الستين فإن من حق العلماء الموسرين من الثقافة الثمينة الغالية أن يحتفلوا به أيضا، كذلك من حق نقده الفنون الجميلة أن يفرد لهم نصيب جليل في الاحتفال بزعيم الناقدين، ولا تنسوا الدعاة إلى الإصلاح الاجتماعي، وإخوانهم المضطلعين بإثارة النشاط الاقتصادي، فإن هؤلاء وهؤلاء ينبغي أن يخصوا بحظ من هذا التكريم كبير، وكذلك القول في العاملين على إشاعة البر والنجدة، والإسراع إلى معونة الضعفاء العافين.
ولا ريب في أن ممن ظلموا بهذه الأثرة ظلما بينا أصحاب البداءة من أولاد النكتة النافذة، فما كان ينبغي أن يحرموا كذلك الاشتراك في تكريم هذا الأستاذ العظيم!
وكيفما كان الأمر، فإنه إذا كان حضرات الأطباء قد أبوا إلا حبا للذات، واستئثارا بالدعوة إلى إقامة هذا الاحتفال، فإن الأعياد السبعينية والثمانينية وما يليها قادمة إن شاء الله، وحينئذ تستطيع هذه الطوائف المحرومة المظلومة أن ترد لحضراتهم الجميل!
وبعد، فلا ريب في أن من ترامت إلى علمه عبقريات الدكتور علي إبراهيم، وآثاره الضخام في الجراحة على وجه خاص، ولم يكن قد رأى شخصه أو طالع اسمه، لا يمكن أن يتصوره إلا عملاقا ضخم الجسم فارع الطول، لا يحيط النظر بمساحته جملة، ولكنه إنما يدركه بالتقسيط، ولكن الله قادر على كل شيء، قد أودع كل هذه الصروح الشمخرة من العبقريات في هذا الجسم اللطيف الدقيق.
وليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
وما شاء الله كان!
سيداتي، سادتي
لا تنتظروا مني أن أبسط القول في مواهب الدكتور علي «باشا» إبراهيم، فقد كفاني المئونة في هذا حضرات الخطباء والشعراء الكرام، ولكنني أذكر حادثة واحدة تدل على مبلغ دقة هذا الرجل العظيم، وحرصه الغريب على أداء الواجب على وجهه، دون أن يفته منه مقدار خردلة واحدة.
ذلكم بأننا من بضع سنين كنا في الإسكندرية، وفي ذات عشية تواعدنا على اللقاء في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي لنسافر معا إلى القاهرة على طريق الصحراء؛ ليدرك امتحان كلية الطب وفي الوقت متسع كبير.
وسرنا على اسم الله في سيارته طبعا، وفي صحبتنا نجلاه الدكتوران العزيزان، وهنا لا أحد من إيراد هامش يسير من هوامش هذه الرحلة. وذلك أنه اعترضنا في جهة الدخيلة منعرج كان يعالج بالرصف؛ لأن أرضه قد هشت وأعلن مجتازوه بوجوب تخفف السيارات من راكبيها، إلا أن يكون واحدا مثلا حتى لا تسيخ عجلاتها في الرمال، ونظر بعضنا إلى بعض وتهيأنا للنزول، ولكن الأسطى عبده كان على ما يظهر قد سبق إلى زنة الحمل، فمضى قدما ولم يرعنا إلى أن يجوز بنا الرمل، ولم تكد العجلات ترسم فيها أثرا!
ولقد حمد الله على أنني كنت معهم ولولا هذا لاستحالت السيارة بالونا، وطلبوا القاهرة بطريق الجو الذي يفزع الدكتور من ذكر اسمه، كما أن لي الشرف بأن أشاطره الفزع من هذا الاسم الكريم!
بلغنا بسلامة الله محطة شل، فأفطرنا وأخذنا قسطا من الراحة، ثم استأنفنا السير واندفعت السيارة في طريقها، حتى إذا صرنا على نحو ثلاثين كيلومترا من مينا هاوس فوجئنا بما لم يدخل قط في الحسبان، فلقد وقفت السيارة فجأة، وأومأ الأسطى عبده إلى دخان يتنفس به خزان الماء دليلا على أن المروحة قد تعطلت، فجعل الماء يغلي فيه غليانا وتدلى فكشف الغطاء، فإذا السير قد انقطع فشمر للعلاج بوصله وسرعان ما استحال الدكتوران حسن وعلي، ممرضين يسعفان الدكتور عبده بمطالبه في إجراء هذه العملية، هذا يناوله المخراز وهذا يثقف له السلك المثنى، ثم واصلت السيارة سيرها حتى إذا قطعت كيلومترا أو بعضه توقفت ثانيا، فوصلوا السير من جديد ثم مضينا بضع مئات من الأمتار، ثم توقفت إذ لم يبق في السير فضل لوصل ولا التئام، فجاءوا بحبل من تلك الحبال التي شدت بها سلال الفاكهة وأقاموه مقام السير، ولكن لم تمض السيارة طويلا حتى استرخى الحبل وفتر عن إدارة المروحة، وتدلينا كلنا أيضا لمعالجة الأرض والتماس الحيل.
وقف الدكتور ووقفت بجانبه، وإذا كان لي أن ألاحظ في هذه الوقفة شيئا، فذلكم أنني على طول عشرتي للدكتور علي «باشا» إبراهيم، فإنني لم أره قط في حالة عصبية كالحال التي كان فيها ذلك اليوم، بل إنني لم أكد أراه في حالة عصبية مطلقا.
ساكت لا ينبس بكلمة واحدة، وإن كانت شفتاه دائمتي الاختلاج إذ يده لا تفتأ تخرج الاسعة من جيبه ثم تسرع إلى ردها إليه، ثم تخرجها ثم تدسها وكذلك ظلت هذه الحركة الميكانيكية السريعة بغير توقف ولا لبث ولا فتور.
