ألا ترى أن موقفك قد طرأ عليه في الفترة الأخيرة تغير حاد؟ فبعد أن كنت تدعو في إصرار إلى منطق «العقل»، وما يتبعه من حقائق «العلم»، ثم ما يترتب على العلم من صناعة وتصنيع، أخذت تعلو عندك نبرة «القلب» وما ينبع منه على طريق العقائد والمشاعر.
كان السؤال بالغ الأهمية عندي، إذ ما أفصح عنه السائلان قد يكون هو ما يدور في صدور كثيرين ممن يعنيهم ما أكتبه، فرأيت من الخير أن أوضح موقفي الفكري الذي لم أجد حتى الآن ما يدعوني إلى تغييره لا لأنني أراها جريمة أن يغير رجل من أفكاره ما تثبت له الأيام بأنه خطأ واجب التصحيح، بل لأن الأمر الواقع هو أنني لم أتحول عن موقف رأيت صوابه، واستمسكت به، ودافعت عنه، فما هي خلاصته؟ •••
يتحرك الإنسان بحياته في مجالين أساسيين لا يكاد يتصل أحدهما بالآخر إلا تماسا من الخارج كما يتماس مربع ودائرة فهما مجالان مستقلان لكل منهما مبدأ يدور عليه غير المبدأ الذي يدور عليه المجال الآخر، ولا تتكامل حياة الإنسان إلا بهما معا شريطة أن يظل لكل منهما منهجه وموضوعه لا ينافسه الآخر في شيء منهما. أما أولهما فموضوعه «العلم» ومداره منطق العقل، وأما الثاني فيشمل عالم الوجدان بشتى فروعه وارتكازه، إنما يكون على الشعور الباطني المباشر.
ومفتاح الفهم الواضح هنا هو تحديد المقصود بكلمة «عقل» في هذا السياق، فماذا نعني عندما نقول عن المجال الأول - مجال العلوم أو ما يجري مجراها - أن «العقل» هو مداره؟ الذي نعنيه هو أن الفكر فيه يكون في حركة انتقالية ينتقل بها من المقدمات إلى نتائجها أو من الشواهد إلى ما يبنى عليها، أي أن الفكر فيه يسير شوطا، قصر ذلك الشوط أو طال، كأنه قطار لا تكتمل وظيفته إذا ظل واقفا عند محطة البداية؛ إذ لا بد أن يتحرك منتقلا من محطة القيام إلى محطة الوصول، حتى الغاية المنشودة، وهكذا يكون العقل في حياتنا الفكرية أشبه شيء بسيارة تنقلنا من المعلومات الأولية التي بين أيدينا إلى ما يمكن الوصول إليه من نتائج قابلة للتطبيق الفعلي على دنيا الوقائع. •••
وما هكذا الحال بالنسبة إلى مدركاتنا في المجال الثاني مجال الحياة الوجدانية، فها هنا تكون نقطة البدء هي نفسها نقطة الانتهاء، محطة القيام هي بعينها محطة الوصول؛ المقدمة هي ذاتها النتيجة، فالإنسان حين يدرك حالته الباطنية إدراكا مباشرا يكون الموقف قد اكتمل عنده. فافرض مثلا أن قلبه نبض بالحب أو أنه أحس ألما في رئتيه أو شعر بصداع في رأسه، فهل في وسع أحد أن يطالبه بالبرهان على صدق دعواه؟ إنه أمام نفسه على صواب؛ لأنه يعلم ما في جوفه شعورا مباشرا. ولا يقلل من صحة دعواه أمام نفسه أن تعارضه الدنيا بأسرها، لكن قارن هذا بأي موقف علمي كان العقل فيه هو أداة الإدراك كأن نقول إن الغاز إذا زاد عليه الضغط قل حجمه، أو أن الماء يتركب من هيدروجين وأوكسجين بنسبة 2 إلى 1، أو أن السلعة المعينة إذا زاد المعروض فيها على المطلوب قل ثمنها أو أية حقيقة علمية تصادفك، فها هنا نجد الأمر قد اختلف؛ لأن على صاحب الدعوى أن يثبت صوابها بالتجربة أو بالبرهان النظري إذا طلب إليه ذلك، فيبين الخطوات (لاحظ أننا الآن إزاء حركة ذات خطوات تبدأ من نقطة، وتنتهي عند أخرى) التي يسيرها الباحث إلى أن يبلغ النتيجة المزعوم صوابها.
الفرق بعيد بعد ما بين السماء والأرض إذا ما قورن موقف الإنسان وهو في المجال الأول بموقفه وهو في المجال الثاني: في الأول علم قائم على برهان، وفي الثاني إيمان لا تقام عليه البراهين. الأول مجال مشترك بين الناس جميعا، فإذا قلنا إن زوايا المثلث على سطح مستو تساوي زاويتين قائمتين، وأقمنا البرهان على ذلك لم يعد أمام أحد خيار بين قبول ورفض، ولا دخل هنا لعقيدة الإنسان الدينية أو لنوازع قلبه من حب وكراهية أو غير ذلك من حالات الشعور، فكل إنسان أمام الحقيقة العلمية ككل إنسان آخر؛ لأن الأداة هي منطق العقل ومنطق العقل مشترك بين الناس أجمعين حاضرهم وماضيهم، ومن سيولد منهم إلى آخر الدهر. الحقيقة المعينة من حقائق المجال الأول «موضوعية»، وأما الحالة المعينة من حالات المجال الثاني فهي «ذاتية». في المجال الأول يوصف قائل القول بأنه قد أصاب، أو أنه قد أخطأ وفقا لما تبينه قواعد الاستدلال الصحيح، وأما في المجال الثاني فلا يقال لمن آمن أو شعر أو تذوق أنه أخطأ، وإلا كانت لفظا بغير معنى، فصاحب الحالة أدرى بما فيه ولا يعرف الشوق - كما قال الشاعر - إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها.
