تلك كانت لمحة سريعة، أردنا أن نصور بها على سبيل الإيجاز الشديد، وقفة ابن رشد من طوائف المفكرين في عصره. وهي وقفة عمادها الأساسي هو أن تلك الطوائف على اختلافها لم تلجأ في معرفة الله إلى الطريقة الشرعية التي أرادها لنا القرآن الكريم، فهي جميعا متفقة على رفض الفلسفة القديمة الوافدة من أمة غير أمتهم، لكنها لم توفق إلى ما يمكن أن يكون بديلا مقنعا؛ إذ لا بديل عن النظر البرهاني في المعرفة اليقينية. وإنه - أي النظر البرهاني - لطريقة عقلية حثنا الشرع على انتهاجها. ومع ذلك فلم توفق تلك الطوائف إلى انتهاجها على الوجه الصحيح. ومن أبرز ما تتميز به الطريقة الشرعية هذه، أنها تصلح للناس جميعا على اختلاف فطرهم، إذا ما أرادوا معرفة الله سبحانه. ويسأل ابن رشد: «فما هي الطريقة الشرعية التي نبه الكتاب العزيز عليها، واعتمدتها الصحابة؟» ثم يجيب لنفسه عن سؤاله، فيقول إنها طريقة «تنحصر في جنسين؛ أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجلها، ولنسم هذه دليل العناية. والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقلية، ولنسم هذه دليل الاختراع.»
24
فأما الطريقة الأولى - دليل العناية - فتنبني على أصلين؛ أحدهما: أن جميع الموجودات في هذا العالم موافقة لوجود الإنسان. والأصل الثاني: أن هذه الموافقة هي ضرورة أرادها فاعل قاصد ؛ إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة قد جاءت مصادفة. فأما كونها موافقة لوجود الإنسان، فدليلنا اليقيني على ذلك هو موافقة الليل والنهار والشمس والقمر لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له، والمكان الذي هو فيه أيضا، وهو الأرض، وكذلك تظهر موافقة كثير من الحيوان له والنبات والجماد، وجزئيات كثيرة مثل الأمطار والأنهار والبحار، وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء البدن وأعضاء الحيوان، أعني أن هذه الأعضاء موافقة لحياة الإنسان ووجوده. ومن أجل هذا كله، وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة، أن ينظر في منافع الموجودات جميعا.
25
ذلك هو أول الدليلين اللذين ساقهما ابن رشد، ليبين للطوائف الفكرية في عصره كيف يكون الدليل عقليا ومأخوذا من الشرع في آن واحد، ففي القرآن آيات كثيرة تشير إلى هذه العناية بالإنسان، ولقد يكون مثل هذا الدليل صالحا لعصر ابن رشد، لكنه - فيما نرى - يخلو من النظرة العقلية المنهجية كما تصورها الفلاسفة من قديم؛ فلو قال ابن رشد عن هذا الدليل إنه شرعي وكفى لما كان اعتراض، لكنه قال: إنه شرعي ليقول بعد ذلك إنه فلسفي كذلك، مما يجعل الشريعة والفلسفة تتلاقيان، وهو ما لا نراه، فلا الموجودات كلها في هذا العالم موافقة لوجود الإنسان - بدليل أنه يمرض ويموت - ولا هي، حتى إن كانت موافقة لوجوده، أمر ضروري لم يكن من الممكن أن يكون سواه. نعم إن هذين الأصلين - موافقة الموجودات لحياة الإنسان، وكونها موافقة مقصودة بالضرورة - هي مما يقبله السامع قبولا يطمئن له ويستريح، لكن مثل هذا القبول ليس هو ما يتألف منه مقدمات النظر البرهاني الذي أراده ابن رشد في آخر الأمر. وإذن فبينما أقام هجومه على سائر الطوائف في عصره، على أساس أن القياس عندهم كان إما جدليا أو خطابيا، نراه قد لجأ بدوره إلى مثل هذا القياس نفسه.
