فاندفع الأحدب إليها كالمجنون: سميرة! هذا مستحيل، هذا مستحيل! ومختار!
وكان بين الثلاثة ما يكون بين الأحباء ضربت الأيام بينهم حينا طويلا، ثم لاقت بينهم على غير انتظار منهم، ولو انتظروا لما تحقق لهم مثل هذا اللقاء، لكنها الأيام وحبها للمباغتة تفاجئ بها الناس، ليعلموا أن وراء تدبيرهم الضيق تدبيرا أوسع وأعم.
كانت سميرة ومختار متقاربين في العمر مع الأحدب؛ أما هي فأعوامها لم تزدها - في عين الأحدب - إلا نضجا أنثويا؛ فالشفتان المليئتان بعض الشيء ما زالتا - في عينه - تناديان، والعينان العميقتان المتلألئتان الضاحكتان ما زالتا تدعوان، والبشرة ما زالت على صفائها القديم، والصوت الأبح قليلا ما زال يثيره، وكأن شعراتها البيض لم تفعل سوى أن زادتها إشراقا على إشراق، وملاحة على ملاحة، فإذا وصفت سميرة بجملة واحدة قيل إنها ذات الوجه الصبوح؛ فملامحها لا تعرف الجهامة، ووجهها لا يعرف العبوس، وذكاؤها اللماح متوقد في عينيها ، إنها لم تكن قد زادت في دراستها على سنوات قليلة في مدرسة أولية؛ فهي تكاد تخلو من كل تحصيل مدرس، لكن من ذا يبحث وهو معها عن تحصيل؟! فها هنا تكون فطرة الأنثى على أتمها وأكملها، بحيث يشعر الرجل وهو بين يديها أنه في حضرة الجنس كله وقد تجمع في واحدة من بناته، بل إنها كلما استخدمت في حديثها كلمة أو عبارة مما اعتاد نساؤنا وهن على الفطرة أن يستخدمنها، ومما يحرص من تعلمن منهن أن يتجنبنها، جاءت تلك الكلمة أو العبارة على أعماق نفسه كالموقظ للطبيعة النائمة.
إنه في الحق لأمر عجيب يستحق النظرة الفاحصة؛ يتعلم أبناؤنا وبناتنا، فيتطور المتعلم الفتى في كل شيء إلا في مثيراته الجنسية؛ فهذه تظل كما كانت لتكون لو لم يتعلم شيئا، على حين لا تكاد تتطور المتعلمة الفتاة في شيء إلا في مثيراتها الجنسية، فلا يبقى فيها شيء مما يكون عند أختها المتروكة على الفطرة، مع كون الأختين من ثقافة اجتماعية واحدة.
وسميرة امرأة من اللائي نشأن على فطرة التقليد الثقافي للمرأة، واحتفظن بما نشأن عليه، ولا اعتبار لأن يكون الأحدب قد قطع ما قطعه من أشواط في التحصيل الثقافي اتساعا وعمقا وارتفاعا؛ فهو ما زال عند التقائه بها بعد ذلك الفراق الطويل، يلتقي بقلبه معها في مستوى فطري واحد؛ هي تنادي وهو يجيب، وهي تدعو بفطرتها وفطرته تستجيب.
وأما مختار زوجها، فرجل طويل القامة، معتدل الجسم، كثيف العنق طويله، على صدغيه وفي رسغه وشم قديم، حاول أن يمحوه، لكن بقيت منه آثار، فيقال إنه ريفي التحق بالجندية وقضى فيها مدته، ثم خرج منها موظفا مدنيا في الجيش؛ لأنه كان على شيء من التعليم المتوسط، فكأنه بدل ثيابه العسكرية، ولكنه لم يستطع أن يبدل من حركات جسده وطريقة حديثه؛ فهو لم يزل مزيجا من سذاجة الفكرة التي تلحظها في الريفي وصلابة الحركة التي تراها في الجندي، وهو طيب القلب إلى أقصى الحدود، لا تفارق الابتسامة شفتيه، لكنها ابتسامة المرتبك أكثر منها ابتسامة المطمئن الراضي.
إن الأحدب ليتحدث معه الآن حديثا منقطعا فيما يدعي له أنها ذكريات حلوة، عن الأسابيع الأولى بعد زواجه من سميرة، وكيف زارها في دارهما بدعوة منه؛ ذلك أن الأحدب عندئذ لم يجد في نفسه الشجاعة أن يزور الزوجين؛ فلقد كان يومئذ - برغم ما التهب به حبه شغفا بفتاته تلك - غارقا إلى أذنيه في العبارة ممعنا في التهجد، حتى أوشك أن يقع في غيبوبة الدراويش، فكان له ذلك رادعا عن ارتكاب الإثم، كما كان رادعا عن السير في طريق قد يؤدي به إلى إثم، لكن ذلك كله لم ينقص من نبضات قلبه نبضة، ومرت بعد زواجها أسابيع قليلة، ثم جاءته دعوة من الزوج يدعوه بها إلى زيارة على عشاء، فأدرك أن الدعوة هي في الحقيقة من سميرة متخفية وراء زوجها، فذهب وقلبه يسبقه إليها، وجلس ليلته هناك جلسة محفورة في ذاكرته إلى اليوم، برغم عشرات السنين التي انقضت ما بين مراهق الأمس وشيخ اليوم.
علمت كل ذلك من الأحدب ونحن سائران في الطريق، فسألته: وإلى أين نحن ذاهبان الآن؟
قال: إلى كازينو الشاطئ، فأنا معهما على موعد.
قلت: وهل ترى وجودي مناسبا؟
Page inconnue