وجاء والدي كعادته لزيارتي يوم الجمعة، فأبديت له أسباب تعبي وضيقي من هذه المدرسة، وقلت: «إنني غير مبسوط، وأخشى أن أنسى فيها القرآن الكريم فيعاقبني الله بالنسيان، وقد قال تعالى:
كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ...» فابتسم رحمه الله وقال لي: «وانت تنسى القرآن ليه؟! اقرأ كل يوم جزءا منه وأنت لا تنساه، وخليك في المدرسة»، فاستمعت لنصيحة والدي، ومكثت بالمدرسة، وقد حبب إلي البقاء فيها أستاذ اللغة العربية «سيد أفندي محمد»، وكان مشهورا بالقدرة والتفوق في تربيته وتعليمه، وكان تلاميذه أقوى زملائهم في اللغة العربية، وعلى يديه نبغ كثيرون. (3) من المنصورة إلى الخديوية
أمضيت ثلاث سنوات في مدرسة المنصورة الابتدائية، وأتممت تعليمي الابتدائي في سنة 1885م، ولم تكن شهادة الابتدائية ولا البكالوريا قد وجدتا بعد، بل كان الانتقال من مرحلة إلى أخرى بالنجاح في امتحان المدرسة، وكان بمدرسة المنصورة فرقة تجهيزية واحدة فألغيت في ذلك العام، واضطررت للسفر إلى مصر لألتحق بالمدرسة الخديوية.
ولقد أصبت نعمة كبرى في هذه المدرسة بصحبة صديقي وأخي عبد العزيز فهمي، من أول يوم التقيت به في عنبر المدرسة، وذلك في مناقشة أثيرت بيننا وبين بعض الطلبة في النحو، فاتفق رأيه ورأيي ضد الآخرين، ومن تلك الليلة صرنا صديقين حميمين، ولا أذكر أن أحدنا قصر في حق صديقه أو قال عنه ما يسوؤه، أو وجه إليه كلمة تؤلمه، ولو على سبيل المزاح.
ولما انتظمنا في المدرسة رتبونا بالطول، فقصار القامة في السنة الأولى، والأطول منهم في السنة الثانية، وهكذا، وكان وزير المعارف يومئذ عبد الرحمن رشدي باشا، ووكيلها يعقوب باشا أرتين وناظر المدرسة صادق بك شنن، وكان هذا الناظر معروفا بحبه لأهل البيت ، وإذا وبخ أحدا قال له: «يا يزيد!» وقد عز على صديقي عبد العزيز فهمي باشا - وقد أمضى سنة في تجهيزية مدرسة طنطا - أن يكون تلميذا في السنة الأولى، فاحتج على هذا الوضع، فقبل احتجاجه بصعوبة ونقل إلى السنة الثانية، ولما لم تكن شهادة البكالوريا قد وجدت في ذلك الحين؛ فقد شاء عبد العزيز فهمي، وهو في السنة الثالثة، أن ينتقل إلى مدرسة الحقوق، فذاكر في الإجازة لامتحان القبول بها ونجح، أما أنا فبقيت في الخديوية إلى أن حصلت على البكالوريا سنة 1889م وكان نظام الشهادات العامة قد وضع قبل ذلك بعام. (4) عصر «الفتوات»!
وفي المدرسة الخديوية عرفت عيشة الترف بالنسبة لمدرسة المنصورة، فكنا نأكل بيضا ولحما وحلوى وفاكهة كل يوم، ولم تكن نفقاتها تزيد على نفقات مدرسة المنصورة، وكانت في سراي مصطفى باشا بدرب الجماميز، هي ومدرسة الترجمة والمهندسخانة ووزارة المعارف، وكان طلبة المهندسخانة يختلفون عنا بزيهم العسكري الكامل، ويحملون إلى جانبهم سيوفا، فكانوا يشيعون بمنظرهم الرهبة في نفوس الطلبة الآخرين وبخاصة الغرباء، وكان مما يخيفني بالقاهرة حوادث «الفتوات» في ذلك الزمان؛ فقد كان في كل حارة عصابة على رأسها «فتوة»، وكثيرا ما كانت تحدث معارك دامية بين هذه العصابات، وقد امتدت عدوى الفتوة إلى الطلبة أنفسهم حتى ظهر بيننا طالب «فتوة» يدعى «منصور» كان يعلم زملاءه «التحطيب»، ولهذا كنت أوثر البقاء في المدرسة أيام العطلة الأسبوعية، وقد مكثت في أول عهدي بالقاهرة ثلاثة أشهر لا أخرج من الخديوية، قرأت فيها كتاب «أصل الإنسان» لداروين، الذي ترجمه المرحوم «شبلي شميل»، وحفظت كثيرا من المعلقات وأشعار بعض كبار الشعراء، وكان من مدرسى اللغة العربية في هذه المدرسة: الشيخ حسين والي، والشيخ محمد حسنين البولاقي والد المرحوم أحمد حسنين باشا، وكنا وقتئذ نقرأ كتابا مطولا في النحو لمؤلف يدعى الشيخ محمود العالم.
