53

وصمت الأحدب قليلا كأنه يفكر فيما يقوله، ثم قال والقتب على ظهره يشتد في عيني بروزا، والعبوس على شفتيه والجهامة فوق جبهته: الحياة ثلاث لحظات: لحظة الميلاد، ولحظة الزواج، ويعنون به النسل الذي يحفظ البقاء، ثم لحظة الموت؛ أما الأولى فكما قلت لك ذات مرة ... لا، لا أظنني قلتها من قبل ...

فقاطعته قائلا: كتبتها في مذكراتك.

فقال: أي مذكرات تعني.

قلت: أعني مذكراتك التي كتبتها عن نشأتك وأنت مدرس شاب.

قال: ومن ذا أدراك بها؟ وأين رأيتها؟ لقد مزقتها منذ زمن طويل.

قلت: عثرت على حطامها، وجمعت منه ما أمكن جمعه، فعشت معك أكثر مما تظن، وفي هذه المذكرات تقول إن لحظة ميلادك أدخل في حياة الآخرين منها في حياتك؛ لأنك لا تعيها، والعبرة عندك بالخبرة الواعية.

قال: هذا ما أردت أن أقوله، وأما اللحظة الثالثة؛ وأعني لحظة الموت فلن يكون لي علم بها؛ لأنها تجيء بذهابي، فلا التقاء بيني وبينها، وبقيت اللحظة الوسطى، لحظة الزواج والنسل، فهي لحظة لم أعشها حتى الآن، وإذن فماذا بقي لي من حياتي، وبأي معنى أقول: إنني أحيا؟ أبالأنفاس التي أرددها.

قلت: في مستطاعي أن أقول هذا الذي تقوله، ومع ذلك فأنا أشعر في أصلابي بدفعة الحياة وتيارها، «فداؤك منك» - كما يقول المعري - «وما تشعر»، بشعورنا نحيا وبشعورنا نموت.

فردد الأحدب قولي: «بشعورنا نحيا وبشعورنا نموت»، ثم استطرد يقول: هذا صحيح، نخلق دنيانا بنوع شعورنا، تكون كبيرة فتصغر في شعور المزدري لها، وتكون صغيرة فتكبر في تهاويل الشعور؛ ثم ابتسم الأحدب ابتسامة ساخرة. •••

توالى الموت في أسرة الأحدب؛ فكلما مضت بضعة أشهر جاءني بنبأ جديد، وكانت النظرة السوداء قد عاودته لتقيم معه هذه المرة أمدا طويلا، فلم يكن موت أحبائه ليزيد من حزنه النفسي شيئا كبيرا، فزوجة عمه تموت بعد زوجها فيكون موتها امتدادا لموت زوجها، ماتت يوم أحد، وأسرع الأحدب إلى الأسواق ليشتري رباط رقبة أسود قبل أن يحين حين الجنازة، لكن الدكاكين كانت حينئذ تغلق في أيام الآحاد، فقال لنفسه: وهل يكون الرباط الأسود أشد سوادا من نفسي، فلأحزن من الداخل، وإلى الجحيم ما يقوله الأقربون والأبعدون، لكنه كان يغالط نفسه؛ لأنه ما زال قلقا إلى اليوم خشية ما قد يكون هؤلاء الأقربون والأبعدون قد ظنوه في عقوقه لمن عاشت له كالأم طيلة حياتها.

Page inconnue