مقدمة
التفاحة
باريس يعود
إلى أسبرطة
التعبئة
أخيل
القربان1
الفدائي الأول
من السماء
فتنة
Page inconnue
معركة بين الآلهة
أندروماك
بتروكلوس
مقتل بتروكلوس
أخيل يبكي بتروكلوس
صلح
فزع الآلهة
طوفان
مصرع هكتور
بعد مصرع هكتور
Page inconnue
بريام الحزين
مقتل أخيل
فتح طروادة1
مقدمة
التفاحة
باريس يعود
إلى أسبرطة
التعبئة
أخيل
القربان1
Page inconnue
الفدائي الأول
من السماء
فتنة
معركة بين الآلهة
أندروماك
بتروكلوس
مقتل بتروكلوس
أخيل يبكي بتروكلوس
صلح
فزع الآلهة
Page inconnue
طوفان
مصرع هكتور
بعد مصرع هكتور
بريام الحزين
مقتل أخيل
فتح طروادة1
قصة طروادة
قصة طروادة
تأليف
دريني خشبة
Page inconnue
إلى هوميروس الخالد.
مقدمة
هوميروس
لزمت هوميروس أعواما ثلاثة أقرؤه وأدرسه وألخصه فما ضقت به ولا نفرت منه، بل ازددت له حبا وبه إعجابا. وكنت كلما تركته فترة أحسست شوقا عجيبا إلى أدبه يجذبني ويلح علي فأعود إليه، فيخيل إلي أنه قد شرع يغني لي، ويطلعني على صور غريبة رائعة من فنه الجميل لم أكن قد ظفرت بها من قبل، فأكب عليه عودا على بدء، لأطوي الأحقاب الطويلة الماضية، ولأجلس في شرفة الزمان فأطل على أخيل وأجاممنون ونسطور وأجاكس
1
وديوميدز وأوديسيوس في جانب من المسرح، وعلى بريام وباريس وأندروماك وهيلين في الجانب الآخر، وبينهما ذاك الضجيج وذاك النقع، ومن حولهما آلهة الأولمب يشتركون في الوغى، ينصرون أو يخذلون.
ما أجمل هوميروس!
لقد اختلف المؤرخون فيه اختلافا شديدا، لكن اختلافهم فيه لا قيمة له ما دامت الإلياذة والأوديسة، وما دمنا لا نجد بدا من أن نعترف لهما بمؤلف استطاع أن يسجل شخصيته فيهما معا، وأن يطبعهما بطابعه الخاص فلم لا يكون هذا المؤلف هوميروس؟ وإن لم يكن هو مؤلفهما فماذا يضير الأدب إذا سمينا هذا المؤلف هوميروس؟ وهؤلاء المؤرخون الذين ينكرونه بغير حجة ولا برهان إلا أنهم يستكثرون على عقل بشري واحد هذا الإنتاج الضخم والمحصول الكبير الذي يكون أدب أمة، والذي نهل منه شعراؤها وشعراء الأمم الأخرى في كل زمان ومكان، ولا يزالون ينهلون. هؤلاء المنكرون لهوميروس لم لا يصدقون هيرودوتس الذي هو أبو التاريخ والذي ذكر أن بينه وبين هوميروس أربعمائة سنة؟!
ألا يكون التواتر صحيحا في أربعة قرون ويكون صحيحا في عشراتها؟ إن تاريخ هيرودوتس هو أصدق ما وصلنا من التاريخ القديم، وقد ذكر لنا هوميروس وذكر ملحمتيه، بل حدد يوم وفاته، وقد سمع المنشدين في كل فج من اليونان يرددون بالتواتر أغاريده من الإلياذة ومن الأوديسة ومن غير الإلياذة والأوديسة، وكان هيرودوتس خبيرا بأدب بلاده وبتاريخ هذا الأدب، وكان يعرف أن الإلياذة والأوديسة لم تكونا معروفتين بحالهما الذي تواتره الناس عن هوميروس قبل هوميروس. حقا؛ لقد كانت الأساطير التي حشدها في ملحمتيه معروفة قبله بأجيال، لكنه كان أول من نظمها في هذا العقد الجميل الرائع الذي قبس منه إسخيلوس، والذي حام حوله يوربيديز، والذي ظل موردا لجميع شعراء الكلاسيك من غير استثناء.
لقد كتب هيرودوتس تاريخه في زمن استقرار الحضارة اليونانية ونضوجها، ونحن نلمح في تاريخه روح النقد والتمحيص، والبحث والتحقيق، فهو إذا روى لم يثبت إلا ما يراه متفقا عليه من الناس، فإذا رآهم يتفقون على شيء لا يطمئن إليه ضميره لم يبال أن يقول بعد إثبات ما اتفقوا عليه: أما رأيي فهو كيت، أو أنا أعتقد كذا ... ولم يكن يبالي كذلك أن يدلي برأيه في الآلهة، فقد صرح أنه لا يدري من أين نشئوا، وأن شيئا عن ذواتهم لم يكن معروفا إلى زمنه. وذهب إلى أبعد من هذا، فقرر أنهم جميعا من صنع هوميروس وهسيود؛ اللذين وضعا للإغريق ذلك الثبت الطويل من الآلهة وأنصاف الآلهة، ثم راحا يوزعان عليهم ذلك الاختصاص العجيب من مقاليد البر والبحر والأفلاك والهواء والنور والظلمة والحكمة والفنون ... وقد رفض ما ذهب إليه الشعراء من أن هذا التوزيع وذاك اللاهوت بطقوسه التي تعارفها الناس كانا موجودين قبل هوميروس وهسيود، وأكد أن الميثولوجيا اليونانية كلها لم تعرف إلا بعدهما.
Page inconnue
وإذا كان هيرودتس قد ولد سنة 484 قبل الميلاد، فليس يبعد أن يكون هوميروس قد ولد سنة 884 أو حوالي ذلك، أو أنه قد عاش بالفعل في القرنين التاسع والثامن ؛ أما ما قيل غير ذلك فلم تقم على إثباته حجة، ولم يؤيده برهان.
وتتنازع فخر مولده مدائن شتى، على أن الذي حققه المؤرخون ويؤيده ما جاء في ترتيلة أبوللو فهو أنه من مدينة خيوس الواقعة في الشاطئ الشرقي من الجزيرة المسماة باسمها والقريبة من مدينة أزمير، وهو لهذا إيونيوي (من إيونيا) بدليل أن أقدم نسختين من الإلياذة والأوديسة مكتوبتان بلغة إيونيا.
ويختلف المؤرخون في اسمه ومعناه، فيذكرون له أسماء معقدة لا داعي لذكرها هنا، ثم يفسرون اسمه فيقولون إن معناه «أعمى»، وإلى ذلك ذهب هيرودوتس، وهو يعلل ذلك بأن الاسم «هوميروس» مركب من هو - مي - أورون، ومعناها: الرجل الأعمى. ويتعصب هيرودوتس لهذا التأويل بالرغم من وجود تفاسير أخر قد تكون أقرب إلى المعقول من تفسيره هو؛ ذلك أن بعض القدماء يقولون: إن كلمة هوميروس قد تكون مشتقة من «هوميريدا»، وهي اسم لإحدى العشائر التي كانت تقطن جزيرة خيوس آنفة الذكر، وقد قطنوها برغمهم لأنهم كانوا أسرى حرب (رهائن) نفوا إلى تلك الجهة، وذاك بدليل أن كلمة هوميروس نفسها تحمل معنى أسير تحت الفدية، أي رهينة حرب.
ولم يضمن هوميروس إحدى ملحمتيه الخالدتين اسمه كما صنع هسيود في منظومته العظيمة «شجرة أنساب الآلهة»
Theogony ، فقد ذكر في مقدمتها اسمه الصريح، ثم ذكر في قصيدته الأخرى «الأرجا
Erga » كيف هاجر من كيمي إلى أسكرا، وكثيرا من حياته الخاصة وحياة أهله، ولو قد صنع هوميروس مثل هذا أو شيئا من هذا لما وقع المؤرخون في هذا الخلط الكثير عن شخصه وعن زمانه وعن حقيقته.
ولم يشر قط إلى السبب الذي ذهب ببصره. ويؤكد المؤرخون أنه قضى شطرا عظيما من عمره بصيرا سليم العينين بحيث استطاع أن يقرأ ويكتب ويسجل كثيرا مما نظم. ويذهب بعضهم إلى أنه بدأ نظم ملحمتيه - أو إحداهما - وهو بصير معافى.