وكانت مدرسة الخديوية تجري كل شهر اختبارا لتلامذتها، فرغب تلامذة البكالوريا أن تعفيهم المدرسة من الاختبارات الشهرية؛ لينصرفوا إلى المذاكرة للامتحان العام، وأجمع رأيهم على أن يطلبوا إلى وزير المعارف علي باشا مبارك إعفاءهم منها، واختاروني للذهاب لمقابلته، فذهبت إليه، وكان من عادته أن يضع سبورة في مكتبه لاختبار كل من يتقدم إليه من الطلبة في حاجة يريدها، ولا يجيبه إلى حاجته إلا إذا أجابه إجابة صحيحة فيما يختبره فيه من المسائل الرياضية أو العلمية، فلما مثلت بين يديه طلب مني أن أقف أمام السبورة لأبرهن على النظرية الهندسية التي حاصلها «أن مربع وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين»، فأثبتها أمامه، فأجابني إلى الرغبة التي أوفدني إليه زملائي من أجلها، وقد كان رحمه الله أبا للتلاميذ، محبا لهم، عطوفا عليهم، وكثيرا ما كان يختلط بهم في وقت الفراغ، ويفسح لهم منزله للزيارة، وكان منزله في الحلمية الجديدة بشارع «نور الظلام» مقصدا لأهل العلم وطلابه. (5) إلى مدرسة الحقوق
وقد كنت في التعليم الثانوي متوسطا، فلم أكن من المتقدمين ولا من المتأخرين، على أني كنت متفوقا في العلوم العربية والرياضيات حتى لفت ذلك صابر باشا صبري، وأحمد كمال بك، في اللجنة الشفوية لامتحان الرياضة في البكالوريا، فنصحاني أن أدخل المهندسخانة، فأجبتهما إلى ذلك، غير أني قرأت في الإجازة أن المهندسخانة تقبل ساقطي البكالوريا فلم أجد من كراماتي أن ألتحق بهذه المدرسة، وتغلب في نفسي نزق الشباب والعزة الكذابة على حبي للرياضيات، فقلت لأبي: «أنا لا أرغب في المهندسخانة، ولا أعرف أية مدرسة توافقني، وأجدني في حيرة من ذلك.» فقال والدي: «علينا بالقرعة.» فأجرينا فخرجت مرتين على مدرسة الحقوق!
التحقت بمدرسة الحقوق سنة 1889م، وكانت المدرسة وقتذاك يمكن أن تسمى «كلية حقوق» و«كلية آداب» معا؛ فقد كان الطلبة يدرسون فيها إلى جانب العلوم القانونية علوما أدبية كآداب اللغة العربية، وقواعد النحو والصرف والبيان والمعاني والبديع والعروض والقوافي، وتفسير القرآن الكريم، وآداب البحث والمناظرة، والمنطق، وكانت مدة الدراسة بها خمس سنوات، وكان وكيلها عمر لطفي بك، وكان يدرس لنا قانون العقوبات، ومن أساتذتها مسيو تستو مدرس القانون المدني والأستاذ شارل ولوزينا والشيخ حسونة النواوي الذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر، وحفني ناصف بك وسلطان بك محمد، وكنت في ذلك الحين أسكن في حارة (عمر شاه) التي يسكن بها الشيخ حسونة النواوي، وكنت أتردد على منزله، وكثيرا ما يبعث إلي لأقرأ له درس الفقه الذي كان يلقيه في الأزهر في بكرة الغد.
وفي مدرسة الحقوق عرفني الشيخ محمد عبده والشيخ حسن الطويل، وكانا مع الشيخ عبد الكريم سليمان في لجنة امتحان العلوم العربية، وأذكر أنه في لجنة امتحان السنة الثالثة طلب منا أن نكتب في موضوع «حق الحكومة في معاقبة الجاني»، فتناولت الموضوع من جميع نواحيه، فكتبت المذاهب الأربعة التي أنشأها علماء الجنايات في شروحهم على قانون العقوبات، ثم نقضت كل مذهب منها، وخلصت في النهاية إلى أن الحكومة ليس لها حق معاقبة الجاني؛ لأن كل حكومة نشأت بالقوة، والقوة لا تعطي الحق وإنما الذي يعطيه هو العقد فقط، وليس هناك أي عقد بين أية حكومة وبين أمتها!
Page inconnue