وللأسف لم يظهر هذا الكتاب مع أنه بلغ من ترجمته مبلغا كبيرا، ولكنه أصدر بعد ذلك ترجمة بنتام في أصول الحقوق والواجبات، حتى جاء الزمن الأخير فظهر الشعور الوطني بمظهر جميل، ولكنه لا يزال في مقاصده بعض اللبس حتى فيما هو مكتوب من المبادئ في الصحف، وما الصحف إلا ترجمان الرأي العام.
إيمانه بالاشتراكية الديمقراطية
ولعل فتحي باشا أمام هذه المشاهد أشفق على حرية الأفراد، وتربية الأمة من الميل الظاهر إلى ما يشبه الاشتراكية؛ فإن الناس لم يقتصروا في طلبهم على حقوق الأفراد من الحرية وحق الشعب من السلطة، بل أخذوا مع ذلك يطالبون الحكومة أن تقوم لهم بكل شيء، ومهما كان في أساليب هذه المطالب من الانتقاد الضمني إلا أن مثل هذه الحركة من شأنها أن تجعل الحكومة هي كل شيء، والفرد لا شيء!
الاشتراكية قد تكون معقولة إذا كان للشعب شأن في تنصيب الحكومة، وإلا فهي اشتراكية معكوسة النتائج، فأخذ فتحي زغلول عن بعد يهدي الأفراد إلى وجوب الاستمساك بشخصيتهم، ويبين لهم أن التربية الشخصية هي التي كانت سر تقدم الإنجليز السكسون، فطلب إلى المصريين أن يتشبهوا بهؤلاء، وألا يفنوا شخصيتهم، فيفني وجودهم، واستطرادا في هذا النظر تصدى لترجمة «الفرد ضد الأمة» و«روح الاجتماع»، و«سر تطور الأمم»، كل ذلك لينشر في الجمهور الأسس العلمية للرقي حتى يطبق الناس حالهم على هذه الأصول، فينتفعوا بتجارب الأمم.
إن توفيق فتحي باشا في اختيار مترجماته يدل فوق ما قدمت على أنه كان يعتنق مذهب الاشتراكيين الديمقراطيين، سواء أكان ذلك في التربية والتعليم أم في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضا.
ولو شئنا أن عقائده من منتجاته وأحاديثه لضاق بنا المقام، ولكني أكتفي بالإشارة إلى أن بين اختياره لتلك المؤلفات، وبين مذهبه الديمقراطي الاشتراكي في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسبا متصلا جد الاتصال.
رجل تطور
من ذلك نعلم أن فتحي زغلول كان رجل تقدم تطوري، فكما أنه كان يرى أن خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته، ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه، كذلك كان يرى أن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب يكمل ما فيها من نقص، ويقوم ما بها من اعوجاج.
كان فتحي يسترشد بهذه الآراء الحرة، فإذا لم يكن نشرها يتفق مع مركزه في الحكومة؛ فقد نشرها بالترجمة ليرضي دواعي ضميره، وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعد ثابتة مع معرفة الحقوق والواجبات، فليس فتحي على ذلك من أصحاب المناصب، بل هو من أرباب المذاهب.
ومن كان كذلك من شأنه أن يكون شقيا معذبا، يكاد لا يكون له من راحته ووقته نصيب، فهو مقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة، وبين خدمة العلم، يعمل في التأليف والترجمة شطرا من الليل، وأحيانا طول الليل ومدة العطلة، فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هز كتفه هزة الفيلسوف لا يبالي مات اليوم أو مات غدا.
Page inconnue