وكل ما جاء في ذلك لا يعدو إشارة طارئة في آخر ترتيلة أبوللو يخاطب فيها العذارى اللائي كن يصغين إلى إنشاده: «إذا سألهن: أيما ظاعن - أي المنشدين - أحب إليهن وآثر إلى قلوبهن؟ أن يجبن على الفور: إنه رجل أعمى من قطان خيوس الجبوب المعزاء.
2
وإن أغانيه سيخلدن آخر الزمان!»
Page inconnue
وحتى هذه الفقرة لم تسلم من تشكك المؤرخين في قائلها: هل هو راوية هوميروس، أو هو هوميروس نفسه؟!
هذا ولقد كان للإغريق أدبهم وأشعارهم وأغانيهم وموسيقاهم قبل هوميروس. وليس معقولا أن هوميروس هو الذي بدأ ذلك جميعا؛ لأن ذاك الكمال أو ما يقرب من الكمال الذي جاء في ملحمتيه لا يمكن أن يأتي طفرة. وإذا صدقنا هيرودوتس يكون هوميروس صاحب فضلين عظيمين على هيلاس - اليونان - كافة؛ فهو الذي صنع آلهتهم وأنشأ بذلك لاهوتهم الوثني العجيب، ووزع ما في الحياتين الأولى والآخرة على هذه الآلهة وتلكم الأرباب، ثم هو الذي بدأ نظم الملاحم الطوال، ودبجها هذا التدبيج المتألق البراق، مستغلا أساطيرهم القديمة، وذاك الفوكلور الساذج الذي يفيض به تاريخهم القديم.
والثابت أن هوميروس لم ينظم الإلياذة والأوديسة للقراءة والاستمتاع الأدبي، بل هو قد نظمهما للتلاوة والإنشاد في المحافل ومجامع السمر؛ إذ كان من دأب دويلات بحر إيجه استدعاء الشعراء والمنشدين والمغنين لإحياء أفراحهم وبعث المرح في حفلاتهم. وقد حفظ لنا الأثر أسماء أورفيوس وميوزيوس ولينوس وغيرهم من شعراء عصر البطولة ومنشديه وموسيقييه الذين سبقوا هوميروس إلى نظم الخرافات وقرض الأساطير، متأثرين في ذلك بقصص الشعوب السامية في مصر والشام وأساطير الفرس والبابليين. ولم يحفظ لنا التاريخ شيئا من آثار هؤلاء الشعراء، اللهم إلا نتفا مما كان يستشهد به اللغويون ومؤلفو المراجع للتدليل على صحة كلمة أو سلامة استعمال، وهو شيء يسير ليس فيه غناء.
وقد سهلت اللغة اليونانية القديمة على شعرائها الكلاسيكيين عملهم، وجعلت نظم الملاحم الطوال من أيسر الأعمال الأدبية وأهونها عليهم، ذلك أنها لغة واسعة شاسعة استوعبت لهجات كثيرة لمختلف القبائل والبطون والأفخاذ الضاربة في شطآن البحر الإيجي، وقد تهيأ لها بذلك ما تهيأ للسان قريش من كثرة المترادفات وليونة التعبيرات وتعددها.
ولم يكن نظم الملاحم للتلاوة يستدعي فنية الأسلوب أو صقله بحيث يحتاج مجهودا ويلتفت فيه الناظم إلى ما يلفت إليه شعراؤنا من التهذيب والتطرية البيانية والزخرف الصناعي، وقد يحسب قارئ أدبهم أنه عبث أطفال كما قال قدماء المصريين مرة لصولون، وقد كان المصريون معذورين في قولهم هذا؛ فلقد كانوا يعنون بالجد الصارم من أمور الحياة أكثر مما كانوا يلتفتون إلى هذا القريض الطويل الشعبي يهرف به الشعراء والمغنون.
والحق أن روح الطفولة شائعة في ملاحم اليونان كلها، ولم تظهر العناية القليلة بالأسلوب إلا عند شعراء الدرامة، ثم شعراء الإسكندرية بعد ذلك. وهذه الروح واضحة في هوميروس وضوحا شديدا، فهو لا يعنى إلا بالحادثة، وكثيرا ما يتحاشى (الرتوش) والتهاويل المملة والزخارف اللغوية التي لا تتهيأ إلا في الأثر الأدبي الذي يؤلف للقراءة لا للإنشاد أو للتمثيل. وهو لهذا يحصر انتباه سامعيه في صميم القصة، وقل أن يشرد بهم خارجها كما يصنع شعراء الرومانتيك. وقل كذلك أن يستعمل الأصباغ لتطرية بيانه كيما يستر فيه ضعفا أو يعوض السامع بفخامة العبارة تفاهة الموضوع، فهو دائما يلتزم الروح ولا يلتفت إلى دمام
3
الجسم إلا بقدر وإلا في حدود النظم الذي أخذ به نفسه في الملحمة.
وفي ذلك يقول الأستاذ بورا: «إنه يكتب - أو ينظم - لكل الناس وليس لطبقة بعينها من الناس.»
وقد ساعد هوميروس تقلبه في البلاد على هضم اللهجات المختلفة في الأصقاع المتدانية اليوم - المتنائية يومئذ - التي زارها. ونحسب أنه من أجل ذلك تنازعت فخر مولده هذه المدائن السبع التي فعلت ذلك، فقد كان يقيم حقبة بكل منها فينشد إلياذته - ولما يكن قد نظم الأوديسة - ويغنيها بلهجة الجهة التي هو مقيم فيها، فيتقن إنشادها بهذه اللهجة إتقانا لا يدع أثارة من الشك في أنه من أهلها. وهنا ملاحظة طريفة انتبه إليها كل من برتون راسكو الأديب الناقد الأمريكي، وجلبرت موري - المؤرخ الثقة في الأدب اليوناني - ذلك أنه لا بد أن يكون هوميروس قد نظم الإلياذة مرتين، تتلى إحداهما في بلدان الشاطئ الآسيوي وفيها يغلب أبطال طروادة على أبطال هيلاس، وتتلى الأخرى في بلدان هيلاس، وفيها يغلب أبطالها على أبطال طروادة ويظفرهم بهم ، وبغير هذا لم يكن يستطيع أن ينشد إلياذة واحدة في كلا الشاطئين. ولو صح أنه فعل لثار به الأهلون بفعل العصبية ولمزقوه إربا؛ لأنه كيف يترك أخيلا مثلا يقتل هكتور وهو ينشد هذا الشعر لأحلاف هكتور وأهله؟ وكيف يسيغ أن يترك هكتور يقتل أخيلا إذا كان الإنشاد للملأ من مواطني أخيل؟
Page inconnue
غير أن هذه الملاحظة لا تزال تفتقر إلى ما يثبتها؛ لأن الإلياذة التي بأيدينا هي التي كانت تنشد وتغنى في هيلاس. •••
ألم ينظم هوميروس غير الإلياذة والأوديسة؟
لقد ذكر كالينوس الشاعر اليوناني القديم (660ق.م) منظومة لهوميروس تدعى
Thebais
لما يعثر عليها إلى عصرنا هذا. ويظن بعض المؤرخين أنها لا تعدو أن تكون الإلياذة في صورة أفخم، نظمها للإنشاد في طيبة اليونانية؛ ولذلك أطلق عليها هذا الاسم.
وعثروا على آثار للشاعر سيمونيدز «أمورجوس» الذي كان يعيش في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وردت فيها مقتطفات من هوميروس يظن أنها من الإلياذة، منها ذلك البيت المشهور: «وكما تساقط الأوراق (في الخريف) فكذلك تساقط أرواح البشر.»
وبعد ذلك بقرن كامل (556-468) روى شاعر آخر يدعى: سيمونيدز (من كيوس) بالتواتر عن هوميروس شعرا من ملحمة مفقودة لا تمت بصلة لا إلى الإلياذة ولا إلى الأوديسة.
