أما طاهر عبيد فقد وجد نفسه تحت حكم الزعيم الثاني في عالم غريب كريه لا يحتمل، وأساء به الظن منذ أول ساعة وعده عميلا لجميع القوى الرجعية في الداخل والخارج، وما لبث أن عزل من رئاسة تحرير الفكر دون أن يفصل من المجلة، فغضب وغضبنا معه وامتنع عن الكتابة فلم يهتم به أحد، ولم يظهر له أثر في أي جهاز من أجهزة الإعلام. ولما حدث النصر العظيم تلقاه بفتور غريب، وراح يرجع جذوره إلى البطل الراحل، إنه الوحيد في شلتنا الذي عبد الراحل في حياته وقدس ذكراه بعد مماته، ولولا صداقتنا العجيبة لربما ضاق بنا وانصرف عنا، ولكنه أبقى علينا وصمد لنا يلقى الجد بالجد والهزل بالهزل، واقتصر نشاطه في تلك الفترة على نشر بعض القصائد في المجلات العربية التي تصدر في الخارج. ولما جاوز الستين بقليل صادفته تجربة جديدة لم تجر لأحد في تقدير؛ في ذلك الوقت عرف محررة جديدة تدعى أنوار بدران التحقت بالفكر، وضح أنها كانت من قرائه وأن إعجابها بشعره فاق كل أحلامه، وقد زارته مرات في قشتمر وتعرفت إلينا، وعرفنا أنها خريجة آداب قسم اللغة الإنجليزية، ووجدناها غاية في الذكاء وعلى قدر عظيم من الثقافة بالقياس إلى زمانها وعمرها البالغ خمسة وعشرين عاما، سمراء رشيقة عادية الملاحة صغيرة العينين وبأنفها فطس خفيف ولكنها في الجملة جذابة، ومن واقع الملاحظة الدقيقة سأله إسماعيل قدري ذات ليلة: هل تحب تلميذتك؟
فأجاب بإيجاز وصراحة: نعم.
فتساءل حمادة الحلواني: هل اللعب على الطريقة العصرية ممكن؟
فأجاب طاهر: ولكن عاطفتي جادة!
فقال صادق صفوان: ظننتك أحببت بما فيه الكفاية. - ليس للحب قانون! - ورئيفة؟! - انتهت من زمن غير قصير.
فقال إسماعيل قدري ضاحكا: شلتنا تستحق أن يخصص لها فصل في كتب الجنس!
فقال طاهر مستسلما: الحذر لا ينجي من القدر!
ومن الغريب أنه في ذلك الوقت حملت ابنته درية لأول مرة منذ زواجها، حملت بعد أن قاربت الأربعين، وبعد أن يئست من الحمل واستشارة الأطباء، وبدلا من أن ينتظر طاهر حفيده في وقار مناسب أسلم نفسه للحب. وجاءنا ذات ليلة ثملا بفرحة شاملة لم تر عليه منذ زمن طويل، وقال لنا قبل أن يطلب القهوة: سنتزوج!
ولم يسعنا إلا إزجاء التهاني، وسأله صادق: ورئيفة؟
فمط شفته السفلى، وقال: كان لا بد من المصارحة، موقف عسير ومؤلم ولكني متعود على مواجهة التحديات، وهي موقنة من أنها لم تعد تملك ما تعطيه .. وطمأنتها من أول الأمر بأنها ستبقى في بيتها معززة مكرمة.
Page inconnue