على أنني شككت في أن يكون هذا النظر الشارد كان يفضي إلى صاحبه بموضع العقرب من الساعات بل الدقائق، وأذن الله وانطلقت بنا السيارة بفضل بعض الحيل الميكانيكية التي أحمد الله على أنني لا أعرف فيها شيئا!
سيداتي، سادتي
إلى تلك الساعة، كنت أعتقد أن الدكتور علي «باشا» إبراهيم ذاهب ليشرف على شأن الامتحان في كلية الطب، ويتفقد النظام، حتى أقنعني ذلك الموقف بأنه إنما كان ذاهبا لأداء الامتحان، وأن أخشى ما كان يخشاه أن يفوته الميعاد المقسوم لحضور الطلاب، فلا يؤذن له بالدخول فتفوت عليه سنة كاملة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وانحدرنا إلى شارع الهرم حيث سيارات الأجرة لا يحصيها العدد، ولا يقوى عليها العداد، ولكن الكيادة التي أبت كذلك إلا أن تحرن في جوف الصحراء، أبت كذلك إلا أن تجمح في الطريق العامر المأهول حتى كاد السائق لا يستطيع لعنانها ضبطا!
إذن لقد ضمن صاحبنا أن يصل إلى طلبته في الميعاد بل قبل الميعاد، ولكن لقد غشي الجميع وجوم شديد، وثنوا رقابهم حتى توسدت الذقون الصدور!
وهنا لاح لخاطري شبح مرعب مهول: فصاحبي قادم على امتحان شاق عسير وكيف له بحسن الإجابة وهو على هذه الحال من ضيق الصدر، وتكدر النفس وتفرق الفكر؟ وبأي وجه تلقى مصر الأمم إذا رسب - لا قدر الله - علي «باشا» إبراهيم في الامتحان، وعلى الخصوص إذا لم يكن له ملحق يتعوض به ما فات؟
إذن فلا بد لهذه الحال من إسعاف، أو من إنقاذ الموقف كما يقولون!
ويعينني الله على أن أرفع رأسي، وأنادي بقوة لم تعهد لمثلي: يا «باشا»، فرفع رأسه ورفع ولداه رأسيهما وقال في فتور: ماذا؟ فقلت له في حدة المغيظ المحنق: أؤكد لك أنني لا أعود إلى ركوب سيارتك هذه إلا إذا جئتني بشهادة حسن السير ... والسلوك!
وسرى عنه، وطابت نفسه، وجعل يضحك أو يتضاحك إلى أن افترقنا ...
ولا أدري إذا كان نجح في ذلك الامتحان أو لم ينجح، على أن مما يطمئنني على نجاح صديقي أنني أرى جمهرة الأطباء العظام، وعصارة أهل الفضل وأرباب الأخطار في البلاد يحتفلون اليوم ببلوغه الستين.
ومما يزيدني اطمئنانا أن الاحتفال معقود في صميم الجامعة المصرية لا بجوار كشك الموسيقى بحديقة الأزبكية!
سيداتي، سادتي
إن الله الذي حبا مصر بهذا النيل، ووهبها هذا الجو الصافي الجميل، وأطلع شمسها على الدوام آلقة وضية، وجعل أرضها على طول الزمان، منجبة سخية، لقد حباها كذلك بالدكتور علي إبراهيم.
وإذا كان الدكتور علي «باشا» إبراهيم إنسانا كسائر الناس، فإنه إنسان مخلد خلود هذه النعم الظاهرة، فهو مخلد في آثاره مخلد في بنيه وتلاميذه، ثم في أبنائهم وتلاميذهم، وهكذا إن شاء الله إلى يوم الدين، وتبارك الله أحسن الخالقين!
1
أحب أولادي وأكرههم
أحبهم
تدعوني «الهلال» إلى أن أنشئ في هذا الموضوع مقالا، كأن لي في أمر الولد شأنا غير شأن الآباء جميعا، إذ شأني فيه شأن الناس جميعا، اللهم إلا أن تكون قد تفضلت فنصبتني نائبا عن كل والد في الأرض، من يوم كان الإنسان إلى يوم يخلو وجه الأرض من هذا الإنسان!
إذا كان الأمر هكذا، فإنني باسم من تشرفت بالنيابة عنهم أقول: إنني أحب أولادي أشد الحب، وأعطف عليهم أبلغ العطف، وأجد لهم من الرقة والرحمة والحنان ما لا أجد لأحد في العالمين؛ أحبهم لأنني أحب نفسي وهم بعض نفسي، بل إنهم عندي لخير ما في نفسي، هم عصارة قلبي وحشاشة نفسي وكبدي، وأجمل ما يترقرق في صدري من منى وآمال، وأبهج ما يطوف برأسي من حلم وخيال، وقد تجسد كل أولئك أناسي تغدو على الأرض وتروح!
وإنني لأرى أولادي إذا حضروا، وأذكرهم إذا غابوا فأجد من اللذة والسعادة والمتاع، ما لا تعد له كل ما في هذه الدنيا من لذة وسعادة ومتاع!
أحبهم لأنني أحب نفسي وأتمنى لو يكتب لها الخلود في هذه الدنيا، وإذا كان الموت حقيقة لا مناص منها أبدا، فأولادي هم واصلو حياتي، ومطيلو أجلي ومادو ذكري والمثبتون على الزمان لاسمي.
أحبهم لأنهم أول من يعينني في ضعفي، ويسرع إلى الاستجابة لي في شدتي، ويرفه عني في شيخوختي، ويواسيني في علتي، ويتلقى في العزاء إذا هم القضاء بين الزفرة والبكاء.