أما بندار (522-448ق.م) - وهو زعيم الشعر الغنائي في اليونان القديمة - فقد كان مشغوفا بهوميروس وإن لم يمنعه شغفه به من مآخذ أخذها عليه فيما يتعلق بأوديسيوس، وقد ذكر لهوميروس ملحمتين طويلتين عن أخيل لا تزالان - وا أسفاه - مفقودتين إلى اليوم، وإذا كانت الأوديسة قد بلغت هذه الغاية من الإبداع في سمو القصص وكثرة الوقائع - وهي لبعض أبطال الإلياذة - فما بال هوميروس في ملحمتيه في أخيل وهو بطل أبطال الإلياذة جميعا؟! أية ثروة أدبية من شعر البطولة قد فقدها العالم؟! لقد كان بندار يعجب بهاتين الملحمتين «الإلياذة الصغيرة والأثيوبيون» إعجابا فائقا جعله يشدو بهما كما يشدو عصفور الكنار باللحن الموجع.
أما إسخيلوس فقد كان يقول عن ثلاثياته
4
Page inconnue
التي نيفت على الثمانين ولم يصلنا منها - ويا للأسف - إلا سبع: «إنهن فتات موائد هوميروس الحافلة!» والثابت أنه استخدم أبطال الملاحم الهومرية في أكثر ما ألف إن لم يكن في كل ما ألف، فهل كانت جميع مآسي إسخيلوس عن أبطال الإلياذة والأوديسة فقط؟!
وقد ألف سوفوكليس أربعا وعشرين ومائة مأساة، وكانت مآسيه تحوم حول أبطال هوميروس
5
كما كان يفعل إسخيلوس، فهل كانت أبطاله في هذه الأربع والعشرين والمائة المأساة كلها من الإلياذة والأوديسة؟
يقول المؤرخون حين يعرضون لهذا إن كلا من إسخيلوس وسوفوكليس كان يعد كل ما وصل إليهما من ملاحم العصر القديم هومريا، ولو لم يكن من نظم هوميروس، ومن هذا التراث العظيم استمدا موضوعات مآسيهما، بل يقولون إنهما كانا يدعوان ذاك العصر كله العصر الهوميري، على أنه ليس في هذا الكلام دليل على أن هوميروس لم ينظم غير الإلياذة والأوديسة، وإلا لم يقل إسخيلوس إن مآسيه فتات من موائده الحافلة؛ لأن إسخيلوس كان يعني ما يقول أكثر مما يحاول مؤرخو زماننا هذا أن يفهموا من عبارته وجهها الصحيح، وهو ولا شك كان يعني هوميروس نفسه ولم يعن عصره كله وبعض العصر الذي سبقه وبعض العصر الذي جاء بعده، أو ما يسميه المؤرخون العصر الهوميري، أو ما يزعمون أن إجزنوفان (القرن السادس) كان يدعوه كذلك.
هذا وقد اعترف تيوسيديدز لهوميروس بالإلياذة وبالأوديسة وبترتيلة أبوللو؛ أما أفلاطون فلم يستشهد بأكثر من نتف من الإلياذة والأوديسة وجاء أرسطو فاعترف له بالإلياذة والأوديسة وملحمة فكاهية تدعى «مارجيتس» ضاعت فيما ضاع من تراث الإغريق، أما أرسطرخوس الإسكندري العظيم (160ق.م) فلم يعترف له بأكثر من الإلياذة والأوديسة.
وعلى ذكر أفلاطون وأرسطو نروي أن كلا منهما كان يقتني نسخة من الإلياذة مختلفة في كثير من فصولها عن النسخة الأخرى، ولم يستطع المؤرخون تعليل ذلك بعد، اللهم إلا ما يعزى إلى بزستراتوس - منظم أشعار هوميروس فيما يقال - من أنه تناول الإلياذة بشيء من التحوير، وأقحم عليها زيادات في تمجيد الأثينيين، وهو ما يشك في صحته الأساتذة لانج وامري وبورا والعلامة كارل موللر.
على أنه ليس بزستراتوس وحده الذي اتهم (بتحشية) الإلياذة والتزوير على هوميروس ، بل إن صولون نفسه قد اتهم بمثل ذلك، بل اتهمت بها كل مدينة يونانية، وما حدث للإلياذة من ذاك القبيل هو ما حصل لحديث الرسول
صلى الله عليه وسلم
حينما اختلفت الأحزاب وأراد كل منها أن ينصر مذهبه بأثر من كلام الرسول، فكثر التلفيق وشاع الوضع، ثم نشأ بعد ذلك ما نشأ من مدارس الحديث، وشمر الأئمة في التجريد والتضعيف وما إلى ذلك، فمثل هذا حدث في اليونان القديمة.
Page inconnue
ولقد ساهمت مدرسة الإسكندرية بأوفى نصيب في درس الإلياذة والأوديسة، وفرغ من تلاميذها الأفذاذ لكلتا الملحمتين عدد عظيم استطاعوا عرفان الزائف من غيره، وكان إمام هذه المدرسة المؤرخ الناقد الكبير أرسطرخوس الذي وضع لنقد الأدب الهوميري قواعده الرائعة.
ويحددون عصر البطولة الذي وقعت فيه حوادث الإلياذة ثم حوادث الأوديسة بالقرنين الثاني عشر والثالث عشر، وذلك أن القبائل اليونانية (الإيونيوية والإيوليوية والدورية) كانت قد أخذت تنهض فجأة وتناضل في سبيل مجدها وتناوئ الحثيين والمصريين على السواء، وكان لا بد لها قبل كل شيء من أن تقهر طروادة المحصنة القوية الرابضة على ضفة الهلسبنت «الدردنيل» الشرقية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أربعة قرون أو نحوها جاء هوميروس ليروي وقائع هذه الحرب في منظومته الخالدة، أو وقائع السنة الأخيرة من السنوات العشر من حصار طروادة - أو إليوم - كما كان يدعوها غالبا.
فالإلياذة من هذه الوجهة قصيدة حربية حافلة بأنباء المعارك، تكاد تسمع صليل القتال وأنت تتلوها. وتكاد تشرف منها على ميدان صاخب ثائر النقع شديد الروع فائر بالدماء، وإذا كنت من رجال الحرب سرتك الخطط المرسومة والخدع المحبوكة، وراعتك هذه الفيالق المجيشة تأخذ أماكنها ثم تتحرك كالموج، ثم ترتد قطعة بعد قطعة وهي في حالتي الكر والفر كالرجل الواحد أو كالبنيان المرصوص، والإلياذة من هذه الوجهة أيضا تصور لك حياة الجند في الثكنات أبرع تصوير وأروعه، كما تصور لك حياة البحارة والرياضيين والرعاة ورجال الجبال، لكنها لا تبلغ من ذلك ما بلغه هسيود في ملاحمه، وذلك ما نرجو أن يوفقنا الله إلى التحدث عنه في كتاب آخر.
الإلياذة وصف قوي لهذه المجازر التي نشبت بين جيل من الناس يسكن في طروادة، وبين جيل مختلف عن جيل طروادة؛ لأنه جيل من أنسال الآلهة وذراري أرباب الأولمب فيما تزعم أساطير اليونان، جيل توالد من تزاوج عجيب بين هذه الأرباب الأولمبية وبين إنسيات فاتنات من بنات حواء، فليس أخيل العظيم ولا أودسيوس ولا أجاممنون ولا منلوس ولا ديوديميد ولا نسطور ولا أجاكس ولا أبطال أخايا
6
جميعا أشباها لهكتور ولا باريس ولا أبيهما بريام ولا لأبناء طروادة؛ لأن الأولين أبناء آلهة والآخرين أبناء بشر مثلنا.
شخصيات عجيبة جدا تلك الشخصيات التي اخترعها هوميروس، فهو لم يكتف بأن صنع للإغريق لاهوتا يعج بكل زوج من الآلهة، بل راح يزاوج بين تلك الآلهة وبين الناس ثم ينسل أولئك الأبطال العظام الذين دوخوا طروادة، وأرووا سوحها بالعزيز الغالي من دماء أبنائها.
فالسيدة هيلين التي بسببها نشبت الحرب، هي ابنة زيوس كبير الآلهة من ليدا التي أحبها الإله الأعظم في غفلة من زوجه هيرا.
وأخيل - بطل الإلياذة - هو ابن بليوس ملك فتيا، لكن أمه عروس الماء الحسناء المفتان ذيتيس، التي استطاعت أن تزلزل قلب الإله الأكبر زيوس بجمالها الساحر، وأن تجعله - وهو سيد أولمب - بعض عبادها، كما استطاعت كذلك أن تسحر قلوب الآلهة الذين أهرعوا من كل مكان ليشاركوا في زفافها ويشربوا النخب في أكواب مما أهدى إليها الصب المدنف إله الخمر باخوس!
