Deux Histoires : La Fête de Notre Dame de Saidnaya et la Tragédie de l'Amour
قصتان: عيد سيدة صيدنايا وفاجعة حب
Genres
أما إبرهيم فإنه بقي في مكانه مبهوتا حائرا، وكان قد هم أولا بالإجابة على شكر الفتاة، ولكن عواطفه كانت أقوى من آداب المجاملات فلم يسعده النطق ولم يعد يعرف كيف يتصرف؛ لأن هذا اللقاء ربك رأيه تربيكا.
بيد أن حيرة إبرهيم لم تستمر طويلا؛ لأن الشاب الآخر الذي ظل لحظة واقفا يحرق الأرم على إبرهيم لقطعه عليه ما كان آخذا فيه، تحرك بغتة من موقفه وهم باللحاق بالفتاة التي لما تكن قد توارت عن النظر، فنبه تحركه إبرهيم فمد إليه يده القوية بسرعة البرق وجذبه إلى الوراء وصاح به بغضب: «إذا كنت لا تترك مطاردة الفتيات فقد تقع في ورطة يعسر عليك الخروج منها.» وكانت صيحته قوية إلى حد أن الفتاة سمعتها فالتفتت إلى ورائها ورأته قابضا على عضد الشاب، فكرت عائدة ملهوفة وخاطبته بتضرع قائلة: «سامح هذا الشاب وأخل سبيله؛ لأنه لا يدري ما يفعل.» فتركه إبرهيم وقد دهش لتصرف الفتاة التي لم تكد ترى يده رجعت حتى أخذت بساعد الشاب، وحاولت أن تجره وهي تقول: «تعال عجل!» ولكن هذا بدلا من أن يتبعها نظر إلى إبرهيم شزرا وقال له: «سنلتقي مرة أخرى في هذا المساء وحينئذ أريك كيف تكون نتيجة تعرضك لما لا يعنيك.» وأفلت على الأثر من الفتاة وسار منفردا، وكان كلما بعد عن المكان ازداد رأسه التهابا وقلبه حقدا.
حينئذ نكست الفتاة رأسها ورجعت مسرعة من حيث أتت كمن يريد الهرب من شيء يخشاه، وبقي إبرهيم في مكانه وهو ما كاد يستفيق من ذهول حتى عاجله ذهول أشد منه، ولكن لغط الناس حوله نبهه فرفع رأسه ونظر إلى الجمع بعينين ضاقت الدنيا بهما، ثم سدد خطاه نحو الممر المؤدي إلى خارج، وسار والناس تتراجع من طريقه كما من أمام جبار أو أمير.
لم يكن قد بقي لغيوب الشمس سوى ساعة أو أكثر قليلا، ولم يكن إبرهيم يدري لم أراد الخروج من الدير ولا إلى أين يتوجه، ولكنه لما صار في الخارج استرسل إلى إحساسه وهام على وجهه بين الهضاب التي بجانب الدير، ورأسه مثقل بالألغاز والأحاجي وكل ما مر به كان يبدو له معميات: من تكون تلك القروية الحسناء؟ ومن يكون ذلك الشاب وما شأنه معها؟ ولكن لماذا يقلقني ذلك، وما يعنيني أنا من أمر الاثنين؟ ولماذا يجب أن أفكر دائما بتلك الفتاة؟ وكان كلما حاول أن يضعف من شأن هذه المسائل ازداد قلقه لها وشعر أنها مسيطرة على شعوره، حتى أيقن أنه لا يمكنه أن ينساها مهما بدت له عادية أو تافهة، فحاول أن يسري همه بالانتباه إلى طبيعة الأرض التي يمر بها، وإذا به يرى نفسه تجاه كهف محفور في منحدر الهضبة، وشاهد ناسا واقفين عند مدخله وآخرين في داخله، فاقترب من صبي كان آتيا من جهة الكهف وسأله عن شأن الناس المجتمعين هناك فأجابه الصبي: «هذه مغارة القديسة أم بزاز، والناس يأتون لزيارتها.»