أحبهم لأن اسمي من يوم أموت لا يرد على خاطر أحدهم، أو يجري بسمعه على أي لسان، إلا بادر فسأل الله لي الرحمة وإسكاني أعلى الجنان.
وولد لي ولد وكان عندنا بواب أربت سنه على المائة، فلما لقينى وقد انتهى إليه الخبر كانت دعوته لي: «الله يبقيه حتى يحل عقدة كفنك!» ووالله ما دعي لي بدعوة كانت أبرد على كبدي، ولا أحلى موقعا في نفسي من هذه الدعوة، ويا ليتها قد أجيبت ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ولقد قال بعض السابقين: إن القرآن الكريم على كثرة ما أوصى الولد بالوالدين، وأمره بشدة البر بهما والعطف عليهما والطاعة لهما، لم يوص الوالد بشيء من هذا للولد ولا مرة واحدة، وذلك بأن الوالد غير محتاج إلى الوصية أبدا، فالإنسان يحب ولده كما يحب نفسه، بل لقد يؤثره في أكثر الأحيان على نفسه.
قال زيد بن علي بن الحسين لابنه يحيى - رضي الله عنهم: إن الله لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فلم يوصني بك.
الوالد يسعى في الحياة ويجهد ويكد؛ ليستريح الولد ويسعد وينعم، وإذا ألمت بالولد وعكة، استحالت في قلب الوالد علة. وإذا ضربته العلة مات أبوه كل يوم عشرين موتة، ضارعا إلى الله في صدق وإخلاص أن يحول ما بولده إليه إذا لم يكن من الفدية مناص!
ولقد أرى الصغير صحيحا معافى، ما به أثر لجهد أو وعك، ولكن نفسي لا تستريح إلا إذا أكثرت من حبه وعد نبضات عرقه، ولقد يخرج إلى الطريق لبعض شأنه، فيمثل لي الشيطان اللئيم مكروها أصابه، فأحس قلبي يتمشى في صدري.
وأخيرا، فإننا معشر الناس مهما تصف نفوسنا، وتطب قلوبنا ونترك من خلة الأثرة فينا، ونرض أخلاقنا على وصاة الدين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، إننا مهما نبلغ هذه المنزلة الرفيعة من الفضائل، لا نستطيع أن نحب لغيرنا أكثر مما نحب لأنفسنا، اللهم إلا أن يكون الولد، ومما يحسن أن يذكر في هذا المقام أنه مما جاء في القرآن الكريم ترغيبا في الإيمان وتحبيبا فيه إلى القلوب قول الله - جل مجده:
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم
1
من عملهم من شيء .
2
وقال تعالى ذكره في الحض على التقوى والتخويف من معصية الله، والتحذير من مجانبة العدل والصواب:
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا .
3
وقد رأيت كيف أن الله تعالى في الآيتين الكريمتين قد رغب بمحبة الولد وأرهب، وبغض بالخوف عليهم وحبب.
وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «ريح الولد من ريح الجنة.» وقال لأحد ابني بنته: «إنكم لتجبنون، وإنكم لتبخلون، وإنكم لمن ريحان الله.» وورد أنه حين جاءته البشرى بمولد فاطمة - رضي الله عنهما - قال: «ريحانة أشمها ورزقها على الله.»
ودخل عمرو بن العاص على معاوية وبين يديه بنته عائشة، فقال: «من هذه؟» فقال: «هذه تفاحة القلب.»
وقيل لبعضهم: «أي ولديك أحب إليك؟» فقال: «هما مني بمنزلة السمع والبصر!»
وكان عبد الله بن عمر يذهب بولده سالم كل مذهب، فلامه الناس فيه فقال:
يديرونني عن سالم وأديرهم
وجلدة بين العين والأنف سالم
ومن أحسن ما قال الشعراء في حب الولد قول أعرابي وهو يرقص ولده:
أحبه حب الشحيح ماله
قد كان ذاق الفقر ثم ناله
إذا يريد بذله بداله
وقول أعرابية:
يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامى بالبلد
4
وقول أعشى سليم:
نفسي فداؤك من وافد
إذا ما البيوت لبسن الجديدا
كفيت الذي كنت أرجى له
فصرت أبا لي وصرت الوليدا
وهذه الأبيات المنسوبة إلى حطان بن المعلى:
لولا بنيات كزغب القطا
5
حططن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمض
وقول بعضهم:
لقد زاد الحياة إلي حبا
بناتي إنهن من الضعاف
مخافة أن يرين البؤس بعدي
وأن يشربن رنقا
6
بعد صاف
وأن يعرين إن كسي الجواري
فتنبو العين عن كرم عجاف
7
وأخيرا قول أعرابي يرثي ابنته:
يا شقة النفس إن النفس والهة
حرى عليك ودمع العين منسجم
قد كنت أخشى عليها أن تقدمني
إلى الحمام فيبدي وجهها العدم
8
فالآن نمت فلا هم يؤرقني
تهدا العيون إذا ما أودت الحرم
وبعد، فهذا ما يملك قلبي من الترجمة عن بعض حب الولد، وإن مما يتدسى من العواطف في أطواء الجنان ما لا يستطيع أن يبلغه القلم أو اللسان، وذلك غير ما استعنت به من أقوال صدر من أعلام البيان، وعلى رأسهم سيد الأنام - عليه الصلاة والسلام.
أكرههم
نعم! وأكرههم بقدر ما أحبهم؛ أكرههم لأنهم لو لم يكونوا ما جهدت هذا الجهد في السعي عليهم، ولا تعنيت هذا العناء في تربيتهم والترفيه عنهم، بلى لبقي لي فضل أتمتع به في الحياة وأنعم.