وأوديسيوس - بطل الأوديسة - وثاني أبطال الإلياذة، وصاحب فكرة الحصان الخشبي - يتصل بزيوس من أمه مايا - وكذلك ابنه تليماك.
Page inconnue
أما أجاكس، وهو من أبرز فرسان الإلياذة وأشدهم بأسا فهو من حفدة دردانوس.
وأجاممنون وأخوه منالوس هما ولدا أتربوس حفيدة تنتالوس؛ ذلك الملك القاسي المتحجر القلب الذي حاول مرة أن يطعم الآلهة من شواء صنعه لهم من بدن ابنه.
7
فكان جزاؤه النفي إلى ظلمات هيدز، حيث قاسى الظمأ الممض وهو غريق في نهر من الماء العذب لا يصل إليه فوه، وإن بينه وبين الماء لشبرا واحدا.
وجميع الأبطال الآخرين هم حفدة الآلهة وأبناء السماء كما دعاهم هوميروس (الإلياذة ج2 سطر 513).
على أن أبطال طروادة يمتون هم أيضا بوشائج النسب إلى بعض الآلهة؛ فبريام وأبناؤه التسعة (هكتور وباريس ... إلخ) ينحدرون من أسلاف أجاكس «دردانوس».
وفي كثير من كتب الإلياذة مفاخرات عجيبة بالأنساب بين أبطال اليونان وأبطال طروادة، إذ يرد الطرفان أصولهما إلى الآلهة (المفاخرة الجميلة بين أخيل وبين إيناس - إلياذة - الكتاب العشرون).
8
بيد أن أبطال اليونان في الإلياذة يبدون أكثر اقترابا إلى الآلهة وأشد اتصالا بهم مما تبدو العناصر المكونة لجيش طروادة.
وكذلك الحال بين آلهة الأولمب؛ فأكثرهم يعطفون على اليونانيين ويناضلون عنهم، ويسدون إليهم أحسن الجميل فيما تقتضيه معاركهم من تيسير وترشيد.
Page inconnue
أما طروادة؛ فيعطف عليها أبوللو وتنحاز إلى صفوفها فينوس. أليس باريس قد قضى بالتفاحة لها من دون هيرا ومينرفا؟
لذلك تكاد تكون حرب الإلياذة قائمة بين قبيلين متفاوتين في الطبائع، فأحدهما أقرب إلى الآلهة منه إلى الناس والآخر أقرب إلى الناس منه إلى الآلهة، وفي ذلك ما فيه من ميل هوميروس الذي يبدو هواه مع اليونانيين في الإلياذة التي نملكها، والتي هي من تمحيص اليونانيين من أهل أثينا والإسكندرية.
على أن هذا الميل لم يكن حادا أو مبالغا فيه كما هي الحال في القصص الشرقي الذي خلفته لنا عصور البطولة، ومن نحو قصة عنترة أو أبي زيد أو سيف بن ذي يزن، فالغالب في هذه القصص أن يطبع الراوي سامعيه بطابع خاص، فيجعل هواهم في جهة واحدة بحيث يطربون أبلغ الطرب وأشده إذا جال عنترة جولة فأطاح برءوس مائة أو مائتين أو ألف أو ألفين، أو إذا انهزم الزناتي أمام أبي زيد، لا، لم يفعل هوميروس كما فعل هؤلاء، فهو بالرغم مما جعل لأبطال الإغريق من شرف النسب وكرم الحسب، وبالرغم مما أنهى به الإلياذة من فتح طروادة وإشعال النيران فيها وقتل أبطالها البارزين، قد خصهم بنوع عجيب من البطولة يرفعهم درجات فوق الأبطال الإغريق؛ وذلك أنه جعلهم أناسا وجردهم في المعمعة من هذه الحضانة الربانية التي خلعها على أخيل وغير أخيل، ومع ذلك فقد صبروا وصابروا ولقوا جموع اليونانيين بمثل الشجاعة التي لقيهم اليونانيون بها، فلم يجبنوا ولم يهنوا ولم يتخاذلوا عند اشتداد اللقاء، وكانوا يقتلون ويقتلون، وكانت الكرة تكون لهم مرة ولخصومهم مرة، وكانت لهم مواقف عجيبة مشرفة تنتزع من القارئ استحسانه أو رثاءه، وقد استطاع هوميروس أن يستدر دموع سامعيه وهو يصور وداع هكتور لزوجه وولده، وفزع هذا الولد العجيب وأبوه يتناوله من يدي أمه ليقبله القبلة الأخيرة التي لم يره بعدها؛ لأنه ذهب ليصاول أخيلا فيقتله أخيل بمساعدة الآلهة، لا لأنه أقوى منه وأشد مراسا.
لقد استطاع هوميروس أن يستدر دموعنا وهو يصور لقاء أخيل لبريام المحزون وقد ذهب - وهو ملك طروادة - يرجو بطل الإغريق وزعيم الميرميدون في أن يدع له جثة ولده هكتور، وأن يخلي بينه وبينها، فما كان من أخيل إلا أن أصاخ ودموعه تنزف، فترك الجثة؛ جثة هكتور الذي قتل بتروكلوس حبيب أخيل ووكيله على جنده وأعز الناس إلى نفسه، والذي بكيناه أحر البكاء حينما قتل وحينما انتزعت أسلابه، وحينما جيء به إلى معسكر أخيل معفرا بتراب المعمعة، وحينما سهدت عليه العيون وسهرت عليه حبيبة أخيل.
وهكذا يرتفع هوميروس بأبطاله في الناحيتين، ويوزع إعجاب القارئ على المعسكرين مما سنبينه فيما يلي. •••
كان هوميروس يخفض الآلهة إلى مراتب الناس فيجعل لهم من الغرائز الدنيا مثل ما للناس، ثم يرفع الناس إلى مراتب الآلهة فيجعل لهم من الفضائل ما ليس ينبغي إلا للآلهة أو ما ليس يتوفر إلا للآلهة.
وعجيب أن تتخذ آلهة هوميروس مثلها العليا من البشر الذين خلقتهم بأيديها؛ لأن هوميروس - على ما يبدو في ملاحمه - لا يرى الحياة الدائبة النشيطة المفعمة بالغرائز المتضاربة إلا في محيطها المرئي المعترف به الذي يتكون منا نحن البشر، ولكي تتم الصورة الشعرية التي هي روح ملاحمه، والتي تفوق بها على ضريبه هسيود، تراه يلجأ إلى الأساطير يلون بها فصوله، وليثير بغرابتها شوق سامعيه، وليجدد فيهم الحماسة التي هي أولى غايات الملاحم؛ لذلك تراه يعقد مجالس الآلهة للتشاور فيما ينبغي أن تكون الوسيلة لنصرة فلان أو لخذلان فلان، فإذا اجتمع شمل الأولمب فلا بأس أن تثور الحفائظ بين أرباب وأرباب وبين ربات وربات، ولا بأس أن يعير أحد الآلهة فلكان إله النار بما وقع بين زوجة فينوس وبين مارس إله الحرب من خطيئة وفسوق
9
ولا بأس أن يدس هرمز أنفه في الموضوع فيصرح أن مارس معذور جد معذور فيما حدث له من الصبوة إلى فينوس، وأنه أول من يشتهي أن يكون الذي وقع لمارس كان قد وقع له.
وليس يرى هوميروس بأسا في أن ينزل الآلهة في معمعان الحرب ينافحون عن الأبطال الذين ينتمون إليهم، ففي الكتاب العشرين من الإلياذة يستأذن الآلهة سيد الأولمب فينقسمون فريقين، فتكون هيرا ومينرفا وهرمز وفلكان في صفوف الإغريق، وينحاز أبوللو ومارس وديانا وفينوس إلى صفوف الطرواديين، فإذا ثار النقع واضطرمت الحرب، والتقى أخيل وهكتور (الكتاب العشرون) وقعقعا بالسلاح، وأوشك هكتور أن يظفر ببطل أبطال اليونان عندما يسقط رمحه، تتقدم مينرفا فجأة وعلى عجل فتأخذ الرمح من فوق الأرض وتناوله لأخيل فتنقذه من قتلة لم يكن فيها شك ولا عنها متحول، وهي تفعل مثل ذلك في الكتاب الثاني والعشرين فتنقذ أخيل وتمهد له بذلك فيقتل هيكتور، ومع أن مينرفا هي ربة الحكمة في الميثولوجيا اليونانية فهوميروس في هذا الموقف ينحط بها إلى أسفل مراتب الإنسان؛ لأنها تكون سببا في قتل رجل عظيم مثل هكتور يدافع عن وطنه ويذود عن حمى بلاده، وهي لا تتسبب في قتله فقط بل تحرمه فرصة نادرة أوشك أن يبطش فيها بأخيل.
