وتساءلنا عن معنى ذلك فقال حمادة: أي أن يخرج الإنجليز من مصر.
لعلنا لم نكن نعرف عن الإنجليز إلا أنهم جيراننا في العباسية حيث تقوم ثكناتهم، وكثيرا ما نرى جنودهم في الترام، ولأول مرة تنبض أسرنا بهذا الحديث الجديد، ووقعت واقعة في مدرستنا نفسها، في أعقاب ما عرف عن نفي الزعماء، المدرسة تجمع أجيالا متفاوتة في العمر من التلاميذ دخلوها في ظل أنظمة مختلفة، نحن أصغر الأجيال سنا ولكن يوجد تلاميذ في السنة الرابعة بشوارب! وذات صباح خرج من بين الصفوف تلميذ بشارب وصاح بصوت كالرعد: «إضراب»، وحصلت استجابة وهياج، وأمر الناظر أولى رابع بأن تذهب في رعاية المدرسين إلى الفصل مستأذنا الثائرين في استثنائهم من الإضراب لحداثة سنهم، وهدر الفناء بالخطب الحماسية، ثم تدفق التلاميذ إلى الخارج في مظاهرة عاصفة. أول درس عملي نتلقاه في الوطنية، سرى إلى قلوبنا الحماس رغم الغموض والجهل بما يقع، في بيوتنا سمعنا أصداء ما يحدث في الخارج تتردد بحرارة، لأول مرة يلتقي الآباء والأبناء في عاطفة متأججة واحدة، حتى الأمهات يصغين وينفعلن. أنباء المظاهرات يحملها إلى بيوتنا هواء ديسمبر البارد ولكننا نتلقاها دافئة بل ساخنة، ومصارع الشهداء تروى كالأساطير، دوريات الإنجليز تخترق شوارعنا محمولة في اللوريات مدججة بالسلاح، الهتافات تترامى إلينا من الحسينية جنوبا ومن الوايلية شمالا. سعد يحيا سعد، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، وتذاع الأخبار في منازلنا: قطعت المواصلات. - المظاهرات في كل مكان .. الفلاحون يحاربون.
زلزلت الأرض بغتة ولا تريد أن تسكت، تدفقت العواطف إلى قلوبنا لتخلقنا خلقا جديدا. اجتاح الحماس صادق وإسماعيل وحمادة، وطاهر لم يخل أيضا من حماس، المنشورات توزع فتؤجج النيران المشتعلة، وحدث في حينا حدث عظيم يوم اعتقل يسري باشا الحلواني منضما بذلك إلى طليعة الأبطال. ونظرنا إلى حمادة بإكبار، ويقول حمادة: بيتنا حزين ولكنه فخور، لو حدث ذلك في ظروف عادية لماتت ماما غما.
واحتجاجا على هدوء طاهر النسبي سألناه: ماذا عن والدك؟
فقال ضاحكا: بابا موظف، وهو من رجال السلطان، وهو مع ذلك مع الثورة ولكنه ...
فيسأله حمادة: ولكنه ماذا؟ - له رأي خاص في سعد! لا يعجبه تاريخه.
وقطبت الوجوه استياء فقال طاهر مخاطبا صادق: قريبك رأفت باشا الزين من رجال السلطان أيضا.
فقال صادق: هذا الموقف يخصه وحده ولا شأن لنا به!
وغطى الحماس والقتال والضحايا على مسيرة الحياة اليومية. انحصرنا نحن في عالمنا الصغير بين البيت والمدرسة، وفي المدرسة أصبح حمادة شخصية محبوبة يشار إليها بوصفه ابنا لبطل معتقل. وفي الفصل تطوع كل مدرس لتلقيننا درسا في التربية الوطنية مستهينا بأمنه وسلامته ومستقبله، وبفضل أولئك المدرسين العظام عرفنا ما أخفي عنا من تاريخنا منذ الثورة العرابية، وعرفنا سعد كمثال للقوة والنضال والذكاء والنزاهة منذ شبابه الأول، وثملنا بما سمعنا وانبثت فينا روح الوطنية التي لم تنتزع من قلوبنا حتى اليوم، وذاق البلد أول طعم للنصر بالإفراج عن الزعماء المنفيين، ثم شهد أعجب يوم في تاريخه يوم عودة سعد، وأطلق سراح يسري باشا الحلواني فيمن أطلق سراحهم، وحيته جماهير العباسية والحسينية والوايلية لدى رجوعه إلى سراياه بميدان المستشفى، وبفضل صديقنا حمادة استطعنا أن نتخيل احتفال عودة سعد الذي شاهده من موضع حجز للأسرة في فندق الكونتننتال. وشهدنا الأحداث تباعا، فطرأ الخلاف بين سعد وعدلي على وحدة الثورة، ووجدنا طاهر في جانب وبقيتنا في جانب آخر، كما اختلفنا سابقا حول ماشست وفانتوم، ولكننا - بخلاف الزعماء - حافظنا على مودتنا وصداقتنا الباقية. •••
وعلى حين يمضي البلد من كرب إلى كرب، وينفى سعد للمرة الثانية، ناهزنا جميعا البلوغ في فترات متقاربة. ثورة تنفجر في أجسادنا منذرة بالشر. إسماعيل قدري الوحيد الذي تعامل معها بجرأة فنقل ميدان عبثه الجنسي من سطح بيته إلى غابة التين الشوكي بغيط عم إبراهيم، أما صادق وحمادة وطاهر فكابدوا عذاب الغريزة تحت جناح البراءة والجهل.
Page inconnue