وينتقل الراوية إلى عضو ثالث، يقول: إن اسمه حبحوت، قد سلك إلى المجلس طريقا ثالثا؛ فلا هو اتبع أحدا ولا استتبع أحدا، إنما طريقته أشبه ما تكون بعالم السيمياء الذي يحيل الناس ذهبا؛ فلا تدري كيف يغري صغار الكتاب بأن يقدموا إليه أعمالهم ليهديهم في أمرها سبيل الصواب، فتقع عيناه الماهرتان المدربتان على ما يصلح من هذه الأعمال للصهر في معمله، فتراه يخفيها عن أصحابها في جب معتم، ويماطل أصحابها ويماطل، ثم يفعل النسيان فعله، فإذا هو يخرجها من محابسها لينشرها في الناس ملكا له حلالا، ولست أرى في ذلك شيئا من الظلم على أحد؛ لأن العبرة بمن استطاع أن يطالع الناس في نور الشمس، لا بمن أخفى عمله في ستر الظلام.
وعلى ذكر الظلام وستره نقول: إن القراصنة لم يكونوا دائما ممن يباغتون السفن في وضح النهار، بل منهم - ولعل هؤلاء أعتاهم - من يفضلون التسلل إلى مدن الشواطئ في عتمة الليل، ينهبون ويأسرون، ويخرجون بالغنائم والسبايا، وما يزال الليل «منشور الذوائب»، وعندنا في مدينة طيبة، ومن أعضاء مجلس الكهنوت أنفسهم، قراصنة الليل وقراصنة النهار، كل في مجال تخصصه يجول ويصول.
ويمضي حريحور في برديته مصورا لنماذج القراصنة في بحر الثقافة على عهده، فيلفت أنظارنا إلى قرصان يأبى عليه ضميره الحي أن يبقي السلعة المنهوبة على شكلها؛ لأنه يرى في ذلك خروجا على مبادئ الأخلاق، فتراه يعمد إلى تشويهها لتختفي ملامحها، كلها أو بعضها، لعل ذلك أن يكون له شفيعا. وأعسر مشكلة تصادف هذه الطائفة المهذبة من القراصنة، أن السلعة المنهوبة المراد تغييرها، كثيرا ما تكون مفرطة في حيويتها، حتى لتراها كلما مسها إزميل التشويه، اختلجت يد القرصان العامل فيها بإزميله، وطفقت تنتفض هنا وتتلوى هناك، حتى يتركها قرصانها وعلى جسدها ملامحها الأولى، يعرفها بها أصدقاؤها القدامى إذا ما صادفتهم في بعض الطريق.
على أن أبرع القراصنة جميعا في دنيا الفكر والأدب، جماعة شأنها عجب من عجب؛ لأن الواحد منها لا يجاهد ولا يسعى، إن له طريقة عجيبة في اصطناع السحنة التي تشع هيبة ووقارا؛ إنه لا يمالئ أحدا ولا يدع أحدا يمالئه؛ إنه لا ينهب شيئا من بر أو من بحر؛ إنه في جلسته الوقورة الهادئة، أو في مشيته البطيئة الثابتة، أو في نبرات حديثه الواضحة المتأنية، يجذب الأضواء ويعكسها رائعة وضاحة، كما يتلقى القمر ضوء الشمس فيعكسه، فيروع الناس بجماله، هل يجوز لأحد أن ينكر على القمر روعة ضيائه لكون هذا الضياء منعكسا على سطحه الظاهر، وليس منبثقا من فطرته وطويته! كذلك قل في هذا النوع الجليل من قراصنة الفكر والأدب؛ لا يجرؤ مجترئ أن يسأل عنهم ماذا قدمت للناس رءوسهم وبأي شيء جرت أقلامهم، وإذا سأل سائل مثل هذا السؤال عن أحدهم. كان هو الحقيق عند القوم باللعنة، وإن هذه الطائفة من القراصنة غالبا ما تكون لهم الريادة والقيادة، مؤهلهم الوقار الجاد، وشهادتهم الرصانة الرزينة؛ ولا عجب - إذن - أن يكون معظم أعضاء المجلس الكهنوتي في طيبة من هذا الصنف النفيس.
ومرة أخرى بلغ صديقي عالم الآثار من برديته موضعا نال منه الزمن بالبلى، فهتكت فيه الأسطر ومحيت الكلمات، فنظر إلي صديقي ونظرت إليه، وتوقع كل منا أن يسمع من زميله شيئا، ودام هذا الصمت المتعجب لحظة، لفظت أنا بعدها زفرة المبهوت لما سمع، فسألني صديقي: ماذا ترى؟ فقلت: ما أراك إلا رامزا أوضح الرمز بماض غابر إلى حاضر مشهود.