أكرههم لأنهم لا يجزون من العطف علي والرقة لي، ولو بنسبة واحد في المائة من عطفي عليهم ورقتي لهم.
أكرههم لأنني إن استنظرتهم لم يصبروا، وإذا واتيتهم لم يشكروا.
أكرههم لأنهم قد يدفعونني إلى سوء الخلق والتحيف من المروءة، وحسبي في هذا قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن الولد مبخلة مجبنة.»
أكرههم لما يحز من الآلام في قلبي كلما شكا أحدهم أو ألمت به علة، فكيف بما هو أكثر من ذلك مما يطير اللب، ويخلع شعب القلب، والعياذ بالله!
أكرههم لكثرة ما ألهب الذهن بطول التفكير في حاضرهم، وما يفري القلب من الإشفاق عليهم في مستقبلهم.
أكرههم لأنهم كثيرا ما يتعذرون على نصحي، ويخالفونني إلى بعض ما أنهاهم عنه مما يؤذيهم ولا يجديهم، ويضرهم ولا ينفعهم، ويبادونني بالغيظ والحقد إذا قمت لتأديبهم وبسط العقوبة الحق عليهم.
وبعد، فأرجو إذا حققت النظر فيما قلت أن تستيقن أنني لا أكره ولدي كل هذا الكره؛ إلا لأنني أحبهم كل هذا الحب.
الشحاذون المودرن
قيل - والعهدة على الراوي: إن مركبا اشتدت به الريح في يوم عاصف، فجعلت تتقاذفه الأمواج، وهو يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، ويغترف من ماء اللج ما يثقله، حتى لم يشك السفر في أنه لا محالة غارق بهم، فراحوا يعجون بالدعاء إلى الله تعالى، ويسألونه النجاة من هذا الهلاك، وكان أشدهم اجتهادا في الدعاء والضراعة والابتهال رجل يقول في ابتهاله: يا رب، ماذا عسى لو هلكت أن يكون مصير زوجتي وأولادي السبعة، وليس فيهم من يتكسب، ولا من بلغ سن التكسب؟ ثم ماذا عسى أن يكون مصير أختي المطلقة وولديها الصغيرين؟ ثم من ذا الذي يعول أختي الأرملة وأولادها الأربعة وأنا أحمل الجميع؛ لأنه ليس فيهم من يستطيع أن يعود على الشمل ولو بدرهم واحد؟
أنا لا تعنيني الحياة، ولكن كيف الحيلة بعد موتي في كل هؤلاء؟
وما برح يرفع الصوت بهذه الضراعات حتى كاد يشغل سائر السفر بشأنه عن شأنهم، وحتى كادت تذوب كبودهم من الرقة لحال عياله، وسائر من يعول من آله، ويشاء الله أن تهدأ الريح ويسكن الموج، ويسكن وجه الماء وتبلغ السفينة الشاطئ بسلام.
وما كادت قدم هذا الرجل تطأ الأرض حتى صاح: «والله العظيم، ما كانت لي قط زوجة ولا ولد، ولا لي أخت أرملة ولا مطلقة، وما علت أحدا في الحياة غير نفسي»، وخيبة الله على الجاهل الأحمق المأفون!
ولقد سبق لي من بضع سنين أن أجريت كلاما في الراديو في الشحاذين التقليديين، واستنظرت السامعين الحديث في الشحاذين المحدثين - المودرن.
وإذا كانت عدة هؤلاء تزداد في هذه الأيام بنسبة هائلة، وأساليبهم في الكذبة تتنوع وتتلون، فقد حق علينا أن نلم بحديثهم في مقال.
على أننا قبل أن ندخل في هذا، نرى من الخير أيضا أن نطوف ببعض القول في الشحاذين التقليديين، وقد كادوا ينقرضون ويخلو وجه المدن الكبيرة منهم، حتى يخلو على الناشئ على وجه خاص صورتين واضحتين للعهدين، يستطيع بهما المقارنة بين الفنين: القديم والحديث، وليقدروا مبلغ التطور العظيم في أسلوب الشحاذة، هذا التطور الذي أصبح يكافئ بحق سائر نهضاتنا العظام!
كان الشحاذون، ولا زالت منهم بقية قليلة يعتمدون في المسألة على إلحاح الجوع، والعجز عن السعي والعود على الشمل، بألوان من الأمراض والأسقام، والنقص في الخلقة والآفات المقعدة للمرء عن السعي والحركة في أسباب الرزق، فكان دعاؤهم في الطرق، وعلى أبواب الأضرحة وفي الجبانات في الجمع والمواسم من نحو: اللقم تمنع النقم! هنيئا لك يا فاعل الخير! عشا الغلابة عليك يا رب! سيد كريم أو ست كريمة تحن على العاجز يا محسنين! ...
ولا جدال في أن دعوى الجوع والعجز عن الرفق بالبدن في سبيل الرزق، تحتاج إلى اصطناع ما يثبتها من بلي الثوب وبلي الجسم، وقد تعصب العينان لو شك ذهاب البصر بالرمد، وقد يظهر النقص في الخلقة بفقد الذراع الأيمن، أو فقد أحد الساقين أو فقدهما جميعا، فلا يسع الشحاذ المسكين إلا أن يزحف على الأرض زحفا، فإذا لم يكن المولى جلت قدرته قد من عليه بهذه النعمة أو تلك، مضى إلى رجل أخصائي كان مثواه في بولاق، وكانوا يدعونه الربيط، فإذا كتب لك، أو كتب عليك أن تجوز بدكانه في الصباح الباكر رأيت خلفا مزدحمين ببابه، هذا يطلبه ليربط ساقه ربط العرج، أو ساقيه ربط الكساح، وهذا ليثني ذراعه حتى لا يشك رائيه في أنه قد فقد الذراع، وهذا ليشد له بعض جسده ويرخي منه بعضا، فهو ومن ضربه الفالج وأبطل نصفه بمنظر سواء وهكذا!