Page inconnue
وليتها فعلت كما صنع نبتيون في الكتاب العشرين حينما أنقذ إبنياس من رمح أخيل مرتين حتى لا يغضب زيوس كبير الآلهة على بطل الإغريق.
10
هوميروس يزخرف الإلياذة بمثل تلك الأساطير ليقطع تسلسل المعارك وليتقي سأم السامعين وليجدد حماستهم، وهو في ذلك أستاذ أرباب المسرح من أمثال شيكسبير وأضرابه، وهو لا تعييه حيلة في اختراع ما يخفف وطأة الحزن إذا استعرت نيرانه في قلوب الناس حوله ، فلا بأس عنده إذن من أن يترك جثمان بتروكلوس ويقيم حفلا أولمبيا للألعاب يشترك فيه أبطال الحرب، فينافس بعضهم بعضا، فيتسابقون ويتلاكمون ويصطرعون ويقذفون القرص ويرمون الطوق ويحملون الأثقال ويسابقون على الخيل، وتكون حفلة باهرة كأحسن ما يشهد العالم الحديث في حفلات أولمبياد، ثم ينهض أخيل المحزون المرزأ في إثر كل مباراة فيوزع الجوائز السنية على الفائزين (الكتاب الثالث والعشرين).
وقارئ الإلياذة يتولاه العجب وتأخذه الدهشة لبراعة هوميروس الأعمى في الوصف، فكأس نسطور في الكتاب الحادي عشر ودرع هكتور في الكتاب السادس، والنقوش الأخاذة التي حفرت في درع أخيل والستر الأزرق الجميل في قصر ألكينوس، وشروق الشمس وغروبها وتكاثف الضباب والنقع المثار فوق المعمعة، كل هذه آيات من الوصف الدقيق الذي يشهد لهوميروس بملكة فنية قوية تتجلى في أكثر أنحاء منظومته، وتربك المترجم خاصة؛
11
حتى يستعصي عليه أن يساير هوميروس - ملك الشعراء - الذي تراه فيما ينظم مصورا ورساما وقائد جيوش وإلها وسحابا وبرقا ورعدا وحدادا، ثم جزارا وشواء، ثم راهبا وواعظا وما شئت من فنون الحياة التي لا حصر لها.
لقد يتهم الإنسان لغته وهو يترجم هوميروس؛ فهو لا يدري كيف ينقل كلامه وهو يصف الرجل يتل الشاة ثم يذبحها ثم يسلخها ثم «يوضبها!» ثم يشعل النار ثم يؤججها ثم ينثر فيها أعواد الند والرند والصندل، ثم يلقي فيها بالقراميد، ثم بقطع اللحم، ثم ينتشر القتار (رائحة اللحم المشوي)، ثم ... ثم ...
حقا إن في كتب فقه اللغة ما يعين المترجم على كل هذا، لكن المترجم يغازل الذوق العام للقراء وهو ينقل آثار الأعاجم، وهو إذا قسا على هذا الذوق أعرض عنه ولم يلتفت إليه، وذوق القراء عندنا ذوق كسول لا يجب أن يرهق بما حشد في كثب فقه اللغة؛ لأن أكثر ما في هذه الكتب حوشي وقد هجر استعماله، والمترجم لا يستعمله إلا إذا ضاقت به الحيل، ولم يستطع أن ينحت من الكلمات الحديثة السائغة ما ينزل بردا وسلاما على قلوب القراء . •••
وبعد، فأي الملحمتين أثرت في نهضة الأدب المسرحي اليوناني أكثر من الأخرى، الإلياذة أم الأوديسة؟
لقد أشرنا إلى ما قيل من أن هوميروس قد نظم الإلياذة للرجل كما نظم الأوديسة للمرأة الإلياذة التي تفيض بذكر الحروب ووصف المعامع ومقادير الأبطال في أولئك جميعا، والأوديسة التي هي قضية زوجة وفية غاب عنها زوجها حتى ظن أنه غير آيب وحتى طمع فيها كل طامع؛ لأنها تفردت بين نساء زمانها بالحسن الذي لا يغيره مرور الأيام ولا ينال منه تطاول الزمان.
Page inconnue
نظم هوميروس الإلياذة لتكون مثالا للرجال يحتذونه؛ إذ ينبغي أن يكون الرجال شجعانا. ينبغي أن تثور فيهم النخوة إذا تعرض رجل نذل مثل باريس لامرأة أحد منهم بسوء فيقوموا كرجل واحد ويجتمعوا من كل حدب وصوب ليردعوا من نالهم بالأذى في أعراضهم، ولو شبوها ضراما وصلوها أعواما.
ونظم هوميروس الأوديسة للنساء مثالا رائعا من الوفاء يحتذينه؛ إذ ينبغي أن يكون النساء وفيات لأزواجهن، فلا يفرطن في أعراضهن ولا يستسلمن للمقادير إذا عارضت شرفهن. لقد غاب أودسيوس زمنا طويلا، واجتمع عشاق بنلوب في قصره يراودون زوجه ويأكلون زاده ويهينون ولده، ومع ذلك فلم تضعف بنلوب، بل احتالت للطاغين العتاة وصابرت وضربت بعضهم ببعض حتى آب زوجها فخضد شوكتهم واستأصل شأفتهم.
فالإلياذة خشنة كخشونة الرجال، والأوديسة لطيفة رقيقة فيها كثير جدا من رقة النساء، وهي رقة جعلت صمويل بطلر الأديب الإنجليزي العظيم يؤمن بأن هوميروس لم ينظم الأوديسة ولم يعرفها ولا تمت إليه بسبب، وبأنها من نظم فتاة من جزيرة صقلية استطاعت أن تدرس هوميروس والميثولوجيا اليونانية دراسة هادئة ثم فرغت إلى نظم الأوديسة فأتمت عملها في سهولة وفي يسر، وأخرجت هذه الدرة الفريدة التي تسمو في كثير من فصولها إلى ذروة الإلياذة إن لم تزد عليها.
لشد ما يدهش المرء لهذه الفكرة الغريبة التي قذف بها منطق بطلر! إن كثيرا من القرائن تؤيد هذا الرأي، بيد أننا لا نميل كثيرا إلى الأخذ به؛ لأن الأخذ به شرود خطير مبالغ فيه عن حيز الأدب اليوناني القديم، وقليل من الاستقراء في المآسي التي ألفت بعد هوميروس تهدم رأي بطلر وآراء الذين تشككوا في صحة نسبة الأوديسة إلى هوميروس، فثلاثية إسخيلوس «الأورستيه» مثلا والتي تتركب من مآسيه أجاممنون وحاملات الكئوس والإيومينيدز قد أشير إليها في الأوديسة (الكتاب الحادي عشر)، إذ يقص أوديسيوس على ألكينوس الملك رحلته إلى هيدز (الدار الآخرة) وما تحدث إليه به الكاهن تيرزياس عن أوبة أجاممنون، وما حدث له من الغيلة على يدي زوجته كليتمنسترا وعشيقها إيجستوس ثم ما كان من ثأر الفتى أورست لأبيه وقتله أمه ... إلخ.
فهذه الثلاثية التي أخذها إسخيلوس من الأوديسة وقدمها للمسرح تنقض وحدها دعوى الأديب بطلر؛ لأن الفتاة الصقلية التي يزعم أنها نظمت الأوديسة لم تكن قد وجدت بعد.
وقد جاء سوفوكلس فوضع مسرحيات كثيرة - معظمها مفقود بكل أسف - متخذا موضوعاتها من صميم الأوديسة، ومما وصل إلينا من أسمائها تلك المسرحية الجميلة المسماة نوزيكا، وقد أحذ فكرتها من الكتاب السادس، وهي المسرحية التي يروى أن سوفوكلس نفسه قد قام فيها بتمثيل دور الفتاة نوزيكا ابنة الملك ألكينوس حينما ذهبت إلى شاطئ البحر في سرب من وصيفاتها تغسل أثواب عرسها وتنشرها في الشمس فوق أغصان أشجار الغابة التي كان أوديسيوس مختبئا فيها بعد نجاته من الغرق.
