وتمت الزيارة في جو يعبق برائحة الفناء، الباشا طريح الفراش يطوي الفصل الأخير من حياته الشامخة، والهانم اشتعل شعرها شيبا وغاض من وجهها ماء الحياة. وصحبته رئيفة ودرية وإبراهيم، فبعثت درية بحيويتها وجمالها انتفاضة منعشة في الجو القاتم، ضمتها الهانم إلى صدرها بحنان، وأبقى الباشا يدها في يده طويلا، ولبثوا في الفيلا، حتى تناولوا الغداء، وبعد أيام أسلم الأرملاوي باشا روحه، فرثته الصحف رثاء لائقا وودعته العباسية في جنازة كبيرة، ودعت إنصاف هانم القللي ابنها وزوجته وحفيدتها وزوجها للإقامة معها في الفيلا، ولم يترك الباشا من العقار إلا الفيلا وكمية محترمة من الأسهم والسندات وقليلا من المال السائل، ووزعت تركته بين الهانم وطاهر وتحية وهيام. وأصبح لصديقنا صادق صفوان قصران يتردد عليهما بين آونة وأخرى، قصر الزين وقصر الأرملاوي، وكان يسر بذلك دون خفاء.
أما إسماعيل قدري فقد أثبت كفاءة غير عادية في مكتب المحاماة، وقدمه أستاذه إلى نخبة من رجال الوفد، وميزته ثقافته الشاملة فاحتل منزلة محترمة في القلوب، وشهد كثيرا من الندوات في جمعيتي الشبان المسلمين والمسيحيين، واشترك في المناقشات، وبشر بلمعان قريب ولم نشك في أنه بالغ هدفه طال الزمان أو قصر. ولما جرت انتخابات عام 1950 قال له أستاذه: أتنبأ لك بأنك ستكون من المرشحين في الانتخابات القادمة!
وعند إلغاء المعاهدة تسنمنا ذروة النصر، وعند حريق القاهرة هوينا إلى الحضيض، وتعاقبت الأحداث وكأنما يوجهها أبله أو مجنون، فعلق عليها طاهر عبيد بقوله: ما هذه بدولة ولكنها سيرك هزلي.
ونحن على حال كئيبة من المرارة والسخرية والتقزز، هل علينا يوم 23 يوليو كالسحر المبين، شملتنا صحوة طاغية وتتابعت الحوادث كالأحلام، فرحل الملك والإقطاع والألقاب، وبرز الفقراء والضائعون من القاع فتربعوا على العرش، وأصبح كل مستحيل ممكنا، ولم يعد لنا من حديث في ركننا العتيد بقشتمر إلا حديث الحركة المباركة، هرع صادق إلى قريبه العجوز الزين باشا أو السيد رأفت الزين ليستمد منه الأخبار، وراجع ما تبقى له من وفدية قديمة، ولكنه لم يسعه إلا أن يقول: حقا إنها حركة مباركة!
لكن صوته يخونه، وابتسامته تخونه، ونظرة عينيه تشي بالانقباض والقلق.
ومضى حمادة الحلواني على عادته، ينبهر يوما بقرار فيحتدم حماسه وكأنه أحد الضباط الأحرار، ثم تترامى إليه معلومة أو إشاعة فينقلب عدوا لدودا ويقول: ما هم إلا عملاء أمريكا!
وأما إسماعيل قدري فقد رحب عقله بالأفعال ورفض قلبه أصحابها، لم يتنكر لوفديته قط، وساءه التفاف الشعب حول الحركة، واستعرت بين جوانحه معركة بين عقله وقلبه، وقال بصراحة: كان يجب أن يجعلوا من الوفد قاعدة لهم!
ولا شك أنه وجد آماله الشخصية تداس تحت أقدام الحركة الغليظة العسكرية. العجيب حقا هو حماس طاهر عبيد! لأول مرة في عشرتنا الطويلة نراه متوهجا متألقا كالكهرباء، يرقص طربا ويتغنى بالمجد، ويهب قلبه وعقله بلا تحفظ، يقول: هذا حلمي الذي لم أعرف تأويله إلا اليوم!
ثم بارتياح عميق: ودرية معي على طول الخط.
وبهذه الروح مضى شعره ينبض في مجلة الفكر.
Page inconnue