ولم يكد إبرهيم يسمع ذلك حتى شعر برغبة شديدة في دخول الكهف والوقوف على ما فيه، ولم يتردد لحظة واحدة في تحقيق هذه الرغبة، فلما صار في داخله لم يجد فيه شيئا غير عادي في الكهوف التي تكثر في مناطق البلاد الجبلية سوى المذبح الصغير في جانبه الأيمن، وكان في الكهف بعض النساء ينتظرن فتاة قعدت تحت مرشح الماء تتوقع حلول بركة القديسة عليها، وشاهد إبرهيم قطرة الماء تسقط على جبينها، وكيف أن النساء ابتهجن لذلك، فاكتفى بما شاهد واقتلع من سقف الكهف حجرين صغيرين للذكرى وتحول إلى المخرج، ولكن امرأة كانت واقفة هناك استوقفته قائلة: «تبرك أولا ثم اخرج؛ لأنه لا يحسن أن يزور إنسان هذا المكان ويعود بدون بركة القديسة.» ولكن إبرهيم انحاز عنها وقفز إلى الخارج وعاد في طريق الدير.
وفيما هو في الطريق عاد يفكر: «إن ذلك الشاب قال لي: إننا سنلتقي في هذا المساء. فكيف يعلم أننا سنلتقي؟ قد يخطر لي أن أغادر صيدنايا الآن؛ ومن ثم لا نعود نلتقي، ولكن لم أبرح هذه البلدة؟ أيوجد ما يضطرني إلى ذلك؟ ثم ماذا سيحدث في هذه العشية؟ أهو شيء جديد، غريب يعرض لي لأول مرة؟ أف لهذه الوساوس، وهل يمكن أن أكون قد أمسيت عرضة لها؟»
لما بلغ إبرهيم الدير كانت الشمس قد توارت منذ بضع دقائق وأخذ الليل يرخي سدوله، فإنه كان ليلا داجيا.
وكانت ساحات الدير الداخلية قد أنيرت بقناديل البترول، والجموع لا تزال على حالها من الازدحام والهرج والمرج، إلا القروية الحسناء فإنها لم تعد تظهر لهم، فسار إبرهيم في ذلك المحيط الخضم على غير هدى، ودخل أحد الأروقة وكانت قاعة الطعام في آخره فرأته إحدى الراهبات ودعته إلى العشاء، ولكنه لم يكن يشعر بميل للأكل فشكر واعتذر، وتحول إلى ممر قريب قامت في وسطه غرفة صغيرة كان بابها مفتوحا قليلا، وفيما هو يجتاز هذا الباب سمع من داخل الغرفة صوتا رخيما أدرك حالا أنه صوت الراقصة القروية، فتوقف عن غير عمد وطرقت مسامعه الكلمات الآتية: «لا تكن عنيدا يا جرجس، فيكفيني أن أكون تدخلت من أجلك أصيل هذا النهار، لا تنس أن أمك مريضة وأنه يجب عليك ألا تجعلني سببا للشر، وأنت قد توعدت شابا كريم الأخلاق دافع عنا وأخرجنا من المأزق الحرج الذي كنا فيه، وهو شاب قوي يخشى منه ولا يخشى عليه فلا تتعرض له.»
فأجابها المخاطب: «إذا كان الشاب قويا فإن ضربة سيفي لا ترد، وسترين صدق قولي.»
فأسرع إبرهيم بالابتعاد، موبخا نفسه على وقوفه عند الباب كمن يتعمد استراق السمع، وصعد إلى أحد السطوح، وقد خطر له أن يغادر صيدنايا في الحال، ولكنه عاد ففكر: «لماذا يجب أن أغادر صيدنايا، وهل من عادتي أن أهرب؟ ولكن ما هذا القلق المستولي علي ولم أعهد في نفسي شيئا من ذلك من قبل؟» وبعد أن هدأ روعه قال في سره: «من تكون هذه الفتاة؟ إنها تقول: إني أخشى ولا يخشى علي.» عند هذا الخاطر ابتسم ولم يشأ أن يطيل التفكير، فأخذ يجول ويتنقل من سطح إلى ساحة، ومن ساحة إلى سطح؛ لعله يزيل ما به من حيرة.
Page inconnue