Deux Histoires : La Fête de Notre Dame de Saidnaya et la Tragédie de l'Amour
قصتان: عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب
Genres
فاكتفى أنيس بهذا الجواب؛ لأنه كان يعرف مزاج إبرهيم الذي لم يكن يطيق كثرة الأسئلة والكلام في مهماته ومشاريعه، فبادر إلى إعداد سيارته وبعد نصف ساعة خرجا بها وحدهما، ولم يعلم أمرهما أحد في البلدة، وفي طريقهما عرجا على دمشق حيث تغديا معا وشاهدا بعض أسواقها القديمة، ثم تابعا مسيرهما إلى صيدنايا فبلغاها عند العصر، وكان الدير قد امتلأ بالخلق وسيارات القادمين لا تزال تتوافد بكثرة، ولاحظ إبرهيم أن الإقبال على العيد هذه السنة يربي على الإقبال في السنة الماضية، فطاف وصديقه نواحي البلدة ودخلا الدير وطافا به حتى المساء.
عندما دخل إبرهيم الدير وجده غاصا بالخلق كما في المرة الأولى، والقوم في هرج ومرج عظيمين، ففي ساحاته وعلى سطوحه اجتمعت جماهير غفيرة، وكانت الدبكة في الساحات آخذة مجراها كالسابق؛ حلقات للرجال وحلقات للنساء، والجماعات المحيطة بها تصفق وتصيح مثيرة الحماسة في الراقصين، فلما شاهد إبرهيم هذه الحلقات خفق قلبه خفقانا شديدا، وثارت في نفسه عاصفة من الانفعال لم تلبث أن تلاشت وعاد إليه هدوءه ورباطة جأشه، فجعل يجيل نظره في الناس بسرعة، ولكنه لم يجد من يستقر عليه، وبينما هو كذلك رأته بعض النساء وجعلن يتهامسن قائلات: «انظرن ، هذا هو الرجل الذي جازته القديسة أم بزاز في السنة الفائتة بأن جرح من خصمه في البراز بالحكم.» وبأسرع من البرق تنوقلت هذه العبارة وتجاوزت النساء إلى الرجال، أما إبرهيم فإنه لم يسمع شيئا قط، وهو لو سمع شيئا لما كان أعاره اهتمامه؛ فقد كان له من شواغل نفسه ما يغنيه عن شواغل الناس.
بعد أن أجال إبرهيم نظره في تلك الجموع طويلا دون أن يحظى بما يستوقفه، ترك مكانه وشرع يتنقل من مكان إلى مكان على غير هدى من أمره وأنيس يرافقه صامتا متعجبا، حتى أشرفت الشمس على المغيب، وكان أنيس قد لاحظ قلق إبرهيم الداخلي وشرود فكره، فقرر أن يبقى في الساحة الكبرى ينتظره ويراقب ما يجري، وتابع إبرهيم تجواله دون أن ينتبه إلى تخلف صديقه عنه، ثم إنه عاد فمر في الساحة الكبرى، حيث كان أنيس دون أن يراه أو يفتقده، وجاوزها إلى ممر يؤدي إلى جناح الدير الأيسر من المدخل، فمشى فيه إلى آخره وإذا هناك مدخل صغير فدخل فيه ووجد نفسه في غرفة صغيرة خاوية، في مؤخرها باب يؤدي إلى غرفة أخرى، فولج هذا الباب ووقف قريبا منه؛ لأن الغرفة كانت مظلمة لمن يأتي من الخارج، فهي أشبه شيء بكهف عميق ولا ينفذ إليها نور النهار إلا من كوة صغيرة في أعلاها لا تطل على الفضاء الرحب، بل على حائط من حيطان الدير.
