وكنت في كل مرة أمر أمام بيتها أو أراها تطل من الشرفة أو من نافذة، أو أشاهدها تشير إلي في الحقيقة أو في الخيال، أجري مسرعا كأنني أخاف أن تطالبني بالماء، أو كأنني أثبت لها أنني ما زلت أبحث عن البئر، وأنني قد عهدت لها بذلك ولن أخون هذا العهد، لم يكن في مقدوري أن أقف أمام البيت وأصرخ مؤكدا أنني سأجده في يوم من الأيام، ولا بأنها ستشرب من مائه وتشرب حتى يزول العطش إلى الأبد، ويختفي الحزن من العينين والتجاعيد من الوجه العجوز، واليأس من الصوت الهاتف المتحشرج بالدموع، لم يكن هذا ممكنا لأنني كنت أعرف أنها لن تسمعني، وإذا سمعتني فلن تصدقني أو تفهمني، وحتى إذا صدقتني وفهمتني فإن الرجل الصامت النحيل والمارة الذين يعبرون الطريق لن يتركوني أتكلم معها، ولن يسمحوا لها بالوقوف طويلا في الشرفة لتستمع إلي.
وفي يوم من الأيام وأنا أمر من أمام البيت - كان وقت الغروب ولا أذكر في أي مشوار أرسلتني أمي، ولا إن كنت عائدا من جولاتي السرية في أرجاء البلد وضواحيه - سمعت صراخا ينبعث من البيت، لا بل من الشرفة التي رأيتها فيها وسمعتها تتكلم منها، كانت تقف هناك، لا بل تتعلق بكل قوتها بالسور، وتتخلص من قبضة الرجل الصامت النحيل، الذي كان يحاول هو أيضا بكل قوته أن يشدها إلى الداخل، جلجل صوتها المشروخ في فضاء البلدة التي كانت نائمة أو تتهيأ للنوم، صوت يستغيث ويبكي ويرن كأجراس معلقة في حبل مشدود فوق هاوية: عاوزين يسموني، الحقوني يا ناس، عطشانة، عطشانة!
تجمع بعض الناس تحت الشرفة، فلاحون عائدون لتوهم من الحقول، أو صبية استطاعوا أن يغالبوا النوم، ونسوة خرجن من بيوتهن على الصوت المألوف، أو مشايخ في طريقهم إلى الخاتمة أو صلاة العشاء، ولاحظت أن الجميع يكادون يتفقون في شيء واحد هو أنهم لم يندهشوا لما يحدث أمامهم بل توقعوه دائما.
وربما عرفوه قبل ذلك مرات، وكان هناك شبه إجماع آخر في الدعاء الذي يخرج منهم: اللهم اشفها واشف المسلمين.
أو في الاستغاثة بالله والنبي والأولياء: لا حول ولا قوة إلا بالله، نجنا يا منجي!
وكنت لدهشتي أراهم يقتربون من البيت خطوة ليتراجعوا خطوات، والرجال فيهم يبعدون النسوة والأطفال، ويجمعون بعضهم ويسيرون وهم يهزون رءوسهم.
كنت أشعر أنهم يعملون خاطرا لصاحب البيت، الذي يحاول محاولاته اليائسة مع المجنونة، لا بل يعذرونه ويتمنون أن يقويه الله ويعينه على بخته، وكنت - في سعادة وتشف لا حد لهما - أقف هناك وأحس أنها تشير إلي أنا وحدي دون الجميع، وتسألني ولا تسأل أحدا سواي: فين الميه يا حبيبي، فين الميه اللي جبتها لي؟!
ولما لم يكن أحد يعرف لمن تتحدث ولا أي شيء تعني، فقد كانت تهتف بعد ذلك يائسة، ويدها ورأسها وشعرها وكل نبضة حزن وحياة فيها تستغيث بي: عطشانة، عطشانة يا حبيبي، هايسموني، أولاد الحرام عاوزين يسموني، روح هات الميه من البير، البير اللي هناك، عطشانة، عطشانة!
في هذه المرة أيضا شعرت بيد تلمس كتفي، لا بل تهزه هزة عنيفة، وقبل أن أفيق إلى صاحبها وجدتها تنتزعني من مكاني وتدفعني بعيدا وصاحبها يقول: حرام عليكم يا ناس، ما فيش في قلوبكم رحمة؟!
وأسمع وأنا أبتعد خجلا، صوت الشرفة يغلق أخيرا.
Page inconnue