73

ومع ذلك فلم تقتصر العين على العشى الذي أصابها حتى اقترب بها من كف البصر، بل تجاوزت بكارثتها حدود نفسها، فكانت سببا في أن يسقط إبراهيم فتنكسر له ساق، فجاءت مصيبته الجديدة ضغثا على إبالة.

لكن الأذن ودوارها، والعين وعشاها، والساق وعرجها، لم ينل منه عشر معشار ما ناله من غدر الأصدقاء؛ أصدقاء؟! يا لها من كلمة يسهل جريانها على اللسان، ثم ندير الأبصار بحثا عما تعنيه الكلمة بين الناس، فإذا هي إذا إشارات إلى شيء، فإنما تشير إلى دخان قاتم يسد الأنوف والحلوق فلا تتنفس الهواء الطلق في نقائه، أحسب أن الصداقة قد سميت باسمها هذا لما فيها من الصدق، فماذا لو تكشف لك صديقك المزعوم عن كذب سبقه كذب ولحق به كذب! ... وحسبي هذا، فلن أطيل في إعادة ما قصه علينا إبراهيم عما لقيه على أيدي «الأصدقاء».

وكان ذلك كله مدعاة لإبراهيم أن يعيد النظر الفاحص في نفسه وفيمن حوله - أصدقاء وغير أصدقاء - ليرى كيف يكون بالقياس إليهم وكيف يكونون بالقياس إليه، والذي عرف إبراهيم عن كثب كما عرفته، لا بد أن يكون قد عرف فيه ذلك التواضع الفطري الذي يكاد ألا يكون له نظير فيمن حوله جميعا، ومع ذلك فلم يستطع عند مقارنته الفاحصة تلك إلا أن يشهد أمام ضميره وأمام الله أنه بالنسبة إلى معظم أولئك إنما هو ما يكون عملاق بين أقزام، ولعلي أحسن صنعا لو أني تركت الحديث لإبراهيم ليصف رؤيته كما أجراها في مقالة قرأتها له، جعل عنوانها «حارة الأقزام»، وهذه هي:

كثيرا ما لجأ الكاتبون إلى تشبيه الناس بالعمالقة حينا وبالأقزام حينا؛ فالناس في أعين الكتاب عمالقة إذا رأوا فيهم ما ظنوه فخامة وضخامة، وهم في أعين الكتاب أقزام إن رأوا فيهم ما يدعو إلى التصغير والتحقير.

ومن أقوى الأمثلة التي شهدتها آداب العالم لهذا التصوير بالعمالقة أو بالأقزام تلك القصة التي لبثت منذ ظهورها (في سنة 1726) مصدر متعة أدبية للكبار والصغار على حد سواء؛ وأعني قصة «رحلات جلفر» التي كتبها جوناثان سويفت، وهو إنما كتبها ليسخر بها من أوضاع الحياة في وطنه - بريطانيا - إبان عصره، فلما رآها قد انقلبت وسيلة يتسلى بها القراء ، خشي أن يكون قد ضاع عليه الهدف المقصود، فكتب لأحد خلصائه يقول ما معناه: لقد استهدفت بالقصة أن أبث القلق في صدور الناس لا أن أسري عنهم الهموم.

وموضوع القصة - كما هو معروف - وصف لرحلات «جلفر» في أرض الأقزام ثم في أرض العمالقة، أما وهو مع الأقزام فقد وجد نفسه كالمارد يستخف بهم ويضحك من سخافاتهم، حتى إذا ما انتقل إلى بلد العمالقة انعكس الأمر، وأدرك كم هو تافه وضئيل.

وواضح أن الكاتب قد أراد بالأقزام، بني وطنه في عصره، ليسخر من قلة شأنهم وخفة أوزانهم، وأنه أراد بالعمالقة تصويرا للنفوس حين تكون كبارا وللآمال الناضجة حين تبعد آفاقها وتعلو.

خذ مثلا هذه الصورة الآتية التي صور بها الكاتب نموذجا لما يهتم به الأقزام في أرضهم، لترى معهم كم كانوا صغار الشأن في حياتهم، وهي صورة يقول فيها: كانت الطريقة التقليدية لكسر البيض عند أكله، هي أن تكسر البيضة من طرفها العريض، لكن حدث ذات يوم لجد جلالة الملك، عندما شرع يأكل بيضة - وكان عندئذ لم يزل بعد صبيا - أن جرحت أصبعه وهو يكسر البيضة على الطريقة التقليدية المألوفة، فلم يلبث أبوه الإمبراطور أن أصدر مرسوما يأمر به أبناء الشعب جميعا أن يغيروا التقليد القائم، فيكسروا البيض من طرفه الدقيق لا من طرفه العريض، وإلا تعرضوا للعقاب الأليم، فغضب الشعب، ووقف من الإمبراطور الظالم موقف المعارضة. وينبئنا التاريخ أن ست ثورات شعبية أشعلها الناس لهذا السبب، وفي تلك الثورات المتتالية، قتل أحد الأباطرة، وضاع التاج عن آخر. ولقد كتبت مئات الكتب في موضوع الخلاف؛ غير أن أنصار كسر البيض من طرفه العريض قد صودرت مؤلفاتهم كما حرموا بحكم القانون أن يتولوا شيئا من مناصب الدولة العليا.

فماذا يصنع الزائر الرحالة - إزاء هذه التفاهة - إلا أن يضحك ساخرا؟ لكنه لا يكاد يزهي بنفسه بالنسبة إلى أولئك الأقزام، حتى يريد له الله أن يحد من زهوة؛ وذلك حين انتقل إلى بلد العمالقة، وهناك عرف كم هو صغير ضئيل، إذا قيس إلى هؤلاء الكبار - لا في ضخامة أجسامهم فقط - بل الكبار كذلك في نفوسهم وعقولهم وطرائق عيشهم.

أعود فأقول: إن تشبيه الناس بالعمالقة حينا وبالأقزام حينا أمر مألوف في التصوير الأدبي، ولكني - علم الله - حين أردت أن أكتب هنا عن حارة الأقزام لم أرد ما أراده أصحاب التصوير الأدبي كلما أرادوا التصغير والتحقير، وإنما هي واقعة حقيقية حدثت، وأردت أن أرويها كما حدثت، لا أزيد عليها حرفا من عندي ولا أحذف حرفا.

Page inconnue