وأنت خبير بأنه إذا كانت الأسقام والعلل والنقص الطارئ على الخلقة هي رأس مال هؤلاء القوم، ووسيلتهم إلى الرزق، بل إلى الجمع والادخار وإحراز الغنى، وإدراك اليسار قدرت مبلغ تحاسدهم على العلل والآفات، حتى لتسمع من بعضهم إذا غبط آخر: «اللي بلاه يبلينا يا سيدي!» وتسمع من غيره وقد أخذته الموجدة على غيره: «بيتكبر على إيه، هو ما حدش انشل إلا هوه؟ آدر ربنا يحرمه من الشلل من طرفة عين، ويشمت فيه العدو!»
هذا، بالاختصار كان سبيل الشحاذين القدامى أو الشحاذين التقليديين، وتلك كانت وسيلتهم في فنهم وسعيهم في الرزق ولجمع المال، أما الآن وفي عصر النهضة، فمن النادر جدا أن تسمع مثل: اللقم تمنع النقم ... إلخ. أو تسمع رغيف عيش وصحن طبيخ! أو تسمع: عشا العاجز عليك يا رب ... ومن النادر جدا أن تسمع مثل هذا أو ذلك، فإذا قدر لك أن تسمعه ففي الأزقة والدروب التي لا تسلكها عين البوليس، ولا تقع الأصوات منها لسمعه وإلا لكان - لا سمح الله - في الملجأ الكافل المثوى والمأكل والملبس متسع للجميع!
وإذا كان شحاذو الأمس لا يظهرون إلا في بلي الثوب وبلي الجسم، فشحاذو اليوم لا يظهرون إلا في نضارة الشباب، وبضاضة الأهاب، وأناقة الثياب هم «ذوات» قد انحدرت النعمة عنهم، أو أنهم ما برحوا يتقلبون في النعمة، ولكن كرثهم من الطوارئ العاجلة ما أحوجهم إلى المعونة العاجلة، وأمثال هؤلاء لا يسألون رغيفا ولا «صحن طبيخ» حاشا لله! إنما يسألون نقودا، ونقودا قد تكون في بعض الأحيان كثيرة، وماذا لعمري يجدي الرغيف على من هبط القاهرة من الإسكندرية مثلا، واستل الطرارون - النشالون - كيس نقوده، وماذا يغني صحن الطبيخ من مات عنده ميت لا يجد ما يجهزه به ويحمله إلى مرقده في مقبرة؟ وماذا ينفع هذا أو هذا في إكمال قسط المدرسة وقد حل، وأوشكت إدارتها أن تطرد الولد طردا، وتدعه عن طلب العلم دعا؟ ثم ماذا يفيد هذا أو هذا في معونة مدرسة تعلم اليتامى وأبناء الفقراء بالمجان، ما تقتضيهم على التعليم والطعام قرشا؟ وهكذا! ...
وهؤلاء لا يلقون الناس بالضرورة في الثوب الخلق، ولا بالوجه الشائه ولا بالجلد المتقيح، بل إنه كلما عظمت أناقتهم، وجمل سمتهم ونضر خلقهم، كانوا أدنى إلى الصدق في المسألة وأدر لعطف المسئول، ولا يذهب عنك أنه قد ورد في الأثر: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس.»
وهؤلاء كذلك لا يتسكعون في الأزقة، ولا يزحفون في الدروب؛ لأن سكانها لا يجودون إلا باللقمة، ولا يخرجون للكشكول السائل إلا فضالة الطعام، وذلك عهد قد مضى - بحمد الله - وانقضى بل لا تراهم إلا منخرطين في أعلى الشوارع وأحفلها بعلية الناس
وكثرة هؤلاء لا يتعبون أنفسهم في طلب الزبائن والاختلاف إليهم في دورهم، بل إنهم ليرتصدون لهم في المقاهي أو على لقم الطريق، حتى إذا جاز الزبون بهم دعوه كما تدعو بائع التفاح، أو الخيار، أو بائع الفجل أو غيرهم من هؤلاء الباعة المترفقين بأبدانهم السريحة سواء بسواء!
ومن هؤلاء من يعترضك في الطريق، ولا يستحي من أن يقول لك: «والله أنت ابن حلال لقد قضيت أكثر من ثلاثة أشهر في البحث عنك، وها أنا ذا قد أصبتك والحمد لله!» ثم يفضي إليك بالمسألة، وثلاثة أشهر وهو يبحث عنك ولا يصيبك، حتى أذنت المصادفة وحدها باللقاء! ولا والله ما زاد على أن جعلك متشردا ليس لك عمل ولا لك محل إقامة، أو أنك فار من وجه العدالة، أو أنك هارب من اللومان والعياذ بالله!
ولقد يقع أن يعتريك أحد هؤلاء الشحاذين «المودرن» في دارك، أو في مثوى عملك أو في المقهى، إذا كنت ممن يثوون إلى المقاهي، وقد بسط يده وفيها حفنة من الدراهم، ويباديك بأن ما في يده هو أقصى ما في جهده من قسط المدرسة، وأنت أبر وأكرم من أن تدع الولد يطرد من المدرسة ويحرم من نعمة العلم في شيء يسير لا يضرك ولا يتحيف مما أفاء الله عليك من النعم!
