58

ولقد تطورت نظرتي يا سيدي وتحددت، بحيث أقبل الكلمات أو أرفضها على هذا الأساس نفسه، يقول الفلاسفة: جوهر، ونفس، وخلود، وجمال، وأخلاق، ودولة، ومجتمع، فأقول: أين هي المسميات فيما هو مرئي ومسموع؟ فإن أجابوا قبلتها، وإن راوغوا - كما هم يراوغون في هذه الحالات - تركتهم وشأنهم وذهبت لشأني.

لندن في نوفمبر 1946 ... سألتني يا سيدي عما أراه بناء على معياري الفلسفي الجديد، في كلمات مثل «حب» و«كره» و«غضب» و«خوف»، قائلا إنك تخشى أن أكون قد طوحت بعالم الوجدان على أهميته في حياة الإنسان، فأقول في هذا الصدد إنه لا بد من التفرقة بين نوعين من الكلام، فكلام يراد به وصف عالم الأشياء وما يتعاوره من أحداث، وآخر ينصرف به قائله إلى داخل نفسه لا إلى خارجها، فإذا نطق ناطق بعبارة من الصنف الأول وقعت عليه تبعة الإثبات؛ وأما إذا نطق بعبارة من النوع الثاني فلا إثبات هناك ولا نفي، والعبارات العلمية التي تجوز فيها المناقشة بين الناس هي من النوع الأول؛ وأما العبارات التي ترد في التعبير الفني والشعوري فمن النوع الثاني ، وهي لا يجوز فيها اختلاف بين الناس ولا نقاش.

هبني وقفت مع زميلي إلى جوار شجرة، فقلت عنها: إنها من أشجار التوت وعمرها ستون عاما. وقال عنها زميلي: إن لونها يبعث البهجة في نفسه كلما رآها. فماذا يكون الفرق بين عبارتي وعبارته؟ الفرق هو أنني أتصدى لوصف الواقع الخارجي الذي لا دخل لمشاعري فيه؛ فلست أنا الذي جعلتها تثمر توتا، ولا أنا الذي ألزمتها أن تكون بهذه الحداثة أو هذا القدم، إنني أصف بعبارتي وقائع ليست جزءا من نفسي، فلو طالبني زميلي بإثبات ما أقوله وجب أن تكون لدي الوسائل التي يستطيع هو أن يشاركني فيها؛ وأما عبارة زميلي التي قال فيها إن الشجرة تبعث البهجة في نفسه كلما رآها، فمن نوع آخر، هي عبارة لا صواب فيها ولا خطأ، ولا إثبات ولا نفي، إنه «يعبر» عن ذات نفسه، ولا «يقرر» أمرا عن الشيء الخارجي، وإذن فليس من حقي أن أطالبه ببرهان، وكيف يكون البرهان والأمر خاص به؟ إنه إذا كانت الشجرة الواحدة نفسها تبعث البهجة في نفسه هو والكآبة في نفسي لما كان بيني وبينه تناقض؛ لأن له شعوره ولي شعوري، ولكن ما هكذا الأمر لو قلت عن الشجرة إنها تثمر التوت، وقال هو: بل إنها تثمر الجميز؛ فها هنا يكون بين قولينا تناقض، ويكون على أحدنا أن يثبت للآخر صدق دعواه ...

وتسألني يا سيدي عن العبارات العاطفية ما مصيرها؟ وأجيبك بأنها تكون من قبيل الأدب الذي يقاس بمقاييس خاصة تختلف عن مقاييس العلوم، فلنا أن نبقي عليها، شريطة أن نكون على بينة تامة بأنها لا تدخل مجال العقل والمنطق، ومن ثم فلا يحق لأحد أن يجادل أحدا في صدقها أو بطلانها؛ لأنه لا صدق فيها ولا بطلان، وكل ما فيها هو أن تكون محببة إلينا أو بغيضة، وإني يا سيدي لأعلم بعد المدى الذي ينال به مثل هذا الرأي في أقوال الناس وعقائدهم؛ لأنهم - في الأعم الأغلب - ينطقون بما يرضي عواطفهم، ثم يزعمون لأنفسهم أنهم إنما نطقوا بالحق الذي لا حق سواه.

لندن في يناير 1947 ... لست أقل منك حرصا على مشاعر الإنسان وآماله ومثله العليا. هذه المشاعر والآمال والمثل التي زعمت لي في خطابك الأخير أنني سائر بمذهبي نحو هدمها، كل ما هنالك من أمر في هذا الصدد هو أنني أفرق بين لغة العقل ولغة الشعور؛ فمن لا يريد أن يتحدث عما يقع في حسه - رؤية أو سمعا أو ما شئت من حواس - مما يتاح للآخرين أن يراجعوه فيه بحواسهم؛ فهو لا يريد أن يتحدث بلغة العقل، وليس في ذلك رفع ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقة بين نوعين مختلفين من الكلام، فإذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على وجدان؛ أما إذا كان المجال مجال أدب وفن، فليختر ما يشاء من لفظ ليثير في سمعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه؛ فلو تحدث عن السماء حديث العالم الفلكي فلا ينبغي له عندئذ أن يذكر شيئا عن السمو والعظمة والمجد، ولو تحدث عن الزهرة بلغة عالم النبات فليسكت عن أحاديث الروعة والجمال؛ فلنعط ما للعقل للعقل وما للشعر للشعور. وإني لأزعم أن جزءا كبيرا مما تركه لنا الفلاسفة على زعم منهم أنه نظرة عقلية خالصة، هو في الحقيقة تعبير عن أمزجتهم وميولهم. نعم إنهم يسيرون بخطوات عقلية من نقطة الابتداء التي يفرضونها، ولكن نقطة الابتداء نفسها تجيء من عندهم مزعوما لها أنها من إدراك البصيرة والحدس الفطري. ولو زعموا عندئذ أنهم إنما يقيمون نسقات عقلية على أساس افتراضي كما يصنع علماء الرياضة، لقلنا نعم ونعام عين؛ لأن النسقات الرياضية مغلقة على نفسها لا يدعي لها أصحابها أنها تصوير للواقع، بدليل أنها قد تتعدد والواقع واحد، ولكنهم يبنون على فرض من عندهم، ثم يفوتهم ذلك وينسونه، ليقولوا آخر الأمر إنهم يقولون ما يطابق الوجود الخارجي مطابقة الصورة لأصلها.

