من الذي وضع الابتسامة المشفقة الساخرة على شفتي أبي الهول، ثم من بعده على كل شفتين في تمثال نحته إزميل فنان من الأقدمين؟ إنها ابتسامة ساخرة من صغائر الناس وعوابر الأحداث، مشفقة على من يوسوس له الشيطان بأن يشتري لنفسه لحظة من حياة خاطفة بعالم الخلود! ومن الذي أقام المعابد على عمدها الشوامخ الرواسخ، ورفع المسلات في الأبراج والمآذن في سمائنا مشيرة بأصابعها إلى خالق الأرض والسماء؟ ومن الذي علم الدنيا كيف يستطيع الإنسان أن يستغني عن هذه الحياة وزخارفها، فينتبذ لنفسه صومعة قصية في قلب الصحراء، وهناك يترجم الوجود كله إلى معبود وعابد؟ إنه المصري على امتداد العصور.
وهذا المصري هو نفسه الذي بات يحيرني بمفارقات مواقفه وسلوكه! فلماذا وقف الرجل الذي رأيته في الصباح واقفا أمام من وقف أمامه، وذراعاه مكتوفتان على صدره، وعيناه مصوبتان نحو الأرض، كأنه أمام ربه يؤدي فريضة الصلاة؟ ترى هل أخطأ وجاء يطلب المغفرة من سيده، أو أراد لنفسه نفعا، فخشع في حضرة من بيديه المنافع؟ لست أدري، فقد كنت ساعتها عابر طريق، لكنني عدت إلى داري، والدماء تغلي، وأخذ السؤال يلح على فكري، حتى صرت لا أكاد أقعد على الكرسي حتى أقوم، ولا أكاد أقوم حتى أقعد، ومع القعود والقيام يتكرر سؤالي: لماذا يخشع المصري كل هذا الخشوع، ويضع نفسه مواضع الضراعة، سواء أراد اجتلاب المنفعة أم أراد دفعا للضرر؟ لماذا، وهو يعلم أنه هو هو الإنسان الذي رسم بإزميله ابتسامة ساخرة مشفقة، متجها بها نحو من تشغله الصغائر، ثم هو هو العارف لعظمة الخالق، فأقام لعبادته المعابد على عمدها الشوامخ الرواسخ، ورفع إلى السماء أكف الدعاء في مسلاته وأبراجه ومآذنه، وعلم الدنيا بأسرها كيف يمكن للإنسان أن يستقطب الوجود كله في صومعة لا حضور فيها إلا لمعبود وعابده؟
كثيرا ما سمعت من غير المصريين تعليقا وتساؤلا عن هذه الظاهرة المصرية، التي ينخدع بها من لا يعرف عن المصري حقيقته، فكنت أسمع السائل وهو يسأل: ما سر هذا «الخنوع» عند المصري؟
فأنتفض مجيبا: خنوع؟! هل ترى عذوبة المتحضر ووداعته خنوعا؟ هل تنقلب وداعة من هذبته الأديان خنوعا؟ لا يا سيدي، اقرأ ملامح المصري في تعامله مع الناس، اقرأها ومعك عمق التاريخ، كما تقرأ أحرف السماء - أعني كواكبها ونجومها - في أبعادها الفلكية، فإذا رأت عيناك نجما في حجم الدرهم، فاعلم أن موقفك الأرضي هو الذي يوهم عينيك، وأما النجم على حقيقته، فقد يعدل في حجمه أرضك كلها أضعافا مضاعفة.
نعم، أقول ذلك كلما اقتضى الظرف أن أقوله، لا لأنني أكذب مخادعا، بل لأنني أعلم علم اليقين أن هذا هو المصري على حقيقته، وأنه هو هذا اليقين نفسه الذي يجعلني ألقي السؤال على نفسي: لماذا وقف الرجل الذي رأيته في الصباح أمام من وقف أمامه، واضعا كفيه على صدره في ضراعة من يؤدي الصلاة لربه وخالقه؟ ولو كنت أعلم أن تلك هي طبيعة المصري وحقيقته، لما ألقيت السؤال، وهل أسأل: لماذا يجري الماء في النهر، ويخضر الزرع في الحقول، ويولد الإنسان ويموت؟
إذا صدقتني الذاكرة، فهو الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - هو الذي قرأت له هذه العبارة في كتابه «نهج البلاغة»، وقد قرأتها قراءة شاب صغير يحفظ محفوظات مقررة عليه، وكان كتاب «نهج البلاغة» من الكتب التي وزعت على التلاميذ (وأقول استطرادا إن كتاب نهج البلاغة للإمام علي، إنما جمع مادته، وعنونه بهذا العنوان، الشريف الرضي بعد علي بنحو أربعة قرون)، وأعود إلى ما كنت بصدد الحديث فيه، وهو العبارة التي حفظتها أيام الشباب الباكر، عن الإمام علي، فأصبحت عندي كما تكون البوصلة عند ربان السفينة يهتدي بها إلى أين يتجه، وتلك العبارة الهادية مؤلفة من ثلاث جمل، كل جملة منها تقطر حكمة وتقول حقا، وهي كما يلي: احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره (أو هي هكذا في ذاكرتي).