ومن أظرف ما سمعت، والعهدة على الراوي، أن هذا الشحاذ الغيران على تعليم ولده وتثقيفه قد لا تكون في يده هذه المصيدة، وأعني بها المائة والخمسين قرشا، والمائة والسبعين التي تنقص باقي القسط فيستعيرها من بعض رصفائه، كما كان فساد أولاد البلد يستعرن من الجارة الغربال والمعجن - ماجور العجين - على أن يرد إلى أصحابه بعد قضاء الحاجة منه!
وقد حدثني من لا أشك في خبره أنه كان ذات يوم ساعيا مجدا في الطريق، فلمحه رجل من هؤلاء يعرفه فركض خلفه حتى أدركه، وحلف له بكل محرجة من الإيمان أنه قد مضى عليه وزوجه وأولاده الخمسة ستة أيام ما ذاق أحد منهم لقمة واحدة، فقطب صاحبي وجهه واصطنع الجد، وقال في حدة وعنف: اسمع يا هذا! إنني إذا أطعمتك وأهلك وولدك أكون أكبر مجرم في العالم.
فقال له الرجل: وكيف ذلك؟ قال: أنت تعلم أنني لن أعولكم أبد الدهر، وكل ما يسعني هو أن أمدكم بثمن وجبة أو وجبتين، قال الرجل: ولسنا نطمع في أكثر من هذا، فقال صاحبي: أبعد أن عانيتم في طريق الموت جوعا ما عانيتم، حتى لم يبق بينكم وبينه إلا ساعات معدودة تبلغكم نهايتها الراحة الكبرى من هذه الحياة الأليمة، أردكم إلى الحياة ثانيا لتعانوا في طريق الموت ما عانيتم، وتعاودوا هذه الآلام التي جازت بكم؟ أفصدقت أنني إن فعلت أكون أكبر مجرم في العالم!
ومن أعجب ما يذكر في هذا الباب أنه في أحد العشايا من الأسبوع الماضي، قد اعترضني في بعض الطريق رجل لا يخلو سمته من تجمل، وثيابه من تأنق وحلف لي بكل مؤثمة من الإيمان، أنه قد احتسب ولده في الصباح الباكر ولا يزال مسجى في البيت؛ لأنه لم يجد نفقة تجهيزه ودفنه، وأسرع تأكيدا لقوله، فدس في يدي ورقة فإذا هي ترخيص بدفن «فلان» ولم يرعني إلا أن تاريخ هذا الترخيص يرجع إلى أكثر من ستة أشهر.
حقا لقد راعني وهالني، وكاد يذيب كبدي، أن تظل جثة هذا الغلام المسكين رهن البيت، هذه المدة الطويلة، ومن يدري فلعلها تظل كذلك مدة أطول؟ وانطلقت لوجهي وأنا ألعن بلساني وقلبي قسوة هذا الإنسان، حتى على الأموات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبعد، فإنني الآن أستطيع بدوري أن أحلف في غير إثم ولا حرج على أنه ما قدم قادم من الإسكندرية فاستل الطرارون كيس نقوده، ولا كان ولد في المدرسة حل القسط من نفقات تعليمه، ولا قامت مدرسة تعلم اليتامى وأبناء الفقراء بالمجان أو بغير المجان، ولا كان هناك زوجة ولا خمسة أولاد جياع أو غير جياع، ولا ولد في الدار ميت ولا من الأحياء ... إلخ. إن هي إلا شهوة التبطل، والعيش، وإصابة اللذائذ، وإدخال المسرح على النفس بفنون المكيفات وكل أولئك على حساب العاملين، وقد يكون فيهم العليل المكدود، وقد يكون فيهم من يعييه ويرهقه السعي على الأهل والولد، وقد يكون فيهم من يجهده المعروف بصلة المحتاج من ذوي القربى أو المسكين حقا أو اليتيم المحروم!
فعليكم أيها العاملون أن تضاعفوا السعي مهما يجهدكم السعي، وأن تقبضوا أيديكم عن الإنفاق على الأهل والولد، وألا تبسطوها للمحتاجين من ذوي القربى أو تمدوها بالمعروف لليتيم المحروم، وإن كل ما تجمعونه بالسعي والكد ينبغي أن تحفظوه في أيديكم عامة نهاركم وصدرا من ليلكم، حتى إذا أوقعت المصادفة على أحدكم عين شرخ من هؤلاء المتبطلين أسرع فادفعه إليه غير مأجور ولا مشكور!
الكذب الفني
لا شك في أن الكذب يعد من الرزائل في كل زمان وفي كل مكان، بل لا شك في أنه من أخبث الرذائل جميعا، بل لا غرو على من يذهب إلى أنه أخبث الرذائل جميعا.
لست أسوق هذا الحديث درسا في الأخلاق فأشرح مزايا الصدق ومحاسنه وأورد مقابح الكذب ومآثمه، فذلك أمر مفروغ منه من الأزمان الطوال.
وإنما أريد أن أتحدث في هذا حديثا يسيرا لعله يجدي فيما قصدت إليه بإنشاء هذا المقال.
وبعد، فأنت خبير بأن من يأخذ نفسه بفضيلة الصدق ويطبع عليها لسانه، تراه يتأثم من مقارفة الكثير من الرذائل، ويتحرج من إتيان ما يعيب الرجل المربئ: ذلك لأنه يخشى إن هو سئل الوقوع بين أمرين خيرهما شر وأحلاهما مر، وهما التورط في الكذب، وقد علم أنه رذيلة الرذائل، وإما الصدق الذي يكشف من أمره ما لا يجب أن يصله الناس به، ويعهدوه عليه.