وهناك أدلة كثيرة تهدم ما رآه بطلر خطأ في نسبة الأوديسة إلى مؤلف غير هوميروس ولم أعثر في الكتب التي درست فيها ملك الشعراء من يوافق الأديب الإنجليزي على وجهة نظره هذه.
والذي يقرأ مآسي اليونانيين القديمة يلاحظ أن الشعراء قد عنوا بالإلياذة أكثر مما عنوا بالأوديسة، فأخذوا من الأولى أضعاف ما أخذوا من الثانية. وقد لا يكون بعيدا أن إسخيلوس قد أخذ من الإلياذة ستين مأساة على أقل تقدير من الثمانين التي ألفها والتي قال فيها إنها فتات من موائد هوميروس الغنية، وكذلك أخذ سوفوكلس كثيرا من مآسيه التي وضعها للمسرح.
والإلياذة حقيقة بهذا الالتفات من شعراء اليونان فهي النهر العظيم الجياش المتدفق الذي تفرعت منه الأوديسة والإلياذة الصغيرة والإلياذات الكثيرة التي ألفها شعراء القرن الثالث قبل الميلاد في كل من أثينا والإسكندرية، والتي لا نستطيع هنا أن نحصرها ولا أن نتكلم عنها. •••
وليس من شك في أن شخصية أخيل هي أبرع شخصيات الإلياذة ولا غرو، فقد سمى هوميروس إلياذته «قصيدة غضب أخيل!» وروح أخيل هي كهرباء الحماسة في الإلياذة من أولها إلى آخرها.
Page inconnue
انظر إليه وقد ذهبت به أمه إلى نهر الخلود تغطه
12
فيه حتى لا ينفذ في جسمه رمح ولا سهم من رماح الحرب أو سهامها؛ لأن لماء هذا النهر ذلك الفعل العجيب! وانظر إليه كيف يبتل جسمه كله ما عدا عقبه، ثم يكبر أخيل ويشب ويصبح بطل أبطال اليونان، ثم تكون حروب طروادة فيمضي إليها بخيله ورجله، ويقتل الأبطال الصناديد، ثم يصوب إليه باريس سهما من سهامه يقر في العقب التي لم تبتل بماء نهر الخلود فيكون فيه حتفه!
وانظر إليه يختلف وأجاممنون من أجل الجارية بريسيز التي هويها أخيل وعلقها قلبه، فيرفض أن يغشى المعركة، ويعتزلها وجنوده الميرميدون، فتدور بذلك الدوائر على جيوش اليونان ولا يغنيها أن يكون في صفوفها الأبطال المغاوير أودسيوس وأجاكس وديوميدز ومن إليهم، وانظر إليه يكلمه بتروكلوس في نصرة بني جلدته حين يعز عليه أن يصطلمهم أبطال طروادة فيأذن له، ويضفي عليه درعه العظيمة التي ذهبت أمه فصنعتها له عند فلكان الحداد، ويذهب بتروكلوس فيكسر شوكة الطرواديين ويصيبهم القرح على يديه وأيدي الميرميدون جنود أخيل.
وانظر إلى أجاممنون يعتذر إليه ويرد عليه بريسيز ويقسم له أنه لم يطمثها ولم يمسسها بسوء. وانظر إلى أخيل لا يفيء ولا يلين ولا ينهض لحرب الطرواديين، فيغضب الآلهة ويسخط أرباب الأولمب ويخرق الشرائع وقوانين الأخلاق فتكون النتيجة أن يقتل بتروكلوس الحبيب العزيز.
وانظر إلى أخيل كيف تسود الدنيا في عينيه حزنا على بتروكلوس فيمضي إلى المعمعة فيصرع أبطال طروادة ويجول فيها ويصول، ويزأر ويزمجر ويطويها كالعاصفة، ثم انظر إليه يظفر بهكتور - قاتل بتروكلوس - فيصرعه ويجره خلف عربته ويدور حول طروادة غير موقر قدس الموت ولا حافل بتقاليد السماء.
ثم قف عند أروع مناظر الإلياذة جميعا : بريام الحزين، والد هكتور! هذا الرجل المحطم يمضي وحده إلى أخيل باكيا ضارعا متوسلا، يرجو الرجل الذي قتل أولاده في أن يدع له جثمان هكتور ليشفي بالبكاء عليه جوى نفسه، وليطفئ بتحريقه السعير المضطرم بين جوانحه، فيعصف الحزن بأخيل العظيم ويعانق الرجل العظيم ويتبادلان البكاء، ثم يأذن له ببدن ولده.
هنا نبل هوميروس، وهنا إنسانيته وسموه، وهنا فرق ما بينه وبين قصاصينا الذين يشتركون مع سامعيهم في السخط على بطل الناحية الثانية. •••
ومن ألمع شخصيات الإلياذة شخصية أجاممنون، تلك الشخصية العجيبة التي رفعها هوميروس فوق شخصياته جميعا، وخصها بالقيادة العامة للأسطول في البحر وللجيوش في البر.
وأجاممنون هو شقيق منلوس زوج هيلين التي بسببها شبت الحرب بين اليونان وطروادة، وهو الذي ضحى بابنته إفجنيا كي تتحرك الريح وتتأذن الآلهة للأسطول في أن يقلع من أوليس بعد إذ لبث هناك زمانا طويلا لا يقوى على حركة، لسكون البحر وجمود الرياح، وقد اتخذ إسخيلوس من مأساة الفتاة إفجنيا
Page inconnue
13
موضوعا لمأساته الرائعة التي دبرت فيها كليتمنسترا زوجة أجاممنون غيلة زوجها بعد أوبته من طروادة وذلك بمعاونة عشيقها إيجيستوس، ثم تتسلسل ثلاثية إسخيلوس المشجية «الأورستية» على هذا الغرار.
ومن المشاهد المؤلمة التي ينقم فيها القارئ على أجاممنون، ذلك المشهد الذي يقص علينا فيه هوميروس ما شجر من الخلاف بينه وبين البطل أخيل. إنه مشهد يثير السخط على أجاممنون، كما أثاره تسليم رأس ابنته للجلاد قربانا للآلهة حتى تثير الرياح كي يقلع الأسطول، وبمثل هذه المشاهد التي سنضع بين يدي القارئ صورا رائعة منها وضع هوميروس أساس المأساة اليونانية ومهد السبيل لمن جاء بعده من الشعراء فخلقوا الدرامة وخلقوا المسرح وتركوا للذهن البشري ثروة لا يزال يستغلها ولا يزال يروي ظمأه منها.
وقد ورد ذكر أجاممنون في الأوديسة كما أسلفنا وذلك عندما لقي أودسيوس الكاهن تيريزياس في العالم الثاني وأخذ يقص عليه ما آل إليه أمر أبطال الإلياذة بعد أوبتهم إلى أوطانهم، وقد ذكر له من أمر أجاممنون ما دبرته له زوجه.
وللبطل ديوميد منزلة رفيعة في الإلياذة، ويكاد بشجاعته النادرة يتفرد بالإعجاب بعد إذ هجر المعركة أخيل. ففي الكتاب الخامس الذي قصره هوميروس على هذا البطل لا تقتصر شجاعته على التفوق على الآدميين الذي خاضوا الحلبة، بل تتعداها إلى الآلهة، وحسبه فخرا أنه جرح فينوس ربة الجمال التي كانت تتفانى في مساعدة جيوش طروادة، ثم مارس إله الحرب الجبار المدله بهوى فينوس، وكلما حاق بأحد اليونانيين كرب في المعمعة كان ديوميد أسرع الفرسان إلى نجدته بل إنقاذه، وقد ذهب في الكتاب العاشر في صحبة أودسيوس إلى معسكر الطرواديين في حلك الليل حيث اغتالا ريسوس بعد أن اجتازا ساحة تعج بالمنايا وتضطرب بألوان المهلكات.