لندن في فبراير 1947 ... ألقى «برتراند رسل» علينا سلسلة محاضرات عن المعرفة وتحليلها وردها إلى أصولها وجذورها؛ لم أكن أتخيل هذا الرجل بمثل هذه السرعة النشيطة في حركات بدنه وفي لفتات عقله، والعجيب أنه كان يلقي محاضراته في مدرج صغير، مع أن مئات من غير الطلاب يجيئون ليستمعوا إليه؛ لهذا كنت تراني أبادر قبل البدء بمدة طويلة لأجد مكانا قريبا من المحاضر حتى لا تفوتني كلمة منه - وسمعي كما تعلم قد أخذ يضعف قبل أوان الضعف - إلا مرة واحدة تأخرت قليلا، فوجدت المدرج قد امتلأ وأخذ الناس يصطفون خارجه، فوقفت في الصف ووقف معي زميل مصري يدرس علم النفس، وكان المطر ينزل فوق رءوسنا برغم محاولتنا وقاية الرءوس بلصق أجسادنا إلى الجدار، وتسألني: وماذا كنت تسمع من كلمات المحاضر؟ وأجيب: لا شيء. وتعود فتسألني: وفيم وقوفك في المطر والبرد؟! وأجيب: لا أدري؛ فقد أحسست أن تركي للصف أصعب على نفسي من الوقوف فيه بلا رؤية ولا سمع. وقد قلت لزميلي المصري ضاحكا: اشهد على ما ألاقيه في سبيل العلم، بل في سبيل تقديس العلم، من عناء. فقال ضاحكا بدوره: وأنا أحق منك بمثل هذه الشهادة؛ لأنك تقدس فرعا في مجال تخصصك العلمي؛ وأما أنا فقد وقفت في المطر البرد تقديسا لكلمة العلم في ذاتها؛ إنه الروح هنا تغريك بهذا وأكثر منه.

وفي هذا المدرج الصغير نفسه حضرت محاضرة الأستاذ آير الذي عين منذ قريب أستاذا لكرسي الفلسفة في كلية لندن الجامعية، وقد كان شاغرا مدى حين. كانت هذه محاضرة الافتتاح كما يسمونها، يفتتح بها أستاذيته الجديدة، وقد قدمه أحد رؤساء الجامعة بكلمة قال فيها: وقد وقع اختيارنا على هذا الأستاذ الشاب بعد بحث طويل عمن يحفظ لكرسي الفلسفة هنا مستواه الرفيع، وقد قيل لنا تحذيرا منه: إنه خطر على التقليد الفلسفي وإن يكن ذا أصالة في الفكر. فقلنا: هذا هو من نبحث عنه؛ والأستاذ آير في عامه السابع والثلاثين.

لندن في مارس 1947

كان الدكتور كيلنج - صاحب الكتاب المعروف عن فلسفة ديكارت - هو أستاذنا في الفلسفة الحديثة عندما كنت في «الكلية الجامعة» قبل تحويلي إلى «كلية الملك». ولم أكن أرى فيه ما يملؤني إعجابا به، مع أنه كان أول أستاذ بريطاني ألاقيه في هذه البلد؛ نعم، إنه ذكي وملم بمادته إلمام القارئ الباحث الدارس؛ أما نفاذ البصيرة ومسايرة الحركة الفكرية مسايرة تتفق مع منصبه الجامعي، فلم أكن أرى فيه شيئا منه؛ لقد درس في السوربون بعد أن درس في إنجلترا؛ وهو متزوج من سيدة فرنسية؛ وله لحية صغيرة يصبغها بالحناء أو ما يشبه الحناء مما لست أعرفه؛ وقد دعاني منذ قريب على عشاء في منزله، فوجدته منزلا مكدسا بالكتب؛ والظاهر أنه لا ولد له؛ وقد اعتذر لي عن تواضع مسكنه قائلا: إن بيتي الحق قائم في باريس حيث أقضي أطول وقت مستطاع.

وكان من الأفكار التي تحمس لها أثناء حديثنا - وكان الحديث قد تطرق إلى الأدب المسرحي - أن شيكسبير لا يستحق هذه الضجة كلها التي يثيرونها حوله؛ فليس هو بشاعر من الطراز الأول، أين هو في ميدان البناء الشعري من راسين أو كورني؟! فقلت لنفسي عندئذ: ترى إلى أي حد تجيء آراء الناس انعكاسا لجنسية الزوجة؟! إن كيلنج رجل عليل ضعيف البنية، ولقد كان يطمع في دعوة توجه إليه من جامعة القاهرة ليقضي في دفء مصر عاما أو عامين، لعله ينعم بشيء من الصحة، وحسبني قادرا على أداء هذا الصنيع، والحق أني تمنيت يومئذ لو أن بي شيئا مما ظن، لكن العين كانت بصيرة ويدي كانت أقصر جدا مما ذهب إليه خيال الذين أجروا هذا المثال على ألسنة الناس. •••

Page inconnue