أما من راض نفسه على الكذب، وأسلم زمام لسانه لهذه الرذيلة فهذا، ولا ريب من وطن نفسه على مقارفة ما يشاء من المقابح، ومعاطاة كل ما يلذه من المآثم، مستمدا الخلاص من الكذب، وهو في ظنه لا ينضب معينه ولا ينفد مدده غافلا على أن جعل الكذب كما قيل قصير، وأنه بحسب المرء أن تحصى عيه كذبة ثم كذبة؛ ليتمثل دائما للناس كذابا لا يصدق أبدا ولو صدق، ولا ينطق الحق مطلقا وإن نطق!
وهذا من الجهة الفردية، أما من جهة المجموع فالأمر أجل وأخطر، وأرجو أن تستحضر في ذهنك الآن قضية مسلمة سهلة واضحة، وهي أن نظام الجماعات كله قائم على صحة النقل، وفرض صحته سواء أكان المتحدث مترجما عما في نفسه أو راويا عن غيره، على هذا يدور نظام الجماعات في كل زمان وفي كل مكان، إذ إن الأصل أن يصدق المتكلم، كما أن الأصل أن يصدق السامع، وعلى هذا الأساس تجري المعاملات بين الناس في مختلف الأسباب، وكذلك ينتظم شأن الجماعة، ويقوم التعاون بين الأفراد على الاضطلاع بأعباء الحياة، بحيث تنتظم منها وحدة يكون الأفراد منها بمنزلة الأعضاء من جسم الإنسان.
ولنقدر أن جماعة شاع فيها الكذب، وقل فيها الصدق ومطابقة الأخبار للواقع، فإن مما يلزم هذا ويتبعه فورا أن يسود التكذيب الجماعة، فلا يصدق أحد أحدا أو لا يكاد يصدقه ويركن إليه قوله.
فلعمري، ماذا يكون شأن الجماعة في هذه الحال؟ وكيف ينهض الناس بالأعمال المشتركة، وكيف يتم التعاون بين الأفراد، والحياة الاجتماعية، كما تعرف، إنما هي تعامل وتبادل وتقارض، ومدار هذا كله الثقة العامة، فإذا فقدت هذه الثقة والعياذ بالله انهدم كيان الجماعة، وأصبح بنيانها الشاهق أنقاضا على أنقاض!
هذا والكذب على قبحه قد يساغ في بعض المواطن إذا دعت إليه ضرورة، والضرورات - كما قالوا - تبيح المحظورات، وشأنه في هذا شأن غيره، فإن الضرر الكثير لا يخلو من نفع قليل، والشر الكبير لا يخلو من خير صغير، بل لقد يكون الكذب محمودا في بعض الأحيان.
ومن المواضع التي يسوغ فيها الكذب، الكذب على الصغير، إذا لم يكن من ذلك بد لتسكين ثورة نفسه والترفيه عنه، وإدخال السرور عليه، ومن تلك المواضع الكذب للإصلاح بين الزوجين أو بين الصديقين، على ألا ينجم عن ذلك ضر.
ومن المواضع التي يحمد فيها الكذب، بل التي ينبغي فيها اتخاذه وتعمده والإلحاح فيه، الكذب في مكايد الحروب وخدعها، فإن الصدق في هذا حيث يستغله العدو ويسلك منه إلى الظفر مما يلحق بالخيانة والإجرام، على أن من الناس من لا يأذنون لألسنتهم بالكذب مهما يكن الأمر، ولقد يعوذون في مثل هذه المقامات بالتوريات، وقد قيل: في المعاريض مندوحة.
وعلى الجملة فإننا نستطيع أن نشبه الكذب بالسم، فإنه إذا كان في طبيعته القتل والفتك، فلقد ينتفع بقليله في شفاء العلل وإبراء الأسقام في بعض الأحوال!
وبعد، فإنما يجر الناس إلى الكذب أسباب شتى ، كما تختلف صور الكذب نفسه باختلاف طبائع الكذابين، ومن أهم ما يدعو إلى الكذب، وفي الصغار على وجه خاص، الخوف والتخلص من المسئوليات، ومن أهم ما يدعو إليه فيمن ارتفعت بهم السن، على وجه خاص أيضا، حب الظهور بألوان البطولات الزائفة لا ينفق في سبيلها شيء من جهد أو مال، أو استهداف لخطر أو تعرض لأذى من أي نوع كان، وقد يدعو إلى ذلك حب التجمل للناس واستئلافهم والظهور بالإسراع إلى قضاء حوائجهم.
وكيفما كان الأمر، فإن الكذب كثيرا ما يضحى غريزة وجبلة يعمد إليه من ابتلي به في غير ما رغبة ولا رهبة، ويصطنعه في غير ابتغاء منفعة أو دفع مضرة، بل لقد يعقل هذا وهو يعلم أنه يضره ولا ينفعه، وإذا عرفت غلبة العادة التي تضعف بالطبع واتصلت بالغريزة عرفت أن مثل هذا مجبور ما له في الأمر خيار! وبعد، فالحديث في الكذب وقبحه والكذبة وإثمهم شيء يطول في غير طائل، وما للكذب المعتاد أعني مجرد رواية غير الواقع سقنا هذا الحديث، وإنما سقناه لغرض آخر جليل يستحق أن يقابل به مطلع أبريل!
وأرجو أن تعلم أن من الكذب كذبا فنيا، وإنني أعني هذه الكلمة بكل ما تحمل من معنى، بل إنني لأمضى إلى أبعد من هذا فأقرر أن هذا «الكذب الفني» مما يمكن أن يضاف بحق إلى طائفة الفنون الجميلة، ويوضع في صفها وينظم في سلكها، إذ لا نجده يقصر عما يعطيك النحت أو التصوير أو الموسيقى من الأنس واستراحة النفس، وما تثير فيك في بعض الأحيان من الطرب، وما تبعث من الأريحية، بل ما تذكي من حسك وتنفذ من فطنتك.
