الواقع من أمر الناس في الأمم المختلفة وفي المدنيات المتعاقبة أنهم بوازع من قانون الأخلاق الذي نشأ بنشوء الدولة، وبوازع من سلطان البوليس والقضاء، وقد اعتادوا أن يتعاونوا في معيشاتهم المدنية بالحسنى وتركوا عاداتهم الأولى في العدوان والجري على أحكام «حق الأقوى» التي ألفوها أزمانا طوالا فيما قبل المدنيات المنظمة، هذا هو حال أفراد الناس الآن في الأمم المتمدنة؛ منازعاتهم يفصل فيها القضاء ويزع سلطان البوليس بعضهم عن الاعتداء على بعض، فأصبحوا يرون جريمة داعية إلى الاحتقار ومستحقة للعقاب ما كانوا في حال البداوة يتمدحون به ويجعلونه مناطا للعزة ومجلبة للشرف والفخار.
إذا ليس الظلم والعنف في الناس أمرا طبيعيا لا مناص منه كما قد يظن، إنما كان ذلك فيهم قبل نظام الدول عادة اعتادها آلافا لا تحصى من السنين، كان الأفراد في كل لحظة محلا لافتراس السباع، اقتضاهم ذلك أن تكون حياتهم في حرب متصلة ودفاع مستمر، فلما اطمأنوا من هذه الناحية استمرت عادة الهجوم والدفاع في أنفسهم غير أنها تحولت إلى أن تكون حربا بينهم حتى قضت عليها المدنية المنظمة بالبوليس والقضاء.
تلك حال الأفراد، وأما حال الأمم - أو بالأولى حال الحكومات - فلم تجد كما وجد الأفراد تحت ضغط الضرورات الاجتماعية قانونا للأخلاق ولا محاكم تفض النزاع بينها ولا بوليسا يمنع الحكومات من اعتداء بعضها على بعض، بقي فيها روح الفرد الأولى، روح القبيلة، روح الاعتداء على الغير؛ استعلاء عليه، واستعبادا له، وطمعا في أرضه ومرافقه، وبالجملة بقيت كل حكومة حتى في هذه المدنية الحاضرة تضمر أن تنتزع بالقوة من أمة أخرى ما لها من المرافق من غير وازع ولا حياء، وإذا فقد ظفرنا من المدنيات القديمة بأدب للأفراد ولم نظفر بأدب لحكوماتها يمنعها من الاعتداء والطغيان. (2) هل الحرب طبيعية؟
ومن العجيب أن الفلسفة اليونانية مع أنها استوعبت بحث الأشياء الإنسانية لم تتعرض ولا عن طريق التخيل إلى إمكان القضاء على الحرب بين الأمم، ولم تفكر في تحقيق الإخاء الإنساني العام، ولا في السلام الدائم، بل لعلها شجعت الحرب تارة، وقست في نتائجها تارة أخرى، كذلك الفلسفة الرومانية والفلسفة العربية لم يكن فيهما نظرة في ذلك الإخاء بين الأمم المختلفة كما نظرت كلتاهما في الإخاء بين أفراد الأمة الواحدة إلا ما سموه «السلم الروماني»، ومن الخير ألا نتعرض لذكره؛ لأنه لا يفيد شيئا في موضوع التعاون العالمي المنشود.
فأما الحرب من طبع الإنسان؛ فتلك فكرة انتزعها كتاب وفلاسفة مما هو الواقع، ومن طريف ما يؤثر عن أنصار الحرب ما نقله إيميل فاجي عن أحد التيازقة أو الصوفية القائلين بوحدة الوجود قال: «الحرب إلاهية في ذاتها؛ لأنها قانون العالم.» «الحرب إلاهية في المجد الخفي الذي يحيط بها وفي الجاذبية الخفية أيضا التي تجذبنا إليها.» و«الحرب إلاهية في الحماية الموهوبة للقواد العظام.» ... إلى أن قال: «الحرب إلاهية بنتائجها التي تعزب عن تقديرات الناس.» قال إميل فاجي كل هذه الجمل، تساوي أنه يقول: «الحرب إلاهية؛ لأنها سخيفة.»
وبالجملة فإن أهم دليل على طبيعتها هو قدمها، والدم من حيث هو لا يصحح فاسدا ولا يفسد صحيحا، والذي يراه أنصار السلام هو أن الحرب ليست من طبع الإنسان؛ كالعائلة والأبوة والعمل، بل هي عادة تأصلت في نفوس الناس يمكن القضاء عليها كما قضي على الرق ونحوه بوسائل التربية التي لا شك في أن العالم يتقدم في أمرها بنسبة ضميره على إثر تفكير المفكرين فيما يصلح حال الإنسان.
إذن كان لا بد من ثورة على القديم في هذه الناحية أيضا، وقد كانت هذه الثورة أول خاطر في موضوع السلام الدائم خطر لسوللي وزير هنري الرابع، ولكن سلامه الدائم لو أنه تحقق لما شمل إلا أوربا فقط، وكذلك كان مشروع الأب سان بير في أوائل القرن الثامن عشر، ولم تكن تلك إلا بوادر لم تفد شيئا، حتى كان آخر القرن الثامن عشر ؛ إذ انبعث صوت الإخاء الإنساني من جامعة كونجسبرج؛ حين اقترح أستاذ الفلسفة فيها إيمانويل كنت إنشاء حكومة أمم تمنع اعتداء بعضها على بعض؛ وجه نداء للأمم والملوك قال فيه: «ينبغي أن تنظم الأمم سلوكها في كل دولة على قواعد الأخلاق والقانون، كما يجب على الدول أن ترعى هذه القواعد المتبادلة مهما يكن من تمويه الاعتراضات التي تستنتجها السياسة من التجربة، وحينئذ لا تستطيع السياسة الحقة أن تخطو خطوة واحدة من غير أن تتبع فيها أوامر على الأخلاق، فإن السياسة متى اتحدت بعلم الأخلاق، لم تعد بعد ذلك فنا صعبا ولا معقدا.
إن الأدب يفك العقدة التي لا تستطيع السياسة حلها، يجب اعتبار حقوق الإنسان مقدسة ولو ضحى في ذلك الملوك بأكبر الضحايا، لا يمكن في هذا الصدد التنازع بين الحق وبين المنفعة، وإن السياسة يجب أن تركع أمام الأدب.
لكن هل استمع لهذا النداء الكريم الملوك والحكومات؟ نعم، أظن أن حكومات الأمم الكبرى التي اجتمعت في مؤتمر فينا بعد هذا النداء بتسعة عشر عاما قد استمعت لهذا النداء، لكن لا تفعل به حقيقة، بل لتخدع به الرأي العام للشعوب الوادعة الطيبة التي قلما تحتمل نصيبا من إجرام حكوماتها، وهاكم مذكرة الوزير جنز زميل مترنيخ رئيس المؤتمر المؤرخة في 12 نوفمبر سنة 1810:
إن أولئك الذين اجتمعوا في المؤتمر وكانوا يعلمون حق العلم طبيعته وأغراضه لا يكادون يخدعون على تطوره أيا كان رأيهم في نتائجه، إن الكلمات الفخمة مثل «إعادة النظام الاجتماعي»، و«تجديد المذهب السياسي لأوربا» و«السلام الدائم المؤسس على توزيع للسلطان» إلخ، إنما نطق بها لتطمين الناس ولتفيض على هذا الاجتماع الحافل كرامة وعظمة، لكن الغرض الحقيقي للمؤتمر، قد كان توزيع أسلاب المقهورين بين القاهرين. (3) أدب السياسة الدولية
Page inconnue