هل فهمت يا عزيزي الغائب الحاضر؟
هز رأسه آسفا وقال: وماذا كنت تريد من ذلك النبع؟!
قلت متعجبا: وماذا يطلب المرء من النبع الطاهر النقي؟ أن ينهل منه ويغتسل من رماد العالم، ويجد ذاته الضائعة.
ضحك فجأة وقال: ما زلت لا أفهم، نبع ورماد وذات ، ماذا تريد أن تقول؟
قلت: كنت في تلك اللحظات السرابية القليلة، أجد نفسي في قصة أو مسرحية أو خاطرة أكتبها وأستمتع بها، قبل أن أكتشف أن السراب هو السراب، وأن قيظ الصحراء وضياع المتاهة لن يلبثا أن يجراني كالعبد المغلول بالسلاسل والقيود.
قال وعلى فمه بسمة ساخرة:
وصرت قصاصا وكاتبا مسرحيا يتحدث عنه ...
قاطعته وأنا أشير بيدي ساخطا: النقاد؟ باستثناء اثنين أو ثلاثة يذكر القصاصون فلا يذكر اسمي، ويعد كتاب المسرح فلا يتذكرني ناقد ولا مسرحي، وإذا ذكرني أحد فأنا عنده مترجم الشعر وشارحه، أو معلم الحكمة الذي قضى شبابه على أبوابها، وهكذا تراني الآن أيها الصبي الطيب الحبيب، تراني شيخا هده المرض والغدر والتجاهل وخيبة الأمل، اقترب مني وثبت عينيه في عيني: ألست أنت الذي تجاهلت نفسك وانشغلت عن نبعك، لا تلم إذن إلا نفسك!
قلت: معك الحق، لا يصح أن ألوم إلا نفسي، ولا ينبغي علي إلا أن أتدارك ما فاتني، هل تتصور أن البقية الباقية؟!
لم أكد أقول هذه الكلمات حتى خيل إلي كأن الصبي قد كبر فجأة في السن، وطالت قامته ووقف أمامي متحديا ومحذرا، مد يده في جنب صداره، فأخرج ساعة كبيرة مستديرة تشبه الساعة العتيقة، التي كان أبي يضعها في جيب جلبابه ويخرجها منه كلما أراد أن يعرف مواقيت الصلاة، وبدأ الرجل الطويل الشامخ القامة، الذي كان قبل قليل صبيا غريرا دائم الحزن والشرود، بدأ يهتف بصوت مرتفع: الحياة وقت، ولكل وقت قلب، أي له مركز ومنتصف.
Page inconnue