نعم، هذا اللون من الكذب له فن جميل، له كل ما للفنون الجميلة من رائع الأثر، وبالغ الخطر! هو فن جميل لا يجيده ولا يبرع فيه إلا من رزق الطبع وأوتي الموهبة، فإذا تكلفه من لم يؤت ذلك خرج سمجا باردا ثقيلا كشأن سائر الفنون الجميلة في هذا، سواء بسواء.
وأول ما يبنى عليه هذا الفن أن الاختلاق والتزيد فيه لا يضر بشيء ولا يؤذي أحدا، على أنه بالغ الغاية من الإعجاب والإطراف والإضحاك، ولعل من مميزاته الواضحة أنه لا يحاول قهرك على التسليم بأنه أمر واقع لا ريب فيه، بل إنه ليعرض نفسه عليك عرضا بسيطا، وقد يتكئ في معرضه على يمين متجلجلة متخلخلة، ولك في النهاية حكمك في الرد أو في القبول.
وهذا الكذب الفني ليس ابن اليوم، ولا ابن الأمس القريب، بل إنه قائم معروف، وأصحابه المبرزون فيه معروفون كذلك من الزمان البعيد، ومن ذا الذي ينكر أبا حية النميري مثلا أو ينكر فنه العظيم، ومن ذا الذي يزعم أن صنعة هذا الرجل مما يستطيع أن يتكلفه من شاء من العالمين؟
أليس من التحف الفنية الجميلة قوله يحدث عن نفسه: سنح لي ذات يوم غزال فرميته بسهم، فتيامن الغزال فتيامن السهم وراءه، فتياسر الغزال فتياسر السهم وراءه وما زال في عدوه، يراوغ السهم بالتيامن مرة وبالتياسر مرة أخرى، والسهم يلاحقه كذلك حتى أدركه ببعض الجبانات فصرعه!
ولا شك أن من القطع الفنية الرائعة ما حدث به هذا أبو حية قال: عن لي ظبي فرميته بسهم، فانطلق الظبي وانطلق السهم وراءه، ثم ذكرت بهذا الظبي حبيته لي فعدوت وراء السهم حتى قبضت عليه قبل أن يبلغه!
وإذا كانت حكاية القزان والكرنبة أو السمكة لا يزال لها رونق في بعض الأسمار، فاعلم أن هذا المعني مسبوق من العصر القديم، قال الأصمعي: قال الخليل بن سهل: أعلمت أن طول رمح رستم كان سبعين ذراعا من حديد مصمت
1
في غلظ الراقود
2
فقلت: ها هنا أعرابي له معرفة، فاذهب بنا إليه فحدثه بهذا، فذهبت به إلى الأعرابي فحدثه، فقال الأعرابي: قد سمعت بذلك، وبلغنا أن رستم هذا كان هو واسفندريار أتيا لقمان بن عاد بالبادية فوجداه نائما ورأسه في حجر أمه، فقالت لهما: ما شأنكما؟ فقالوا: بلغنا شدة هذا الرجل فأتيناه، فانتبه فزعا من كلامهما فنفخهما، فألقاهما إلى أصبهان فقبرهما اليوم بها، فقال الخليل: قبحك الله ما أكذبك ! قال: يا ابن أخي ما بيننا من شيء إلا وهو دون الراقود!
وما أبدع روائع النفاجين،
3
ما روي أن عاملا في روسيا في مصنع لتقديد اللحم، لقي فرنسيا يعمل في بلاده في مثل هذا المصنع، فجعل كل منهما يكاثر بمصنعه ويهتف بعظمته وقوة آلاته حتى قال الروسي: إن مصنعنا تساق إليه قطعان الخنازير من هذه الناحية فلا تلبث بضع ثوان حتى تخرج من الناحية الأخرى لحوما مقددة مصففة في العلب، عليها اسم المصنع وشعاره!
فقال الفرنسي: وما هذا؟ فإن مصنعنا ليزيد على ذلك بأنه إذا خرج بعض العلب فاسدا ردت ثانيا، فخرجت من الناحية الأولى خنزيرا حيا سويا!
ومثل هذا ما قيل من أن فرنسيا أقبل على صاحبه الروسي، وجعل يحدثه عن شدة البرد في بلاده، قال: خرجت في يوم من أيام الشتاء إلى إحدى الغابات فاعترضني أسد فأسرعت وتسلقت شجرة باسقة، وجلست على رأسها، وكان خنجري قد سقط عند أصلها، وظل الأسد رابضا إلى جذع الشجرة في ارتصادي وترقب افتراسي، ومن شدة الخوف قطر مني ماء ما لبث أن انعقد من عظم البرد قضيبا ثلجيا، فتناولت به الخنجر وتدليت فشققت به صدر الأسد!
فقال له صاحبه الروسي: وما ذاك؟ إن هذا ما يكون عندنا في وقدة القيظ، أما إذا كان الشتاء وخرج الناس في الصباح الباكر لطياتهم، أقبل بعضهم على بعض بالتحيات المعتادة، ولكن الكلام ينعقد على شفاههم فلا يهجس منه حرف واحد، فإذا طلعت الشمس وخفت حدة القر، رأيت آفاق الجو كله تتصايح ب «صباح الخير - أسعد الله صباحك - أرجو أن تكون بعافية - صحتي جيدة وأنت - إلى أين - الحمد لله - صاحبك التوفيق ... إلخ.»
وبعد، فلقد كنت أحب أن أتحدث عن عباقرة الفن الحديث ممن أدركناهم وممن لا يزالون قائمين في الحياة وأعرض لخواص فنهم وأشهر ما جادوا فيه من الطرف، لولا أن الكلام قد طال، فإذا كان في العمر فسحة فلعلنا موفقون إلى هذا في أبريل المقبل إن شاء الله.
Page inconnue