وليس دليل الاختراع بأسلم من دليل العناية من هذه الناحية، فهو أيضا ينبني عند ابن رشد على أصلين «موجودين بالقوة في جميع فطر الناس»؛ أحدهما أن هذه الموجودات (يعني الحيوان والنبات والسماوات) مخترعة، والثاني هو أن كل مخترع فله مخترع، ولذلك وجب على من أراد معرفة الله حق المعرفة أن يعرف جواهر الأشياء، ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات. ولكي يؤيد ابن رشد هذين الأصلين، ساق لكل منهما آيات قرآنية؛ ففي كون الموجودات مخترعة، يسوق - مثلا - قول الله تعالى:
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وفي الأصل الثاني القائل بأن لكل مخترع مخترع، يسوق قول الله تعالى:
أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء ، ولسنا ندري كيف تكون هذه الطريقة برهانية؟ إنها طريقة يقبلها المسلم بإيمانه، وأما الإنسان من حيث هو إنسان غير مفترض فيه عقيدة دينية معينة، بل هو إنسان يقتصر في تصوره على أنه ناطق - عاقل - وكفى، فلا أظن أن مثل هذا العرض يرضيه.
إذا أردنا أن نصور الموقف بين ابن رشد وخصومه، قلنا: افرض أن عناصر الشريعة هي أ ب ح د، فجاءت الفلسفة اليونانية بعناصر فيها ما ينقض عناصر الشريعة من أحد جوانبها، كأن تكون عناصر الفلسفة الوافدة هي: أ ب «لا-ح» د، فعندئذ نرى أن طوائف الأشعرية والمتكلمين تحاول أن تثبت بأن القول «لا-ح» ينطوي على تناقض داخلي، وبالتالي فهو باطل، وإذا ثبت بطلانه كان نقيضه (وهو ح) صحيحا، ونقيضه هذا هو ما قالته الشريعة. وأما ابن رشد فيتلخص دوره، في أنه يحلل الأدلة التي أثبتت بها طوائف خصومه بطلان «لا-ح»، لكنه لا يترك الأمر عند هذا الحد، وإلا كان بمثابة من يأخذ بما ينقض الشريعة، بل نراه يلجأ إلى إحدى طرق يستخدمها لفض الإشكال: فهو إما أن يبين - مثلا - بأن الاختلاف بين «ح» و«لا-ح» لا يعدو أن يكون اختلافا في الأسماء، وأما المعنى المقصود ذاته فواحد في كلتا الحالتين، وإما أن يؤول الظاهر في «ح» ليجعلها في حقيقتها الباطنة هي و«لا-ح» على سواء، وإما أن يقول ما معناه: لنبدأ طريقنا العقلي من «ح » وهي ستؤدي بنا حتما إلى ما يريده الشرع وتريده الفلسفة معا.
ولنضرب لذلك مثلا، فلقد كان من العناصر التي ذكرتها الشريعة ما يدل على أن العالم محدث في مجرى الزمن، قال له الله تعالى كن فكان، وأما فلسفة اليونان فقد أشارت إلى ما قد يعني أن العالم قديم، أي أنه أزلي مع أزلية الله، فها هنا جعل المتكلمون مهمتهم أن يبينوا بطلان القول بأزلية العالم، وأن يثبتوا حدوثه، كأن يقولوا بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ. ولما كان الجزء الذي لا يتجزأ محدثا بطبيعته، كانت الأجسام محدثة بحدوثه، وعندئذ تكون مهمة ابن رشد بيان الخطأ في منطقهم هذا، فيقول: «إذا فرضنا أن العالم محدث، لزم - كما يقولون - أن يكون له، ولا بد، فاعل محدث، ولكن يعرض في وجود هذا المحدث شك ... وذلك أن هذا المحدث لسنا نقدر أن نجعله أزليا ولا محدثا، أما كونه محدثا فلأنه يفتقر إلى محدث، وذلك المحدث إلى محدث، ويمر الأمر إلى غير نهاية، وذلك مستحيل، وأما كونه أزليا، فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزليا فتكون المفعولات أزلية، والحادث يجب أن يكون وجوده متعلقا بفعل حادث ...»
Page inconnue