فكان لهذا الكلام وقع أنكى من الحسام في قلب المسافر، فهاجت فيه الأفكار وماجت، وبقي مدة مطرقا خافتا، أما الحفار فعاد إلى عمله ولكن بتراخ، كأنه اضطرب لسوء صنيعه نحو الغريب.
والحق يقال: إن فارسا لم يك برجل سوء فما لبث أن عاد إلى نفسه وراعه ما ثار في قلبه من عوامل الانتقام، وداخله الندم على ما فرط منه في حق إنسان كان له عشيرا في صباه، فزف إلى خصمه الكئيب نظرة يستشف منها الحنو، ثم دنا إليه بهدوء وأمسك بيده وقال له بسكينة: يا صاحبي حنا، سامحني فإني أسأت إليك، ولكن لو كنت تعرف ما قاسيت بسببك.
فصافح الغريب يده وصرخ: دع يا صاح ذكر ما مضى، فإن جوارحي تهتز طربا لمجرد تلفظك أيها العزيز باسمي أنا الغريب، وهاك نسيت مذ الآن ما فرط منك من الكلام، وقد عمل في قلبي ما لم تعمله السهام، فقل لي ناشدتك الله أين قبر أنيسة فأرويه بمدامعي؟ ولا بدع أنها تفرح في العلى إذا رأتنا نتصالح ونتآخى عند مدفنها. مدفنها؟ يا ليتها أدرجت في لحدها فتكون استراحت من الحياة؟ - فهي إذن حية؟ أنيسة بعد في قيد الحياة؟ - بئس الحياة وقل بالأحرى موتا. - كلامك قطع كبدي أفدني بربك ما حل بها؟ - إنها عمياء. - أنيسة عمياء ... ربي ما هذا المصاب؟ فلا يعود إذن يشخص إلي بصرها.
قال ذلك بصوت يفتت الجلمود وخر على الأرض متلاشيا ... ولما عاد إليه بعض الرمق ألح في السؤال فأجابه الحفار: إنها عميت منذ عشر سنين، وهي الآن تدور على أبواب المحسنين تتسول، فكلما ساعدني الله أعطيتها بعض دريهمات، ولا نخبز خبزة دون أن نفرز لها حصتها.
فوثب المسافر وضم فارسا إلى صدره وهتف: أشكرك ألف شكر، وجازاك الله خيرا على ما أحسنت إليها، وسأكافئك - إن شاء الله - عنها فأنا غني من فضل الله ولست أنسى معروفك، فأخبرني - رحم الله أجدادك - أين هي فأطير إليها وأنشلها من وهدة الشقاء؟
فأشار الحفار بيده قائلا: هناك قرب البيت المغطى بالقرميد الأحمر، ذاك البيت الصغير، وفيه يسكن سركيس الحائك مع عائلته وأنيسة ساكنة معهم.
5
فما سمع المسافر هذه الكلمات إلا اندفع كالسيل مارا في وسط بنايات الضيعة، حتى وصل إلى بيت الحائك ... وكان هذا البيت عبارة عن سافات من الحجر الأصم غير المنحوت، تكاد لا يتخللها ملاط قد قامت كالجدران، وفوقها مدت كسقف جذوع من الصنوبر بارزة الأطراف، يعلوها طبقة من التراب والنحاتة، وفوق الكل محالة يعرفها العامة بالمحدلة ولا نظن سطحا من مساكن لبنان القديمة يخلو منها، وهناك مصطبة قد ضربت فوقها بعض الدوالي قبة خضراء، وقامت إلى جوانبها أصناف من البقول والرياحين كثر في خلالها الحبق، وكان بالقرب صبي لا يتجاوز السادسة من عمره مع ثلاث بنات أصغر منه، وكلهم يلعبون حفاة تسترهم بعض أسمال الثياب، وهم مكشوفو الرأس غير مبالين بحر الشمس، وكانوا إذ ذاك يجعلون في الأرض حفرا يغرسون فيها أغصانا مقطوعة، ويحملون إليها الماء في كسر إبريق أو قطع خزف.
فلما بصرت البنات بالغريب أطرقت كل منهن حياء وهي تنظر خلسة إلى هيئته وزيه، أما الصبي فحدجه ببصر غير هياب تدل نظراته على بعض الدهشة والفضول.
ولم يكن المسافر لتلهيه المناظر أو يتوقف في سيره، بل زف إلى الأولاد ابتسامة وولج المنزل حيثما وجد رب البيت جالسا إلى نوله يحيك، وامرأته في زاوية تغزل الحرير، وكلاهما لم يزالا في مقتبل العمر تلوح عليهما لوائح القناعة والرضى بحالهما، وكل ما حولهما يدل على أنهما امتازا بالنظافة، وحسن الترتيب.
Page inconnue