بعد قليل ابتدأ إبرهيم يتبين ما في هذه الغرفة على نور شمعات قليلة متفرقة في جوانبها، فرأى أن جدرانها مبطنة بصور القديسين فتزحزح من موقفه، وأخذ يطوف بالمكان ويدقق النظر في الأطر المعلقة حتى بلغ صورة كبيرة قائمة في وسط الغرفة، مضاءة أمامها شمعتان أكبر قليلا من بقية الشموع، فلم يشك في أن الصورة هي صورة العذراء التي تخشى راهبات الدير أن يخرجنها من ذلك المكان المظلم، ويعرضن قداستها للنور وخطر الضياع، فاقترب من إحدى الشمعتين ليتمكن من رؤية الصورة عن كثب، وما إن فعل حتى استلفت نظره شخص امرأة كانت واقفة أمام الصورة بين الشمعتين، وهي كأنها تتأملها أو تناجيها، فبهت إبرهيم لهذه المفاجأة وتعجب من أنه لم يتنبه إلى وجود إنسان آخر في هذا المكان من قبل وهم بالتراجع، ولكن المرأة كانت قد شعرت بوجوده قربها وحولت وجهها إليه لترى من هو، وكم كانت دهشته عظيمة حين تبين على نور الشمعة الضئيل التي بينهما وجه نجلا؛ الراقصة القروية التي ظلت صورتها مطبوعة على مخيلته بوضوح تام، حتى كأنه رآها أمس لا منذ سنة! ولم تكن دهشة الفتاة أقل من دهشته حين رأت قامته وعرفت وجهه، فوقف الاثنان ينظر كل منهما إلى الآخر نظر من هو على يقين من أن ما يراه حقيقة لا حلم.
لا يحاول الراوي التعبير عن العواطف التي استولت على قلبي هذين الاثنين في هذه الدقيقة؛ لأنه يعلم أن لبعض العواطف البشرية لغة لا يمكن الاستعاضة عنها بلغة النطق، وهو لا يريد إفساد الأصل بالترجمة، بل يفضل متابعة سرد القصة. - «أنت هنا؟» قالت الفتاة بصوت خافت يقارب الهمس، فطرق هذا السؤال مسامع إبرهيم بشكل مخصوص فهم منه: «أعن قصد مجيئك؟»
فأجابها بصوت لا يعلو كثيرا عن صوتها ولهجة توكيدية ثابتة «نعم، أنا هنا!»
عند هذا الجواب لمعت عينا الفتاة الكسيفتان وقالت: «لقد كنت أفكر منذ هنيهة وأسائل نفسي: هل يجيء؟» - «هل شككت في مجيئي؟» - «أرجوك ألا تحملني على الإباحة بجميع الهواجس التي انتابتني بين عيد سيدة صيدنايا الأخير وهذا اليوم.»
فأخذ إبرهيم يدها بين يديه وقال: «لقد جئت وفي نيتي أننا إذا التقينا فلا فراق، فما هي نيتك أنت؟» - «أنت الشخص الوحيد الذي تمنيت من كل قلبي أن يبقى إلى جانبي دائما؛ فقد أرعبني الكثيرون وملئوا نفسي اشمئزازا وخوفا!»
فضمها إبرهيم إلى صدره بلهفة، وطبع على شفتيها قبلة حارة وأجابها: «إننا لن نفترق، ولن يخيفوك بعد الآن!» وخرج وإياها من الحجرة وهو يطوقها بيمينه القوية.
كان الليل قد غشي تلك النواحي، ولكن القمر كان قد طلع وأضاء نوره هذه البقعة، فاجتاز إبرهيم ونجلا الممر المؤدي إلى الساحة الكبرى وهما على الحالة التي كانا عليها حين خرجا من غرفة العذراء، ولم يلتفتا إلى أحد من الأشخاص الذين كانوا واقفين أو مارين فيه، أما هؤلاء فإنهم حالما رأوهما شغلوا بهما عما كانوا فيه، وجعلوا يتبعونهما بأعينهم مشرئبي الأعناق نحوهما، مستغربين مظهرهما الذي لم يكونوا قد رأوا مثله من قبل، فلما بلغا الساحة وجدا ما لم يكن في حسبانهما: ففي وسطها وقف جرجس البطل المبارز في السنة الماضية نفسه، وهو يحمل بيده اليمنى سيفا مصلتا وباليسرى ترسا، وذراعاه متقاطعتان على صدره ومن حوله لفيف من الرجال هم مزيج من أهل القرى وأهل المدن، وأمامه على الأرض سيف وترس آخران كان الرجال المحيطون به يتشوقون ليروا من ذا الذي سيلتقطهما، فلما رأى إبرهيم هذا المشهد ضم الفتاة إلى صدره ووقف يحدق إلى جرجس ولفيفه تحديق النسر، حينئذ أدرك أولئك الرجال والجمع الذي وراءهم أن شيئا غير اعتيادي سيأخذ مجراه، وكما بسحر ساحر انقلبت سحن الرجال الذين يحفون بجرجس من الهيئة الهزلية التي كانت عليها إلى هيئة جدية جعلت وجوههم تشبه تماثيل الشبه.
Page inconnue