أما أودسيوس فله شخصية فذة؛ إنه بطل مخاطر لا يبالي الردى ولا يرهب المنايا، إلا أنه يمتاز بناحية أخرى أظرف وألطف؛ ناحية تثير المرح وتبعث الضحك، ضحك الجد الصارم لا ضحك المشعبذين ورجال المساخر، إنه كان من عشاق هيلين قبل أن تنشب هذه الحرب، فلما فاز منلوس بهيلين حزن وتولاه الكمد، لكنه تزوج من إحدى قريباتها «بنلوب» التي لم تكن تقل عنها جمالا ونضرة وطلاوة، والتي استطاعت أن تحتل من قلبه فراغ هيلين كله، فلما نشبت الحرب بسبب هيلين وعلم أودسيوس أنه مدعو إلى خوض غمارها فيمن دعي من ملوك هيلاس وأمرائها آثر السلامة، فادعى العته وذهب إلى شاطئ البحر بمحراث عظيم يجره ثور وجواد، وجعل يحرث الأرض ويبذر فيها الملح كما يفعل المجانين، ولم تنطل هذه الحيلة على بالاميدز رسول منلوس فقد عمد إلى تزييفها بوضعه الطفل تليماك بن أودسيوس في طريق المحراث. فكان أودسيوس يتفادى ولده في مهارة أشد الناس وعيا وأكثرهم إدراكا. وفي الإلياذة كثير من المشاهد التي تدل على براعة أودسيوس وجمال حيلته وعمده إلى الخدعة في الحرب أكثر من الاتكال على الشجاعة المجردة. كما كان يصنع ديوميد أو أجاكس أو أخيل. وخدعة الحصان الخشبي التي فتحت طروادة هي من تدبير أودسيوس، أما الأوديسة فإنها غاصة بحيل هذا الرجل العجيب، وهي حيل خلابة لا يمكن استيعابها في هذه المقدمة المقتضبة عن هوميروس. وننتهز هذه المناسبة فنشير إلى ما تسرب إلى قصص ألف ليلة وليلة من خدع أودسيوس. فأكثرنا قد قرأ رحلات السندباد البحري، وأكثرنا يذكر المارد الذي حبس السندباد ورجاله في كهفه، وراح يسمنهم ويتغذى بهم واحدا بعد واحد حتى دبر السندباد حيلة سمل عيني المارد بالسيخ (السفود) المحمى وما تم بعد ذلك من هرب السندباد ورجاله إلى زورقهم ونجاتهم بأنفسهم في البحر. هذه صورة كاملة من صور الأوديسة اقتبسها الراوية العربي وكساها هذا الرواء القشيب مباعدا بينها وبين الأصل غير مشير إلى مصدرها. ونحسب نحن أن قصة السندباد كلها لم تكتب إلا بعد العصر الذي فشت فيه الترجمة عن اليونانية، واشتدت فيه أواصر الصداقة بين هارون عاهل بغداد وشرلمان عاهل الفرنك، وما تبع ذلك من وفود تجار القسطنطينية إلى بغداد، ووفود تجار بغداد إلى العاصمة الرومية، وما كان يصحب هذه الرحلات من تبادل القصص وسرد الأخبار، وليس يبعد كذلك أن يكون لاختلاط العرب بأهل الإسكندرية من مصريين ويونانيين أثر فيما نلحظه من تلقيح القصص العربي بطرائف القصص اليوناني.
هذه بعض شخصيات المعسكر اليوناني تقابلها شخصيات أخرى في معسكر طروادة، ولسنا ندري بأيها نبدأ؟ إن باريس الذي كان سبب هذه الحرب الضروس شخصية هزيلة مريضة شاحبة، وليس يستطيع الإنسان أن يفهم كيف جاز أن تنشب هذه المجزرة الشنيعة المروعة بين هذين الحلفين الكبيرين من أجل أن هذا الفتى باريس ينزل ضيفا على منلوس فيكرمه ويحتفي به، ثم لا يلبث الضيف أن يغازل زوج مضيفه، ثم ما هو إلا أن يفر بها بعد تدبير هو أسفل ما عرف في تاريخ الهمجية والقحة! حقا؛ لقد وعدته فينوس قبل أن يقضي لها بالتفاحة المشئومة أن تمنحه أجمل زوجة وأفتن امرأة. أفلم يكن هذا النذر الإلهي يقضى إلا على هذا النحو؟! والغامض الذي لم يفسره علم الأساطير هو كيف أنه قد ساغ صنع باريس في ذهن أبيه ملك طروادة؟ وكيف رضي بطل عظيم مثل هكتور عن هذه الدعارة التي أثار بها أخوه الحرب بين هذين العالمين؟ قد نلتمس العصبية الجنسية عذرا واهيا بهذا الرضى، بيد أنه يكون عذرا متهدما على كل حال.
يدرس الإنسان شخصية بريام الملك فيعجب لنبالة الرجل وفطرته التي فطره الله عليها من محبة للعدل وميل إلى الإنصاف وإشفاق على الرعية، فكيف وزن عمل ولده حين أبى أن يأمره برد هيلين إلى زوجها حقنا لكل تلك الدماء؟! أين المرض إذن؟ أفي رأس بريام وملئه؟ أم هو في رأس هوميروس؟ هنا موضع الضعف في عقدة الإلياذة، وهو ضعف يشبه الضعف في عقدة الأوديسة، حين يجتمع عشاق بنلوب في قصر أودسيوس، وحين تمر عليهم السنون الطوال منتظرين أن تختار منهم ربة الدار بعلا لها، فهم بذلك يشبهون القطط. ويحاكون الديكة حين تقتتل على الأنثى. هذا ضرب حيواني من تفكير هوميروس يشوه جمال ملحمتيه، ولعل للوثنية نصيبا كبيرا في توجيه شاعر الخلود هذه الوجهة، ولعل المصريين القدماء لم يكونوا متجنين حين قالوا عن ملاحم اليونان إنها نتاج صبياني؛ ولذا لم يأبهوا لها ولم يعنوا بها برغم ما مدحها لهم صولون.
والعجيب في هوميروس أنه لم يبال أن ينحط بالمرأة اليونانية إلى مستوى دون مستوى المرأة الطروادية بمراحل هائلة، لقد جعل المرأة اليونانية متاعا شائعا وغرضا تتحيفه لبانات الرجال؛ فهيلين زوجة منلوس ملك أسبرطة تفر مع باريس إلى طروادة دون أن تتأبى أو تتمنع. ثم تشب الحرب بسببها فلا تحاول مرة أن تفر إلى معسكر اليونانيين. بل تظل طوال السنوات العشر متعة حلالا لباريس، وتنتهي الحرب وتضطرم النار في طروادة وتعود هيلين إلى أسبرطة فلا تثور نخوة منلوس ولا يضطرب قلبه بقليل من غيرة الرجال.
أما بنلوب فقد ضربت المثل الأعلى لحفاظ المرأة ووفاء الزوجة، لكنها مع ذلك عوملت من أمراء هيلاس معاملة عجيبة مضحكة تدعو إلى السخرية التي فاجأ بها المصريون القدماء المشترع صولون، وإلا فما هذه العصبة من العشاق لمعاميد تحتل منزل أودسيوس؛ فتريغ خيره وتأكل زاده وترتع في شرفه وتستبيح عرضه ؟! أكانت منزلة المرأة عند اليونانيين - ولو في عصر هوميروس - بهذه الدرجة من الهوان؟! زوجة ملك إيثاكا تكون بطلة هذه المأساة الغرامية الوضيعة، وقد قدم هوميروس من خيوس لينشد ملحمته في المدائن اليونانية ليسمع أهلوها كيف كان أسلافهم يعاملون زوجة بطل أبطالهم؟!
Page inconnue
وكليتمنسترا زوجة أجاممنون، لقد عشقت هي أيضا إيجستوس المتآمر على عرش مولاه والذي دبر له تلك القتلة الشنيعة بعد عودته ظافرا من طروادة، فما الذي صنعه هوميروس بنساء اليونانيين؟ لقد عبث بهم وهو يرفع أبطالهم إلى ذروة المجد، ولها بعقولهم حين عرض عليها بضاعة البطولة المزجاة ملفوفة في أكفان تلك الأعراض الممزقة، حتى آلهتهم، لقد تناولها كما يتناول الطفل دماه ولعبه يعبث بها ويلهو، حتى كبير الآلهة وسيد الأولمب، انظر إليه كيف احتالت عليه زوجه جونو «حيرا» - الكتاب الرابع عشر - فجعلته يغفى ثم يغط في نوم عميق كيما يذهب نبتيون لنصرة الإغريق، فإذا استيقظ في الكتاب الخامس عشر وعلم ما كان من أمر نبتيون أرسل إليه ينذره في المعركة، فيعود رب البحار وينبري أبوللو لمشاكسة اليونانيين فترتد جموعهم إلى قواعدها عند الأساطيل.