ولنجعل وقفتنا الآن عند الجزء الأوسط؛ لأنه موضوع هذا الحديث الذي نجريه الآن: استغن عمن شئت تكن نظيره، ولست أريد أن أضخم صورتي في عيني القارئ، بل أروي له حقيقة حياتي، وكيف عشتها، مهتديا بهذا المبدأ، فالله وحده أعلم كم هي حقوقي التي أهدرتها، كلما وجدت أن الحصول عليها يتطلب مني الوقوف بين يدي رجل من طبعه التسلط. إن أخشى ما أخشاه هو أن تضطرني ظروف الحياة أن أقف موقف السائل من أحد سؤال المحتاج؛ لأنني أعلم كيف ينقلني هذا الموقف من منزلة الزميل إلى منزلة التابع، فأستغني حتى عن حقي، لأحتفظ لنفسي بمكانه النظير، وربما كانت بيني وبين أحد الأصدقاء أوثق الروابط، فإذا وضع ذلك الصديق في منصب له سلطان، وضعت صداقته بين قوسين، لا أرفعهما إلا بعد أن يزول عنه ذلك السلطان.
لقد أنعم علي الله بما لا أستطيع إحصاءه، وأعظم تلك النعم هو أني بحكم طباعي قليل الرغبات، وحتى إذا كانت بي رغبة في شيء يتعذر الوصول إليه، كان من أيسر اليسر عندي أن أسقطه من حسابي مستغنيا، وكأنما الذي أفلت من يدي حصاة من الرمل، وأنا مع الشاعر العربي الذي نفذ ببصيرته إلى حقيقة النفس البشرية، فقال عنها إنها تنزع إلى الرغبات نزوعا يشتد إذا دفعها صاحبها إلى ذلك، لكنها - بطبيعتها أيضا - تكتفي بالقليل إذا راضها صاحبها على مثل هذا الرضا (والنفس راغبة إذا رغبتها (بتشديد الغين) وإذا ترد إلى قليل تقنع).
على أني بهذا القول، لا أدعو إلى زهد ولا إلى خشونة عيش، وإنما المثل الأعلى كلما أراه، هو أن يملك الإنسان زمام نفسه، بحيث يعرف متى يرغب ومتى يستغني، حتى لا تستعبده الرغبات، فهذا الجمع بين أن أسعى نحو تحقيق الأهداف بكل ما وسعني من قوة ونشاط، وأن أستغني - في الوقت نفسه - عن الأهداف التي تجر وراءها ذلة النفس، أقول إن هذا الجمع بين الموقفين هو المثل الأعلى كلما أراه، وهو نفسه الصورة المثلى التي تحققها الحياة الرياضية، لمن يحيا تلك الحياة كما ينبغي لها أن تكون؛ فلاعب الكرة - مثلا - لا بد أن يبذل أقصى جهد مستطاع للفوز، لكنه كذلك مطالب بأن يعرف كيف يتقبل الهزيمة دون أن يفقد ذرة من الثقة بنفسه، فمثل هذا الميزان الحساس الذي نقيمه في حياتنا لنهتدي به إلى اتخاذ الموقف الصحيح كلما تحققت لنا رغبة أو تعذرت أخرى، هو الذي يجنبنا الوقوف في مثل ما رأيت من رأيته هذا الصباح ضارعا خاشعا، وكأنه في الحضرة الإلهية يؤدي فروض الصلاة.
لعله من أميز ما يميز الشخصية المصرية، قدرتها على الجمع بين دينها ودنياها، فانظر إلى المصري في معظم مراحل تاريخه، تجده هو الصانع البارع، والزارع الخبير، والمعماري القدير، وهذا كله خبرة وعلم بشئون الدنيا ومادتها، ولكنه من الناحية الأخرى يتجه بخبرته وعلمه نحو تحقيق أهداف كبرى تتصل بما بعد الموت، فماذا كان في قلب المعماري الذي أقام المعابد القديمة أو الحديثة على السواء، إلا شعور فيه طبيعة العبادة، بأن فنه مستخدم في خدمة الدين؟ لقد قرأت للفيلسوف «البريطاني-الأمريكي» هوايتهد قوله بأن حضارة الإنسان قامت على رجال ثلاثة: المصري بصناعته، والفلسطيني بديانته، (ولعله بهذا يشير إلى اليهودية والمسيحية فنحن نضيف الإسلام)، واليوناني بفلسفته وعلمه. والذي يهمنا في سياق حديثنا هذا، هو القدرة الصانعة من طبيعة المصري، والصنعة المشار إليها تشمل بالطبع صنعة الفنان، من تصوير ونحت وعمارة، إلى جانب غيرها من الصناعات التي اقتضتها الحروب والحياة اليومية. ولو بحثنا عن محور رئيسي كانت تلك الطاقة الصانعة تدور حوله وتستهدفه، لما ترددنا في القول بأنه محور متصل بالحياة الآخرة، أي أنه متصل بالروح، فلم يجد المصري القديم صعوبة في أن يدمج الطرفين في حياة واحدة، وهذا هو نفسه الذي نتبينه في حياة المصري خلال المرحلة المسيحية، التي امتدت نحو ستة قرون، ثم المرحلة الإسلامية بعد ذلك، إذ إن أهم ما خلفته لنا المرحلتان من فن وصناعة، متصل بالحياة الدينية.
Page inconnue