لم يكن الثلاثة - الأحدب وإبراهيم وأنا - إخوة ولا أولاد عم وخال؛ فليس بين أي منهم والصنوين الآخرين من التشابه بقدر ما بينه وبينهما من الاختلاف، ولكنهم برغم ذلك - كما أسلفت القول عنهم مرارا - متواصلون مترابطون على نحو حيوي عجيب، فقل إن شئت إنه نوع من التكامل، بحيث تتألف من ثلاثتهم وحدة واحدة كان يمكن أن تتوافر للفرد الواحد لو أنه جاء فردا متزن الفطرة والسلوك؛ فالأحدب هو «الطبيعة» أو هو «الحيوان» من الكيان البشري، هو الجهاز الفطري من الإنسان، الذي لولاه لما وجد الأساس الذي يقام عليه الإنسان بعد تحضر وتهذيب؛ ومن هنا جاءت قوته وكان ضعفه في آن معا؛ فيه قوة الطبيعة وفيه ضعف البدائية، إنه كائن منفعل أكثر منه كائنا مفكرا؛ وأما إبراهيم فهو العقل الدارس الذي لا يكاد يتميز بخاصة تجعل منه إنسانا بغير شبيه؛ لأن كل عقل دارس هو ككل عقل دارس، ما دام موضوع الدراسة معينا محددا، حتى لو كان لإبراهيم رأيه الخاص في مجال دراسته؛ فهي خصوصية كان يمكن أن يتميز بها رجل من الهند أو رجل من البرازيل؛ لأنها ليست هي الخصوصية التي تنبع من الروح وهو مرسل على سجيته؛ ولذلك فلا يحدث قط أن يكون إبراهيم هذا أو من يماثلونه من سائر البشر الدارسين دراسة علمية موضوعية، موضعا لحب الآخرين أو موضعا لسخطهم؛ فقد يوافق الآخرون على موقفه العلمي وقد لا يوافقون، لكن الأمر على كلتا الحالتين لا يقتضي حبا أو كراهية، ولا كذلك الأحدب ومن يماثلونه ممن يحبون حياة العاطفة، فها هنا تكون الخصوصية المميزة حقا، وها هنا يقف الآخرون من صاحب تلك العاطفة وميولها، مواقف الحب والكراهية، والرضا والسخط، والطمأنينة والغضب.
وأما أنا - فوزي الراوي - فأتميز دون الآخرين بسهولة الانخراط في قوالب المجتمع بكل ما فيه من عرف وتقليد ومجاملة وصداقة زواج ومواطنة وانتماء؛ فقد يكون لدي شيء من عاطفة الأحدب، دون أن تفصل تلك العاطفة بيني وبين سائر الناس، كما قد يكون لدي شيء من عقلانية إبراهيم، ولكنها عقلانية لا ينشأ عنها اعتزال وانفراد.
لم تكن هذه الفواصل بين ثلاثتنا واضحة عندما كنا صغارا، وهذا القول هو من قبيل الافتراض المحض؛ لأننا لم نستطع أن نعود بذاكرتنا إلى قيام علاقة بيننا ونحن في سن الطفولة، بل إنها علاقة لم نستطع تبينها في مرحلة المراهقة وأول الشباب، ويبدو أنها فواصل أخذت في النشأة والظهور منذ بدأنا التعرف بعضنا على بعض، وهي الفترة التي بدأنا فيها حياتنا العملية، وبلغت أوضح حالاتها منذ ظهر الأحدب كاتبا، وسافر إبراهيم في بعثته الدراسية.
كان يسيرا علي أن أكون الصداقة مع من يتجانسون معي في ناحية أو أخرى من نواحي الحياة؛ ولقد مررت خلال حياتي الناضجة بمجموعتين من الأصدقاء. كانت الأولى مكونة من زملاء الدراسة، وجاءت الثانية بعد ذلك بنحو عشرين عاما، ويربط بين أفرادها نوع من التقارب الفكري، كنت بين المجموعة الأولى أسعد نفسا مني بين المجموعة الثانية. كانت الأولى من ذلك النوع الذي يقال عنه حقا إن الصديق الحق يوسع من رحابة النفس؛ لأن الصديق فيها كأنما يضيف إلى نفسه نفوس سائر الأصدقاء ؛ إذ لا تكون بينهم الحواجز التي تحول دون أن ينفض كل منهم دخيلة نفسه بغير حذر أو حرج؛ وأما المجموعة الثانية فكانت بين الأفراد حواجز وسدود. كان بين أفراد المجموعة الأولى تنافس الأنداد؛ وأما بين أفراد المجموعة الثانية فكان فيها التعالي والتفاخر والحذر والكتمان.
وربما وضح الفرق بين المجموعتين إذا قلت عن الأولى إن رجلا في حرارة الأحدب كان يمكن أن ينخرط فيها؛ أما إبراهيم فلا أتخيله مقيما على رابطة تربطه بها زمنا طويلا، على حين أن إبراهيم هذا ببرودة عقلانية كان يمكن أن ينخرط في المجموعة الثانية في غير عسر؛ لأن الانفصال عنها يتم كذلك في غير عسر؛ لأن الروابط ليست قلبية بين أعضائها؛ وأما الأحدب فما كان يطيق مع المجموعة الثانية جلسة أو جلستين؛ لكنني كنت بحكم تكويني الذي أشرت إليه أن أكون عضوا في الجماعتين على حد سواء.
Page inconnue