أما المرأة الطروادية فقد سما بها هوميروس سموا بلغ الغاية وأوفى على المأمول، انظر إلى الأزواج والعذارى والأمهات يجتمعن حول هكتور في الكتاب السادس في عودته من المعركة يسألنه عن ذويهن؛ وانظر إلى أمه تبرز إليه من حريم بريام عابسة مقطبة تزجره لأنه عاد من المعركة وهي على أشدها ثم تحضه على اللحاق بإخوانه ينصرهم ويشد أزرهم ويرد عنهم عادية الإغريق، ثم انظر إلى هذه المرأة المرزأة - هكيوبا - تجمع المتضرعات من بنات طروادة وتذهب فيهن إلى هيكل مينرفا تصلي وتعقر القرابين كيما تشمل جيش طروادة بحسن رعايتها وجميل حمايتها، ثم استمع إليها تحنو على هيكتور في الكتاب الثاني والعشرين بعد إذ وعظه والده خوفا عليه من أخيل «الجني!» وقد أفزعها منظره يصول في الحلبة ويجول، فتذري دمعها وتساقط نفسها بعد إذ أرسلت إلى المجزرة بأكثر أبنائها، أو انظر إليها تمزق نياط القلوب في الكتاب الرابع والعشرين إذ هي تبكي هكتور بعد إذ عاد أبوه بجثمانه من لدن أخيل، أو انظر إليها تتعلق ببريام وقد انقض بيروس (ولد أخيل) على آخر أبنائها يخترمه برمحه، ثم ينقض على بريام الشيخ الفاني المسكين فيجهز عليه، ثم يقتاد هكيوبا، هكيوبا المحزونة المفجعة فتكون في جملة السبي الذي يعود به اليونانيون من طروادة،
14
ويكون سبيا يجر عليهم النحس فيقتل من يقتل ويردى من يردى.
وأندروماك! لشد ما يدوي في فؤاد القارئ هذا المشهد الرائع بينها وقد حملت طفلها، وبين زوجها هكتور في الكتاب السادس من الإلياذة! إن هوميروس يرتفع في هذا المشهد إلى ذروة فنه في ملحمته الخالدة! لشد ما يحرق القلب وداع أندروماك الزوجة لهكتور الزوج!
انظر إليها واقفة فوق برج من أبراج طروادة وقد قتل أخيل زوجها وراح يجره وراء عربته في الساحة حول إليوم. والرأس الكريم العظيم يثير التراب المنضوح بالدم، وأخيل يلهو بكل ذلك ويشتفي!
بل انظر إليها وقد وقفت تضرب صدرها وتسكب دمعها على جثة هكتور بعد إذ عاد بها أبوه بريام من عند أخيل، ثم تقول: «زوجي! أهكذا تمضي في عنفوان الصبا وشرخ الشباب، وتتركني وحيدة فريدة كاسفة! هذا ابنك لا يزال في المهد، وهذان أبواك الشقيان! لن يشب ابنك يا هكتور عن طوقه؛ لأن من دون هذا دك تلك الحصون، وتقويض طروادة التي كنت حاميها وحامي نسائها والذاب عن بنيها! يا لشقاء الحرائر اليوم يا طروادة! إن هي إلا لحظات ثم يحملهن البحر إماء للغزاة، وأنا وولدي في جملة السبي يا هكتور. ولدي! ولدي البائس الشقي! إلى أين المسير! إلى بلاد العدو الظالم لنكون من جملة الخدم والخول، ليراك من يحسب أباك قد قتل أباه أو أخاه فيبطش بك، وينتقم منك ويقذف بك من فوق برج أو حصن.» «لشد ما كنت حزنا لأبويك يا هكتور! بيد أنك كنت حزنا ممضا لمخلوق آخر هو أنا!»
وهكذا بكت هذه الزوجة المخلصة الوفية زوجها، وهكذا كانت دموعها الغوالي مدادا لا ينفد لمآسي يوربيديز.
وبعد، فهذه مقدمة عن هوميروس مسهبة، وهي مقدمة لهذا الكتاب والكتاب الذي سيليه إن شاء الله، لم أر بدا من إثباتها بنصها كما كتبتها بعد أن فرغت من تلخيص الأدب اليوناني، ونشر معظمه في أوقات متقاربة. ولم يبق إلا أن يعلم القارئ لماذا آثرت تلخيص الإلياذة والأوديسة، ولم أوثر ترجمتهما؟ ولا أحب أن أطيل في إيراد سبب ذلك؛ فأنا لا أزال عند رأيي من وجوب تحبيب الأدب اليوناني الخالد إلى قراء العربية، وإزالة ما عساه أن يصرفهم عن ورده، والاستمتاع بروائعه. والأدب اليوناني مثقل بمئات من أسماء الآلهة والإشارات الأسطورية التي تصرف القارئ عن لب الموضوع، بل ربما صرفته عن الموضوع نفسه، وزهدته فيه فلا يعود إليه أبدا.
لهذا آثرت التلخيص على الترجمة؛ ولهذا بدأت بنشر كتابي «أساطير الحب والجمال عند الإغريق» لأمهد به «لقصة طروادة» وهي هذا الكتاب، و«لقصة الأوديسة» التي ستظهر بعد أسابيع. وأرجو أن أوفق إلى نشر الجزء الثاني من أساطير الإغريق الذي لا غنى عنه لقراء الأدب التمثيلي اليوناني قبل أن أنشر كتبي التي أنجزتها عن إسخيلوس وسوفوكلس ويوربيديز حتى أكون قد ساهمت بنصيبي المتواضع في التعريف بالأدب اليوناني، ولفت أنظار قراء العربية إلى روائعه حتى يتيح الله لهذا الأدب من يترجم روائعه ترجمة نثرية لا غنى لقراء العربية عنها.
Page inconnue
ولو كانت إلياذة هوميروس تكفي لشرح نفسها بنفسها لاكتفيت بترجمتها، وأعفيت نفسي من عناء البحث، ووصل تاريخ حروب طروادة بأسبابها ونتائجها، فكنت أستريح من تسجيل فصول هذا الكتاب الأولى وفصوله الأخيرة بالرغم مما في ذلك من تحد لأزمة الورق، وما في تسجيل هذه الفصول من رفع لثمن الكتاب لم نتعمده بل اضطررنا إليه اضطرارا.
القاهرة؛ أبريل 1945
دريني خشبة
التفاحة
نشيد الزمان!
وقصيدة الماضي!
وغناء السلف!
وحداء القافلة التي لا تفتأ تخب في بيداء الأزل، إلى الواحة المفقودة في متاهة الأبد؛ ركبانها الآلهة، وأبوللو وكيوبيد وملؤهما ولدانها المخلدون! •••
أنشد يا هوميروس،
واملأ الأحقاب موسيقى،
Page inconnue
واللانهاية جمالا وسحرا!
فالأرواح ظامئة، والقلوب متعبة، والإنسانية واجفة، والآذان مكدودة من دوي العصر، فهي أبدا تحن إلى سكون الماضي. •••
لن تصمت يا هوميروس،
فالقيثارة الخالدة لا تزال بيديك،
والقلوب هي القلوب!
فدع أوتارها تملأ الدنيا رنينا؛ فلقد أوسعتنا هذه الدنيا أنينا، ورنينك العذب أذهب لأنين الشاكين ولوعة الباكين!
1
رآها تخطر فوق الثبج، وتميس على رءوس الموج، فهام بها، وشغلته زمانا عن أزواجه في قصور الأولمب، فكان يقضي عند شاطئ البحر أياما يترقب الفرصة السانحة، ويفتش في كل موجة عن حبيبته «ذيتيس»، عروس الماء الفاتنة، «ذات القدمين الفضيتين»، ابنة نريوس - رب الأعماق - الثاوي مع زوجته الصالحة دوريس في قصور المرجان، هناك، هناك تحت العباب.
ورقت له الفتاة حين علمت أنه رب الأرباب وسيد آلهة الأولمب، زيوس العظيم، فوصلت بحبالها حباله تطمع الخبيثة أن تصبح زوجة أولمبية عظيمة، تصاول حيرا أم مارس وفلكان، وتفاخر لاتونا أم ديانا وأبوللو، وتدل على ديون أم فينوس، وعلى سائر ربات الأولمب!
وابتسم لهما الزمان، وتساقيا كئوس الغرام؛ وأوشك الإله الأكبر أن يبني بها لولا وسواس خامر قلبه فآثر أن يستشير ربات الأقدار
Page inconnue