ولا يعلم إلا الله مدى الضرر الذي يلحق بحياة الناس إذا هم خلطوا بين المجالين فما هو علم قائم على منطق العقل يقال عنه إنه مستمد من مصدر من مصادر المجال الثاني، أو ما هي حالة شعورية في المجال الثاني يقال عنها إنها مستندة إلى براهين العقل.
نعم إن من حق كل إنسان أن يختار الأولوية في هذين المجالين أين تكون بمعنى أن يكون في حياته أكثر اهتماما بحقائق العلم من صرف الوقت في الاستماع إلى نبضات قلبه، أو أن يكون أكثر اهتماما بحياته الوجدانية في أي جانب من جوانبها، الدين والأدب والفن منه بكل ما يقوله العلماء. لكن الذي ليس من حق أحد هو أن يمحو أحد المجالين إعزازا فيه للمجال الآخر، أو أن يطالب أحد المجالين بالإذعان لما يتطلبه المجال الآخر، فالمجالان مختلفان موضوعا ومنهجا، لكنهما ضروريان معا في حياة الإنسان المتكاملة. •••
والذي استوقف نظري منذ الأربعينيات هو أننا - أبناء مصر بل وأبناء الوطن العربي - في حياتنا الثقافية قد ارتكزنا على المجال الوجداني أكثر جدا مما ينبغي، وجاءت عنايتنا بالمجال العقلي أقل جدا مما هو ضروري للحياة الإنسانية السليمة، بله الحياة كما تريدها حضارة هذا العصر وثقافته، فكنا كمن يريد المشي على ساق واحدة. لا بل لاحظت في حياتنا الثقافية ما هو أسوأ من العرج إذ رأيت جهودا تبذل في تيار لا ينقطع، وحماسة لا تنطفئ نحو إخضاع العقل وعلومه لسلطان الوجد وفنونه، فجعلته هدفا أسعى من أجل تحقيقه ما وسعني الجهد والقدرة. وإن الجهد لضعيف مهما بلغت عندي قوته، وإن القدرة لضئيلة محدودة مهما اعتصرتها واستنفدت كل قطرة فيها، لكنني جعلته هدفا أسير نحوه، حتى ولو اقتصر سيري على خطوة واحدة، وما هدفي ذاك إلا أن أدق طبول الحياة العلمية المرتكزة على العقل وحده. وأما مجال الوجدان فله من السدنة الذين يقومون على خدمته ما يكفيه.
فلما جاءتني الطالبة وجاءني الطالب كل منهما يسأل على أثر شيء قرأه لي فقرأ ما يدل على اهتمام بالوجدان هل غيرت موقفي العقلاني الذي اصطنعته منذ سنين تعد بالعشرات. وأخذت أوضح لها وله كيف أن اهتمامي بالمجال المهمل لا يتضمن إنكاري للجانب الظافر بالرعاية، وضربت المثل الآتي: إذا كنت أعيش في منزل له حديقة، ورأيت أن الحديقة مهملة إلى حد ذبلت معه الأشجار، فتساقطت أوراقها عن جفاف، وماتت زهورها وثمارها، فأخذت أحث البستاني كل يوم على العناية بالحديقة ريا وتقليما للشجر في فروعه الذاوية وغير ذلك، أيقال لي عندئذ هل أنكرت على منزل السكنى وجوده ما دمت لم تذكره يوما فيما تذكر؟ ألا يجوز أن يكون السكوت عن مكان السكنى صادرا عن الاكتفاء بما يبذل فيه من رعاية؟ وذلك هو موقفي عندما بذلت معظم جهدي في الدعوة إلى حياة العقل، وما يتبع العقل من نظر علمي وتطبيق. وأما جانب الحياة الوجدانية فخدامها والحمد لله كثيرون، وربما كان الخطب في عزوفنا عن العناية بتنمية النظرة العلمية يهون لولا أننا بحكم ثقافتنا السائدة أكثر نزوعا نحو رفض العقل وقيوده حتى لنرتاب فيمن يركن إلى أحكام العقل وحدها، ونطمئن لمن يقال عنهم أنهم يستمعون إلى ضربات قلوبهم في توجيه شئونهم، وهو موقف ثقافي كانت له آثاره البعيدة على طريقة معالجتنا للشئون المادية نفسها كالزراعة والتجارة والصناعة والسياسة والتعليم وسائر شئون حياتنا التي من هذا القبيل؛ إذ ترانا نمزج العقل بالعاطفة مزجا يميل بنا نحو التورط في الخطأ. •••
Page inconnue